|
القدال: المقاومة والإرهاب ... وبينهما أمور متشابهات
|
المقاومة والإرهاب ... وبينهما أمور متشابهات الصحافة العدد رقم: 4182 «1» المقاومة
نحتاج ان نفرق بشكل جلي بين المقاومة والإرهاب، فقد وقع بينهما خلط في السنوات الأخيرة، جعل البعض يسمي المقاومة ارهابا ويسمي الارهاب مقاومة وهذا الخلط اججته واضرمت اواره قوى محلية وعالمية لحاجة في نفسها. ويحظي موضوع الارهاب باهتمام بالغ من عدة قوى اكاديمية وسياسية ولا يهمنا من امر القوي السياسية شئ لانها تبيع وتشتري في سوق النخاسة السياسية. ولكن تناول الاكاديميين يفتح شهيتنا، لانه يطرح قضايا ليست جديرة بالاهتمام فحسب، وانما لانه يضع مؤشرات لمستقبل البحث العلمي.
تعني المقاومة وقوع ظلم على كاهل الناس فيقاومونه. وقد تكون المقاومة بعنف وقد تكون باسلوب سلمي فقد قاوم اهل السودان الحكم التركي - المصري طوال حقب متتالية «182-1880» وكانت مقاومة دموية، وتبلورت في النهاية في دعوة المهدي المنتظر وقاوم اهل السودان الاستعمار البريطاني من منطلقات دينية وقبلية وفشلت تلك الحركات، ولكنها لم تمض دون ان تترك بعض الآثار على مجرى الحركة الوطنية السودانية. فهي رغم فشلها الا انها حافظت على جذوة النضال مشتعلة بعد ان كاد الحكم البريطاني يطفئ وميضها برماد الغزو. وقاومت بعض القبائل الافريقية التغول الاستعماري بضراوة مثل الزولو بقيادة زعيمهم شاكا الذي تحول الى اسطورة للصمود والجسارة... والككيويو والاشانتي وغيرهم، وكانت معارك ضارية، ويزدحم التاريخ بأمثلة المقاومة العنيفة للظلم.
وهناك اسلوب سلمي للمقاومة فقد ابتدع غاندي العصيان المدني الذي كسر جبروت الاستعمار البريطاني وهو في عنفوان سطوته ودارت مناقشة في اروقة حزب المؤتمر في جنوب افريقيا في بداية الستينات من القرن الماضي حول الانتقال من الصراع السلمي الى المقاومة المسلحة. وتناولها منديلا في سيرته الذاتية درب الحرية الشاق، كما تناولها سامبسون في كتابه عن سيرة مانديلا الذي يعتبر السيرة الرسمية ،فانتقال حزب المؤتمر بمساندة الحزب الشيوعي في جنوب افريقيا الى الكفاح المسلح لم يكن عملا عشوائيا او انفعالا اعمى. ويذخر تاريخ الزنوج في امريكا باشكال مختلفة من المقاومة، بعضها عنيف وبعضها سلمي، واتجهت كلها لكسر شوكة العنصرية البغيضة. فعندما اشتد رد الفعل الهمجي من العنصريين البيض، كون بعض الزنوج ومعهم نفر من البيض تنظيما شاملا يسمى الاتحاد القومي لترقية الشعوب الملونة «NAACP» واقتحموا ساحات المحاكم ورفعوا قضايا ضد تلك الهجمة العنصرية. وكانت جريدتهم الازمة «crisis» تكشف تباعا التجاوزات العنصرية حتى بدأت تنكسر حدتها. ولكن جاء رد فعل زنجي عنصري كاد ينحرف بالمعركة. فقد كون احد الزنوج القادمين من جزيرة جمايكا يدعى قارفي، تنظيما عنصريا، واطلق دعوة العودة الى افريقيا وكون مؤسسات مثل الصليب الاسود وشركة النجمة السوداء للملاحة واعلن عن تكوين الامبراطورية الافريقية في نيويورك ونصب نفسه امبراطورا عليها. وقال بتفوق اللون الاسود وجذب لدعوته نحوا من خمسة ملايين فهاجمه الزنوج المستنيرين وفي مقدمتهم وليم ديبوا الزعيم الزنجي العملاق. وتمكنت الحكومة الامريكية من تلفيق تهمة له وابعدته عن من البلاد، وانهارت دعوته ونحن نسوق هذا النموذج لما يلقيه من ظلال على بعض الحركات الجانحة على ايامنا، وقاوم مارتن لوثر كنج التفرقة العنصرية في امريكا بالاسلوب السلمي، ولم تحتمل الفئات المتنفذة في امريكا اسلوبه السلمي فاغتالته، كما اغتالت من بعده الزعيم الزنجي الآخر مالكوم اكس لانها ايضا لم تحتمل اسلوبه السلمي في المقاومة. ولا تعني كل مقاومة مناطحة دموية للطغيان. ولا تعني المقاومة السلمية تقاعسا او تراجعا او تراخيا، وانما تختلف اساليب كل واحدة منها، وفقا للقدرات المتوفرة والوضع القائم والظروف المحلية والتراث الثقافي للمجتمع.
