صدر حديثاً .. خواطر وذكريات دبلوماسية

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-02-2024, 08:59 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الأول للعام 2005م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
04-12-2005, 02:46 AM

Yassir Hamid

تاريخ التسجيل: 08-20-2003
مجموع المشاركات: 371

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
صدر حديثاً .. خواطر وذكريات دبلوماسية

    صدر حديثاً للسفير السابق الدكتور أحمد محمد دياب عن مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي كتاب بعنوان خواطر وذكريات دبلوماسية .. يضم بين صفحتيه 220 صفحة كتبت بروح دعابة شيقة ومشاغبةعن طرائف ومواقف كثير خلال فترة عمله الدبلوماسي .. جمعت بين الكتابة الخفيفة اللذيذة والتوثيق لبعض الشخصيات والأحداث التي صادفت الكاتب .. قدم الكتاب الأديب والروائي العالمي الطيب صالح فأضاف إلى روح الكتاب بعد آخر ،،
    وسوف أستعرض للأخوة أعضاء المنبر العام بعض ما ورد فيه ...

    إهــــداء

    إحياءً لذكرى والدي المرحوم الحاج محمد دياب محمد علي الذي منحني حرية كاملة، فكانت مسؤولية .. أتمنى أن أكون قد تحملتها دون إسفاف في التصرف، أو في اتخاذ القرار.
    ولذكرى والدتي المرحومة الحاجة فاطمة عبد الرحمن محمد صالح التي منحتني حباً لا حدود له حتى فاض وتدفق على كل من حولي .. وصار حباً للحياة زماناً ومكاناً وبشراً.
    ولذكرى شقيقي المرحوم عبد العزيز الذي لم يكن أخاً فقط .. بل شريكاً وصديقاً ورفيقاً في درب حياتي وحياة الأسرة.
    ولزوجتي ليلى .. وابني ياسر وبناتي يسرا .. أصيل .. علا، وأشقائي .. وشقيقاتي.. الذين آمل أن يجدوا بين هذه السطور ما غاب عنهم معرفته عني في حياتنا العائلية.
    وإلى الزملاء الذين عاشوا معي بعضاً من هذه الخواطر ... سواءاً في العمل معاً برئاسة الوزارة أو بالسفارات بالخارج .. الذين بادلوني أخاءاً بأخاء .. ومحبة بمحبة .. روح زمالة أصيلة لا تزال حية باقية ... صفحات بيضاء من التعاون ” والعشرة ” الطيبة وهي ثروة سأظل أعتز بها وأحرص عليها ...



    أحمد محمد دياب

    تقديم

    هذه الفصول الممتعة ، هي مزيج من الذكريات ، ولمحات من السيرة الذاتية ، ونظرات دقيقة متمعنة في نقل الأحوال في السودان على امتداد أكثر من ثلاثين عاماً. وقد وفق الكاتب الدكتور أحمد دياب ، أيّما توفيق ، إنه اتخذ أسلوباً سلساً جميلاً يمتاز بالبساطة وروح الدعابة.
    بعد تخرج أحمد دياب من جامعة الخرطوم عام 1963م ، التحق بالعمل في وزارة الخارجية أواخر عهد الرئيس المرحوم إبراهيم عبود. لكنه لم يلبث بها طويلاً ، لأن سلوكه العفوي المغاير للقالب البيروقراطي المطلوب ، لم يعجب وكيل الوزارة للشؤون الإدارية.
    كان وكيل الوزارة يومئذ الأستاذ محمد ميرغني الذي صار فيما بعد سفيرا ،ً ثم وزيراً للخارجية. كان وهو وكيل للوزارة - كما يصف الكاتب - رجلاً صارماً مفرطاً في الحزم ، وقد كان من قبل من كبار ضباط البوليس.
    تشاء الأقدار أن يلتقي به أحمد دياب مرة أخرى في سفارة السودان في نيروبي عام 1966م ، حيث نقل سكرتيراً ثالثاً . وجده سفيراً هناك فتوجس شراً ، ويقول الكاتب: إنه اكتشف أن السفير محمد ميرغني كان يخفي تحت مظهره الصارم ، إنساناً لطيفاً رقيق القلب ، فنمت بينهما صداقة وثيقة.
    إنما الآن في عام 1963م ، فقد تسبب السيد محمد ميرغني في خروج الكاتب من وزارة الخارجية ، فالتحق بالعمل في جامعة الخرطوم مساعداً للسكرتير الأكاديمي - الذي كان المرحوم محمد عمر بشير. ولا عجب أنه سعد بوظيفته تلك ، فقد كان بروفسير محمد عمر بشير رجلاً واسع الثقافة ، عظيم الاستنارة ، ودوداً مرحاً لا يبالي كثيراً بالروتين.
    ولو أن أحمد دياب استمر في عمله بالجامعة ، فلا شك أنه كان سوف ينجح فيه ، خاصة أنهم وعدوه أن يرسل في بعثة دراسية في الخارج ، إنما الله شاء له غير ذلك.
    فجأة انفجرت ثورة أكتوبر فأسقطت حكم الرئيس إبراهيم عبود ، وتكونت حكومة جديدة من جبهة الهيئات التي أسقطت النظام ، وكان أحد وزرائها المرحوم عبد الكريم ميرغني الذي كان يقول عنه الكاتب :
    (( عين الأب والأخ والصديق والسفير النبيل المرحوم عبد الكريم ميرغني وزيراً للتجارة ، وقد تم استدعاؤه من الهند ، حيث كان يعمل سفيراً للسودان هناك. وقد جمعتني بعبد الكريم روابط عديدة ...)).
    يخصص الكاتب بعد ذلك عدة فقرات من كتابه للحديث عن المرحوم عبد الكريم ميرغني، وكان بوسعه أن يسترسل في الحديث ، فقد كان عبد الكريم ميرغني حقاً من أفذاذ السودانيين ، اشتهر بسعة الإطلاع وعمق الفكر والكفاءة في العمل ، والحس الإنساني الغامر.
    وهنا أحب أن أذكر ، أن من الأشياء الكثيرة الممتعة في هذه الفصول ، أن الدكتور أحمد دياب يرسم بحذق لوحات جميلة لشخصيات متعددة سودانية وغير سودانية ، من الناس الذين عرفهم والتقى بهم خلال سيرته العامرة بالتجارب. وهو يصنع ذلك بأسلوب يغلب عليه جانب المرح ودقة الملاحظة ، مظهراً موهبة فنية كما لدى الكتاب الروائيين المتمرسين.
    كان المرحوم عبد الكريم ميرغني يؤمن أن الشباب المتعلم أمثال أحمد دياب ، يجب أن يكونوا في وزارة الخارجية فعمل على إعادته إليها . وهكذا قدر للكاتب أن يمضي في مسيرة طويلة خصبة في العمل الدبلوماسي ، كما توضح هذه الفصول.
    قضى أحمد دياب عامين برئاسة الوزارة بالخرطوم برتبة سكرتير ثالث ، ومن التجارب التي عرضت له في تلك الفترة ، تجربة مع الرجل العظيم محمد أحمد محجوب رحمه الله ، الذي كان يومئذ وزيراً للخارجية ، ورئيساً للوزراء.
    يصف الكاتب تلك التجربة وصفاً حياً مشوقاً .. وكأنه تعمد أن يظهر حال السودان في تلك الأيام. وهي تجربة تدعو للتأمل وربما الحسرة ، لأنها تؤكد مع عدد من التجارب المماثلة التي يرويها الكاتب بأسلوبه الجذاب ، أن السودان يكون في أحسن حالاته في العهود الديمقراطية ، فهي انعكاس حقيقي لطبيعة السودانيين ومزاجهم العام.
    ولا شك أن القارئ سوف يرى البون الشاسع بين تلك التجربة ، وما انطوت عليه من أسلوب إنساني متحضر في التعامل ، وبين الأسلوب الهمجي المتعسف في عهد الرئيس جعفر نميري الدكتاتوري. كان الدكتور أحمد دياب يتقلد منصب سفير السودان في الأردن ، حين جاءه الأمر من الخرطوم بإغلاق السفارة فجأة قرر النميري ، دون منطق واضح أو مبرر أن يغلق ثلاثة وعشرين سفارة للسودان ، وهي حقبة مؤلمة من تاريخ السودان .. يصفها الكاتب بحرقة بالغة وغصة في الحلق يحسها القارئ.
    عرض عدد من الدول على السودان أن تتكفل هي بدفع النفقات على أن تبقى السفارات مفتوحة. ويصف أحمد دياب كيف أنه رافق وزير خارجية الأردن الذي أرسله المرحوم الملك حسين في طائرة خاصة إلى الخرطوم ليثني النميري عن قراره ، ولكن دون جدوى.
    وبعد أن يصف الكاتب وصفاً مؤثراً مشهد بيع محتويات السفارة وبيت السفير ، والجماهير التي تجمعت إما للشراء وإما مدفوعة بحب الاستطلاع ، يقول :
    (( ... في اعتقادي أن قرار تقليص البعثات الدبلوماسية في الخارج ، الذي نفذ بحق ثلاث وعشرين سفارة ، يعتبر أحد القرارات العشوائية التي قام نظام نميري باتخاذها في لحظات الصراع مع الموت في أيامه الأخيرة ، إلى جانب قرار تقسيم المديريات الجنوبية والإطاحة باتفاقية أديس أبابا ، مما أدى إلى " بداية الحركة الشعبية لتحرير السودان " وقرار تنفيذ الإعدام في الشهيد محمود محمد طه ، وقرار تطبيق قوانين سبتمبر أو
    " قوانين الشريعة " إلى آخر المهازل التي شهدها الفصل الأخير من حكم نظام مايو .. )).
    هكذا يمضي الدكتور أحمد دياب في مسيرته في العمل الدبلوماسي حتى يصل درجة سفير ، عمل في سفارات السودان في بلاد كثيرة ، منها: كينيا وتنزانيا ومصر ورومانيا والأردن والأمم المتحدة . وقد تكونت لديه من ذلك كله ذخيرة كبيرة من التجارب والمواقف والأفكار والرؤى ، يجد القارئ أصداءها مبثوثة في ثنايا هذه الفصول.
    هذا وقد خصص الكاتب حيزاً كبيراً نسبياً للحديث عن تجربته في كينيا وتنزانيا ، حيث انغمس في قضايا إفريقيا ، وتأمل في هوية السودان ودوره في إفريقيا إزاء
    دوره العربي.
    خلاصة القول: إن هذا الكتاب مفيد وممتع حقاً ، ومن عناصر جاذبيته أن الكاتب يخلط بحذق بين الخاص والعام والجد والدعابة والتاريخ والحياة المعاشة. وفيه ميزة
    كبرى ، وهي: أنه يقاوم الإغراء الذي يستسلم له كثيرون من كتاب السير الشخصية ، فلا يقحم نفسه إقحاماً في سرده للأحداث ، ولا يعطي نفسه دوراً بطولياً ، بل لعله يغمط نفسه حقها في كثير من الأحيان ، ثم هو يصف الناس الذين عرفهم أو صادفهم خلال مسيرة عمله ، بإنصاف ومحبة .
    ولا توجد في هذا الكتاب ، مرارات أو عنتريات أو تصفية حسابات ، بل هو سجل أمين لحياة خصبة مثمرة.

    الطيب صالح

    مقدمة
    لقد أتاح لي العمل بالسلك الدبلوماسي بوزارة الخارجية فرصة عظيمة للانفتاح على الغير ، من بشر وبلاد وحضارات ولغات وعادات وطباع .. كما أتاح لي زيارة عدد كبير من الدول الأفريقية والدول الأوروبية والدول العربية ، بجانب قضاء فترات عمل بالأمم المتحدة بنيويورك ومنظمة الوحدة الأفريقية.
    وأثناء تلك الفترة تحصلت على خبرة واسعة في العمل الدبلوماسي بمختلف أنواعه ومراحله ، وبما أنني كنت دائماً أمثل بلادي " السودان الحبيب " فكان ذلك مصدر تحدٍ واهتمام بتاريخه وأصله وعاداته وقضاياه المختلفة التي كنت أنظر إليها من منطلق الإلمام والتبحر في كل ما يتعلق بذلك ، حتى أكون دائماً في موقف يمكنني من الدفاع عنه ، وشرح أبعاد قضاياه ودوافعها سواء على المستوى الشخصي ، أو مع زملائي من الدبلوماسيين من بلاد مختلفة ، أو في المؤتمرات والندوات التي كنت أشارك فيها بصفتي الرسمية.
    وكانت تلك الندوات واللقاءات مدارس ومعاهد مفتوحة .. وبقدر العطاء فيها كان التلقي ، منها بحوث ومحاضرات ووثائق وأرقام وخرائط سياسية وجغرافية ، جعلتني أمتلك ثروة كبيرة وعريضة وواسعة عن الدول والأمم والشعوب ، وقضايا العالم المختلفة، ولقد أتاح لي ذلك أيضاً إقامة علاقات شخصية مع مجموعة كبيرة من أبناء تلك الدول على مختلف المستويات ، أصبحوا يكوّنون بالنسبة لي أسرة كبيرة تجمع بيني وبينهم مودة وأخاء .. وما زالت بعض هذه العلاقات حية تزخر بالنبض الإنساني المجرد ، وتشاركني أفراحي وأحزاني .. تذكرني دائماً بأن اللحظات التي وهبتها من عمري لتلك العلاقات لم تضع هباءً ، وتزيد من ثقتي بالإنسان الذي كنت وما زلت اعتقد أنه الثروة الحقيقية في هذه الحياة.
    وفي أغسطس 1989م ، عندما كنت سفيراً برومانيا أُحلت إلى الصالح العام ( أي التقاعد القسري ) ، بعد أن أكملت قرابة سبعة وعشرين عاماً من الخدمة بالسلك الدبلوماسي ، وعدت إلى السودان ومكثت به حتى عام 1994م ، حينما تعاقدت للعمل بوزارة خارجية دولة قطر التي ما زلت أعمل بها حتى الآن.
    ومنذ أن تركت العمل بوزارة الخارجية السودانية ، أشار عليّ عدد من الأصدقاء أذكر منهم الأخ على التوم والمرحوم د. على المك , وأصدقاء وزملاء آخرون بأن أكتب عن تلك التجربة ، وكانت الآراء تتفاوت ما بين سرد للعمل الدبلوماسي وسياسة السودان الخارجية وتجربتي الشخصية .. وبعد تفكير طويل رأيت أن أكتب شيئاً يجمع بين كل ذلك، واخترت عنوان " خواطر وذكريات دبلوماسية " لهذا الكتاب ، وحاولت أن أجمع فيه كل تلك الآراء ، ولكنها في نفس الوقت تتطرق من حين إلى آخر لبعض المواقف والتجارب التي قد تتعرض للجوانب المختلفة من العمل الدبلوماسي ، وتؤرخ لبعض المواقف في سياسة السودان الخارجية ، إلى جانب إشراك القارئ في بعض تجاربي الشخصية في الدول التي عملت بها ، ولمحة عن البلاد التي زرتها في رحلتي مع العمل الدبلوماسي.
    ولعل القارئ يلاحظ أنني قد تعرضت لمواقف ونوادر شخصية .. وقد قصدت بذلك أن تتضمن هذه الخواطر والذكريات لمحات من الدعابة البريئة ذات الأبعاد الإنسانية والشخصية ، وقد حاولت بقدر الإمكان أن أعكس الجوانب الإيجابية في هذه التجارب ، ولكنني لم أغفل كذلك السلبيات والأخطاء التي تتعلق بمصلحة السودان ، وبالعمل الدبلوماسي السوداني ككل ، حتى يستفيد منها الذين يخططون لهذا العمل في المستقبل ولناشئة السلك الدبلوماسي ( بصفة خاصة ).
    كما أن القارئ قد يلاحظ - أيضاً - أنني لم أتناول تلك الخواطر والذكريات في بحث أكاديمي حول العمل الدبلوماسي ، ليس عجزاً عن إنجازه ، وإنما رأيت أن أبعد بها عن منهج البحث العلمي وما يفرضه من معايير الصرامة والانضباط التي تفقد هذا العمل خصوصية الهمس الذاتي الذي وددت أن يصلني بالقارئ الكريم فيقترب من الشخوص والحوادث التي تشكل محور هذا الذكريات والخواطر ويعيش معي ما إنطوت عليه من "محن" و "تجارب".
    ومن ناحية أخرى فإن إشراك بعض أفراد أسرتي كوالدي ووالدتي وأبنائي في هذه الخواطر والذكريات يجيء من إحساسي الصادق بأنهم أصحاب الفضل الأول في تهيئة المناخ والظروف والاسترخاء الذي جعل شخصيتي تتفاعل بإيجابية مع تلك التجارب، وتعطي أكثر مما تأخذ : إيماناً بأن العطاء هو خير إنجاز في الحياة ، بل هو الحياة بذاتها حتى اتسعت أسرتي لتشمل أفراداً انتشروا في بقية أنحاء العالم ، ومازال يربطني بهم رباط الوفاء والمحبة الذي شملتني به أسرتي الصغيرة.
    وخارج تلك الأسرة الصغيرة ،هنالك شخصيتان أثرتا على مسيرة حياتي بصورة هامة وشاملة ومفيدة ، هما السفيران المرحومان عبد الكريم ميرغني والذي تربطني به صلة القربى .. وقد تعرضت له في هذا الكتاب ، وفخر الدين محمد الذي لم أكن سعيد الحظ لكي أعمل معه بصورة مباشرة بديوان عام الوزارة أو بإحدى السفارات في الخارج، ولكن ارتباطي الشخصي به خارج ذلك النطاق لأكثر من خمسة وعشرين عاماً، كان بمثابة مدرسة متعددة المناهج .. نهلت منها الكثير والكثير ، وكان أستاذاً بارعاً محبباً مقرباً .. وفي نفس الوقت كان أخاً وصديقاً صادقاً عزيزاً كخير ما يكون الصديق ، وسأظل مديناً لهذين الأخوين الصديقين بالكثير والكثير مدى الحياة ، واعتقد أنهما كانا من الشخصيات الشامخة في تاريخ السلك الدبلوماسي السوداني ، بل في تاريخ السودان بأكمله.
    وإلى جانب ذلك فآمل أن أكون قد وفقت في اختيار المفيد من دفتر ذكرياتي وخواطري ليشاركني فيه القارئ كما آمل أنني لم أتدع أو أنقصت أحداً حقه .. وإن فعلت، فليغفر الله لي ذلك لأنه لم يكن القصد.
    وفي الختام أود أن أتقدم بالشكر والتقدير للأخ الصديق والأستاذ الروائي السوداني الماهر " الطيب صالح " الذي أتحفني مشكوراً بتقديم هذه الخواطر والذكريات للقارئ ، والذي اعتبره خير تتويج لهذا الجهد .. لإيماني وقناعتي بأن هناك ارتباطاً وثيقاً بين كتابة الرواية التي نبغ فيها الأخ الطيب ومعاصروه ، وبين المهنة الدبلوماسية التي في اعتقادي في النهاية هي المعرفة والإلمام بالإنسان والمكان والزمان ، وكل ما يتعلق بذلك.

