|
|
 الفيدرالية الجديدة في السودان
|
بقلم :الطيب زين العابدين
كان طلب الحركة الشعبية فى بداية المفاوضات الجادة مع الحكومة اقامة نظام كونفدرالى بين الشمال والجنوب بحيث يكون الشمال وحدة كونفدرالية ويكون الجنوب كذلك، ورفضت حكومة الانقاذ ذلك العرض بشدة على أساس أنه يؤدى الى الانفصال بصورة تلقائية فى نهاية الفترة الانتقالية. ويبدو أن موقفها ذلك تكرار لما فعلته الحكومة السودانية فى مطلع الاستقلال حين رفضت الاستجابة لمطلب النواب الجنوبيين فى الجمعية التأسيسية بمنح الجنوب نظاما فيدراليا يراعى خصوصيته الثقافية والسياسية بحجة أن الفيدرالية قد تكون خطوة فى طريق الانفصال.
وبرهنت تطورات الأحداث فيما بعد أن رفض طلب النواب الجنوبيين كان خطأ سياسيا جسيما كلف السودان ثلاثين سنة من الحرب وخمسين سنة من عدم الاستقرار السياسى وأهلك موارد البلاد البشرية والمادية فى غير ما طائل.
وستبرهن الأيام المقبلة أن اتفاقية السلام الشامل التى وقعتها الحكومة مع الحركة الشعبية فى نيروبى فى التاسع من هذا الشهر أسوأ من خيار الكونفدرالية الذى رفضته فى بداية المفاوضات، لأنها أسست لنظام فيدرالى غير معهود فى كل أنحاء العالم، ولأنها ظلمت الشمال حين أعطت الحركة الشعبية سيطرة كاملة على الجنوب لا تقل عما يعطيه النظام الكونفدرالى وأشركتها فى ذات الوقت فى حكم الشمال بنسبة الثلث.
واقتطعت لها نصيبا من أرض الشمال فى جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق بحجة أن بعض أبنائها حاربوا فى صفوف الحركة، وحددت حقوق الجنوب فى السلطة والثروة بصورة دقيقة دون أن تفعل شيئا مقاربا لذلك فى الشمال. وجاءت الملاحق الأخيرة من الاتفاقية لتفصل جداول دقيقة بمواعيد تنفيذ استحقاقات أهل الجنوب، والسلطة المنفذة لها، والجهة الممولة، ومكان التنفيذ مما يدل على أن الحركة لم تترك شيئا لحسن الظن بالحكومة!
وختم العقيد جون قرنق حفل التوقيع فى استاد نيروبى بخطاب سياسى أدلى به تحت علم الحركة الذى يرفعه أتباعه وعلى نغمات نشيده الوطنى الذى عزفته فرقة الحركة فى ذات الوقت الذى عزف فيه السلام الجمهورى السودانى! هاجم قرنق فى خطابه المطول التسلط العربى الاسلامى على حكم السودان بما فيه حكومة الانقاذ التى شاركها التوقيع على الاتفاقية وسيقتسم معها سلطة الحكم فى الفترة الانتقالية، وتحدث عن المهمشين فى الأقاليم، ونادى بتأسيس السودان الجديد الذى يدعو له.
وليس غريبا أن يبدأ التوتر فى الشمال فى أعقاب الاتفاقية مثل ما يحدث فى دارفور بتحريض ودعم من الحركة الشعبية، وفى شرق السودان، وظهرت ارهاصات لاضطراب أمنى جديد فى غرب كردفان. لقد أصبحت الاستحقاقات التى نالها الجنوب فى السلطة والثروة مثلا يحتذى لحركات التمرد فى دارفور وفى شرق السودان.
فقد طالبت حركة العدل والمساواة بدارفور أن يكون لرئيس الجمهورية ستة نواب يمثلون أقاليم السودان المختلفة، وكل نائب يكون حاكما على اقليمه، ويتم توزيع حقائب مجلس الوزراء على الأقاليم بنسبتها السكانية وأن تكون لحركتى العدل والمساواة وتحرير السودان 50% من السلطة الاتحادية خلال الفترة الانتقالية، وأن تراعى النسبة السكانية فى القبول والاستيعاب بالكلية الحربية، وتتولى الدولة الصرف على جيش الحركتين فى فترة الانتقال! وستكون اشكالية الحكومة الكبرى أن تقنع تلك الحركات بأن نموذج الجنوب غير قابل للتطبيق فى أقاليم السودان الأخرى.
لقد تضمنت الفيدرالية الجديدة التى وافقت عليها الحكومة فى اتفاقية السلام أن تنشأ فى البلد ثلاثة جيوش، جيش الحكومة الذى سينسحب تدريجيا من الجنوب ويبقى تحت ادارة وزارة الدفاع، وجيش للحركة تحت قيادة العقيد جون قرنق ينتشر فى جنوب السودان (لم يفصح قرنق حتى الآن عن تعداد جيشه أو معداته الحربية)، وقوات مشتركة من أربعين ألف جندى مناصفة بين الحكومة والحركة تنتشر فى الجنوب وجبال النوبة وجنوب النيل الأزرق والعاصمة القومية تحت ادارة رئاسة الجمهورية التى يشكل قرنق أحد أركانها الثلاثة.
وتكون للجنوب حكومة اقليمية لها مجلس تشريعى بجانب حكومات الولايات، وليس هناك نظير لحكومة اقليمية فى كل أقاليم الشمال ولكن حركتا التمرد فى دارفور طالبتا باعتبار دارفور اقليما واحدا له حكومته وبرلمانه التشريعى.
وتقول الاتفاقية بوضع قانونين اسلامى فى الشمال وعلمانى فى الجنوب ويتبع ذلك نظام قضائى خاص بالشمال وآخر للجنوب، وفرع للبنك المركزى فى الجنوب تسيطر عليه حكومة الجنوب ولكل شطر نظام مصرفى مختلف، وهناك ديوانان للمراجعة العامة أحدهما فى الشمال والآخر فى الجنوب، ولجنتان للأراضى وقس على ذلك فى بقية المؤسسات.
ويبدو أن معظم الوزارات الاتحادية الثلاثين التى يتمتع فيها أهل الجنوب بنسبة 34% لن تكون لها صلة بتسيير الأوضاع فى الجنوب وقد نصت الاتفاقية صراحة على أن وزارات الدفاع والحكم الاتحادى والارشاد والأوقاف محصورة فى الشمال! وبما أن اتفاقية الثروة حددت نصيب الجنوب فى عائدات البترول (50% من بترول الجنوب) وفى جمارك البضائع المستهلكة فى الجنوب (50% أيضا) فلن تكون لوزارة المالية أيضا صلة تذكر بميزانية الجنوب أو أوجه صرفها.
ومع ذلك سيتمتع أهل الجنوب بنسبة عشرين فى المئة من قيادات الخدمة المدنية التى تسير عمليا شئون الشمال دون أن يكون للشماليين نصيب فى التوظيف بالجنوب على أى مستوى.
لقد كتبت فى مقال سابق أن تلك «قسمة ضيزى» لن يكتب لها الدوام طويلا بالاضافة الى الهزة العنيفة التى بدأت تحدثها فى الشمال!
حقوق الطبع محفوظة لمؤسسة البيان للصحافة والطباعة والنشر
|
|
 
|
|
|
|
SILVER MOON
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست