د. عمر القراي: الصادق المهدي و"الانكفائية" ودعاوى التجديد

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-08-2024, 11:40 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الأول للعام 2005م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
08-31-2004, 06:33 PM

Omer Abdalla
<aOmer Abdalla
تاريخ التسجيل: 01-03-2003
مجموع المشاركات: 3083

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
د. عمر القراي: الصادق المهدي و"الانكفائية" ودعاوى التجديد

    الصادق المهدي و"الانكفائية" ودعاوى التجديد
    تعقيب على ورشة عمل الانصار "نحو مرجعية اسلامية جديدة ..."
    الحلقة الاولى

    بسم الله الرحمن الرحيم
    (وما يتبع أكثرهم إلا ظناً ، إن الظن لا يغني من الحق شيئاً ، إن الله عليم بما تفعلون * وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله!! ولكن تصديق الذي بين يديه ، وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين * أم يقولون افتراه؟! قل فاتوا بسورة مثله ، وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين * بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه، ولما يأتهم تأويله!! كذلك كذب الذين من قبلهم ، فانظر كيف كان عاقبة الظالمين) صدق الله العظيم

    (1)

    نظمت هيئة شئون الانصار ، ورشة عمل في الفترة 16-18 أغسطس عام 2004 تحت عنوان "نحو مرجعية إسلامية جديدة متحررة من التعامل الانكفائي مع الماضي والتعامل الاستلابي مع الوافد". ولم تطرح في وسائل الاعلام الا ورقة السيد الصادق المهدي ، باعتبارها أهم ما طرح في الورشة ، فهي إذن تمثل الخلاصة الفكرية ، والدينية ، لما يقدمه حزب الأمة ، وكيان الانصار، في هذه المرحلة ، كحل لمشكلة السودان ، بل حل لمشاكل العالم الاسلامي بأسره .. لهذا جاء في اهداف الورقة "اننا في حاجة ماسة لنسيج فكري إجتهادي يوفق بين ضرورات التأصيل والتحديث ، ويحقق الحكم الراشد الذي فيه تتضامن الشعوب وحكوماتها . وعلى الصعيد النظري علينا ان نجري اجتهاداً جماعياً يعالج ثنائية الوافد من الماضي والوافد من الخارج ، وثنائية الرسمي والشعبي ويضع اساساً لمرجعية إسلامية جديدة".
    ولسائل ان يسأل لماذا طرح السيد الصادق ، الحاجة لمرجعية اسلامية ، في هذا الوقت بالذات؟ وهل هي حقاً إجتهاد جديد أم انها مجرد شعارات ، وتعريفات مرتبة رقمياً، ومسميات كتلك التي يطلقها الرجل كلما أخفق سياسياً ، وعجز ان يقدم انجازاً ملموساً؟ ألم يطرح في أزمات مماثلة "نهج الصحوة" و"الجهاد المدني" و "السندكالية" وجاء الآن بـ"الانكفائية"؟!
    فلقد خرج من السودان ، ولحق بالمعارضة ، وانضم للتجمع الذي كان يسعى لاسقاط النظام ، ثم اختلف مع التجمع ، وهاجم د. جون قرنق ، وعاد ليصالح النظام ، ولكن النظام لم يعطه ما يريد ، وأعضاء الحزب رفض معظمهم المصالحة ، وانشق بعضهم ولحق بالنظام.. ولقد حاول السيد الصادق ان يرجع مرة ثانية للتجمع دون جدوى. وكان واضحاً أنه لم يستطع أن يقدم نفسه في مستوى د. قرنق ، أو مستوى السيد محمد عثمان الميرغني. وعندما طرحت مبادرة السلام الاخيرة ، وشعر بان هنالك تغيير قادم لن يكون له فيه وجود ، هرع الى طرح المفاهيم التي ربما اوهمت قطاع من المثقفين بان لديه رؤية جديدة فلماذا لا يعطى فرصة لتجريبها؟!
    ان توقيع اتفاقية السلام بين الحركة الشعبية والحكومة ، ثم ما حدث في دارفور ، وما سيؤدي اليه من مفاوضات مماثلة ، سيخلق واقعاً جديداً في السودان ، وهذا الواقع الجديد لا بد له من رفض اطروحة الجبهة الاسلامية ، باعتبارانها السبب المباشر فيما حاق بالوطن .. ومن نتائج سقوط شعارات الجبهة الاسلامية ، هذا الواقع الجديد الذي فرض القبول بالآخر ، وفرض السلام ، واحترام التنوع ، واعتبار الهامش .. والصادق يخشى ان يسقط فكرياً مع الجبهة الاسلامية ، لانه كان حليفها في آخر فترة ديمقراطية ، ولأنه سعى مراراً لمصالحتها ، بعد ان اغتصبت منه السلطة ، ولانه ، وهذا هو الأهم ، لا يختلف منها فكرياً .. فقد كان رئيس الحكومة في فترة 85-89 ولم يوقف الحرب بين الشمال والجنوب ، بل لم يقبل اتفاقية السلام التي وقعها السيد محمد عثمان الميرغني مع الحركة الشعبية ، ولم يلغ قوانين سبتمبر التي رفضها كل الشعب السوداني ما عدا الجبهة الاسلامية ، ثم هو الذي ابتدر تسليح القبائل العربية في كردفان ودارفور، الامر الذي واصلت فيه حكومة الجبهة حتى ادى الى ماساة دارفور الراهنة .. فهو لكل هذا الماضي المخزي ، يريد ان يثبت انه يختلف من التيارات الاسلامية المتشددة ، وانه مجدد يستلهم روح العصر ، ولهذا لا بد ان يكون له مكان في الساحة الجديدة .. ثم للمحافظة على الانصار الذين بايعوه اماماً ، لا بد ان يؤكد انه مع التأصيل والشريعة ، ويورد أيات من القرآن تؤكد موقفه!!

    (2)

    في مقدمة ورقته ، استعرض السيد الصادق الحركات الاسلامية ، التي حاولت ان تحقق بعثاً باسم الاسلام ، واعتبر ان أفضل هذه التجارب ، التجربة الايرانية ، وقال "وافضلها الثورة الاسلامية في ايران ، ولكن التجربة الايرانية حبستها عقيدة ولاية الفقيه مذهبياً كما حجبتها عن مفهوم ولاية الأمة الاوسع" .. فالسيد الصادق يعتقد ان فتنة الخميني ، التي راح ضحيتها عشرات الآلاف من الايرانيين بسبب الجهل والعنف والتطرف ، هي افضل التجارب ولا يأخذ عليها الا موضوع ولاية الفقية!! وما دام السيد الصادق ، يريد ان يقرب بين اعتقادات المسلمين ، ويؤلف بين قلوبهم ، فليحدثنا عن رأية في قول الامام الخميني: "فإن للإمام مقاماً محموداً، ودرجة سامية، وخلافة تكوينية تخضع لولايتها وسيطرتها جميع ذرات هذا الكون، وإن من ضروريات مذهبنا إن لأئمتنا مقاماً لا يبلغه ملك مقرب، ولا نبي مرسل"!!
    ان اعجاب السيد الصادق بالخميني قديم ، ولقد كان لنا شرف التنبيه على الخلل العقيدي ، الذي وقع فيه السيد الصادق ، حين قام بافتتاح اسبوع النشاط الايراني بجامعة الخرطوم عام 1980 وتحدث في كلمة الافتتاح مشيداً بالفكر الشيعي . فقد قلنا في ذلك الوقت ، ان الصادق المهدي الذي يقوم كل مجده على انه حفيد المهدي الذي ظهر ومضى لربه ، يناصر ويؤيد الشيعة الذين يقوم كل أمرهم على انتظار المهدي الذي لم يأت بعد!! فإن صح اعتقاد الانصار بان الامام محمد أحمد بن عبد الله السوداني هو المهدي بطلت عقيدة الشيعة ، وسقط كل ما تعتمد عليه اطروحات الخميني .. أما ان صح رأي الشيعة في ان المقصود هو محمد الحسن العسكري ، وانه هو الامام الغائب وهو المهدي المنتظر، وهو لم يأت بعد ، بطلت عقيدة الانصار ، واصبح الامام محمد أحمد مدعياً لمقام المهدية ، الامر الذي يسقط اي اعتبار ديني لدعوته ، وينزع عن الصادق المجد الموروث ، الذي بسببه أصبح زعيماً للانصار ..
    فاذا جاء السيد الصادق ليحدثنا الآن بعد كل هذا الوقت ، بان خلل الشيعة هو فقط في ولاية الفقيه ، يتضح لنا انه لا يزال على موقفه من الاشادة بالشيعة ، وان زعمه الآن بانه يقدم اجتهاداً مغايراً ليس الا محاولة تضليل ..

    (3)

    قدم السيد الصادق لورقته بقوله "فيما يلي أهم ثلاثين مسالة هامة يرجى ان يطولها هذا الاجتهاد. نقدمها لقائمة من العلماء والمفكرين لتدارسها يلتقون في بقعة حرة لتداول الرأي المفضي إن شاء الله لوضع نواة لمرجعية إسلامية جديدة"!! فالسيد الصادق لا يطرح فكراً ليقنع به الناس ، وانما يقدم اجتهاده لطائفة يختارها من العلماء ، يريد لهم ان يتداولوا النقاط التي افترض انها اهم ثلاثين مسالة ليلتقوا بناء عليها على نواة لمرجعية اسلامية جديدة ، وما عليك ايها القارئ وما عليّ ، وغيرنا من سائر المسلمين ، الا ان نسلم لهؤلاء العلماء المختارين ، ونقبل ما اتفقوا عليه باعتباره المرجعية التي نحتكم اليها في أمور ديننا!!
    ان رجلاً يظن ان الفكر يتم الاتفاق عليه بالمداولات في المؤتمرات ، وان مجموعة ممن يعتبرهم "العلماء" تغني عن عامة الناس ، لا علاقة له بالفكر ولا بالجماهير التي تضطلع بمسؤولية التغيير .. والصادق هو هذا الرجل تماماً ، فقد اعتاد على ان يقرر للجموع ما يشاء وما عليها الا ان تتبع بالاشارة ، فلماذا يحاول اقناعهم .. ثم هو هنا لا يملك فكراً ينهض للحجة والاعتراض ، وانما يريد ان يقدم آراء لصفوة ، يمكن ان تقبلها جميعاً او تضيف عليها ، والمهم عنده في النهاية ان يتاهل لمكانة مرموقة في الحكومة القادمة ولا يبعد عنها بسبب فشله المتكرر السابق ..
    ومع ذلك فساناقش الافكار التي اوردها السيد الصادق المهدي حتى يتضح ، خاصة لشباب حزب الامة ، انه لا يعرف من الدين ما يكفي لزعامة اي جماعة دينية ، تريد ان تنهض ببعث جديد ، وانه لا يختلف في فهمه من الجماعات السلفية التي سماها الفكر "الانكفائي" .. ولقد وضح من كثرة الفرص التي وجدها في الحكم ، واخفق فيها ، انه لا يستحق زعامة أي جماعة سياسية ، وما سعيه للحصول على البيعة ، وانتخابه لرئاسة الحزب ، الا محاولة في التشبث بالزعامة ، التي قصرت قامته، عن قمتها ، قصوراً مزرياً ..
    في أول نقاطه الثلاثين يقول السيد الصادق "أهم نظريتين حول مكانة الانسان في الكون هما: النظرية اللاهوتية التي تعتبر الانسان متلقياً للمعرفة من الغيب عبر الوحي فمعارفه هي ما نزل به الوحي . النظرية المناقضة لها تماماً هي النظرية الناسوتية التي تعتبر الانسان مستقلاً بذاته ومعارفه هي ما تطولها قدراته العقلية والتجريبية"!! ولم يحدثنا السيد الصادق من الذي وضع هاتين النظريتين؟! وهل هما نظريتان حول مكانة الانسان في الكون أم حول وسائل معرفة الانسان؟! ومن يقول بهما من المسلمين السابقين أو اللاحقين؟! ولماذا هما متناقضتان ، كما قرر، ما دام الشخص يمكن ان يحصل بعض معارفه من التجربة بقدرته العقليه ، ويلهم بعضها من الله؟! أقرأ ان شئت (ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها) .. على ان الصادق مهتم بتفخيم العبارات ، أكثر من تفهيم المعاني ، والا فما الداعي لاستعمال كلمتي "اللاهوت" و "الناسوت" ، اللتين كان يمكن ان يستعيض عنهما بكلمتي "الله" و "الانسان"؟! خاصة اذا كان لا يريد ان يتعمق في شرح هذه المعاني وانما استعملها فقط في الاشارة الى العلم العقلي والعلم الالهامي ..
    يقول السيد الصادق المهدي ان "النظرة الاسلامية تؤكد ان في الكون غيب لا يدركه الانسان بذاته. قال تعالى (ما اشهدتهم خلق السموات والارض ولا خلق انفسهم وما كنت متخذ المضلين عضداً) هذا هو مجال الوحي الذي يدركه الانسان عن طريق التنزيل (وبالحق انزلناه وبالحق نزل)" .. هذه العبارة معممة ، وسطحية ، لانه مع ان الكون بعضه "غيب" وبعضه "شهادة" الا ان من الغيب ما ادركه الانسان بقدراته المحدودة .. فالغيب هو ما غاب عن الحواس ، وحين طور الانسان ادواته واستعان بالآلة أدخل طرفاً من "الغيب" في "الشهادة " . فقد كانت الجراثيم في الماضي غيباً ولكنها لم تعد كذلك بعد اختراع المكبرات المتطورة . وقد كنا لا نعرف الجنين في بطن أمه ، اذكر هو أم انثى ، ولكننا بفضل الله ، ثم بفضل تطور العلم نستطيع الآن ذلك ، وكذلك رصد حالات الطقس وتوقع الزلازل وغير ذلك .. فنحن لا نحتاج للوحي عن طريق التنزيل ، لنعرف طرفاً من الغيب ، كما قرر السيد الصادق ..
    وفي مستوى أعمق من هذا ، فان عبارة السيد الصادق "لا يدركه الانسان بذاته" تحتاج لمراجعة .. ففي الحقيقة لا يعلم الانسان أي شئ بذاته ، وانما يعلم من "الغيب" و من "الشهادة" ما يعلمه له الله .. قال تعالى في ذلك (ولا يحيطون بشئ من علمه الا بما شاء) .. وهو تبارك وتعالى ، يشاء لنا ان نتعلم من علمه كلما تاهلنا لذلك ، وحين نتأهل لمعرفة عالم الشهادة بالعلم المادي التجريبي ، نتأهل لمعرفة عالم الغيب بالعلم الروحي التجريبي ، والى هذا الاشارة بقوله تعالى (واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شئ عليم) .. فالتقوى هي وسيلة العلم الروحي ، أو قل العلم بحقائق الاشياء ، التي لا يدرك العلم المادي الا مظهرها .. ولما كان هذا العلم يؤخذ من لدن الله بلا واسطة ، سماه السادة الصوفية العلم اللدني . ولقد ذكره الله لنا في قصة موسى والخضر ، حين قال تعالى من قائل (فوجدا عبداً من عبادنا اتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنّا علماً) ..
    ولقد تأهل الانسان بمحض الفضل الالهي ، قبل سائر المخلوقات ليرث العلم بشقيه ، لان فيه قبس من روح الله .. قال تعالى (فاذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) ومن هنا، من حقيقة اننا نسعى بروح الله في إهابنا ، فانه ليس هناك تناقض بين "اللاهوت" و"الناسوت" ، كما انه ليس هناك تناقض بين "الغيب" و "الشهادة" وانما الاختلاف اختلاف مقدار لا اختلاف نوع .. فالمادة التي نراها بعيوننا ، ونحسها بحواسنا ، قد فجر العلم الحديث نواتها ، فاذا هي طاقة تدرك الحواس تأثيرها ، وتجهل كنهها ، تجهل حقيقتها التي تظل غيباً ، ففي المادة الواحدة ، بل في كل ذرة من ذرات الوجود يجتمع الغيب والشهادة ، هذا هو التوحيد في مستوى وحدة الوجود ..

    (4)

    يقرر السيد الصادق في نقطته الثانية "ان للانسان أربع وسائل معرفية تتكامل ولا تتناقص:
    أ- فالوحي هو وسيلة معرفة الغيب .
    ب- الالهام هو وسيلة المعارف غير الحسية (يا ايها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به)
    ج- والعقل وسيلة معرفة لما يطوله العقل (ان في ذلك لايات لقوم يعقلون)
    د- والتجربة وسيلة معرفة لما تدركه الحواس . قال تعالى (وفي الارض آيات للموقنين * وفي أنفسكم أفلاتبصرون)"
    هذا ما قاله السيد الصادق وكأنه حقائق لا يتطرق اليها الشك ..
    أما نحن فقد أوضحنا خطل القول بان "الوحي هو وسيلة معرفة الغيب" ، اذ ان من الغيب ما يدرك بمجرد تطور العلم المادي ، والاستعانة بالتكنولوجيا الحديثة ، ومنه ما يدرك بالتقوى ، على قاعدة (واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شئ عليم) .. كما ان الوحي أيضاً قد يكون مجرد إلهام بما يحفظ غريزة الحياة ، ويمكن ان يكون مجرد إلهام لفعل الصواب .. ومن ذلك قوله تعالى (وأوحى ربك الى النحل ان اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون) ، وقوله (وأوحينا الى أم موسى أن أرضعيه ، فاذا خفت عليه فألقيه في اليم ، ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه اليك وجاعلوه من المرسلين) .. ففي حالة النحل وحالة أم موسى ، فان الوحي هو عين الالهام ، ولهذا فان اعتبار الصادق الالهام وسيلة مختلفة عن الوحي خطأ، لانه حالة من حالاته .. ولان السيد الصادق مفتون بالعبارات الانشائية ، ووضع المعلومات في ارقام متسلسلة ، وقد قرر ان الوحي هو وسيلة معرفة الغيب ، فلا بد ان يجد شيئاً للالهام الذي وضعه في المرتبة الثانية ، وكذلك قال "الالهام هو وسيلة المعارف غير الحسية"!! ولكن المعارف غير الحسية ، هي المعارف الغيبية ، التي ذكر ان وسيلتها هي فقط الوحي ، واوضحنا خطأه في ذلك ..
    اما قوله "والعقل وسيلة معرفة لما يطوله العقل (إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون)" فعبارة لا معنى لها ، لانه لم يوضح لنا ما الذي يطوله العقل ، وما الذي لا يطوله ، واستدلاله بهذا الجزء من الآية لم يكن موفقاً لان المشار اليه ب "ذلك" ، قد ورد في أول الآية ، ولم يرد في الجزء لذي أورده!! فالآية هي قوله تبارك وتعالى (وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) أو قوله تعالى (وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى من ماء واحد ونفضل بعضه على بعض في الاكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) أو قوله عز من قائل (ومن آياته يريكم البرق خوفاً وطمعاً وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) .. وكلها تشير الى ان العقل وسيلة ادراك البيئة المادية التي يعيش فيها الانسان ..
    ونوافذ العقل على البيئة الحواس ، فلولاها ما عقل العقل ، والتجربة انما تركز المعرفة في العقل ، ولا تتم معرفة التجربة بلا عقل .. فاذا وضح هذا ، فان عبارة السيد الصادق "والتجربة وسيلة معرفة لما تدركه الحواس" تصبح مجرد كلمات مرصوصة بلا محتوى!! وذلك لأن الحواس لا تدرك وانما العقل هو الذي يدرك عن طريق الحواس ، والتجربة ليست وسيلة معرفة قائمة بذاتها ، وانما هي من عمل العقل .. نخلص من هذا الى ان السيد الصادق قد ذكر وسيلتين فقط للمعرفة: الوحي والعقل . فاذا صح ان الوحي انما يخاطب في الانسان العقل ، وان العقل هو الذي يدرك مقاصد الوحي ، نصل الى ان المعرفة ، حسب تحليل خطاب الصادق ، لها وسيلة واحدة هي العقل ..
    والحق ان للمعرفة وسيلتان هما القلب والعقل .. والقلب هو الوسيلة الاساسية للادراك ، لانه وسيلة ادراك أكبر الحقائق – الله ، والى ذلك الاشارة في الحديث القدسي (ما وسعني ارضي ولا سمائي وانما وسعني قلب عبدي المؤمن) والقلب لا يسع الله مكاناً وانما يسعه معرفة .. ولهذا نزل القرآن على قلب النبي صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى (من كان عدواً لجبريل فانه نزله على قلبك باذن الله مصدقاً لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين) وقال أيضاً (نزل به الروح الامين * على قلبك لتكون من المنذرين) ومن هنا ، من كونه محل الحقائق الكبرى ، اعطي القلب منزلة الشرف في القرآن وقدم على العقل في سائره ، واعتبر ادراكه هو ما به العبرة .. قال تعالى في ذلك (افلم يسيروا في الارض فتكون لهم قلوب يعقلون بها او اذان يسمعون بها فانها لاتعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) ، وقال أيضاً (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو القى السمع وهو شهيد) فالذكرى تنفع اولاً صاحب القلب السليم ثم بعد ذلك صاحب العقل الواعي اليقظ المنتبه ، والذي اشار اليه بقوله (القى السمع وهو شهيد) ..
    والعقل يدرك الله في مستوى تنزلاته ، ولا يدرك الذات الالهية لانه مقيد بالثنائية ، فهو يدرك بالاضداد ، فبالحار يعرف البارد ، وبالحلو يعرف المر، وهكذا .. وليس لذات الله ضد مكافئ (لم يكن له كفؤاً أحد) ، وهذا هو السر في نهي النبي صلى الله عليه وسلم لنا (تفكروا في مخلوقات الله ولا تفكروا في ذاته فتضلوا) .. وعن ادراك العقل بالثنائية ، واننا يجب ان نتجاوز ذلك الى الوحدة ، قال تعالى (ومن كل شئ خلقنا زوجين لعلكم تذكرون * ففروا الى الله اني لكم منه نذير مبين) ..

    هذا ، وعلى الله قصد السبيل
    -نواصل -
    عمر القراي
                  

09-01-2004, 03:13 AM

تاج السر حسن

تاريخ التسجيل: 03-23-2004
مجموع المشاركات: 0

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. عمر القراي: الصادق المهدي و"الانكفائية" ودعاوى التجديد (Re: Omer Abdalla)

    لى فوق (بدون تعليق).
                  

09-01-2004, 06:32 AM

degna
<adegna
تاريخ التسجيل: 06-04-2002
مجموع المشاركات: 2981

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. عمر القراي: الصادق المهدي و"الانكفائية" ودعاوى التجديد (Re: تاج السر حسن)

    لفوق

    حوارات واختلاف متحضر ومقارعة الحجة بالحجة واقامة البينة هذا هو اسلوب الاستاذ عمر القراي

    بالمقابل لا تجد اي رد من السيد الصادق المهدي
    لا تعرف هل هو استهوان ؟
    ام الهروب من واقع الحوار والسجال الحر ؟

    ام ماذ؟

    المهم موضوعا غاية في الاهمية ونحن متابعون

    علي
                  

09-01-2004, 08:21 AM

saif massad ali
<asaif massad ali
تاريخ التسجيل: 08-10-2004
مجموع المشاركات: 19127

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. عمر القراي: الصادق المهدي و"الانكفائية" ودعاوى التجديد (Re: degna)

    الاخ عمر القراي
    تحيه طيبة
    يعجبني في الاخوة الجمهوريون مقارعتهم الحجة بي الحجة, وسماحتهم في الحوار.لكن ياخوي الليلة مالك اديت الصادق ده كدي كتير يعني فشلو وعدم مقدرتو دي مافي لايها داعي.صدقني انا عندي صداع شقيقة كعبة شديد فكاني عندما قرات حواركم مع اسامه الخواض حول ورقة عبدالله بولا.يااخوي الشي حبه حبه


    ولك فائق احترامي
                  

09-01-2004, 09:03 AM

محمد حسن العمدة

تاريخ التسجيل: 03-31-2004
مجموع المشاركات: 14086

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. عمر القراي: الصادق المهدي و"الانكفائية" ودعاوى التجديد (Re: saif massad ali)

    الاخ الفاضل المهندس عمر عبد الله
    احي فيكم روح الحوار والاجتهاد وكنت اتمنى ان تقوم بايراد ما خطه الدكتور القراي في بوست الاخ الحبيب وراق http://ورشة هيئة شئون الأنصار.. نحو مرجعية إسلامية متجد...دعوة للحوار والنقاش حتى لا تتشتت الجهود هنا وهناك فلن تكون المداخلات هنا سوا تكرار لما تم ويتم نقاشه بالبوست المعنى خاصة ان مقال الاخ د القراي خاص بتلك الورقة المقدمة بالبوست فكان من الاحرى والفائدة ان يكون هذا البوست بمثابة مداخلة بذاك البوست ومن ثم يثمر النقاش فالف مرحب براي الدكتور القراي والف مرحب بكم هنالك
    ولك مني خالص الود,,,,,
                  

09-01-2004, 06:06 PM

Omer Abdalla
<aOmer Abdalla
تاريخ التسجيل: 01-03-2003
مجموع المشاركات: 3083

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. عمر القراي: الصادق المهدي و"الانكفائية" ودعاوى التجديد (Re: Omer Abdalla)


    الأخ العزيز تاج السر
    شكرا على المبادرة بالتعليق (بلا تعليق)

    الأخ العزيز على
    شكرا على المرور .. نعم، الحوار هو السبيل الوحيد لتمييز ما ينفع الناس مما يذهب جفاء .. والمؤمن مرآة أخيه .. أرجو أن نسمع وجهات نظر المتفقين مع طرح السيد الصادق حول ما يرد في هذا الخيط من نقد موضوعي مسنود بالأدلة ..

    الأخ الأستاذ سيف
    كاتب المقال هو الأخ الدكتور عمر القراي وهو ليس بعضو في المنبر بعد وأن كنت اطمع في أن ينضم اليه في أسرع وقت .. أما دوري فيه فمقصور على المناولة وربما المشاركة فيما يجره من حوار .. لا اذكر ان كان للأخ القراي مداخلة مع الأستاذ اسامة الخواض أم لا ولكني تحاورت مع أسامة في عدة جبهات وربما يكون هناك بعض الخلط في الأسماء .. عموما شكرا على مرورك واتمنى معك أن يستمر الحوار في موضوعية ولكن من غير اغفال للحقائق التاريخية أو المجاملة على حساب الحق ..

    الأخ الأستاذ محمد حسن العمدة
    تحية طيبة
    لم يكن القصد من افراد بوست لردود الأخ القراي هو تشتيت الجهود ولكن لمعرفتي بأن القراي لن يكتفي بالمداخلات التلغرافية شعرت بأن افراد خيط له سيمكن من عرض آرائه في تسلسل وتقارب يعين على حسن الاطلاع عليها .. وليس هنالك مانع من ربط الخيطين ببعضهما البعض أو اجراء الحوار في الخيط الأساسي وقد لاحظت أن الأخ عبدالله عثمان قد بادر بنقل المقال لذلك الخيط .. على أي حال أنا شخصيا سأكون متواجد هنا وهناك وآمل أن يتمكن الأخ القراي من الانضمام ليتابع الحوار أنى كان مقره .. أشكر لك مرورك الكريم من هنا .. وطالما غايتنا هي الحكمة والحق فقطعا سنلتقي ..

    عمر
                  

09-06-2004, 10:11 AM

Omer Abdalla
<aOmer Abdalla
تاريخ التسجيل: 01-03-2003
مجموع المشاركات: 3083

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. عمر القراي: الصادق المهدي و"الانكفائية" ودعاوى التجديد (Re: Omer Abdalla)


    الصادق المهدي و"الانكفائية" ودعاوى التجديد
    تعقيب على ورشة عمل الانصار"نحو مرجعية اسلامية جديدة ..."

    الحلقة الثانية
    (5)

    تحت عنوان الاسلام والاديان ، كتب السيد الصادق: (إن القرآن يطلق على أهل الكتاب صفة الاسلام "ولا تجادلوا أهل الكتاب الا بالتي هي أحسن الا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل اليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون " ويعترف للاديان الكتابية بقيمة روحية "ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون * يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات واؤلئك من الصالحين * وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين" ويعترف بان في التجربة الانسانية وسائل لمعرفة الحق بواسطة الفطرة الانسانية "ألست بربكم قالوا بلى شهدنا" وقال تعالى "ان الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون" والصابئون هم الذين إهتدوا من غير وحي للحقيقة الإلهية مثل أمية بن الصلت وسائر الحنفاء المعروفين قبل الاسلام والقرآن يؤكد ان محمد لم يأت بدين جديد "قل ما كنت بدعاً من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ان اتبع الا ما يوحى إلي وما انا الا نذير مبين" ولم يأت بدين غريب على الانسانية "فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها" ولا بدين مناقض "شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا اليك وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى ان اقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه" ...)
    إن غرض الصادق ، من هذه الفقرة ، التي سنبين مبلغ خطئها ، ان يوضح ان الاسلام ، بالفهم الذي يقدمه هو، دين متسامح ، وان الفهم الخاطئ الطائفي، هو الذي ينكر قيمة الاديان الاخرى، ولذلك خلص الى (ان الفهم المتسامح لهداية الاسلام هو الذي يطابق مقاصد الشريعة وهو الذي يواكب ظروفنا المعاصرة) وكان قبل ذلك قد قرر (هنالك فهمان: فهم اسلامي ينكر ما للأديان الأخرى من قيمة روحية وخلقية. وفهم أوسع هو ما ذهبنا اليه)!! ولم يخبرنا على ماذا اعتمد المتشددون -الذين يرفض فهمهم- حين قرروا ان الاسلام ينكر قيمة الاديان الأخرى؟ ولم يخبرنا على ماذا قامت الدولة الاسلامية الأولى في المدينة ، هل على فهم المتشددين الذي ينكر قيمة الاديان الاخرى ، ويحارب اهلها أم على فهم الصادق المتسامح ولماذا؟
    أول ما تجدر الاشارة اليه ، هو ان الاسلام لا يطلق على أهل الكتاب صفة المسلمين ، بمعنى قبول دين الاسلام ، الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، وانما بمعنى الاذعان ، والتسليم للارادة الالهية ، كما أمرتهم اديانهم وشرائعهم . فلو كان يعتبرهم مسلمين لما دعا لجدالهم في بادئ الامر ، ولا لقتالهم في نهاية المطاف. ولقد أمر الله المسلمين ان يؤمنوا بما جاء به الرسل السابقون ، وان يدعوا اهل الكتاب ليؤمنوا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، وان يبينوا لهم ان اديانهم لا تنفعهم!! قال تعالى "قل آمنا بالله وما انزل علينا وما انزل على ابراهيم واسماعيل واسحق ويعقوب والاسباط وما اوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين احد منهم ونحن له مسلمون * ومن يبتغ غير الاسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين" .. فان لم يقبلوا اعتبرهم ضالين ، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم من اتباع ملتهم أو قبلتهم ، ثم اوضح انهم كفار واوجب قتالهم في اواخر ما نزل من القرآن ..
    قال تعالى "وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا ، قل بل ملة ابراهيم حنيفاً ، وما كان من المشركين * قولوا آمنا بالله وما انزل ألينا وما أنزل الى ابراهيم واسماعيل واسحق ويعقوب والاسباط وما اوتي موسى وعيسى وما اوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون * فان آمنوا بمثل ما آمنتم به ، فقد اهتدوا وان تولوا فانما هم في شقاق ، فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم" وقال تعالى "ولئن اتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ، ما تبعوا قبلتك وما انت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ، ولئن اتبعت اهواءهم بعد ما جاءك من العلم انك اذن لمن الظالمين" وقال ايضاً "ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل ان هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت اهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير" ..
    وبعد ان اوضح اختلاف ملتهم عن ملة المسلمين ، ونهى النبي عليه السلام من اتباعهم ، وصفهم بالكفر.. فقال تعالى من قائل "قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على تعملون * قل يا اهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجاً وانتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون * يا ايها الذين آمنوا ان تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد ايمانكم كافرين" وقال أيضاً "يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وانت تشهدون * يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وانتم تعلمون" .. ولقد اوضح كفرهم ، واعتبره غلواً ، ونهاهم عنه، فقال تعالى من قائل "يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله الا الحق ، انما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته القاها الى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ، ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيراً لكم ، انما هو اله واحد سبحانه ، ان يكون له ولد ، له ما في السموات وما في الارض وكفى بالله وكيلاً" ..
    واذ لم ينتهوا عن اعتقادهم ، امر بقتالهم ، فقال تعالى "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين اوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون * وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بافواههم يضاهؤون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون * اتخذوا احبارهم ورهبانهم ارباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما امروا الا ليعبدوا الهاً واحداً لا اله الا هو سبحانه عما يشركون" جاء في التفسير قوله " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ... الآية (هذه الآية الكريمة أول الأمر بقتال أهل الكتاب بعد ما تمهدت أمور المشركين ودخل الناس في دين الله واستقامت جزيرة العرب أمر الله رسوله بقتال أهل الكتابين اليهود والنصارى و كان ذلك في سنة تسع .... قوله "حتى يعطوا الجزية" أي ان لم يسلموا "عن يد" أي عن قهر وغلبة "وهم صاغرون" أي ذليلون حقيرون مهانون فلهذا لا يجوز إعزاز أهل الذمة ولا رفعهم على المسلمين بل هم اذلاء صغرة اشقياء كما جاء في صحيح مسلم عن ابي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا تبدأوا اليهود والنصارى بالسلام واذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروهم الى أضيقه" ولهذا اشترط عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه تلك الشروط المعروفة في إذلالهم وتصغيرهم وتحقيرهم)[1]
    هذه الآيات، وما تم عليه التطبيق هو مستوى الشريعة في معاملة أهل الكتاب ، فهي لا تساويهم بالمسلمين، ولا تعترف بدينهم ، وتصفهم بالكفر، وتامر المسلمين بقتالهم .. فماذا سيفعل السيد الصادق بهذه الآيات؟! والذين يؤمنون بهذه الآيات وبناء عليها يرفضون أهل الكتاب ، ممن يصفهم الصادق بالانكفائية ، هم أشجع واصدق من الصادق المهدي .. ومحاولة الصادق ادعاء التسامح ، واعتبار ان ذلك هو الشريعة ، حين قال (الفهم المتسامح لهداية الاسلام هو الذي يطابق مقاصد الشريعة) تنطوي على جهل وتضليل . أما الجهل ، فيتمثل في العجز عن التمييز بين الاسلام والشريعة ، واما التضليل ، فيتمثل في إدعاء الصادق الاشادة بمبدأ التسامح ، مع انه يؤمن بالمهدية رغم انها لم تقم على التسامح ، حتى مع المسلمين ، الذين قتلتهم لانهم لم يؤمنوا بان السيد محمد احمد بن عبد الله هو المهدي المنتظر!!

    (6)

    حين قامت الشريعة على عدم إعتبار حقوق غير المسلمين ، سواء ان كانوا مشركين ، أو من أهل الكتاب ، قام الاسلام في أصله على إعتبار الانسان ، من حيث هو انسان .. ومن هنا جاءت الايات التي اعطت حرية العقيدة ، والآيات التي اعتبرت دين أهل الكتاب مقبول عند الله .. ومن ذلك قوله تعالى "وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" وقوله "لا اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي" وقوله "إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون" ..
    ولما كانت هذه الآيات تناقض الآيات التي اشرنا اليها في الفقرة السابقة ، فانها لا يمكن ان تقوم جميعاً في نفس الوقت .. اذ لا يمكن ان يقول الله عن أهل الكتاب ، انهم لهم اجر من الله ، ولا خوف عليهم ، ثم يأمر في نفس الوقت بقتالهم!! لهذا فقد نزلت آيات الاسماح في أول العهد بمكة ، واستمر بعضها في أول العهد في المدينة ، حتى نزلت ايات العنف والقتال في آخر العهد في المدينة ، نسخت مستوى الاسماح ، والعهود مع المشركين ، وحسن معاملة أهل الكتاب ..
    ومع ان السيد الصادق ، لم يدرك كل هذا، الا انه اشار الى ان هناك ثنائية فقال (في الحقيقة فان وجود ثنائية في النصوص الاسلامية موجود في أمور كثيرة اذ ان هذه الثنائيات كثيرة في الاسلام مثل قوله "واتقوا الله حق تقاته" ومثل قوله تعالى "فاتقوا الله ما استطعتم" وقوله "كفوا ايديكم واقيموا الصلاة" وقوله "أذن للذين يقاتلون بانهم ظلموا وان الله على نصرهم لقدير") ..
    ولقد يلاحظ ان السيد الصادق ، قد رد في ورقته هذه ، كل الافكار التي تعرض لها لاصحابها ، فذكر الكاتب الامريكي مارشال ، وذكر ملك بن نبي ، وطه حسين ، وابن قتيبة ، والماوردي ، وحسن البنا فلماذا عرض فكرة الثنائية ، في نصوص القرآن ، ولم يذكر صاحبها ، وهو الاستاذ محمود محمد طه؟! ولماذا ذكر كلمة "الثنائية" وتجنب كلمة "المثاني" رغم انها عبارة القرآن "الله نزل احسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني"؟! ألانها ارتبطت بالاستاذ محمود لكثرة ما كررها في محاضراته وكتبه؟ وهل يمكن ان يكون ذكرالصادق للثنائية مجرد توارد خواطر؟ فان كان ذلك كذلك ، فلماذا لم يجد الصادق الا نفس الآيات التي اثبتها الاستاذ محمود كنموذج على المثاني؟!
    يقول الاستاذ محمود (قوله "ياايها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن الا وانتم مسلمون" وتلك مرتبة المسلمين ، فلما لم يطيقوها نزل عليهم " واتقوا الله ما استطعتم واسمعوا واطيعوا ومن يوق شح نفسه فأؤلئك هم المفلحون" وهي ادخل في الرسالة الأولى وتلك مرتبة المؤمنين كما سبق بذلك القول)[2] وجاء أيضاً (الآيات الدالة على النزول من أوج الاسلام الى مرتبة الايمان كثر نذكر منها قوله تعالى " ياايها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن الا وانتم مسلمون" فلما قالوا: اينا يستطيع ان يتقي الله حق تقاته؟ نزل قوله تعالى " فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا واطيعوا وانفقوا خيراً لانفسكم ومن يوق شح نفسه فاؤلئك هم المفلحون").[3] وجاء (ولقد ندب مجتمع المؤمنين ليكونوا مسلمين فلم يطيقوا وذلك حين قال تعالى "ياايها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن الا وانتم مسلمون" فنزل الى مستوى ما يطيقون وجاء الخطاب "فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا واطيعوا وانفقوا خيراً لانفسكم ومن يوق شح نفسه فأؤلئك هم المفلحون"). [4] والاستاذ محمود حين يورد هاتين الآيتين ، انما يؤكد ما تقوم عليه فكرته ، من ان الايات المنسوخة أرفع من الآيات الناسخة ، وانسب لوقتنا ، ولهذا دعا لبعثها، وذلك هو تطوير التشريع .. جاء في التفسير (" ياايها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن الا وانتم مسلمون" قد ذهب سعيد ابن جبير وابو العالية والربيع بن انس وقتادة ومقاتل بن حيان وزيد بن اسلم والسدي وغيرهم الى ان هذه الآية منسوخة بقوله تعالى "واتقوا الله ما استطعتم")[5]
    ولو كان الصادق المهدي ، يقرأ النقد الذي يوجه اليه ، لما كرر نفس هذا الاسلوب من ادعاء افكار المفكرين ، ونسبتها لنفسه ، دون ان يتعمقها ويدرك دلالاتها ، ولو كان اتباعه يستطيعون الاعتراض عليه ، لرفض بعضهم هذا الاتجاه المبتذل ، ونبهوا اليه الصادق فلم يكرره .. فلقد اشرت الى هذه الظاهرة العجيبة ، في مقال بعنوان (حول منشور السيد الصادق المهدي الاخير "الامام" "المنتخب"!! والكرسي "المرتقب"!!) نشر في سودانايل في يوليو 2003 ، وذلك حيث قلت (يقول السيد الصادق المهدي ]وفي مكة كان التوجيه "ألم تر الى الذين قيل لهم كفوا أيديكم واقيموا الصلاة وآتوا الزكاة" "سورة النساء77 " وفي المدينة كان القتال دفاعياً "اذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا" ولدى قيام الدولة الاسلامية العظمى في دمشق وفي بغداد صار القتال هجومياً[[6]!! إن قيمة هذه العبارة المليئة بالاغلاط ، هي انها اشارت الى وجود فرق في المستوى بين القرآن المكي والقرآن المدني ، وأكدت ان القرآن المكي قرآن تسامح وسلام والقرآن المدني قرآن قتال .. وينتج من هذا ان القرآن المكي قرآن أصول والقرآن المدني قرآن فروع!! وأن القرآن المدني حسن ، والقرآن المكي أحسن .. ولقد قال تعالى "واتبعوا أحسن ما أنزل اليكم من ربكم من قبل ان يأتيكم العذاب بغتة وانتم لا تشعرون" فقرر بذلك ضرورة اتباع القرآن المكي .. ولكن القرآن المكي في جملته منسوخ بالقرآن المدني ، ولهذا وجب بعثه ، ومن ثم نسخ القرآن الناسخ ، وهذا هو تطوير التشريع الاسلامي!!
    ومع ان السيد الصادق ، لم يمدد هذا الفهم الى نهاياته المنطقية ، الا انه حتى في القدر الذي ذكره كان بنبغي عليه ان يذكر ولو من باب الأمانة العلمية ، دع عنك الصدق الديني ، ان هذه الفكرة التي هي المخرج الوحيد من التناقض الذي يرزح تحته علماء المسلمين وعوامهم ، قد أتى بها الاستاذ محمود محمد طه ، وبشر بها منذ مطلع الخمسينات!!
    على ان السيد الصادق لم يفهم الفكرة الجمهورية بدقة حتى يحسن إقتباسها!! فالآية التي اوردها لا تنهض بحجته فهي ليست آية مكية ، وانما هي مدنية من حيث المكان ومستوى الخطاب!! فقد نزلت في المدينة وهي تحث المسلمين على الجهاد ، في معنى ما توبخهم على انهم حينما كانوا في مكة ، قبل ان يفرض عليهم الجهاد ، كانوا يطلبون ان يسمح لهم بقتال المشركين ، ولما جاءوا الى المدينة وفرض عليهم القتال صدوا عنه وتقاعسوا دونه .. ولو ان السيد الصادق أورد الآية كلها لوضح ذلك ، فالآية هي "ألم تر الى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال اذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا الى أجل قريب ، قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلاً" .. جاء في تفسير الآية ]حدثنا علي بن الحسن عن الحسين بن واقد عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس أن عبد الرحمن بن عوف وأصحاباً له أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فقالوا: يا نبي الله كنا في عزة ونحن مشركون فلما آمنا صرنا أذلة . قال: اني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم . فلما حوله الله الى المدينة أمره بالقتال فكفوا فأنزل الله "ألم تر الى الذين قيل لهم كفوا ايديكم" الآية رواه النسائي والحاكم وابن مردويه ..[ [7])

    (7)

    ومن اخطاء السيد الصادق ، في الفقرة التي افتتحنا بها هذا المقال ، قوله (والقرآن يؤكد ان محمد لم يأت بدين جديد "قل ما كنت بدعاً من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ان اتبع الا ما يوحى الي وما انا الا نذير مبين").. ان محمداً صلى الله عليه وسلم ليس بدعاً من الرسل ، وانما هو مثلهم ، وما من رسول الا واتى برسالة جديدة والا لما حدث تغيير وكان مجيئه عبثاً!! فمن اين قرر الصادق ان محمداً صلى الله عليه وسلم لم يأت بدين جديد؟! قال تعالى "قل يا ايها الكافرون* لا اعبد ما تعبدون * ولا انتم عابدون ما أعبد * ولا انا عابد ما عبدتم * ولا انتم عابدون ما أعبد * لكم دينكم ولي دين" .. ولعل السيد الصادق يقصد انه اتى بدين جديد ، ولكنه ليس ديناً غريباً ولهذا قال (ولم يأت بدين غريب على الانسانية "فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها") .. وهذه أيضاً خطأ ، فحين بعث النبي صلى الله عليه وسلم كان في الكعبة وحولها 360 صنماً فلما قال لهم: "يا ايها الناس قولوا لا اله الا الله تفلحوا" ، استغربوا هذا الامر وشق عليهم ، وحكى لنا القرآن استغرابهم ، في قوله تعالى "وعجبوا ان جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب * أجعل الآلهة الهاً واحداً ان هذا لشئ عجاب" ، فحين يقول المدعون عن ما جاءهم به النبي صلى الله عليه وسلم، "شئ عجاب " ويقول النبي صلى الله عليه "بدأ الاسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء.." يقول الصادق: (لم يأت بدين غريب)!!
    وكون الدين يوافق الفطرة لا يعني انه لم يكن غريباً على الناس ، وذلك لان الفطرة قد شوهها ما كسب الناس من الخطايا والذنوب ، وانما جاء الدين ليهذبهم ويردهم لما عليه الفطرة السليمة ، لهذا لا يصح الاستناد على موافقة الدين للفطرة كدليل على انه لم يكن غريباً على الناس، كما ظن الصادق المهدي ، ذلك ان المجتمع كان يدين بالتعدد الذي يوافق الفطرة المشوهه ، ولهذا استغرب التوحيد الذي ينسجم مع الفطرة السليمة..
    وبعد ان قرر الصادق بان النبي صلى الله عليه وسلم لم يأت بدين جديد ولا دين غريب قال (ولا بدين مناقض "شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي اوحينا اليك وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى ان اقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه") وهو يعني ان الاسلام لا يتناقض مع الاديان السابقة .. وهذا حق ، ولكن من حيث التوحيد وليس الشرائع ، والتوحيد هو ما اشارت اليه الآية التي اورد الصادق جزءاً منها فعبارة "شرع لكم من الدين" تعني التوحيد وليس الشريعة!! فقد كانت شريعة اليهود تفرض عليهم ان يقتلوا انفسهم حتى تقبل توبتهم قال تعالى "واذ قال موسى لقومه يا قوم انكم ظلمتم انفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا الى بارئكم فاقتلوا انفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم انه هو التواب الرحيم" جاء في تفسير الآية (عن عكرمة عن ابن عباس قال: أمر موسى قومه عن أمر ربه عز وجل ان يقتلوا انفسهم قال: واخبر الذين عبدوا العجل فجلسوا وقام الذين لم يعكفوا على العجل فاخذوا الخناجر بايديهم واصابتهم ظلمة شديدة فجعل يقتل بعضهم بعضاً فانجلت الظلمة عنهم وقد جلوا عن سبعين ألف قتيل ...)[8] ، وفي شريعة محمد صلى الله عليه وسلم لا تستوجب التوبة القتل ، قال تعالى "ولا تقتلوا انفسكم ان الله كان بكم رحيماً" ، ومعلوم ان من شريعة آدم عليه السلام ان يزوج ابنه من بنته ، ولما جاء محمد صلى الله وسلم اتسعت دائرة التحريم فشملت الخالة والعمة وغيرها .. فالآية "شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي اوحينا اليك وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى ان اقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ، كبر على المشركين ما تدعوهم اليه ، الله يجتبي اليه من يشاء ويهدي اليه من ينيب" اشارت للتوحيد بقرينة "كبر على المشركين ما تدعوهم اليه" فان ما يكبر على المشركين هو ان يدعوا الى التوحيد .. فاذا وضح كل هذا ، فان النبي صلى الله عليه وسلم ، قد جاء بدين جديد وغريب ، ومناقض من حيث شريعته ، لغيره من الاديان السابقة ، ولهذا لقى ما لقى من معارضة من دعاة القديم والمتعلقون بما كان عليه الآباء والاجداد ..

    (8)

    يقول الصادق المهدي (الاخلاق هي مراجع النفس الانسانية وركائز تماسك المجتمعات ، الفكر العلماني يقيم الاخلاق على المنافع ، والفكر الاسلامي المنكفئ يقيمها على اوامر الشرع ونواهيه . ولكن الفهم الصحيح هو ان للاخلاق اسساً موضوعية تبدأ في ادنى حالاتها بالمماثلة . أي ان تفعل للآخرين ما تحب ان يفعله لك الآخرون . وهذا يطابق الآية " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم" . وتتدرج الاخلاق سمواً لتقوم على اثبات ما يتعارف الناس على حمده وانكار ما يتعارفون على ذمه اي تقوم على المعروف والمنكر كما نصت الآية " يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث")
    يفترض ان يكون السيد الصادق ، قد قارن في الفقرة أعلاه ، بين الفكر العلماني ، والفكر الاسلامي المنكفئ ، وبين فكره هو الذي يعتبره الفهم الصحيح . وحتى تقوم المقارنة أصلاً ، يجب ان يكون هنالك اختلاف بين الاشياء التي تمت بينها المقارنة . فاذا كان الفكر المنكفئ ، يقيم الاخلاق ، على اوامر الشرع ونواهيه ، فعلى ماذا يقيمها الصادق؟ يقيمها على "اسس موضوعية "!! فهل اوامر الشرع ونواهيه ليست اسساً موضوعية؟! لقد شرح الصادق ، ماذا يعني بالاسس الموضوعية فقال (أي تفعل للآخرين ما تحب ان يفعله لك الآخرون) أليس هذا هو ما امر به الشرع ، حين قال (لا يؤمن احدكم حتى يحب لاخيه ما يحب لنفسه)؟! وهو ما حددته الآية التي اوردها الصادق نفسه؟! لقد حاول السيد الصادق كثيراً خلال هذه الورقة ان يخرج من عباءة الفكر الذي اسماه انكفائي ، دون جدوى ، وما اشرنا اليه هنا انما هو احدى مواقع فشله في ذلك ..
    والمعاملة بالمثل ، مستوى قانون وليس اخلاق ، اللهم الا اذا فهم القانون ، باعتباره قاعدة الاخلاق.. ولما كانت الشريعة قانون ، امرت بالمعاملة بالمثل .. قال تعالى "وجزاء سيئة سيئة مثلها" هذا مستوى شريعة - مستوى قانون ، أما بقية الآية "فمن عفا واصلح فاجره على الله" فانها مستوى اخلاق ، وهي من الدين ، ولكنها ارفع من الشريعة ، لانها تدعو للعفو عن المسيء ، ثم تقديم الخير له باصلاحه .. والى هذا المستوى الرفيع ، اشار السيد المسيح عليه السلام ، حين قال (سمعتم انه قيل تحبب قريبك وتبغض عدوك ، أما انا فاقول احبوا اعداءكم باركوا لاعنيكم احسنوا الى مبغضيكم وصلوا لاجل الذين يسيئون اليكم ويطردونكم لكي تكونوا ابناء ابيكم الذي في السموات فانه يشرق شمسه على الاشرار والصالحين ويمطر على الابرار والظالمين . لانه ان احببتم الذين يحبونكم فأي اجر لكم أليس العشارون أيضاً يفعلون ذلك؟)[9]
    والاخلاق ليست دائماً مطابقة للعرف ، كما ذكر الصادق ، لان الناس قد يتعارفون على سوأة ويعتبرونها مكرمة ، فلقد تعارف العرب على وأد بناتهم حتى ابطل الاسلام ذلك .. والامر بالمعروف الذي جاء به الدين ، هو الامر بالعرف الذي لا يخل بغرض من اغراض الدين ، وجماع اغراض الدين، كرامة الانسان .. فاذا تعارف الناس على ما يحقق كرامة الافراد ، فان هذا عرف صالح ، يعتبره الدين معروفاً ويدعو للأمر به ..
    ماذا يقصد السيد الصادق ، حين عرف الاخلاق بقوله (الاخلاق هي مراجع النفس الانسانية)؟! هل يعني ، انها ما ترجع اليه النفس الانسانية ، لتوجه به سلوكها؟ وهل النفس الانسانية ، كلها على نسق واحد ومراجعها شئ واحد؟ وهل الاخلاق هي المراجع نفسها ، أم السلوك وفق هذه المراجع؟
    جاء في تعريف الاخلاق (وما هي الاخلاق؟ للاخلاق تعاريف كثيرة ، ولكن أعلاها ، واشملها ، وأكملها هي ان نقول أن الاخلاق هي حسن التصرف في الحرية الفردية المطلقة . ولقد قال المعصوم "انما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" فكأنه قال ما بعثت الا لأتمم مكارم الاخلاق ، ومن أجل ذلك قلنا أن محمداً عاش في أوج المدنية التي جاء بها الله عن طريقه ، ووصفه تعالى فيها بقوله "وانك لعلى خلق عظيم" . وحين سألت عائشة عن أخلاق النبي قالت "كانت أخلاقه القرآن" ومعلوم ان القرآن أخلاق الله ، واخلاق الله أنما هي في الاطلاق ، ومن ههنا جاء التعريف بان الاخلاق هي حسن التصرف في الحرية الفردية المطلقة .
    ولقد كان محمد أقدر الناس على حسن التصرف في الحرية الفردية المطلقة ، وذلك لشدة مراقبته لربه ، ولدقة محاسبته لنفسه ، على كل ما يأتي ، وما يدع ، في جانب الله ، وفي جانب الناس . أليس هو القائل "حاسبوا أنفسكم قبل ان تحاسبوا"؟
    بل ان حسن التصرف في الحرية الفردية المطلقة انما هو سنة النبي ، التي طالما تحدث عنها الناس ، من غير ان يدركوا حقيقتها . وهذه السنة هي التي اشار اليها في حديثه المشهور عن عودة الاسلام ، وذلك حيث يقول "بدأ الاسلام غريباً ، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء! قالوا من الغرباء يا رسول الله؟ قال الذين يحيون سنتي بعد اندثارها"
    فسنته هي مقدرته ، في متقلبه ومثواه ، وفي منشطه ومكرهه ، على حسن التصرف في الحرية الفردية المطلقة وتلك هي قمة الاخلاق ، وهي أيضاً قمة المدنية)
    [10]

    بهذا نختتم مناقشة مقدمة ورقة السيد الصادق التي حوت نظرته الدينية والاخلاقية لنفرغ الى رؤيته السياسية والاقتصادية .

    د. عمر القراي
    نواصل ..


    1- تفسير ابن كثيرالجزء الثاني ص 332
    2- محمود محمد طه ( 1960) الاسلام . الطبعة الثانية 68 ص 33
    3- محمود محمد طه (1967) الرسالة الثانية من الاسلام ص 140
    4- محمود محمد طه (1970) رسالة الصلاة ز الطبعة الخامسة ص 84
    5- تفسير ابن كثيرالجزء الأول ص 366
    6- منشور الصادق الى عموم أهل السودان والذي نشر بسودانايل في 7/6/2003
    7- تفسير ابن كثير – الجزء الأول ص 498
    8- تفسير ابن كثير الجزء الأول ص88
    9- انجيل متى 5 (43-45)
    10- محمود محمد طه (1967) الرسالة الثانية من الاسلام . ص 20-21

    (عدل بواسطة Omer Abdalla on 09-06-2004, 10:13 AM)
    (عدل بواسطة Omer Abdalla on 09-06-2004, 10:18 AM)

                  

09-28-2004, 10:15 AM

Omer Abdalla
<aOmer Abdalla
تاريخ التسجيل: 01-03-2003
مجموع المشاركات: 3083

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. عمر القراي: الصادق المهدي و"الانكفائية" ودعاوى التجديد (Re: Omer Abdalla)

    الصادق المهدي و"الانكفائية" ودعاوى التجديد
    تعقيب على ورشة عمل الانصار"نحو مرجعية اسلامية جديدة ..."


    الحلقة الثالثة
    (9)

    بدأ السيد الصادق حديثه عن نظام الحكم ، بقوله (إن في الاسلام مبادئ سياسية واحكاماً ولكن ليس فيه شكل معين لدولة...) ولقد أكد هذا المعنى بقوله (إن حقائق الاسلام وحقائق التجربة التاريخية لا تقول بوجود دولة إسلامية معينة ملزمة للمسلمين انما توجد مبادئ سياسية اسلامية كالشورى والعدالة والحرية ..الخ)!! إن هذا التقرير العجيب يعني أحد أمرين: أما ان النبي صلى الله عليه وسلم ، لم يقم أي دولة ، أو انه أقام دولة ولكنها لم تكن دولة اسلامية!! أكثر من هذا!! الى ماذا يدعو السيد الصادق ، حفيد الأمام المهدي ، ما دام الاسلام أساساً ليس فيه نظام دولة؟! وماذا يأخذ السيد الصادق المهدي على العلمانيين ، الذين ما دعوا لترك الاسلام ، الا حين ظنوا ا كما ظن هو، انه ليس فيه نظام دولة؟ وهل يؤمن السيد الصادق بان الدين الاسلامي قد نظم حياة الفرد ، ورسم له كيفية ادارتها في كافة نواحيها ثم أهمل موضوع كيفية أقامة نظام الدولة؟!
    على ان السيد الصادق نفسه ، لا يلتزم بتصريحه هذا دائماً ، فهو يقول (الحكم الراشد قيمة يتطلع اليها الانسان عبر العصور وهو يقوم على اربعة اركان: المشاركة – المساءلة – الشفافية – سيادة حكم القانون . هذه القيم كلها توجد في النصوص القطعية الاسلامية) فعن وجود المشاركة يقول (الشورى هي المبدأ المنصوص عليه في القرآن لتحقيق مشاركة المسلمين) وعن وجود المساءلة وسيادة حكم القانون يقول (قال ابوبكر "رض" وليت عليكم وليس بخيركم فان احسنت فأعينوني وان اخطأت فقوموني" .. هذا مناخ فيه المخاطبون احرار) وعن وجود الشفافية يقول: (والنصوص الاسلامية تؤكد مبدأ الشفافية) .. فاذا صح كل هذا، وان المبادئ التي ذكر السيد الصادق ان الحكم الراشد يقوم عليها ، موجودة في النصوص القطعية الاسلامية ، فان السؤال هو: هل طبق الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم هذه المبادئ واقاموا عليها حكوماتهم؟! بل هل طبقها النبي صلى الله عليه وسلم؟! فاذا كانت الاجابة نعم ، فلماذا صرح السيد الصادق بانه ليس في الاسلام شكل لدولة اسلامية؟ إن هذه الدولة التي انكر السيد الصادق وجودها ، ثم عاد واشاد بها ، هي نفسها التي تدعو لها الجماعات الاسلامية ، وتحاول اعادتها بديلاً عن الحكم الحديث ، ففيم يختلف السيد الصادق معهم ، ولماذا يسميهم "الانكفائية"؟!
    يقول السيد الصادق عن الدولة الاسلامية ، كما وصفها علماء السلف: (هذه النظرية حددت معالم الدولة الاسلامية قياساً على تجربة الخلفاء الراشدين . نظرية فصلها على اختلاف في التفاصيل الامام الشافعي في كتابه "الأم" وابن قتيبة في كتابه "الامامة والسياسة" والماوردي في كتابه "الاحكام السلطانية" . الخليفة الذي يقود هذه الأمة هو خليفة النبي في حراسة الدين وسياسة الدنيا وينبغي ان تتوافر فيه مؤهلات أهمها ان يكون عالماً مجتهداً شجاعاً سليم البدن والحواس قرشي النسب وان يختاره للخلافة أهل الحل والعقد وهم خيار الأمة بقياس الشرع من الرجال العدول) .. ألم يكن من الاجدى بدلاً من ان يعدد لنا السيد الصادق ، الكتب التي اطلع عليها ، ان يخبرنا أين يختلف مع هؤلاء العلماء حين ذكروا وجود الدولة الاسلامية وعددوا مواصفاتها؟!
    ولا يغني السيد الصادق ، ان يرفض مجرد وجود الدولة الاسلامية في التاريخ ، لأن الامويين أقاموا سلطانهم على البطش والقهر .. اسمعه يقول (هذه الآراء حظيت بقبول واسع لدى أهل السنة ولكنها لم تطبق ولم تقم بموجبها مؤسسات بل ظلت محض نظرية لان الحكام منذ الخليفة معاوية بن ابي سفيان أقاموا سلطانهم على القوة)!! فماذا عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وماذا عن الخلفاء الراشدين ، وعلى ماذا أقاموا سلطانهم ؟! ثم هل حكم معاوية بن ابي سفيان كان خلافة اسلامية ، حتى ينفي الصادق بسببه وجود الخلافة الاسلامية؟! ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم "الخلافة ثلاثون عاماً ثم تصبح ملكاً عضوضاً"؟!

    (10)

    لقد أنىّ للمسلمين ان يعلموا أن في الاسلام نظامان للحكم . نظام لم يطبق في الماضي ، رغم وجود نصوصه في القرآن، وهذا سنفصل فيه لاحقاً، ونظام طبق في الماضي ، وكان نموذجه دولة النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة ، ثم من بعده ، دولة الخلفاء الراشدين أبوبكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم .. ففي أخريات نظام عثمان ، نشبت الفتن والصراعات ، التي هزت نظام الحكم ، وقسمت المسلمين ، حتى اذا جاء علي بن ابي طالب رضي الله عنه ، لم يستطع رد الامر الى ما كان عليه سلفه ، فانقسمت الدولة بينه وبين معاوية ، وبانتصار معاوية انتهت الخلافة ، وبدأ الملك .. ولقد قام نظام الخلافة ، على نصوص واضحة من الشريعة ، فصلها علماء السلف ، في مئات المصنفات ، التي اشار السيد الصادق الى بعض المشهور منها .
    في الدولة الاسلامية الاولى ، التي قامت على الشريعة ، يمثل الخليفة السلطة الروحية والسلطة الزمنية، ويجمع في يده كل السلطات . والخليفة لم ينتخب ، بواسطة اغلبية الشعب، وانما اختارته سلطة روحية ، او اختارته صفوة ، ثم وافق عليه بعد ذلك ، معظم أهل المدينة .. اذ لا تشارك الامصار عادة في اختيار الخليفة ، ولا ياتي كل اهلها للبيعة. فهو في نهاية الأمر، قد املاه فرد ، أو افراد ووافقت عليه اقلية ، اذا اعتبرنا كافة افراد الدولة الاسلامية ، ممن لا يسكنون المدينة . وهو لم يختار في الاساس الا بسبب مكانته الدينية .. فحين اختلف المهاجرون والانصار، بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، في سقيفة بني ساعدة حول الخلافة ، روي ان عمر بن الخطاب رضي الله عنه أراد ان يبايع أبو عبيدة بن الجراح وقال "ابسط يدك ابايعك فاني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول انك أمين هذه الأمة". قال ابوعبيدة "كيف تبايعني وفينا ثاني أثنين؟!" ، يشير الى ابي بكر الصديق رضي الله عنه ، فرجع عمر لنفسه وبايع ابابكر .. وحين مرض ابوبكر، وشعر بدنو اجله ، قال "وليت عليكم عمر بن الخطاب . فاسمعوا واطيعوا"!! وكان ذلك لان النبي صلى الله عليه وسلم ، يذكره دائماً بعده . وحين طعن عمر قال "لو كان ابوعبيدة حياً لوليته ولو كان سالم مولى حذيفة حياً لوليته فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن ابي عبيدة انه أمين هذه الأمة وعن سالم انه رجل يحبه الله" . واذ لم يجد عمر هؤلاء ، جعل الخلافة في الستة ، بقية العشرة المبشرين بالجنة ، وهم: علي بن ابي طالب ، عثمان بن عفان ، الزبير بن العوام ، طلحة بن عبيد الله ، سعد بن ابي وقاص وعبد الرحمن بن عوف . ومنع عبد الله ابنه ، من ان يرشح ، وسمح له بحضور مجلس المختارين . وحين اعترض الناس على عثمان رضي الله عنه ، وطلبوا منه ان يترك الخلافة ، قال "والله لا اخلع ثوباً البسني اياه الله" وأصر على ذلك حتى قتل دونه .[1]
    فاذا كان ما سردنا ، هنا ، صحيحاً وهو ثابت في كل كتب التاريخ الاسلامي ، فان عبارة السيد الصادق (إن مبادئ الاسلام السياسية تجعل المسلمين مسئولين عن اختيار الحاكم وهم المسئولون عن محاسبته أي انه حاكم مدني مفوض أمره للجمهور) ، لا تعدو ان تكون تضليلاً موبقاً، وتزويرا لحقائق التاريخ!!
    هذا النظام ، الذي يقوم على حكم فرد ، مدعوم بقداسة دينية ، يسمى في التعريف الحديث نظام ثيوقراطي .. والنظام الثيوقراطي ، في حقيقته نظام ديكتاتوري ، وهو يزيد على الدكتاتورية العادية ، بالقداسة الدينية ، التي تجعل معارضة الحاكم معارضة لله ورسوله!! ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم ، صاحب تحقيق رفيع في مراقبة الله ، وعلى قدر كبير من التحقيق الاخلاقي ، والسلوك الانساني الرفيع ، ولما كان الخلفاء من بعده قد تأسوا به ما استطاعوا ، فإن دكتاتورية نظام الخلافة ، قد كانت الى حد كبير ، ملطفة بالاخلاق ، التي ساوت بين الراعي والرعية ، فلم تحجب العدالة .. وحين جاء المتأخرون ، قصرت بهم قامتهم الاخلاقية ، فتحولت نظم الحكم الاسلامي ، الى نماذج للبطش والظلم والقهر والفساد .. غير ان ضعف الكفاءة الفردية ، لم يكن العامل الوحيد ، لفشل الحكومات الاسلامية ، التي تلت الخلافة الراشدة الى يومنا هذا ، وانما تعقد الحياة ، وتطورها ، وتشعب مشاكلها ، واتساع طاقاتها ، اصبح اكبر من ان تستوعبه نفس التشاريع ، التي نهضت بحل مشاكل المجتمع في القرن السابع الميلادي ، ومكنت اؤلئك الرجال الافذاذ ، من بسط العدل ، على قدر ما سمحت به طاقة نظام حكمهم ..
    وفي نظام الخلافة الاسلامية ، لم يكن هناك استقلال للقضاء ، لأن الخليفة هو الذي كان يختار القضاة وحده ، كما يختار حكام الامصار والاقاليم ، وهو يملك ان يعزلهم ، كما يعزل الولاة ، ثم ان احكامهم يمكن ان ترفع اليه فيعطل منها ما شاء ويمضي منها ما يريد .. لهذا فان قول السيد الصادق (ومبادئ الاسلام السياسية تقبل الفصل بين سلطات الدولة . قال القاضي ابو يعلى في كتابه الاحكام السلطانية "القاضي اذا ولاه الامام صار ناظراً للمسلمين لا عن من ولاه فيكون القاضي في حكم الامام في كل بلد" هذا مبدأ استقلال القضاء) مبالغة لا تجوز على أحد!! لأن القاضي لا يحل محل الحاكم ، فهو لا يحكم الا فيما يرفع اليه من قضايا ، واذا سلمنا جدلاً بانه يحل محل الحاكم في الاقاليم ، فماذا عن القضاة في نفس المدينة التي بها الحاكم؟! هل هم سلطة موازية له ، أم هم بالنسبة له من ضمن الرعية؟ فاذا كانوا من ضمن الرعية ، فكيف يحوز رصفاؤهم في الاقاليم وضعاً افضل؟!
    ورغم ان السيد الصادق ، قد حدثنا هنا، فيما نقل عن احد علماء السلف ، عن وجود استقلال القضاء ، فانه قد عاد وناقض نفسه ، كاهو دأبه في هذه الورقة العجيبة فقال (ضرورات العدالة اليوم لا تسمح لشخص واحد ان يجمع في يده كل السلطات مثلما فعل الخلفاء في الماضي) ويقول أيضاً (التطلع لامام واحد بالتعيين الالهي أو لخليفة واحد بصلاحيات الخلافة التي عددها الماوردي يجمعا في ايديهما كل سلطات الدولة ويمارسانها على كافة الشعوب الاسلامية تطلع يناسب الظروف التاريخية الابوية ولا يناسب النظم المؤسسية الحديثة في ادارة الشأن العام)!!
    ومع ان هذا الكلام يعتبر محمدة، اذا قاله مثقف معاصر، الا انه عندما يصدر من السيد الصادق فهو مذمة .. وذلك لانه يناقض تراثه ، وتاريخة ، وما ظل يردده طوال حياته . فلقد اشاد الصادق بالمهدي وقال (إنها دعوة لإمام القرن الذي كلفه الله ورسوله بسد فراغ القيادة التي شغرت بخلو كرسي الخلافة عن المصطفى). [2] أليس هذا هو التعين الالهي الذي رفضه واعتبره لايناسب واقع العصر؟! فاذا كانت المهدية لا تناسب النظم الحديثة فعلى ماذا يقوم كيان الانصار الذي نظم هذه الورشة؟ ولماذا قبل الصادق بيعتهم كأمام للانصار، والامر الذي هم انصار له قد أصبح في ذمة التاريخ؟
    ان نظام الخلافة ، بما فيه من صلاحيات للخليفة ، كما فصلها الماوردي ، قد ورد بنصوص قطيعة الورود والدلالة ، وحتى كون الخليفة من قريش ، ورد بحديث صحيح . والصادق عندما يرفض هذه النصوص ، يناقض ما ظل يردده من ان الاجتهاد يجب الا يكون فيما ورد فيه نص قطعي الورود والدلالة. ولو ان السيد الصادق اكتفى برفض النصوص ، لصنف بواسطة الاسلاميين على انه علماني ، وهو اتهام لا يحتمله الصادق ، بعد ان بنى زعامته على جماهير لا تصوت له ، الا لانه حفيد الامام المهدي!! كما انه في نفس الوقت ، لا يحتمل ان يتبنى كل الفهم السلفي التقليدي ، فيفقد وضعه بين المثقفين ، ويصنف من القوى الدولية كمتطرف ، مما يباعد بينه وبين السلطة ..
    هذا الوضع المزري ، لم يترك للرجل خياراً، غيران يبحث عن نصوص دينية تدعم الحرية والديمقراطية ، وتتسق مع حقوق الانسان!! لنرى ماهي النصوص التي وجدها ، يقول الصادق (لا معنى للشورى اذا لم تتوفر معها ثلاثة اسس مساندة لها وهي الحرية: اذ لا فائدة من شورى مكرهين مرعوبين "لا اكراه في الدين" الحرية تكفلها نصوص اسلامية ناصعة "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" "انما انت مذكر لست عليهم بمسيطر")!! ولكن هذه الآيات منسوخة ، ولو لم تنسخ لما قام الجهاد. والصادق لا يختلف عن بعض قادة الجماعات الاسلامية ، الذين كلما تحدثوا عن سماحة الاسلام أوردوا آية "لا اكراه في الدين"!! جاء في تفسير الآية (وقد ذهب طائفة كثيرة من العلماء ان هذه محمولة على أهل الكتاب ومن دخل في دينهم قبل النسخ والتبديل اذ بدلوا الجزية. وقال آخرون: بل هي منسوخة بآية القتال وانه يجب ان يدعى جميع الامم الى الدخول في الدين الحنيف دين الاسلام فان أبى احد منهم الدخول ولم ينقد له أو يبذل الجزية قوتل حتى يقتل وهذا معنى الاكراه).[3]
    ان الصادق المهدي ، حين يدعو للآيات التي ذكرها ، إنما يدعو لبعث القرآن المنسوخ ، شعر بذلك او لم يشعر .. وبعث القرأن المنسوخ ، يعني بالضرورة نسخ القرآن الناسخ ، لان الحكمين المتعارضين لا يقومان معاً.. فلو ملك الصادق قليلاً من الامانة الفكرية ، وقليلاً من الشجاعة ، ودعا صراحة لنسخ النصوص ، التي يقوم عليها نظام الخلافة ، واستبدالها بالنصوص التي تقوم عليها الديمقراطية والحرية ، لاخرج نفسه من هذا التناقض.. ذلك لان جوهر الدين ، يجب ان يحقق كرامة الانسان ، وان (ضرورات العدالة اليوم لا تسمح لشخص واحد ان يجمع في يده كل السلطات....) كما قال . لو فعل ذلك يكون قد وفق للاجتهاد الحقيقي ، الذي يصادم النصوص القطعية ، ويرتفع منها الى نصوص احسن منها استجابة للامر الالهي "واتبعوا احسن ما انزل اليكم من ربكم من قبل ان يأتيكم العذاب بغتة وانتم لا تشعرون"!!
    ان المشكلة التي تواجه السيد الصادق ، هي ان الايات التي أوردها ، والفهم الذي يشرح انها تحوي الديمقراطية والحرية ، والدعوة لتحكيمها لانها اصل الدين ، ولانها التي تحقق كرامة الانسان ، قد فصله الاستاذ محمود محمد طه في اكثرمن ثلاثين كتابا ، واقام عليه دعوته المؤسسة لتطوير التشريع الاسلامي ، قبل ان يبلغ الصادق الحلم . ولم يمهل الصادق نفسه ليطلع على هذه الفكرة ، وسارع برفضها ، ولما يفهمها بعد ، وسماها "الطاهوية" استهزاء ، وسخرية ، والحقها بالبهائية والقاديانية تشويها واستعداء للبسطاء عليها!!
    والآن!! عندما اراد الصادق ان يقدم نفسه كشخصية اسلامية عالمية مجتهدة تريد ان تدعو العالم الاسلامي الى مخرج يفرق بين الاسلام والارهاب ، ويقدم فهماً يقبل حقوق الانسان ، لم يستح ان (يسرق) هذه الفكرة التي وصفها بذميم الصفات ، وظن- في ذلك الوقت - جهلاً وغروراً ، انه يمكن ان يتجاوزها ثم يأتي بشئ ذي بال!!

    (11)

    بدأ السيد الصادق حديثه عن الشورى بقوله (الشورى هي المبدأ الديني المنصوص عليه في القرآن لتحقيق مشاركة المسلمين فيما يليهم من أمور. وقيل انه استشارة أهل الرأي ثم اتباع ما يشيرون به . "وامرهم شورى بينهم" ولكن اختلف حول هذا الأمر هل الشورى معلمة أم ملزمة؟ ومن هم أهل الرأي؟) ثم قال (أقول الشورى هي اشراك الآخرين في الامر الخاص والعام ، انها مبدأ المشاركة ، وهي مبدأ خلقي سياسي كالعدالة ، وهما ضمن مبادئ اخرى يمثلان منظومة مبادئ الاسلام السياسية كالوفاء بالعهد والقيادة الرشيدة والرعاية الاجتماعية ، وهلم جرا)!!
    أليس هناك فرق بين ان يقال ان الشورى هي اشراك الآخرين في الامر الخاص والعام ، والقول بان الشورى هي استشارة أهل الرأي؟! فان كان هناك اختلاف فلماذا يريدنا الصادق ان نقبل كلا التعريفين؟!
    أما المفسرون الأوائل ، وسائر الفقهاء ، فقد فهموا من النصوص ، ومن واقع التطبيق ان الشورى لا تلزم المُشاِور ولكنها تطيب من خاطر المستشار .. قال تعالى (فبما رحمة من الله لنت لهم ، ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك ، فاعف عنهم ، واستغفر لهم وشاورهم في الأمر ، فاذا عزمت فتوكل على الله) .. فبعد ان وصفت الآية النبي الكريم عليه الصلاة والسلام ، باللين وعدم الغلظة ، واوضحت ان هذا من اسباب التفافهم حوله ، دعته لتجاوز اخطاءهم ، والاستغفار لهم ، ومشاورتهم في الامور ، وكل ذلك بغرض اشعارهم بانسانيتهم ، وتطيب خواطرهم .. ولكن امر اتخاذ القرار متروك له وحده ، وليس لهم ، ولذلك قال (فاذا عزمت فتوكل على الله) أي نفذ ما عزمت عليه ، ولم يقل (فاذا عزمتم فتوكلوا على الله)!!
    جاء في تفسير الآية التي اوردها السيد الصادق ، وهي قوله تعالى (وامرهم شورى بينهم) (أي لا يبرمون أمراً حتى يتشاوروا فيه ليتساعدوا بآرائهم في مثل الحروب وما جرى مجراها كما قال تبارك وتعالى "وشاورهم في الأمر" ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يشاورهم في الحروب ونحوها ليطيب بذلك قلوبهم)!![4]
    ولأن الشورى غير ملزمة ، فان النبي صلى الله عليه وسلم كان يشاور اصحابه ويوافقهم ، ويشاورهم ويخالفهم .. ومن أمثلة مخالفته لهم ، في أمر كان شديد الوضوح ، ما حدث في صلح الحديبية . فقد كان الصلح في نظر الاصحاب مجحفاً، فنفرت منه نفوسهم أيما نفور، ولقد عبر عمر بن الخطاب عن اعتراضهم ، وراجع النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم ينته حتى صاح به ابو بكر رضي الله عنه (ألزم غرزك)!!
    ولقد شاور ابوبكر رضي الله عنه ، الاصحاب حين ولي الخلافة ، في امر مانعي الزكاة ، فاستنكروا ذلك وقالوا "كيف تقاتل اناس يشهدون ان لا اله الا الله وان محمداً رسول الله"؟! فقال "والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه"!! واصر على موقفه ، ونزل الاصحاب عند رأية ، لعلمهم بانهم لا يستطيعون ان يثنوه مهما كثر عددهم لأن الشورى ليست ملزمة .
    وحتى يجوز السيد الصادق ، على المثقفين من اتباعه ، موضوع الشورى ، صورها وكأنها الديمقراطية ، فقال (لا معنى للشورى اذا لم تتوافر فيها ثلاثة اسس مساندة لها: الحرية ...... منع الانفراد بالسلطة ........ الاعتراف بمشروعية تعدد ...) ولقد ذكر الصادق نفسه ، ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يمارس الشورى ، في دولة المدينة ، فهل كانت هناك حرية لغير المسلمين في تلك الدولة؟! أم ان الحكم قد كان قتال المشركين ، حتى يسلموا وقتال اهل الكتاب حتى يعطوا الجزية ، عن يد وهم صاغرون؟! ألم يكن في دولة المدينة رقيق؟! ألم يكن بعض هؤلاء العبيد مؤمنين ، ولم يمنعهم ذلك ان يظلوا عبيداً؟! فلماذا هذا التضليل ،ولماذا القول بانه لامعنى للشورى اذا لم تكن هناك حرية؟
    وهل تمنع الشورى الانفراد بالسلطة؟! ان الشورى بطبيعة الحال آلية تعين الحاكم الفرد ، بل نحن لا نحتاج لها أصلاً لو لم يكن الحاكم منفرد بالسلطة ، لان نظام حكم الجماعة بنفسها ، أو بواسطة ممثلين منتخبين ، هو الديمقراطية وليس الشورى . وليس في الشورى تعدد ، وليس في الدولة الاسلامية ، احزاب بالمعنى الحديث ، ولا تقبل الاحزاب بمعنى التجمعات ، لأن الشريعة لا تعترف الا بحزب واحد هو حزب الله!! قال تعالى (رضي الله عنهم ورضوا عنه أؤلئك حزب الله الا ان حزب الله هم المفلحون) . ولما كانت محاولة الربط بين التعددية والشورى ، محاولة توفيقية ، متعسفة فقد كان تبرير السيد الصادق ، غاية في الضعف والالتواء ، فقد قال (الاعتراف بمشروعية تعدد "استفت نفسك وان افتاك الناس وافتوك") فهل هذا الحديث ، رغم عدم علاقته بموضوع الشورى ، يدل على الفردية ام التعددية؟! ويواصل الصادق فيقول (وقال "اذا حكم الحاكم فاجتهد فاصاب فله اجران واذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر")!! أين التعددية هنا؟ من يتحدث عنه الصادق ، حاكم فرد ، يمارس الخطأ والصواب ، وحده ، ويحصل على الاجر في كلا الحالين وحده!!