    أحمد محمد دياب
    الدوحة

    الالتحاق "بالميري"

    إن العمل الحكومي الميري في الخمسينات كان غاية تنشدها كل أسرة سودانية لأبنائها، وكلمة "أفندي" كان لها وقع خاص في قلوب الناس عامة ، والعذارى بصفة خاصة ، لأن الحكم البريطاني نجح في خلق هذه الشخصية ، وجعل لها اعتباراً مميزاً ، وكانت قبيلة " الأفندية " تتمتع بامتيازات عديدة منها: ارتداء الزي الغربي المميز عن
    " الجلابية " ، واستعمال سيارات الحكومة والسكن في منازل الحكومة والتحدث "بالرطانة" ( أي باللغة الأجنبية ) والسفر إلى الخارج لتمثيل أهل السودان " الغبش " في المحافل الدولية. وكان لتلك الامتيازات سحر خاص في ظروف الحياة في السودان آنذاك ، وبذلك اكتسب موظف الحكومة هيبة وجبروتاً وهالة اجتماعية كبيرة خاصة في الأقاليم ، كما أن الراتب الحكومي "الماهية " كان يغطي نفقات الحياة المختلفة ، مما جعل الأفندية طبقة "منغنغة ".
    كما كان أبناء الأفندية "أمثالي" يعتبرون آباءهم قدوة في هذا المجال ، وكان آباؤهم يدفعونهم في ذلك الاتجاه أما لقناعتهم بالوظيفة " الميري " ووضعها الاجتماعي المميز ، أو لأنها وظيفة تخلو من المخاطرة ، مثل التجارة والتي كانت الخيار الآخر آنذاك ، إذ أن العمل الخاص في شكل شركات أو مؤسسات ،كان حكراً على أبناء الجاليات الأجنبية بالسودان: كالشوام واليونانيين والإغريق وغيرهم.
    وكانت الوزارات والمصالح الحكومية تتنافس حول التحاق خريجي جامعة الخرطوم - بصفة خاصة - بالخدمة في دوائرهم ، لذا فإن إيجاد الوظيفة التي ترضي الخريج من الكليات المختلفة لم تكن صعبة ، بل كان الخريج " يتدلع " في الاختيار بين وظيفة وأخرى وفي بعض الأحيان كانت تلك الدوائر الحكومية تقوم بتوظيف الطالب قبل أن يتخرج من الجامعة.
    لذا عندما تخرجت من الجامعة عام 1963م تقدمت للالتحاق بوزارة الحكومات المحلية ، وكانت تلك رغبتي الأولى لأنني كنت شغوفاً بالعمل العام ، والاهتمام بمجالات تلك الوزارة .. وربما يكون ذلك مرده لأن تلك الوظائف كانت حكراً على فئة قليلة من السودانيين قبل " السودنة " إذ كان يشغلها الإنجليز أو المصريون ، وكانت رغبة والدي
    " رحمه الله " أن ألتحق بوزارة الخارجية لأنه سبقني للعمل بها بقسم اللاسلكي الذي كان يتبع وزارة البريد والبرق ، وقد سحره العمل الدبلوماسي (خاصة) وقد ذهب في مأموريات إلى بعض السفارات السودانية بالخارج.
    ولذلك لم تكن هناك صعوبة في قبولي للعمل بالوزارتين ، ولكنني في النهاية خضعت لرغبة المرحوم والدي ، وقررت الالتحاق بوزارة الخارجية ، وبعد الإجراءات التي كانت تشتمل على امتحان تحريري في المعلومات العامة واللغة الإنجليزية تشرف عليه جامعة الخرطوم ، ثم امتحان شفهي تشرف عليه وزارة الخارجية ، تم قبولي ضمن خمسة عشر خريجاً وأعلن في الصحف المحلية وفي الإذاعة عن تعييننا بدرجة سكرتير ثالث بالوزارة.
    والآن وقد تقاعدت عن العمل بالسلك الدبلوماسي - وبعد هذه الخبرة الطويلة - بدأت أرى هذه التجارب الماضية بنظرة موضوعية ، واقتنعت بأن المرحوم والدي كان بعيد النظر .. وقد أسدى لي معروفاً إلى جانب بقية ما أسداه لي في حياته في مجالات أخرى ، حين أصر على التحاقي بالعمل في وزارة الخارجية ، وذلك لأسباب عديدة.. لأن العمل بالسلك الدبلوماسي لا يعني المظهر الخارجي الذي يراه الناس في التأنق في اللبس، أو مظاهر الرفاهية الأخرى التي توفرها الدولة للذين يعملون في هذه المهنة من سكن وخدم وحشم ، ولكنها مهنة ككل المهن تتطلب صفات ومهارات خاصة لا يمتلكها الجميع.
    وأهم تلك المهارات: القدرة على التأقلم والقبول للآخر ، بما يحمله من تقاليد وعادات ولغات، وحب التطلع والمعرفة للجديد من تجارب الآخرين ، وسرعة البديهة، والتمتع بقدر من اللياقة والكياسة في كل شيء إلى جانب الميل إلى المرح غير المفرط والجاد والدعابة التي تترك أثراً جيداً في نفوس الغير .. وعلى الدبلوماسي أن لا ينسى أبداً - وهو خارج بلاده - أنه يمثل دولة لها عاداتها وتقاليدها التي يجب أن ينقلها إلى الخارج بصورة صادقة ومشرفة.
    وعلى الدبلوماسي كذلك ، أن يضع دائماً مصلحة بلاده في الدرجة الأولى ، وليس مصلحته الشخصية أو المحافظة على منصبه: لأن المنصب هو خادم تلك الرسالة وليس العكس .. وعليه أن يتقيد بقوانين المهنة دون إذلال ، وان يحترم التزاماته وأقواله وأعماله ومواعيده .. وان يكون مرناً في التعامل مع الآخرين ، ومتتبعاً للأحداث الداخلية والخارجية ومنفتحاً على الغير .. وان لا يبوح إلا بالقدر المطلوب ولا يخفي إلا القدر المطلوب.
    ومنذ التحاقي للعمل بوزارة الخارجية في عام 1963م ، وإلى أن تمت إحالتي للتقاعد مع عدد كبير من زملائي السفراء والدبلوماسيين عام 1989م ، فإنني أستطيع أن أذكر هنا ، أنه على الرغم من خلفيات وانتماءات الذين كانوا يعملون بالسلك الدبلوماسي أثناء تلك الفترة ، إلا أن وزارة الخارجية ظلت تؤدي واجبها كوزارة قومية تضع مصلحة السودان في مقدمة اهتماماتها ، كما ظل العاملون بها على الرغم من اختلافاتهم يضعون مصلحة السودان القومية فوق كل اعتبار ، وبذلك اكتسبت تلك الوزارة أهمية خاصة ، كما اكتسبت سمعة السودان في المحافل الدولية والإقليمية والدولية ، ثقلاً يتناسب مع موقع السودان وأهميته في القارة الأفريقية والعالم العربي.
    كان هذا حال وزارة الخارجية منذ أن تأسست عام 1956م ، حيث استطاعت الخدمة المدنية وقوانينها التي ورثتها منذ عهد الإنجليز ، أن تقف سداً منيعاً ضد محاولات الأحزاب في التغول عليها ، وعلى العاملين بها ، إلى أن كان انقلاب مايو 1969م ، الذي باسم الثورة و"شعارات مايو المفترى عليها" نجح في اختراق الخدمة المدنية " بالتطهير " حيناً - لإبعاد بعض العناصر التي قاومت تسييس الخدمة المدنية - وحيناً آخر بالتعيين السياسي في صفوفها من أنصار مايو ، وخاصة في السلك الدبلوماسي . ومنذ ذلك الحين انهارت الخدمة المدنية في السودان ( أحد الأركان العامة التي عرف وامتاز بها السودان عن معظم المستعمرات البريطانية السابقة ) .. وتوالت بعد مايو الاختراقات الأخرى ، حتى فقدت الخدمة المدنية هيبتها ، وحتى صار ولاء العاملين بها للنظام الحاكم أولاً وفوق كل شيء ، وتقلص بذلك الولاء للمهنة وللمصلحة القومية.


    سنة أولى دبلوماسية


    فور أدائنا للقسم أعدت لنا وزارة الخارجية فترة تدريبية لمدة ثلاثة اشهر في مختلف أقسام الوزارة ، وما زلت أذكر أول يوم ذهبت فيه إلى مقر الوزارة كموظف
    " رسمي " إذ ركبت سيــارة أجرة تاكسي " طّراحه " من أمام منزل الأسرة بالملازمين بأم درمان وأنا " قاشر " بالقميص والبنطلون " والكرفته " التي فرضت علينا، وكانت أجرة الطراحه قرشين ونصفاً ، ووصلت إلى مبني وزارة الخارجية منذ إنشائها عام 1956م ، وكان يقع في شارع النيل جوار سراية السيد علي الميرغني ( سابقاً ).
    دخلت الوزارة من الباب الخلفي أي: من شارع الجامعة – وكان مبنى الوزارة من قبل منزلاً للمستر " لندسي " الذي كان رئيس القضاء قبل الاستقلال ، وكان المبنى يتكون من ثلاثة أجزاء : الجزء الأمامي وهو مبنى المنزل الرئيسي ، وأمامه حديقة كبيرة وجميلة كان يضم مكتب وزير الخارجية والوكيل والمكتب السري والمراسم ، والجزء المتوسط : كان إسطبل رئيس القضاء من قبل ، وأصبح مكتباً للقسم السياسي ، وبه كذلك مكتبة الوزارة وملحق به مبنى آخر كان يضم قسم الإدارة - شئون الموظفين - والشئون المالية ، أما القسم الثالث : وكان ملحق ضيافة أصبح القسم القنصلي والإدارة الاقتصادية.
    وكنت آنذاك حديث التخرج من الجامعة ، وكان الطالب الجامعي شخصية لها وزنها ، وكانت جامعة الخرطوم قلعة من قلاع العمل السياسي ويكن لها الجميع احتراماً من ذلك المنطلق ، لأنها كانت تمثل الرأي العام المستنير وقيادات المستقبل ، وكانت روح الثورة والرفض تملأ شخصية الخريج ، كما أن الخدمة المدنية وقوانينها وحياة دواوين الحكومة والرؤساء ، لم تكن جزءاً من اهتماماتنا في تلك المرحلة.
    دخلت الوزارة من الباب الخلفي وكلي تشوق ، لأن أبدأ أول يوم عمل في حياتي الجديدة. وكنت أدخن " الكدوس " الذي بدأت استعماله في السنوات الأخيرة من الجامعة.. وعندما اجتزت القسم القنصلي سمعت شخصاً ينادي ..
    - يا أفندي أنت !!
    ولكنني لم ألتفت ..
    ولكن النداء تكرر مرة أخرى ...
    فاضطررت إلى أن ألتفت ..
    فرأيت شخصاً يقف في الطابق العلوي طويلاً ضخماً يلبس بدلة كاملة ، وفي منتهى
    " الشياكة " فرددت عليه بكل براءة ..
    - إنت بتتكلم معاي ؟؟
    - فرد قائلاً : نعم تعال هنا فوق ...
    أخذت السلم .. ووقفت أمامه .. وقد أدار لي ظهره .. وكان يدخن بعصبية شديدة وقد ذكرني بأبطال أفلام " الكابوي " التي كنا نحبها .. ولما وقفت أمامه خاطبني دون أن ينظر إلي ....
    - مين إنت يا أفندي ؟
    فرددت عليه بأنني سكرتير ثالث جديد .. فما كان منه إلا أن التفت نحوي ومد يده وامسك " بالكدوس " من يدي بقوة وكسره إلى نصفين ورماه في الأرض من الطابق الأول وأردف قائلاً :
    - سكرتير ثالث وجاي أول يوم ماسك كدوس وأمّال لما تبقى سفير حتجي ماسك شنو ؟!!
    فذهلت للغاية ، ولم اعرف كيف أتصرف ، وكدت أرد عليه رداً قوياً لأنني لم أتعود من قبل على مثل هذه المعاملة لا من والدي - رحمه الله - ولا من أساتذتي بالجامعة ... وفجأة سألني عن اسمي فرددت عليه بهدوء .. فانطرحت أساريره قليلاً ، وكأن شيئاً قد حدث ... فسألني هل أنت ابن ( العم دياب ) بتاع اللاسلكي ؟ ...
    فرددت : نعم.
    فقال : أبوك راجل طيب ومؤدب انت طالع لمنو؟ ..
    ولكني لم أرد عليه فنظر إلى نظرة أخرى وقال : أمش مكتبك .. لكن عندك حظ طلعت ود العم دياب وإلا كان يومك أسود.
    وفعلاً كان يومي أسود ، وهو أول يوم عمل في حياتي الجديدة.
    وعلمت فيما بعد ، أن ذلك الشخص هو السيد محمد ميرغني مبارك مساعد الوكيل الإداري ، وعلمت أيضاً انه شخصية صعبة ومخيفة ، وأن كل من يعمل بالوزارة يخاف منه ويعمل له ألف حساب ، وقد كان ضابط بوليس قبل الاستقلال ، ثم التحق بوزارة الخارجية بعد الاستقلال بالسلك الدبلوماسي كغيره من الإداريين والمعلمين.
    وانتهى ذلك اليوم بسلام .. ولكنني لم أكن أدري ما كان يخبئه القدر لاحقاً .. إذ تقرر نقلي لأول سفارة بالخارج في عام 1966م إلى سفارة السودان بكينيا ، وكان السفير هناك هو نفس محمد ميرغني الذي وقع على خطاب طردي من الوزارة عام 1963م ، وتشاء الأقدار أن تنشأ بيننا علاقة ود وصداقة رائعة ومتميزة .. حيث أتاحت لي فرصة العمل معه والتعرف عن قرب على جوانب أخرى من شخصيته ، استطاع أن يخفيها وراء تصرفاته الخارجية التي تنم عن العنف والقسوة ، واتضح لي بأن ذلك كان غشاوة مفتعلة نجحت في إخفاء جوانب الضعف الإنساني في ذلك الشخص الذي اكتسب لقب "الفك المفترس" بجدارة من العاملين بوزارة الخارجية.


