كتب الكاتب الفاتح جبرا المتوفرة بمعرض الدوحة
|
حصاد (الإقليمية الجديدة) المر في الواقع العربي "عامة"، والســـوداني "خاصة"
|
في الحلقة الأولى من برنامج "مع هيكل" التي بثتها فضائية "الجزيرة" مساء الخميس الثامن من تموز/ يوليو الجاري توقع الكاتب واسع المعرفة متعدد الصلات أن يشهد العقد القادم تنافسا فيما بين تركيا واسرائيل للسيطرة على المنطقة، نتيجة ما اسماه "انسحاب" العرب. والتنافس فيما بين تركيا واسرائيل على إدارة شؤون منطقة "الشرق الاوسط الكبير" بدأت بوادره تلوح في افق شمالي العراق المحتل. إذ في الوقت الذي تدعم فيه اسرائيل الزعامات الكردية وتعزز قدراتها لاقامة "كردستان" على أوسع مساحة ممكنة من العراق، وباقل عدد من غير الاكراد بين مواطنيها. تقف تركيا في مقدمة الدول الاقليمية المعارضة المساس بوحدة التراب العراقي، والتركيبة السكانية في منطقة كركوك، كما ابدت انتقادات لارهاب الدولة الصهيوني في فلسطين المحتلة لم يسبق أن صدرت عن حكومة تركية منذ تأسس المشروع الصهيوني على الارهاب.
ولأن التنافس انما يجري بين حليفي الولايات المتحدة، وعلى أدارة نظام اقليمي ترسم حدوده ومساره الادارة الامريكية، فلن يكون تنافسا محكوما فقط بميزان القوى فيما بين طرفيه وما يستقطبه كل منهما من القوى المحلية في الاقليم موضوع النزاع، وانما ايضا بموقف الادارة الامريكية صاحبة الدور الاستراتيجي في المنطقة. وفي لقاء الرئيس بوش برئيس الوزراء التركي اردوغان، على هامش مؤتمر حلف الاطلسي في اسطنبول مؤخرا، طالب بوش اردوغان بضبط بوادر النزاع مع اسرائيل، لأن ذلك في مصلحة أمريكا.
وليس من شك أن احتدام التنافس بين انقرة وتل ابيب على الدور القيادي سوف يوهن، إن لم يأت على، شبه التحالف القائم ما بين صناع القرار السياسي والعسكري في العاصمتين. وهذا ما برزت مؤشراته برفض تركيا، ولأول مرة، الطلب الامريكي باعادة تحديث معداتها العسكرية في اسرائيل، واصرارها على أن تقوم مصانعها المختصة بذلك. غير أن التناقض فيما بين صناع قرار الطرفين يظل تناقضا ثانويا ما تواصل دورانهم في الفلك الامريكي. وما دام النهج الكمالي المعادي للاسلام والعروبة المؤثر الأول في صناعة القرار الرسمي التركي فانه من غير الواقعية في شيء الظن، مجرد الظن، بامكانية الاستفادة عربيا من التنافس التركي– الاسرائيلي مهما بلغت حدته. لأنه سوف يظل تناقضا فيما بين وكيلي القطب الأعظم حول ايهما الأكثر استعدادا وملاءمة لخدمة الطموحات الامريكية في المنطقة.
وفضلا عن ذلك يظل مستحيلا على صناع القرار العربي الاستفادة من المتغيرات والمستجدات الاقليمية والدولية ما تواصل "الانسحاب العربي" الذي تحدث عنه الاستاذ هيكل، قاصدا بذلك افتقاد العرب القدرة على توظيف امكانياتهم المادية المتاحة وقدراتهم البشرية المتوفرة في تقديم الاستجابة الفاعلة تجاه تحديات الضغوط الامريكية، وعدم التوصل للحل العادل والشامل للصراع العربي– الصهيوني، وازمة العمل العربي المشترك. معيدا ذلك لاعتماد سياسات مغالية في قطريتها وعدميتها القومية، متمثلة بالتخندق داخل غرف خاصة مغلقة الابواب والنوافذ تجاه الجيران من شركاء الانتماء القومي والمسيرة والمصير.
وفي حديث الاستاذ هيكل ادانة ضمنية للمغالاة في التعبير عن الذات القطرية الشائعة في الخطاب السياسي المعاصر لمعظم الاقطار العربية. وهي ادانة مؤسسة على معرفة واسعة بحقائق التاريخ العربي الحديث ، وقراءة واعية لما حفل به من تحولات جذرية في القناعات والممارسات. فضلا عن اتفاقها مع أدبيات الفكر القومي العربي ومختلف التجارب الانسانية التي تؤكد أن الوحدة القومية إنما هي السبيل الذي حققت به مختلف الامم نهوضها وتقدمها على مختلف الصعد، كما في حال الولايات المتحدة الامريكية بعد تحقق وحدتها سنة 1865 والمانيا بعد توحدها سنة 1870. إذ انطلقتا لتحتلا الموقع الاول والثاني في الاقتصاد العالمي مطلع القرن العشرين، الأمر الذي اهلهما للعب دورين فاعلين في السياسة الدولية .
وعلى عكس ما تؤكد صحته تجارب الأمم ماضيا وحاضرا كانت إدانة النهج الوحدوي واعتباره المسؤول تاريخيا واخلاقيا عن مسلسل الخيبات والنكسات العربية، هي الأكثر بروزا في الادبيات السياسية والاعلامية العربية منذ مطلع سبعينات القرن الماضي. بل وشاع بين حملة الاقلام الحديث عن موت الامة العربية، واعتبار الوحدة موضوعا تجاوزه الزمن. وعليه يمكن القول بأن نهج الانغلاق داخل "الغرف" القطرية الذي يدينه الاستاذ هيكل لم ينشأ من فراغ، وانما هو مؤسس على الممارسات التي افرزت الخطاب النقدي الشائع للحراك الوحدوي العربي الذي كان في خمسينات وستينات القرن الماضي.
والسؤال المحوري والحال كذلك أي اصدق قراءة للتاريخ العربي خلال نصف القرن الاخير الاستاذ هيكل وأمثاله من المفكرين والكتاب الذين لما يزالوا على التزامهم القومي العربي، أم ذلك التجمع متعدد الدوافع والغايات والانتماءات الذي، برغم كشف العديد من حقائق الامس، ما انفك يكيل شتى الاتهامات للفكر والعمل القومي العام، والحراك الوحدوي منه بشكل خاص؟ وفي محاولة الاجتهاد في الاجابة عن السؤال المطروح لن اقف مع تجارب الاقطار العربية التي كان الدفاع عن واقع التجزئة الخيار الاستراتيجي لصناع قرارها موضحا فشل ما انتهى اليه هذا الخيار، وانما مع تجارب الاقطار التي توفرت فيها فرص الاتحاد والوحدة ولكنها اجهضت بتحول رافعي الشعارات الوحدوية الى ما عرف في أدبيات ستينات القرن الماضي بمصطلح "الاقليمية الجديدة"، التي اعتبرت بأنها ضخت دماء جديدة في واقع التجزئة والتخلف والتبعية.
|
|
|
|
|
|
|
|
|