    (12)

    يحدثنا السيد الصادق ، عن محاولات تطبيق الشريعة الاسلامية ، في العصر الراهن ، فيقول عن تجربة نظام نميري (لقد استهل نميري تطبيق الشريعة بالقانون الجنائي واسرف في تقطيع الايادي حتى بلغت مأتي حالة في ستة أشهر 83- 84 حينما كان السودان يمر بمجاعة)!!
    وعن التجربة الباكستانية (لقد حكم ضياء الحق بشرعية ضعيفة للغاية لذلك وعد باجراء انتخابات حرة خلال ثلاثة اشهر ولكنه لم يف بذلك ، وكذلك اخلف هذا الوعد مرتين لاحقتين . فأخذ يبحث عن الشرعية من خلال تطبيق الشريعة واعد برنامجاً لتطبيق الشريعة واجرى عليه استفتاء شعبياً واشترط بان اذا صوت المواطنون لتطبيق الشريعة فسيكونون تلقائياً قد صوتوا له ليحكم خمس سنوات اخرى.. هذا هو الضرر الاساسي الذي سببه للاسلام وهو ان يربط بين الاسلام بالدكتاتورية)!! ويقول عن التجربة الافغانية (أغلقت الحركة مؤسسات التعليم المدني وحظرت التصوير الفوتغرافي واغلقت محطات التلفزيون واعتبرت الفنون الجميلة رجساً منكراً، والزمت النساء المنازل ومنعت خروجهن واخيراً عوضت نضوب ايرادات الدولة بانتاج 400 طن من الافيون في السنة مشوهة اسم الاسلام اكثر)!! وحتى التجربة الايرانية التي اشاد بها كثيراً قال عنها (ولكن الفشل في استيعاب الاخر قاد لتواصل جولات العنف)!!
    وبعد ان ذكر لنا فشل كل هذا التجارب ، حدثنا عن الدروس المستفادة ، من هذا الفشل المتنوع فقال: (1- تطبيق الشريعة ملزم شرعياً للمسلم 2- تطبيق الشريعة في النطاق الخاص والشخصي أمر يتعلق بالمجتمع المتدين)!! ان الصادق المهدي متجاذب ، بين فهمه السلفي للدين ، وبين دعاوى الحداثة ، التي ما ادعاها الا ليجاري الواقع ، ويمد من عمر رئاسته لحزبه . فلو كان مثقف عادي ، لخلص من دراسة فشل محاولات تطبيق الشريعة ، الى فصل الدين عن الدولة .. ولو كان مفكر ديني واعي ، لخلص الى ضرورة تطوير التشريع . واكبر الادلة على هذا التناقض اشادة الصادق بنظام الشورى تارة ، ونقده باعتبار عدم صلاحية ان يجمع الفرد في يده كل السلطات تارة أخرى ، ثم الاشادة بالديمقراطية ، ومحاولة الرجوع مرة أخرى للشورى ، والقول بانه لا فرق كبير بينها وبين الديمقراطية!!
    ولما كان السيد الصادق يستعيض بالكلمات عن الفكر ، تحدث عن تطبيق الشريعة في النطاق الخاص ، مع ان هذا ليس موضوع الخلاف ، بين دعاة تطبيق الشريعة ومعارضيهم ، ولا هو السبب في فشل التطبيق، الذي كان يتحدث عنه .. ومهما يكن من امر، فلا يمكن لشخص ان يقول ان التطبيق الشخصي للشريعة ، يتعلق بالمجتمع المتدين ، لان الفرد المتدين ، هو مدار التطبيق الشخصي ، وليس المجتمع ، ذلك ان الفرد يمكن ان يكون متديناً ، في مجتمع لا علاقة له بالتدين..
    أما في النطاق العام ، فان السيد الصادق ، يرى ان تغير الزمان والمكان ، يجب ان يؤثر على تطبيق الشريعة ، ويقول: (3- ولكن في النطاق العام هناك جوانب يجب مراعاتها مثل: تغير الزمان والمكان – حقوق غير المسلمين – احوال المجتمع الدولي وغيرها . وعلى المسلم ان يعي بانه في مثل هذه الامور فان هامش التطبيق واسع يجعل بعض الالتزامات ضرورية في حالات معينة وبعضها اقل ضرورة واخرى غير ضرورية لانها تضر بمقاصد الشريعة النهائية . ان نص الاسلام الموحى – القرآن يسمح للمسلم في بعض الاحيان بالتصريح بالكفر وقلبه مطمئن بالايمان . وفي احيان أخرى يتوقع منه اتباع كل المبادئ والتعاليم . والقرآن يشير الى تقوى الله ما استطعنا وكذلك الى تقواه حق تقاته . ويتحدث عن: كفوا ايديكم واقيموا الصلاة في مكة ، وعن مواجهة الظلم في المدينة ، وهكذا .)!! ماذا يعني الصادق بمراعاة تغير الزمان والمكان؟ وماذا يعني بمراعاة احوال المجتمع الدولي؟! هل تجعلنا هذه المراعاة ،لا نطبق نص قطعي لان الزمن قد تغير؟ فان كان يعني ذلك فلماذا لا يقوله صراحة ، ويحدد لنا النصوص التي لن نطبقها ، فيما يخص حقوق غير المسلمين؟ ثم هل حقاً يسمح الاسلام للمسلم ، في بعض الاحيان ، بالتصريح بالكفر أم انه يسمح بذلك فقط ، لمن اكره وخشى على نفسه الهلاك؟
    أما خطأ السيد الصادق ، في فهم آيتي "اتقوا الله حق تقاته" و "اتقوا الله ما استطعتم" فقد سبق ان اوضحناه ، كما اوضحنا خطأه في آية "كفوا ايديكم واقيموا الصلاة" ، فهي مدنية وليست مكية ، كما قرر، فهي الآية 77 من سورة النساء .. ثم انها لا تختلف عن أيات المدينة ، التي دعت الى مواجهة الظلم ، ثم دعت اخيراً الى قتال المشركين ، فالآية في تمامها هي "ألم تر الى الذين قيل لهم كفوا ايديكم واقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال اذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو اشد خشية!! وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال؟! لولا أخرتنا الى أجل قريب ، قل متاع الحياة الدنيا قليل!! والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلاً" فهي تنعى على المسلمين ، انهم كانوا يتطلعون للقتال ، وهم في مكة ، حيث أمروا بان يكفوا ايديهم ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة .. ولما جاءوا الى المدينة وكتب عليهم القتال ، خاف بعضهم من الكفار، وطلبوا ان يؤخر عنهم الامر بالجهاد ، وقد نعى الله عليهم التقاعس ، وفي ذلك حث لهم على الجهاد ..
    أما حديث السيد الصادق ، عن الديمقراطية ، فسنناقشه في مقال منفرد ، ونربطه بممارسته ، في الفترات التي حكم فيها ، ذلك لان خلل الممارسة ، انما هو انعكاس للتخبط الفكري ، وضعف الفهم الديني الذي يرزح تحته الرجل ، منذ ان ظهر لأول مرة ، في اول وظيفة له في الحياة العامة ، كرئيس وزراء حكومة السودان!!

    د. عمر القراي
    - نواصل –

    [1] - راجع تاريخ الطبري –المجلد الثاني ص 244 وما بعدها .
    [2] - الصادق المهدي: يسالونك عن المهدية ص 70
    [3] - تفسير ابن كثير-الجزء الاول ص 294
    [4] - تفسير ابن كثير –الجزء الرابع ص 120
                  

10-25-2004, 10:46 AM

Omer Abdalla
<aOmer Abdalla
تاريخ التسجيل: 01-03-2003
مجموع المشاركات: 3083

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. عمر القراي: الصادق المهدي و"الانكفائية" ودعاوى التجديد (Re: Omer Abdalla)

    الصادق المهدي و"الانكفائية" ودعاوى التجديد
    تعقيب على ورشة عمل الانصار" نحو مرجعية اسلامية جديدة ..."
    الحلقة الرابعة

    (13)