    الطرد من الوزارة

    استضاف السودان في عام 1963م أول مؤتمر لوزراء المالية الأفارقة ، وكان ذلك المؤتمر يهدف إلى إنشاء بنك إفريقي ، وقد أسندت إلى وزارة الخارجية مهمة الأشراف على تنظيم ذلك المؤتمر ، ولأن السودان كان يسعى إلى أن تكون الخرطوم مقراً لذلك البنك ، فقد اهتمت الدولة اهتماماً كبيراً بالإعداد لذلك المؤتمر.
    ولذلك فقد كانت مهمة " دفعتنا " من السكرتيرين الثوالث الجدد هي المساهمة في إنجاح ذلك المؤتمر. فأعدت وزارة الخارجية برنامجاً خاصاً اشرف عليه السفير الفذ
    فخر الدين محمد ، والذي عرف بدرايته وسعة إطلاعه وإلمامه بأساليب البروتوكول ، ومعاملة الفرنجة المعاملة المتحضرة ، وقد صارت تلك الفترة من أمتع فترات التدريب إذ اشتملت على كل نواحي الدبلوماسية من اللبس إلى الحديث إلى أنواع الأكل وأطباقه المختلفة .. وكان التوجيه العام هو : أن نحاول أن نبرز ونبرهن للضيوف الأفارقة أن السودان دولة عصرية منفتحة ، ولا نبدي تزمتاً يجعل الوفود الأفريقية ترفض إقامة مقر البنك بالخرطوم.
    كنا سعداء بتلك المهمة .. فقد صرفت لنا الوزارة ثلاثمائة جنيه لكل واحد منا كبدل لبس لكي نظهر بالمظهر اللائق ، ووضعت عربات الحكومة تحت تصرفنا ، كما أن بعضنا قد اختير للسكن في الفنادق الكبرى آنذاك فندق ( القراند هوتيل ، وفندق السودان ) وبدأ لنا كأننا قد وفقنا في اختيار الدبلوماسية مهنة لنا في حياتنا المستقبلية.
    أعدت لجنة الاستقبال برامج متنوعة للتعريف بالسودان ، إلى جانب برامج ترفيهية متعددة شملت ليالي فنية بالمسرح القومي بأم درمان ، وزيارات للمتاحف بالعاصمة ، والتعريف بمعالم العاصمة المثلثة ، وكذلك رحلات نيلية بالبواخر إلى ضواحي الخرطوم. وكانت مهمتنا هي استقبال الوفود ومرافقة كل واحد منا لوفد دولة معينة ، ولما كان العدد لا يكفي فقد رأت الوزارة الاستعانة بالجنس اللطيف من شابات الجاليات الأجنبية بالخرطوم خاصة ممن كن يجدن اللغتين الإنجليزية والفرنسية ، وقد أدى ذلك إلى تحفيزنا أكثر في الاهتمام بعملنا ، وكذلك الاهتمام بمظهرنا وهندامنا ،وكانت فرصة للتعرف على شابات الجاليات الأجنبية ودخول دنيا جديدة بالنسبة لبعضنا ، ممن كانت تجاربهم في ذلك المجال محدودة أو معدومة ، كما كان المؤتمر فرصة لارتياد مناطق في الخرطوم كانت محرمة علينا : إما لقلة التجربة أو لضيق ذات اليد ، أو بحكم التربية والتقاليد مثل " صالة غردون " و " الجي بي " .
    وفي أحد الأيام وأثناء المؤتمر كان البرنامج يشتمل على رحلة بالبواخر النيلية من أمام فندق القراند اوتيل (الذي يقع في شرق الخرطوم) إلى حدائق أبو العلا بالكدرو (والتي تقع شمال الخرطوم بحري) ، بدأت في العاشرة صباحاً .. وكان الطقس رائعاً والنظـام والإعداد تــامـاً ، وكان يرافق الوفود على ظهر الباخرة الفنان القدير
    " شرحبيل أحمد " وفرقته الموسيقية التي كانت تعتبر صرخة في تلك الأيام بعزفها للآلات الحديثة وترديدها للاغاني الغربية الراقصة.
    بدأت الموسيقى ، وقام بعض الضيوف للرقص مع المرافقات من الجنس اللطيف ، وكنا نجلس على طاولة جمعت عميد الصحافة السودانية المرحوم بشير محمد سعيد ، ورائد العمل الإعلامي الدولي المرحوم محمد ميرغني سيد احمد والمعروف " برويترز " لأنه كان أول مراسل لوكالة رويترز بالسودان ، وأحد رواد الثقافة اللامعين المرحوم محمد عمر بشير ، والزميل الصديق جلال عتباني وشخصي بينهم.
    وعندما بدأ الجو "يحلو " - كما يقول الفنان الراحل المبدع د. على المك ولعبت الموسيقي برؤسنا - أشار إليّ الصديق جلال عتباني بأن ننضم إلى مجموعة الرقص ، وعندما رآني متردداً ، أشار إليّ أن هذه هي تعليماتنا بأن نظهر للأخوة الأفارقة بإننا
    " بتاعين كلو " نرقص ونغني ونلعب " كنكان " كمان ، فوجد اقتراح الصديق جلال التأييد من الذين كانوا يجلسون معنا على الطاولة فنهضنا ، وكل منّا اختار إحدى الفتيات وبدأنا نميل شمالاً ونميل يميناً ، كما يشير إلينا الفنان شرحبيل بأغنيته المشهورة " يا اللابس البمبي " إلى أن وصلت الباخرة إلى حدائق أبو العلا بالكدرو ، وكان هناك عدد من المستقبلين معظمهم من أهل المنطقة جاءوا للترحيب بضيوف السودان ، ولكنهم أبدوا بعض الاستغراب والذهول - ولا أقول الإعجاب - برؤية بعض " أولاد البلد " يشاركون الأجانب في هذه الممارسة غير المألوفة لدى أهل السودان " الغبش ".
    وكان يوماً رائعاً خاصة وأن الضيوف قد استمتعوا بتلك الرحلة ، وبسحر الريف السوداني وبسحر النيل العظيم ، وفوق كل ذلك بالجو الرائع والكرم " الحاتمي " الذي قدمه آل أبو العلا لهم من ذبائح ومشويات وكسرة وملاح وفواكه السودان من قريب فروت وموز ومانجو بأنواعها وبطيخ وشمام ، إلى جانب المشروبات الروحية بأنواعها مع خدمة " الكيترنق " التابع لسكك حديد السودان والتي كانت في مستوى يضاهي اكبر الفنادق المعروفة في العالم الآن.
    وحوالي الساعة السادسة مساء عدنا مرة أخرى إلى فندق القراند اوتيل في روح معنوية عالية ، لأننا اعتقدنا أننا قد خدمنا " القضية " كما يلقب إخواننا الفلسطينيين قضية الشرق الأوسط ... وإننا بذلك دون شك قد ساهمنا بأن تصبح عاصمة بلادنا الحبيبة مقراً لأول بنك إفريقي ولكننا لم نكن ندري بما كان يخبئه لنا القدر.. أقصد محمد ميرغني..
    وعند دخولنا الفندق سمعنا " الميكروفون " الداخلي للفندق يطلب من كل من السيدين جلال عتباني وأحمد دياب مقابلة مساعد الوكيل الإداري في الساعة الثامنة صباحاً بمكتبه في الوزارة لأمر هام .. وقد كانت مفاجأة لنا .. أما صديقي جلال فلم يكن منزعجاً وكان يعتقد أنه ربما يريد أن يشكرنا على مساهمتنا في إنجاح الحفل .. أو هناك مهمة أخرى يريد مساعد الوكيل أن يكلفنا بها .. أما أنا فقد توجست شراً .. خاصة وفي مؤخرة ذاكرتي تجربتي مع السيد محمد ميرغني في أول يوم التحقت فيه للعمل بالوزارة.
    ولقد كان نومي متقطعاً وانتابتني الوساوس بأن شيئاً ما سيحدث غداً .. وفي الثامنة صباحاً ذهبنا أنا والصديق جلال إلى مبنى الوزارة واستقبلنا عند باب مكتب مساعد الوكيل المرحوم السفير عز الدين شبيكة ، ونصحنا بالهدوء وعدم الانفعال عند مقابلة مساعد الوكيل ولكن لم يفصح لنا عن الأمر شيئاً .. وعندما حان موعد مقابلته .. طلبت من الصديق جلال أن يقابله أولاً وأنا اقابله بعده .. وقد كان .. وبعد دقائق خرج الصديق جلال ووجهه " يلعن قفاه " محمراً كأنه أخذ " واحد كف " ، وعندما سألته عما جرى؟ قال لي بسرعة خاطفة : استحمل " الراجيك " فتيقنت أن إحساسي كان صادقاً فدخلت وقررت المواجهة مهما كانت النتائج .. وقد كان ..
    عندما دخلت مكتب مساعد الوكيل كان يتحدث وكأنه يخاطب شخصاً غير موجود أمامه وهو ينظر من نافذة مكتبه إلى الخارج .. ابتدأ حديثه مرة أخري بأنني ابن راجل طيب وهو لا يدري أنا طلعت لمين .. كيف أرقص مع بنات في مكان عام ؟!! وعلى مرأى ومسمع من الجميع !! وأية تربية هذه.. وفعلاً " النار تلد الرماد " ، عند ذلك جمعت كل شجاعتي وقلت له بثقة تامة إنني قمت بما تدربت عليه ، وطُلب مني أداؤه ولم أفعل شيئاً يشين الوزارة أو شخصي .. فصاح كيف ترد عليّ .. وأكدت له مرة أخرى أنني أرد على اتهاماته وإنني اعتز بنفسي وبتربيتي ، وإن كان هناك خطأ ، فهو مسئولية الوزارة التي طلبت منا تأدية ذلك الواجب .. وارتجف غاضباً واسمعني الكثير من الوعود وألوان البطش .. فما كان مني إلا أن تركت مكتبه ، وأسرعت إلى سيارتي وذهبت إلى منزلي ، وقررت عدم العودة إلى العمل بالوزارة.
    وذهبت فوراً في اليوم الثاني إلى جامعة الخرطوم التي قبلتني في وظيفة مساعد السكرتير الأكاديمي آنذاك د. محمد عمر بشير ، وانتظمت في العمل .. وكنت سعيداً بها إلى درجة كبيرة خاصة وان إدارة الجامعة قد وعدتني ببعثة إلى الخارج بعد عام للحصول على الدكتوراه..
    وبعد شهر من توقفي عن العمل بوزارة الخارجية وصلني خطاب موجه وموقع من السيد محمد ميرغني مساعد الوكيل الإداري يفيد بأنه نسبة لأنني قد تغيبت عن العمل لمدة شهر دون إبداء أسباب فقد تقرر " طردي من قوة الوزارة " هكذا كانت لغة الخطاب ، والذي احتفظت به لمدة طويلة لكن لكثرة التنقل ضاع من أوراقي.