والمقاومة الصلدة طابعها شامل. فهي مظلة وارفة يقف تحتها الناس بمختلف انتماءاتهم وعقائدهم لانه بدون ذلك الشمول تفقد المقاومة ركنا متينا لصمودها وبقائها. وما لنا نذهب بعيدا ولدينا في السودان امثلة ساطعة. فالثورة المهدية جمعت مختلف القبائل والطرق الصوفية والاقاليم. وتحقق استقلال السودان باجماع وطني عريض. وكانت ثورة اكتوبر وانتفاضة ابريل نموذجا للتكاتف القومي العريض وكانت الثورة المهدية صداما دمويا وكانت معركة الاستقلال معركة ذات طابع سلمي طويل النفس وان تخللتها بعض المعارك العنيفة.
والمقاومة لها افق تستشرف فيه المستقبل وقد يكون الافق محدد المعالم وقد تكون قسماته غائمة. ولكن لابد من افق وبدون ذلك الافق تصبح المقاومة عملا قليل الجدوى قليل الشأن ويحفظ التاريخ ضروبا من المقاومة ذات آفاق مجهولة المعالم او لا معالم لها فثورة العبيد في الامبراطورية الرومانية «73 - 71ق.م» بقيادة سبارتكوس، كانت ثورة بلا أفق لان العبيد لم يكونوا مؤهلين تاريخيا ليرثوا الامبراطورية الرومانية. فحققوا نجاحاً مؤقتاً، وسرعان ما جاءت الجحافل الرومانية وقضت عليهم. وثورة الزنج في البصرة في العهد العباسي بقيادة علي بن محمد، الذي تسميه كتب التراث عدو الله الخبيث، ايضاً كانت بلا افق لان العبيد لم يكونوا مؤهلين تاريخيا لوراثة الخلافة العباسية فحققوا بعض النجاح، ثم قضت عليهم الجيوش العباسية. وثورة الفلاحين في المكسيك بقيادة زاباتا «1879- 1919»، كانت ايضا بلا افق فبعد ان استولى الفلاحون على الأرض، وجد زاباتا نفسه في حيرة، لان الفلاحين غير مؤهلين تاريخيا لوراثة الاقطاع. فجلس إباتا تحت ظل شجرة يقلب كفا بكف، حتى تم اغتياله في كمين غادر، وتشتت جماعته.
ولكن لماذا يحفظ التاريخ هذه النماذج رغم أثرها المحدود او ربما لا أثر لها؟ لعل ذلك لانها تمثل رفضا حادا للظلم حتى وان كان ذلك الرفض لا افق له. وربما لانها تنتصب معالم في طريق الشعوب تسترشد بها في معاركها اللاحقة وتضئ لها سبل المضي قدما فالدم الذي انسكب في تلك المعارك لم يكن دما مطلولاً. ان تجارب الشعوب ليست معادلات رياضية صارمة، وانما تتحول حينا لتنسكب في مجرى حركة المجتمع، وتتحول في حين آخر لتندغم مع بعضها، وربما تجاوزت في حين ثالث كل ذلك. ولكنها تبقى حية، فالمقاومة لها اثر تراكمي، لانه بدون ذلك التراكم يصبح تاريخ المجتمعات اشتاتا مبعثرة، اي يصبح المجتمع بلا تاريخ. فالمقاومة ليست لها نتائج سريعة مباشرة، ما علينا الا ان نمد ايدينا لنتلقفها. ان التلهف العجول ليس من شيم المقاومين الاشداء.
كل هذه الصفات مجتمعه تشكل المرتكزات الاساسية للمقاومة وقد تكون هناك صفات اخرى غابت عنا فما هو الارهاب؟
-يتبع-
|
|
|
|
|
|