    إلى الجامعة
    التحقت للعمل بجامعة الخرطوم في وظيفة مساعد السكرتير الأكاديمي في أكتوبر 1963م بعد أكملت حوالي سبعة اشهر من العمل بوزارة الخارجية ، وكان مسجل الجامعة المرحوم احمد المرضي جبارة ويساعده في الشؤون الأكاديمية بروفسير محمد عمر بشير ومحمد احمد حسن " حمدتو " وشخصي ، وكانت تجربة مفيدة خاصة وأنها أعادتني مرة أخرى لجو الجامعة الرائع المليء بالأنشطة المختلفة في تلك الفترة.. ذلك الجو الذي يعتبر من أجمل مراحل العمر.
    كانت شخصية المرحوم المرضي جبارة تغطي على كل شيء بإدارة الجامعة ، كما كان الأستاذ المربي على مصطفى وعم منديل وعم السني رحمهم الله من أعمدة إدارة الجامعة ، وكانوا يتعاملون مع الطلاب بأساليب التربية والتواضع في آن واحد دون الإخلال بالقوانين ، وكل يحترم الآخر .. خاصة وأن طالب الجامعة آنذاك كان شخصية اعتبارية .. فيجب الحذر في معاملته لأن اتحاد الطلبة كان بالمرصاد لكل صغيرة وكبيرة في علاقة الإدارة مع الطلاب.
    اما مكتب السكرتير الأكاديمي الذي انضممت إليه ، فكان يتعامل مع " قبيلة " الأساتذة ، خاصة الأساتذة الأجانب الذين كانوا يشكلون الأغلبية في ذلك الوقت ، وتتعلق مسئولية السكرتير الأكاديمي بفحص مؤهلاتهم العلمية والإشراف على تعيينهم وقضاياهم الأخرى من إسكان وترحيل وخلافه .. وكان مسجل الجامعة المرحوم المرضي جبارة كالنحلة ، يلم بكل صغيرة وكبيرة عن إدارة الجامعة ، ويسعى بصفة خاصة لتوفير الموارد المادية وعدم الإخلال بالقوانين ، والاستفادة من كل الإمكانيات المتاحة.
    ومن ذكرياتي في تلك المرحلة : أنني وفي إحدى مقابلاتي بالمرحوم المرضي جبارة ذكرت له أنني لست مرتاحاً من رؤية ملاعب وحدائق الجامعة ، وهي تحتاج إلى رعاية حتى يكتمل مظهر الجامعة وتظهر بشكل لائق .. وكنت مولعاً آنذاك بمثل تلك الاهتمامات الجمالية في الحياة العامة .. وبعد أيام من تلك المقابلة صدر قرار من مكتب المسجل بتكوين لجنة لرعاية الحدائق بالجامعة برئاستي وعضوية كل من الصديق
    الزين على إبراهيم الذي كان مساعداً للسكرتير الإداري للمسجل ود. قريب الله الأنصاري الذي كان يشغل وظيفة مساعد أستاذ بكلية الاقتصاد وكان ذلك القرار مصدر سعادة بالنسبة لي ، ومصدر تندر وفكاهة بالنسبة للصديقين الزين ود. قريب الله.
    كان المرحوم المرضي يقوم بزيارات مفاجئة لأقسام الإدارة وأذكر في إحدى الأيام وكان السكرتير الأكاديمي د. محمد عمر بشير غائباً ، وكنت السكرتير الأكاديمي بالإنابة ذهبت إلى إحدى محطات البترول لتغيير زيت سيارتي ، وأخبرت سكرتيرة المكتب
    - وكانت تدعى " ماريكا " - بأنني سأتغيب حوالي ساعة من المكتب .. وحضر في غيابي المسجل وسألها عني فأفادته السكرتيرة بأنني ذهبت إلى محطة البترول ..فأخذ قلماً وكتب على طرف طاولة المكتب السيد فلان .. أرجو الإفادة عن علاقة الجامعة "بمحطة البترول".
    ولما عدت إلى المكتب أخبرتني السكرتيرة بذلك ولفتت نظري إلى المذكرة التي تركها لي السيد المسجل ، فما كان مني إلا أن أخذت المذكرة وكتبت عليها السيد المسجل لا علاقة أبداً بين إدارة الجامعة ومحطة البترول ، ثم أخذتها وذهبت إليه في المكتب وسلمته المذكرة فقرأها بإمعان ، ثم نظر لي من وراء نظارته السميكة وقال باسماً : إذن ما في مشكلة .. وخرجت من مكتبه وحتى هذا اليوم لا أدري لماذا سأل ذلك السؤال ؟ ولماذا اقتنع بتلك الإجابة الصادقة البسيطة ؟.
    ومن ذكرياتي التي لا أنساها في فترة عملي بإدارة الجامعة ،هي اشتراك أساتذة الجامعة في معارضة الحكم العسكري الأول برئاسة الفريق إبراهيم عبود رحمه الله ، والذي عرف في تاريخ السودان السياسي بموكب الأساتذة الذي نظمه اتحاد أساتذة الجامعة وقد خرج الموكب الرهيب من حرم الجامعة وقد ارتدى الأساتذة " أرواب الأستاذية " بألوانها وأشكالها المختلفة ، وقد ضم الموكب كبار الأساتذة وعمداء الكليات إلى جانب أمثالي من صغار مساعدي التدريس.
    وكما ذكرت من قبل ، فإن جامعة الخرطوم آنذاك - واعتقد لا تزال - لها شخصية اعتبارية لدى رجل الشارع ، وكان الطالب الجامعي مصدر تقدير وإجلال ، لذا لما خرج موكب الأساتذة بتلك الصورة .. فقد أحدث في الشارع السوداني هزة عنيفة وبدأ رجل الشارع في العاصمة يعتقد أن هنالك فعلاً شيئاً خطيراً قد حدث ، مما جعل أساتذة الجامعة يتحركون بتلك الصورة وما زلت اعتقد حتى اليوم أن المثقفين هم ضمير الأمم والشعوب ، وتقع عليهم مسئولية تختلف عن مسئولية غيرهم ، وأن مستقبل الأمم يتوقف على مدى استجابة تلك الفئة من المثقفين لآمال وطموحات وتطلعات ذلك الضمير ، كما أنني ما زلت اعتقد أن ذلك الموكب كان الرصاصة القاتلة للحكم العسكري الأول
    في السودان.
    وصل الموكب إلى مبنى دار العدل أو " القضائية " لتسليم مذكرة إلى رئيس القضاء تطالب بعودة العسكر إلى ثكناتهم ، وعندما كنا ننتظر أن يتم تسليم الرسالة أحاطت بنا قوات الأمن من الشرطة والقوات المسلحة ، وهي تشهر السلاح وتصوب البنادق نحونا ، وكانت لحظات رهيبة .. وحينها كنت أفكر فيما نحن مقبلون عليه ، ولماذا الخلاف وقد رحل الاستعمار وعبود سوداني والمرحوم " قرشي فارس " الذي كان يشرف على قوات الشرطة سوداني والبروفسير محمد عبد الله نور الذي كان يقود الموكب سوداني .. وفي تلك اللحظات التفت إليّ الصديق د. احمد عبد المجيد - وكان أستاذاً بكلية العلوم ، ونحن نقف معاً في الصف الأمامي بين مصدق ومكذب - وقال لي : يا احمد " نحن حنموت " وقبل أن أرد عليه لمحت من بعيد المرحومين محمد احمد المحجوب ومبارك زروق يقفان تحت إحدى الأشجار داخل مبنى القضائية ويتبادلان الحديث في هدوء تام ، فقلت لصديقي احمد عبد المجيد نعم سنموت ولكني أرى المحجوب وزروق يتفقان على تشكيل الحكومة القادمة .. وفعلاً " فدانا القرشي وعبد الحفيظ " وكوّن المحجوب وزروق الحكومة بعد ذلك الموكب بأيام.
    وبعد نجاح ثورة أكتوبر في إسقاط الحكم العسكري وتكوين حكومة جبهة الهيئات ، التي كان اغلب الوزراء فيها من الهيئات التي اشتركت في معاداة الحكم العسكري إلى جانب بعض الشخصيات التي اتفق على اشتراكها في الحكومة لأسباب مختلفة ، تم تعيين الأب والأخ والصديق السفير النبيل المرحوم عبد الكريم ميرغني وزيراً للتجارة ، وقد تم استدعاؤه من الهند ، حيث كان يعمل سفيراً للسودان هناك.
    وقد جمعتني بعبد الكريم ميرغني روابط عديدة سأتعرض لها في مكان آخر ، وقد تم اختياره وزيراً بحكومة أكتوبر عندما كان سفيراً للسودان بالهند ، وتم استدعاؤه للمشاركة في الحكومة الجديدة ، وعندما وصل من الهند ذهبنا أنا والمرحوم والدي للسلام عليه وتهنئته بالمنصب الجديد فسألني عن أحوال الخارجية فقلت له : إنني تركت الخارجية لأسباب عديدة وإنني اعمل الآن بالجامعة ( أضفت مزهواً بأنني اشتركت في موكب الأساتذة الذي أطاح بالحكم العسكري ) .. ولدهشتي لم تسعد تلك الأخبار
    عبد الكريم الذي قال إن هذا خطأ وإن مكان أمثالي من الشباب " المثقف والوطني " يجب أن يكون في صفوف السلك الدبلوماسي .. ولما غادرنا منزله كان المرحوم والدي سعيداً بذلك .. أما أنا فكنت أحلم بالبعثة التي خصصت لي من جامعة الخرطوم إلى
    ألمانيا الشرقية.


    عملت إيه يا مجنون ؟
    في صبيحة اليوم التالي من تلك المقابلة مع وزير تجارة انتفاضة أكتوبر .. وأنا جالس بمكتبي كالعادة بإدارة جامعة الخرطوم .. أخطرتني سكرتيرة المسجل بأن السيد المرضي جبارة يريد مقابلتي فوراً ولأمر عاجل بمكتبه .. وهذا ما لم يحدث قط منذ التحاقي بالعمل في إدارة الجامعة ..ولكن لمعرفتي بالسيد المرضي فلم أتوقع شراً .. فأسرعت إلى مقابلته...
    عندما رآني أمامه وضع نظارته ، جانباً وقال لي بصوت تعتريه نبرة من السعادة: يا ابني لقد انتهت فترة عملك بالجامعة فأرجو أن تذهب فوراً وتسلم نفسك لوزارة الخارجية فذهلت وكانت مفاجأة لي .. فسألته ولماذا ؟ قال لي لا تسألني وأنا ما عايز مشاكل مع ناس أكتوبر من فضلك امش وخلاص ..انتهت بذلك المقابلة التي غيرت مجرى حياتي.
    واستسلمت للأمر الواقع وذهبت إلى وزارة الخارجية ، وعلمت هناك أن قراراً قد صدر لإعادتي للعمل مرة أخرى بالوزارة ، وهناك فقط فهمت ما ذكره المرحوم
    عبد الكريم ميرغني عندما ذهبت إلى مقابلته ، وعلمت مؤخراً بأنه سعى لإصدار ذلك القرار وعدت إلى السلك الدبلوماسي والعود أحمد ...
    وظللت برئاسة الوزارة منذ 1964م إلى أن تم نقلي للعمل بسفارة السودان في نيروبي في أواخر 1966م بين إدارة المراسم والقسم السياسي ، ولأنني كنت أصغر الدبلوماسيين بقسم المراسم مرتبة ، فكثيراً ما كنت اذهب إلى المطار للإعداد لمقابلة كبار الزوار من رؤساء الدول والوزراء وغيرهم ، وقد أتاحت لي هذه المهمة فرصة لمصافحة عدد من كبار الشخصيات في ذلك الزمن ، أذكر منهم : "شوان لاي " رئيس وزراء الصين و" تنقو عبد الرحمن " رئيس وزراء ماليزيا و" ديالو تيللي " أمين عام منظمة الوحدة الأفريقية آنذاك، وعدد كبير من الوزراء والسفراء السودانيين ، مما ساعد في تسهيل مهمتي حينما ترفعت للمراتب العليا بالوزارة في كيفية التعامل مع أمثالهم.
    كانت الخدمة المدنية في ذلك الوقت تحتل المرتبة الأولى في قوانين العمل الحكومي ، وكان وكيل الوزارة هو الذي يدير شؤون الوزارة المختلفة " والدينمو " المحرك لها .. وكان الأستاذ الصديق خليفة عباس - أطال الله عمره - وكيلاً للوزارة ، حينما جاءت حكومة الأحزاب بعد حكومة جبهة الهيئات ، والسيد إبراهيم المفتي وزيراً للخارجية .. وكنا نسمع أن هناك خلافاً بين الوزير والوكيل في شؤون الوزارة حول محاولة الأحزاب التدخل في صميم أعمال الوكيل سعياً وراء تخريب الخدمة المدنية ، وكان مكتبي بقسم المراسم بالطابق الأرضي في مدخل الوزارة تحت مكتب الوكيل مباشرة.. ولاحظت عند حضور الوزير إلى الوزارة تقف عربته أمام مكتبي وينزل السائق ويسألني إذا كان الوكيل بمكتبه فإذا أجبت بنعم كان الوزير يغادر الوزارة فوراً ، وإذا أجبت بأنه غير موجود فكان الوزير يخرج من سيارته ويصعد إلى مكتبه بالطابق العلوي، فتأكد لي أن تلك الإشاعة كانت صحيحة ، وأن الوزير كان يخشى الاصطدام مع الوكيل الذي عرف بقوة الشخصية والتمسك بحقوق الخدمة المدنية.
    وعندما كنت أعمل بالقسم السياسي - كان ذلك في قمة اهتمام إفريقيا بقضية روديسيا وإعلان الاستقلال من جانب واحد - وقد أرسلت وزارة الخارجية السفيرين
    عبد الكريم ميرغني ورحمة الله عبد الله إلى الدول الأفريقية لمعرفة مواقفها وشرح خطورة تلك الخطوة .. وكانا يرسلان تقاريرهما من عواصم كل الدول الأفريقية بعضها باللغة العربية وأخرى باللغة الإنجليزية ، ولا أنسى تلك اللحظات التي كنا نقضيها ونحن نقرأ ونتفحص تلك التقارير ، فقد كانت دروساً ذات مستوى رفيع في الدبلوماسية والسياسة إلى جانب إجادة اللغة والتعابير الأدبية في صياغة تلك التقارير ، والتي استفدت منها كثيراً في مستقبل عملي بالوزارة .. وفي هذا المجال لا أنسى تقارير آخرين والتي كانت في نفس المستوى والجودة أذكر منهم المرحومين فخر الدين محمد وصلاح هاشم.
    وعندما اشتعل الخلاف بين مصر والسعودية حول اليمن ، ووصل إلى مواجهة عسكرية وقطيعة بين أكبر دولتين عربيتين ، وكنت آنذاك بالقسم السياسي أطلع على التقارير التي ترد من سفارتنا بالقاهرة حول تطورات الخلاف بين البلدين ، وكان العمل اليومي في معالجة التقارير يبدأ من السكرتير الثالث بالإدارة ليبدي رأيه ، ويتدرج إلى رئيس القسم ثم الوكيل ثم الوزير إذا تطلب الموافقة على رأي أو إجراء معين ، وأذكر إنني علقت في ( ID. Sheet ) - وكانت تلك تسمية الأوراق التي تحمل آراء واقتراحات الدبلوماسيين على التقارير السياسية وغيرها - على الخلاف بين مصر والسعودية مشيراً إلى العلاقات القوية التي تربط السودان معهما مقترحاً أن هذا الوضع يجعل السودان من أكثر الدول العربية تأهلاً للتوسط في هذا الخلاف معدداً الفوائد التي قد تعود إلى العرب من مصالحة الدولتين ، وعلى السودان إذا نجح في هذه المهمة.
    وبعد يومين سافرت في إجازة قصيرة لمدة أسبوعين إلى مدرسة حنتوب ، حيث كنت أذهب إليها من حين إلى حين لزيارة شقيقتي الكبرى " محاسن " وزوجها الأستاذ محمود يوسف الذي كان يعمل معلماً للغة العربية هناك ، وكنت أرتاح لأكون معهم وثانياً: لقد أحببت حنتوب الجميلة ولأنها تذكرني بأيامي الخوالي في مدرسة وادي سيدنا الثانوية.
    وفي مساء ثاني يوم من أيام وصولي جاء ناظر المدرسة وسأل صهري إذا كان المدعو أحمد دياب موجوداً ، وكنت حاضراً فعرفت نفسي له فقال لي : إن وزارة الخارجية اتصلت بمكتبه وطلبت منه أن يبلغني بأن اتصل بهم فوراً ... فاستغربت أيما استغراب ولولا احترامي للسيد الناظر لاتهمته بالكذب ، أو أنه فهم الرسالة بالخطأ.
    فذهبت معه واتصلت بالرقم الذي أعطاني إياه وكان الوقت حوالي الساعة السابعة والنصف مساءً فرد علي الزميل والصديق سيد أحمد الحردلو - وكان مناوباً أو كما نقول "نبطشي" - وعندما سألته عن الموضوع رد على بطريقته المعهودة ... ماذا فعلت يا مجنون؟! وكان يناديني بذلك دائماً ... فقلت له لم أفعل شيئاً !! وأنا في إجازة رسمية ..
    فقال لي إن مكتب رئيس الوزراء ووزير الخارجية محمد احمد محجوب طلب حضورك فوراً للخرطوم صباح الغد ... فسألته عن السبب .. فرد أنه لا يدري .. ولكن هذه هي التعليمات.
    وعدت وصهري إلى المنزل وكلانا يتساءل عما وراء ذلك ( خاصة وأنا موظف صغير ) ولم أجرؤ للوصول إلى مكتب الوكيل ناهيك عن مكتب الوزير ، وليست لي علاقة أو تعامل سابق مع مكتب رئيس الوزراء .. وقضيت ليلة سوداء طويلة مؤرقة ، وكاد عقلي يطير من كثرة التفكير ، ولم أصل إلى إي تفسير لذلك الحادث.
    وفي الغد نهضت مبكراً وأخذت أول " بنطون " إلى مدني وركبت البص السريع وكانت قيمة التذكرة خمسة وعشرين قرشاً ووصلت الخرطوم .. وذهبت مباشرة للوزارة فأخطرت بمقابلة الوكيل بالإنابة الذي أشار علي بالذهاب مباشرة إلى مكتب وزير الخارجية ورئيس الوزراء بمجلس الوزراء ، ووصلت إلى هناك منهوك القوى من الإعياء والرهبة والترقب .. وأخيراً استقبلني السيد محمد احمد محجوب بابتسامته المعهودة وشخصيته الطاغية ، وكدت يغمى عليّ عندما رفع ملفاً وسألني .. هل كتبت هذه المقترحات يا ابني ؟ فنظرت إلى الملف فإذا خطي واسمي كانا واضحين تماماً وعلى الرغم من ذلك كدت أجيب بلا .. ولكني تماسكت وقلت له - وصوتي يكاد لا يخرج من حلقومي - نعم سيادتك .. فانطرحت أساريره .. وقال : إنني فقط أردت أن أهنئك وأنقل إليك بأنني قررت الأخذ برأيك ونسعى للمصالحة بين مصر والسعودية.

    ولم أصافح عبد الناصر ..

    وأثناء الفترة التي قضيتها بالقسم السياسي برئاسة الوزارة ، كانت تتاح لصغار الدبلوماسيين من أمثالي الفرصة لمرافقة الوزراء والوفود التي تسافر في مهام رسمية خارج السودان ، خاصة المشاركة في المؤتمرات المختلفة : كالجمعية العامة للأمم المتحدة ، واجتماعات مجلس الجامعة العربية ، ومنظمة الوحدة الأفريقية ..حتى تتفتح عقولهم على ما يجري في تلك المؤتمرات والقضايا التي تناقشها بقصد التدريب وتوسيع معلوماتهم عن طبيعة عمل هذه المؤسسات.
    وحانت لي في عام 1965م فرصة الذهاب مرافقاً لوفد وزير الخارجية آنذاك المرحوم إبراهيم المفتي لحضور اجتماعات الجامعة العربية بالقاهرة ، وقد كنت في تلك الفترة كغيري من الشباب في السودان وفي العالم العربي معجباً إلى درجة الجنون بالرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر ، تلك الشخصية التي طغت على المسرح السياسي في العالم الثالث بصورة لم يسبق لها مثيل.
    وكان عبد الناصر - وسيظل بالنسبة لي زعيماً كبيراً وعملاقاً ، وأنا هنا لا أتعرض بالحكم أو التقييم لثورة 23 يوليو ، ولكني أتحدث عن عبد الناصر كظاهرة سياسية في ذلك الوقت - وحتى هذه اللحظات ، فعندما أرى صورته أو أسمع صوته ، - وهو يخاطب الشعب العربي - فإن قشعريرة باردة تسري في جسدي ، وهالة قدسية عنه تجول بخاطري ، ولا أملك تفسيراً لذلك الإحساس والذي لم يشارك عبد الناصر فيه أحد
    حتى اليوم.
    كنت أرى كل شيء من رؤيته له ، وكنت عندما أستمع إليه في خطبه الشهيرة تتلون حالتي النفسية بحالته ، فعندما يكون منتصراً أحس بالزهو والافتخار ، وعندما يكون مهزوماً أحس بمرارة الهزيمة تملأ أحشائي وينتابني الحزن والألم .. لذلك الرجل الذي كان يتحدث من قلبه فملأ الدنيا وشغل الناس.
    وقد استقر وفد السودان وأنا بينهم في فندق ” هيلتون ” النيل بميدان التحرير قريباً من مقر جامعة الدول العربية - وهذا التقليد ما زال قائماً حتى الآن - ولذلك فإن اللقاءات الجانبية التي كانت تتم بين وزراء وأعضاء الوفود العربية فرصة لتبادل وجهات النظر ، والاتفاق على القرارات والتوصيات في المواضيع المختلفة لمؤتمرات الجامعة العربية قبل طرحها رسمياً داخل قاعة الاجتماعات.
    ومن المعروف أن الشخصيات السياسية السودانية التي كانت تعرف بميولها نحو الوحدة ، أو نحو إقامة علاقات مميزة مع مصر منذ الاستقلال خاصة التي كانت تنتمي إلى حزب الأشقاء أو الوطني الاتحادي أو الشعب الديمقراطي أو الاتحادي الديمقراطي ، كانت تجد قبولاً خاصاً لدى السلطات المصرية وقياداتها السياسية يختلف عن الشخصيات السودانية من الأحزاب الأخرى ، كما أنه كان هناك تقليد أن يقوم وزراء الخارجية والذين يشاركون في اجتماعات الجامعة العربية بطلب مقابلة الرئيس جمال
    عبد الناصر.
    وأثناء تلك الزيارة - وتمشياً مع تلك التقاليد - أعرب وزير الخارجية ورئيس وفد السودان لذلك المؤتمر عن رغبته في مقابلة الرئيس عبد الناصر ، وعندما تحدد موعد المقابلة .. بدأت أفكر في كل لحظة وساعة كيف أرافق الوزير في تلك المقابلة حتى أحقق حلماً من أحلام حياتي في ذلك الوقت ، وهو أن أصافح الزعيم العملاق عبد الناصر .. ولأن ذلك الحلم ظل يراودني دائماً فقررت ألا أدع تلك الفرصة تضيع دون أن أحقق
    ذلك الحلم.
    وقبل موعد الزيارة بساعات ذهبت إلى غرفة الوزير وجمعت كل شجاعتي ورتبت أفكاري وشرحت للسيد الوزير في كلمات معبرة صادقة عن رغبتي في أن يوافق على أن أرافقه عندما يذهب لمقابلة عبد الناصر ، ويبدو أن السيد الوزير أحس بأحاسيسي الصادقة فوافق فوراًً على طلبي.
    وتملكتني سعادة غامرة ، وبدأت أواجه قضية جديدة وهي : كيف أصافح
    عبد الناصر ؟ وكيف أقوم بتحيته ؟ وهل اطلعه على ذلك الشعور العميق الدفين في أعماقي الذي ظللت أكنه له منذ أن تفجرت ثورة 23 يوليو ؟ وعن متابعتي واستماعي المتواصل بكل أحاسيسي لخطاباته وعن .. وعن..؟
    وحانت ساعة موعد اللقاء التاريخي ، وكنت في حالة من الاضطراب لم أعرفها في حياتي عندما اقترب موعد اللقاء وكنت كشاب صغير ذاهب لمقابلة رفيقة عمره للمرة الأولى وقد اشتمل ذلك على اهتمامي بمظهري واختيار كلماتي وكيف أبدأ وكيف أنتهي ؟
    وتحرك موكب السيد الوزير وأنا برفقته نحو " منشية البكري " حيث منزل الرئيس جمال عبد الناصر . وكنت وأنا داخل السيارة قد فقدت الإحساس بمن حولي وبمناظر القاهرة في الطريق من ميدان التحرير إلى منشية البكري ، وتركز كل اهتمامي وتركيزي وتفكيري باللحظة التاريخية القادمة ولقائي بعبد الناصر لحماً ودماً .. وبدأت أفكر في الكيفية التي سأحكي بها تفاصيل هذا اللقاء لأهلي ولزملائي وأصدقائي بعد عودتي
    إلى السودان.
    وكلما اقتربت المسافة إلى منشية البكري ، كلما ازداد اضطرابي وتوترت أعصابي وفقدت الإحساس بمن حولي ، حتى كدت أعتقد أنني ما عدت أسيطر على تحركات أعضاء جسمي المختلفة .. وعندما وقفت السيارة أمام منزل عبد الناصر شعرت بأن هناك غشاوة قد كست عيوني وأن رؤيتي بدأت تضعف ، ولكنني تماسكت في انتظار
    ذلك اللقاء.
    قادنا مدير المراسم وبرفقته عدد من رجالات الأمن وسكرتارية الرئيس إلى داخل المنزل ، وإلى قاعة الاستقبال ، وكان منزل عبد الناصر في منتهى البساطة التي لا تصدق .. واعتقدت أننا سوف ننتقل من ذلك المنزل إلى منزل آخر هو السكن الرسمي
    لعبد الناصر.
    وبدأت الدقائق تمر بسرعة لحضور عبد الناصر ، وبدأت دقات ونبضات قلبي تزداد وترتفع مع مرور اللحظات ، كما بدأت قشعريرة تسري في عروقي وإذا بالعرق بدأ يتصبب من جبيني ، وشعرت بأنني ارتجف وأن حمى لعينة قد داهمتني في تلك اللحظات الحاسمة وبدأ دوار وغثيان يلف رأسي .. وأثناء هذه اللحظات دخل القاعة فجأة شخص يرتدي بذلة وفي منتهى الأناقة ووقف في مدخل الغرفة ووقف وقفة عسكرية وصاح بأعلى صوته ”الرئيس جمال عبد الناصر ”.
    وعند ذلك وقف الجميع وأنا منهم ، وبدا وكأن الرئيس عبد الناصر سوف يدخل القاعة في أي لحظة ، فوقفت بصعوبة شديدة مع الآخرين ولكنني شعرت بأن أرجلي غير قادرة على حمل جسدي الذي بدأ أثقل من دب أسود ، كما أن أوصالي جميعها صارت ترتجف وبدأت دموعي تنهمر .. وفجأة توقف إحساسي بما حولي وهويت على الأرض.
    عندما عدت إلى وعيي وإدراكي وجدت نفسي ملقى على سرير وحولي بعض الأشخاص في لباس الأطباء والممرضين ، وأيقنت أنني قد أدخلت إحدى المستشفيات بالقاهرة.
    وعلمت فيما بعد أنه قد أغمى على قبل دخول عبد الناصر إلى غرفة الاستقبال في منزلـه للالتقاء بالوزير ، وقد نقلت فوراً إلى أحد المستشفيات العسكرية ، وكان تقرير الطبيب أنني أصبت بصدمة من فرط إحساسي في تلك اللحظة.
    فشعرت بحزن عميق وأسف لا يوصف على ضياع تلك اللحظة الهامة والفرصة التاريخية التي ضاعت من بين يدي قبل لحظات قليلة من تحقيق أحد أحلام حياتي التاريخية ، ولعنت ضعف أعصابي الذي تسبب في ذلك .. ولكنني قد أيقنت بعد ذلك بكبر عبد الناصر وقوة شخصيته وسحره الذي جعل منه زعيماً روحياً للملايين من أبناء الشعب العربي ، فازددت محبة وإعجاباً وتشوقاً للقائه مرة أخرى .. ولكن للأسف لم تتكرر تلك الفرصة .. ولم أصافح عبد الناصر.

    توناكوندا .. نيروبي
    في نهاية عام 1966 نقلت للعمل بسفارة السودان بكينيا ، وبذلك أصبحت نيروبي عاصمة كينيا الجميلة أول محطة في رحلتي مع العمل الدبلوماسي ، وكنت غير راغب في مغادرة السودان للعمل بالسفارات بالخارج .. فراتبي كان يكفي كل متطلباتي ، والخرطوم كانت فعلاً عاصمة تمتلئ بالحياة .. أما أم درمان فهي " أم الدنيا " بالنسبة للذين عاشوا فيها وفي أزقتها الملتوية وفي رائحة شوارعها وأسواقها التي تمتلئ بالبشر.
    كانت وزارة الخارجية تمنح الدبلوماسي الحق في رفض النقل إلى الخارج مرتين فقط ، وعليه أن ينفذ النقل في الحالة الثالثة أو يستقيل ، وبما أنني سبق وأن رفضت النقل مرتين إلى كل من لندن وباريس من قبل ، فقد قررت أن أشد الرحال هذه المرة إلى كينيا خاصة أغنية آسيا وإفريقيا للشاعر الكبير تاج السر الحسن ، والتي كان يشدو بها الفنان الصديق عبد الكريم الكابلي ، كانت تدفعني لزيارة غابات كينيا ومشاهدة جومو كينياتا أحد الأساطير الأفريقية.
    وجدت نيروبي مدينة ساحرة خضراء جميلة تتمتع بطقس يجعلك في حالة نشاط دائم ومزاج معتدل ، وبها فنادق لا تقل عن مستوى أوروبا ، وكذلك المحلات التجارية وأماكن الترفيه كدور السينما والمسارح والمطاعم المختلفة الجنسيات ، وأول ما لفت نظري في كينيا كان اللغة السواحلية .. وكان وقعها كالموسيقى على أذني فأعجبت بها وقررت من البداية أن أتعلمها.
    والظاهرة الثانية التي لفتت نظري تواجد أبناء الجالية الآسيوية في كل مكان ، خاصة في دواوين الحكومة وسيطرتهم التامة على معظم الأماكن التجارية وعلى المهن الوسيطة التي تحتاج إلى مهارة كالكهرباء والميكانيكا وغيرها ، وكانت دهشتي أكبر حين علمت أن معظمهم مواطنون كينيون يحملون الجنسية الكينية.
    وكذلك الإقطاعيات والمنازل والمزارع الكبيرة التي يملكها " الخواجات " من بريطانيين وخلافهم ، الشيء الذي جعل من كينيا وطناً لهم بعد الاستقلال واستولوا على مصادر الثروة الهامة في كينيا مثل الفنادق الكبيرة ، والمطاعم المتخصصة ، ومزارع الشاي والبن ، وشركات السياحة والطيران وغيرها.
    ومن ناحية أخرى فإن الكيني من أصل إفريقي كان يعيش في ظروف صعبة ، وكما علق البعض بأن المواطنين الأصليين في الدول الأفريقية (أي السود) ، يعملون في بلادهم إما وزراء أو مديرون أو في الوظائف "الخدماتية" .. ومدينة نيروبي كانت مقسمة إلى ثلاثة أجزاء : جزء يسكنه أبناء الجاليات الآسيوية ، وجزء الأوربيون المقيمون ، والجزء الآخر يسكنه المواطنون الأفريقيون .. وهذا يمثل الضواحي المحيطة بالمدينة والتي تمثل أفقر المناطق فيها حيث تفتقر إلى الخدمات أو وسائل المدنية الأخرى.
    وقد استغربت لهذا الوضع وحزنت عليه كثيراً ، وكذلك على أبناء ذلك البلد من الأصول الأفريقية ، وخيرات بلادهم المتعددة تتلقفها أيدي وبطون الوافدين إليها من آسيا وأوروبا . ولذلك - وبسبب هذه المفارقات - تلاحظ أن شخصية الكيني الأفريقي مهزوزة ومثله الأعلى هو الرجل الأبيض ، ويميل إلى الانغماس في المباهج الرخيصة التي كانت تتوفر له في تلك الظروف.
    ولذلك ، فقد ازددت فخراً واعتدادا بأنني سوداني ولما لبلادي من قيم وتقاليد ، حيث يمتلك المواطنون السودانيون كل المرافق والمواقع المختلفة وتفرّد الشخصية السودانية آنذاك ، والمقدرة والكفاءة التي تمكن بها السودانيون من إدارة دفة الحكم في بلادهم بعد خروج الإنجليز ، والثقة والاعتزاز بالانتماء للسودان أصلاً وسلوكاً
    وحضارةً .. مقارنة بما رأيته بالنسبة لوضع الكينيين من الأصول الأفريقية في كينيا في تلك الفترة.
    والآن وأنا أكتب هذه الخواطر ، بعد مرور حوالي الثلاثين عاماً على تلك الذكريات ، أجد مفارقة وهوة كبيرة بين وضع السودان آنذاك ووضعه اليوم ، وبين ما حققته كينيا وما حققه السودان خلال تلك الفترة ، ووصلت إلى قناعة بأننا تبادلنا
    الأدوار .. فصار سودان التسعينات هو كينيا الستينات ، وكينيا التسعينات هي سودان الستينات... ويا للهول كما يقول المرحوم الفنان الكبير " يوسف وهبي " !!.
    ونحن بصدد الحديث عن المفارقات .. فقد كنت قد تركت العمل بوزارة الخارجية عام 1963م ، أي بعض مضي شهور على التحاقي بها ، وقد أوردت في صدر هذه الذكريات بأن فصلي من الوزارة كان موقعاً عليه السيد محمد ميرغني مساعد الوكيل للشؤون الإدارية ، وكان الخطاب ينص على فصلي من قوة وزارة الخارجية.
    وبعد أن عدت إلى العمل بوزارة الخارجية في عام 1964م ، تقرر نقلي في نهاية عام 1966م إلى كينيا ، وكما ذكرت آنفاً كان يتوجب عليّ تنفيذ النقل أو الاستقالة ، وبما أنني قد اخترت العمل بوزارة الخارجية عن قناعة بأهمية التجارب والاحتكاك بالدول الأجنبية ، ولأنني كنت أعلم بأن السفير السوداني في كينيا هو السيد محمد ميرغني ، الذي اصطدمت به في أول يوم بدأت فيه العمل بالخارجية ، وهو الشخص الذي وقع على خطاب فصلي من قوة تلك الوزارة ، فقد أواجه موقفاً صعباً !!.
    وفي النهاية قررت أن أذهب لمواجهة الموقف بكل احتمالاته وعزمت على الوصول إلى اتفاق معه حول العلاقة بيني وبينه كسفير ، وألا أعود إلى السودان مهما كانت العواقب ، ولذلك ذهبت إلى مكتبه فور وصولي .. وقبل أن أبدأ الحديث بادرني بالترحاب وكان صادقاً في ذلك وقال لي ( لا تتحدث إنني أعرف ما يدور بداخلك نحوي ، وإنني أعجبت بك حين علمت أنه على الرغم من أنك تعرف بأنني سأكون رئيسك المباشر هنا ، إلا أنك وافقت على العمل بهذه السفارة .. وأضاف أذهب إلى مكتبك ، وإن شاء الله لن ترى إلا الخير في هذه البلاد ).
    ولقد حدث ذلك فعلاً ، ووجدته شخصاً مختلفاً وقد أكبر قراري بالموافقة على العمل بنيروبي واعتبره غاية " الرجولة " ، وهو يعتبر أن الرجولة هي القوة والعنف وتجهم الوجه ، كما أن الرجل هو الذي لا ينجب إلا أولاداً فقط ولأنه "راجل" فقد أنجب أربعة أولاد فقط ، وهو بحكم عمله في الشرطة قبل التحاقه بوزارة الخارجية ، يؤمن بالانضباط في المواعيد وتحمل المسئولية .. وله أسلوب لا يخلو من أسلوب "التحري" في عمله الدبلوماسي ، والموظف عنده متهم إلى أن تثبت براءته.
    ولكن بعد فترة من العمل سوياً اكتشفت أن وراء هذه الشخصية الحديدية ، أو وراء "الفك المفترس" – كما كان يطلق عليه بعد أن تقلد لاحقاً منصب وكيل وزارة الخارجية - شخصاً آخر يحترم المشاعر وسودانياً أصيلاً حتى النخاع ، وعلى الرغم من أنه من المدرسة التقليدية في الحياة وفي العمل إلا أنه كان مشرّفاً كسفير يملأ منصبه بكفاءة ويقدر المسئولية ، ولقد عملت معه لمدة سنتين أحمل فيها أعز وأنبل المشاعر والذكريات نحوه ونحو أسرته ، وقد استمرت علاقات الصداقة والود بيننا حتى يومنا هذا ، ولا أنسى أبداً مواقفه الأبوية نحوي في تلك الفترة وحرصه على أن أتعلم وأنجح في مهنتي ، وأعتبره من الشخصيات التي أثرت في حياتي الخاصة والمهنية.
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de