    بدأ السيد الصادق حديثه عن الديمقراطية ، وختمه دون ان يشرح ما هي الديمقراطية !! ولم يشر من قريب ، أو بعيد الى انه يقدم فهماً مختلفاً لها ، عما عرفته تجربتها القديمة في اثينا ، أو تجربتها الحديثة ، في اوربا وامريكا. فهو يقول (باستثناء تجربة اثينا فان الحكم في العالم القديم قام على الوراثة و الاستبداد . والنظام السياسي الأوربي الحديث نشأ مع صلح وستفاليا ثم الثورتين الامريكية والفرنسية ما اسفر عن كل ذلك ادى للدولة الوطنية والنظام الديمقراطي والنيابي والنظام الرأسمالي الحديث. واجه النظام الديمقراطي التحدي الفاشي ثم التحدي الشيوعي الذي انتهى في عام (1991)) .. ولوكان السيد الصادق ، يلقي خطبة أمام جمهور في وقت محدد ، لما طالبه احد بان يفصل في أمر الديمقراطية ، ولكن هذه ورشة عمل ، ينبغي ان يطرح فيها كافة آراءه النظرية ، التي يعتمد عليها ، في دعوته للتجديد ، والتي سيدعو لها علماء العالم الاسلامي . فاذا كان السيد الصادق لا يملك فهماً محدداً للديمقراطية ، ولا رأياً عتيداً في دعهما ، واظهار تفوقها ، فلماذا لا يقرأ آراء غيره ، وينقلها من مصادرها ، ويستعين بها على موضوعه ، خاصة اذا كانت هذه الآراء صحيحة ، وتنطلق من الاسلام نفسه .. يقول الاستاذ محمود محمد طه :
    ولدت الديمقراطية في بلاد الاغريق، وفي أثينا بالذات. وقد كانت أثينا أرقى مدن الاغريق ثقافة. وكانت كل مدينة من تلك المدن حكومة قائمة بذاتها.. ولما كانت الدول الاغريقية التي تمثلها المدن صغيرة فقد كان من السهل على الشعب أن يمارس الحكم مباشرة عن طريق اجتماع أفراده، وكانت ديمقراطيتهم بذلك الديمقراطية المباشرة التي لا تحتاج إلى مجلس نيابي، ولا إلى مجلس تنفيذي، على النحو الذي عرف مؤخرا، وهي لم تكن تقوم على موظفين دائمين، وإنما كان الموظفون ينتخبون كل عام.. وكثيرا ما كان الانتخاب يجري بالاقتراع، وكان أهل أثينا يعتقدون أن الاشتراك في مناقشة، وسياسة الشئون العامة، حق لكل مواطن، وواجب عليه، (لم يكونوا يعتبرون النساء والعبيد من المواطنين)، وكان بركليس أعظم الخطباء المتكلمين باسم الديمقراطية الأثينية، وفي خطابه المعروف باسم خطبة الجنازة، التي ألقاها في مناسبة الاحتفال الشعبي بدفن الذين قتلوا في الحرب ضد اسبارطة عام 430 قبل الميلاد، قال في تصوير هذه الديمقراطية: (إنما تسمى حكومتنا ديمقراطية لأنها في أيدي الكثرة دون القلة وإن قوانيننا لتكفل المساواة في العدالة للجميع، في منازعاتهم الخاصة، كما أن الرأي العام عندنا يرحب بالموهبة ويكرمها في كل عمل يتحقق، لا لأي سبب طائفي، ولكن على أسس من التفوق فحسب، ثم إننا نتيح فرصة مطلقة للجميع في حياتنا العامة، فنحن نعمل بالروح ذاتها في علاقاتنا اليومية فيما بيننا. ولا يوغرنا ضد جارنا أن يفعل ما يحلو له ولا نوجه إليه نظرات محنقة، قد لا تضر، ولكنها غير مستحبة).
    (ونحن نلتزم بحدود القانون أشد التزام في تصرفاتنا العامة، وإن كنا صرحاء ودودين في علاقاتنا الخاصة. فنحن ندرك قيود التوقير: نطيع رجال الحكم والقوانين، لا سيما تلك القوانين التي تحمي المظلوم، والقوانين غير المكتوبة التي يجلب انتهاكها عارا غير منكور. ومع ذلك فإن مدينتنا لا تفرض علينا العمل وحده طيلة اليوم. فما من مدينة أخرى توفر ما نوفره من أسباب الترويح للنفس - من مباريات وقرابين على مدار السنة، ومن جمال في بيئتنا العامة، يشرح الصدر، ويسر العين، يوما بعد يوم، وفوق هذا فإن هذه المدينة من الكبر والقوة بحيث تتدفق عليها ثروة العالم بأسره، ومن ثم فإن منتجاتنا المحلية لم تعد مألوفة لدينا أكثر من منتجات الدول الأخرى.)
    (إننا نحب الجمال دون اسراف، والحكمة في غير تجرد من الشجاعة والشهامة، ونحن نستخدم الثروة، لا كوسيلة للغرور والمباهاة، وإنما كفرصة لأداء الخدمات. وليس الاعتراف بالفقر عيبا، إنما العيب هو القعود عن أي جهد للتغلب عليه.)
    (وما من مواطن أثيني يهمل الشئون العامة لإغراقه في الانصراف إلى شئونه الخاصة. والشخص الذي لا يعنى بالشئون العامة لا نعتبره (هادئا وادعا) وإنما نعتبره غير ذي نفع.)
    (وإذا كانت قلة منا هم الذين يرسمون أية سياسة، فإنا جميعا قضاة صالحون للحكم على هذه السياسة. وفي رأينا أن أكبر معوق للعمل، هو نقص المعلومات الوافية - التي تكتسب من النقاش قبل الاقدام - وليس النقاش ذاته). هذا ما قاله بركليس في تصوير الديمقراطية الأثينية وهو تصوير طيب.. ولقد أخذت الديمقراطية من أيام أثينا تنمو وتتطور وتتباين في ذلك في مختلف أرجاء العالم، ولكنها تنبع في كل مكان من مبادئ تحاول أن تبينها بوضوح كنهج متميز وفذ من مناهج الحياة.. نهج للحياة يعترف بكرامة الإنسان، ويحاول أن يقيم تصريف الشئون الإنسانية وفق العدل، والحق، وقبول الشعب.. ولقد وصلت مرحلة تطوير الديمقراطية الحديثة إلى مبادئ يمكن تلخيص أهمها فيما يلي:-
    1) الاعتراف بالمساواة السياسية بين الناس.
    2) قيمة الفرد فوق قيمة الدولة.
    3) الحكومة خادمة الشعب.
    4) حكم القانون.
    5) الاسترشاد بالعقل، والتجربة، والخبرة.
    6) حكم الأغلبية، مع تقديس حقوق الأقلية.
    7) الاجراءات أو الوسائل الديمقراطية تستخدم لتحقيق الغايات في الدولة الديمقراطية.
    فليست الاجراءات ولا الأجهزة الديمقراطية غاية في ذاتها، وإنما هي وسيلة إلى غاية وراءها.. فليست الديمقراطية أن تكون لنا هيئة تشريعية، وهيئة تنفيذية، وهيئة قضائية، وإنما جميع أولئك وسائل لتحقيق كرامة الانسان.. فإن الديمقراطية ليست أسلوب حكم فحسب، وإنما هي منهاج حياة، الفرد البشري فيه غاية، وكل ما عداه وسيلة إليه، ولا يجد أسلوب الحكم الديمقراطي الكرامة التي يجدها عند الناس إلا من كونه أمثل أسلوب لتحقيق كرامة الانسان.
    وفي النهج الديمقراطي الحاضر خطأ هو أقل من الخطأ الذي تورطت فيه الشيوعية الماركسية بكثير، ولكنا رغم ذلك لن نسترسل في استقصائه هنا وإنما نتركه إلى حينه في سفر (الإسلام ديمقراطي اشتراكي).
    وإنما تجئ كرامة الانسان من كونه أقدر الأحياء على التعلم والترقي، وإنما تجئ كرامة الديمقراطية من كونها، كأسلوب للحكم أقدر الأساليب لاتاحة الفرص للانسان ليبلغ منازل كرامته وشرفه، وإنما يتعلم الإنسان من أخطائه، وتلك هي الطريقة المثلى للتعليم..
    [1]

    يقول الصادق المهدي (ضج القرن العشرين بالاضطرابات ثم انتهى الى أهمية الحكم الصالح وافضل وسائله الديمقراطية كما جاء في اعلان الامم المتحدة للالفية الثالثة ) .. ولم يخبرنا الصادق ما هو الحكم الصالح ؟! وما هي وسائله الاخرى ، بالاضافة الى الديمقراطية ، بل لم يشر الى اي اختلاف بينه ، وبين ما يطرحه العالم الغربي فيما عبرت عنه الامم المتحدة في ذلك الاعلان .
    ان نظام الحكم الصالح ، هو النظام الذي يقوم على العدل و يختفي فيه الظلم ، والاستغلال ، والجريمة ، وتتوفر فيه شروط الحياة الكريمة التي تعتمد على المساواة لكل مواطن . فهل نظم الحكم الغربية اليوم ، والتي ابدى السيد الصادق اعجابه بها ، يمكن ان تمثل نظام الحكم الصالح ؟ يقول الاستاذ محمود محمد طه عن الحكم الصالح :
    والمجتمع الصالح ، هو المجتمع الذي يقوم على ثلاث مساويات : المساواة الاقتصادية ، وتسمى في المجتمع الحديث الاشتراكية ، وتعني ان يكون الناس شركاء في خيرات الأرض . والمساواة السياسية ، وتسمى في المجتمع الحديث الديمقراطية ، وتعني ان يكون الناس شركاء في تولي السلطة التي تقوم على تنفيذ مطالب حياتهم اليومية . ثم المساواة الاجتماعية ، وهذه ، الى حد ما ، نتيجة المساويتين السابقتين ، ومظهرها الجلي محو الطبقات ، واسقاط الفوارق التي تقوم على اللون ، او العقيدة ، أو العنصر ، أو الجنس من رجل وإمرأة . فانه يجب الا يكون هناك تمييز بين الافراد ، يقوم على اعتبار من هذه الاعتبارات. فالناس لا يتفاضلون الا بالعقل والخلق. ومحك ذلك العدل في السيرة بين الناس ، والنصح ، والاخلاص للمواطنين في السر والعلن ، وروح الخدمة العامة ، في كل وقت ، وبكل سبيل .
    والمساواة الاجتماعية تستهدف محو الطبقات ، ومحو الفوارق بين المدن والارياف ، وذلك باتاحة الفرص المتساوية للتثقيف والتمدين ، حتى يكون التزاوج بين جميع الافراد في المجتمع أمراً عادياً .. وهذا هو المحك الصادق في مبلغ المساواة الاجتماعية.
    والمجتمع الصالح ، بعد ان يقوم على هذه المساويات الثلاث، التي يتكفل القانون بتنظيمها ، ورعايتها، يقوم أيضاً على راي سمح لا يضيق بانماط السلوك المختلفة ، لدى النماذج البشرية المتباينة ، ما دام هذا السلوك لا يعود الا بالخير والبركة على المجتمع .[2]

    والسبب في ان الديمقراطية ، وحدها ، لا يمكن ان تقيم حكماً صالحاً هو ان الرأسمالية تجهض الديمقراطية . فما دام المال بيد قلة ، وان الكثرة تكدح ، وتشقى ، لتزيد من ثراء هؤلاء الافراد المسيطرين على وسائل ومصادر الانتاج ، فان الشخص المتوهم بانه حر ، ليس كذلك ، وانما مستعبد للرأسمال . هنا تصبح الانتخابات والمؤسسات الديمقراطية جميعها ، بما في ذلك الاعلام ، ادوات في يد الرأسمالي ، ليدعم بها نفوذه وسيطرته. ولقد اشار الاستاذ محمود الى هذا حين قال:
    إن الانسان المعاصر يرى ان الديمقراطية ، والاشتراكية ، يمثلان معاً الحقوق الاساسية له – حق الحياة وحق الحرية .. ويرى ان الاشتراكية وسيلة لازمة لتحقيق الديمقراطية .. ففي حين ان الديمقراطية هي الحرية السياسية ، فان الاشتراكية هي الحرية الاقتصادية . فمن غير المعقول ان يطلب الى الانسان التنازل عن حريته الديمقراطية ، لقاء تمتعه بالحقوق التي تكفلها له الاشتراكية ، كما تريد الماركسية ، او يطلب اليه ان يحقق حريته الديمقراطية في ظل نظام اقتصادي تستأثر فيه القلة بالثروة ، كما تريد له الرأسمالية .. اما النظام الماركسي فهو نظام ديكتاتوري ، لا يمارس الديمقراطية أصلاً ، وانما يزيفها ، فسيميها دكتاتورية البورليتاريا – العمال والمزارعين- وماهي ، في الحقيقة الا دكتاتورية المثقفين على العمال والمزارعين .. وأما النظام الراسمالي الغربي فانه يمارس الديمقراطية ، ولكنه يتسم بقصور الممارسة ، حيث تسعى القلة الرأسمالية للسيطرة على السلطة ، حتى تخدم مصالحها الراسمالية ضد مصلحة طبقات الشعب الاخرى .. فلا تتحقق الديمقراطية مع الراسمالية.[3]
    في وقتنا الحاضر، اصبح دفع الرأسمالية للديمقراطية لتناقض مبادئها ، من اجل زيادة رأس المال واضحاً جلياً . فقد خاضت امريكا حرباً ضد العراق ، زعمت انها قامت بها كرد على عدوان الارهاب ، الذي استهدف مواطنيها ، ولان صدام حسين يملك اسلحة دمار شامل يهدد بها امنها .. وبعد ان انتهت الحرب ، ومات الآلاف من العراقيين ، والمئات من الامريكيين والبريطانيين ، صرح مسؤولون في قمة الادارة الامريكية ، بان صدام حسين لا علاقة له باحداث سبتمبر 11 ، وانه لم يكن يملك اسلحة دمار شامل !! ووضح ان الغرض من حرب العراق، هو مصالح الشركات الضخمة ، التي يملكها من يؤثرون في القرار، والتي تريد ان تحصل على البترول ، بلا مقابل ، وتمتلك عطاءات اعادة تعمير العراق بعد تحطيمه .
    هذه التجربة الصارخة ، والتي اغفلها الصادق المهدي ، وهو يحدثنا عن النظام الديمقراطي ، المرتبط بالنظام الراسمالي الحديث ، يجب الا يهملها من يريد ان يطبق الديمقراطية في أي دولة من دول العالم اليوم ، ذلك ان حذو ديمقراطية الغرب الراسمالي ، لا يحقق الحرية ، وانما يسوق الى الاستغلال والحروب والدمار.
    إن صمام الأمان للديمقراطية هو الاشتراكية . فما لم يملك الشعب مصادر ووسائل الانتاج ، فانه لا يمكن ان يملك قراره ، او تقرير مصيره ، لمجرد انه شارك في الانتخابات . ونحن حين ندعو للاشتراكية ، لا نعني الماركسية ، حتى يدفع في وجهنا بفشل التجربة السوفيتية . فالماركسية مدرسة من مدارس الاشتراكية لها ايجابياتها وسلبياتها ، ولا يعني فشل التجربة السوفيتية فشل الاشتراكية كفكرة ، كما ظن كثير من المثقفين ومنهم بكل اسف بعض الشيوعيين انفسهم .. ان الاشتراكية الحقيقية ، هي ملكية الشعب لمصادر الانتاج ، ووسائل الانتاج ، على صورة جمعيات تعاونية ، في كل مرفق ، وفي كل عمل. والشعب بطبيعة الحال ، لن يُملك مصادر ووسائل الانتاج ، ما لم تكن في يده السلطة السياسية ، وهكذا تكمل الاشتراكية والديمقراطية بعضهما البعض ..

    (14)

    ولما كانت الديمقراطية ، عزيزة المنال ، فانها لم تطرح بصورة نظرية تجعل تطبيقها ممكناً ، الا فيما أورده الاستاذ محمود محمد طه ، ولقي اعتراضاً من جماعات دينية ، وجماعات علمانية على حد سواء .. اما ممارساتها في مختلف التجارب ، فقد كانت غاية في التزييف والتخبط . ولعل السبب الاساسي لفشل التجارب المختلفة هو قصور القامات التي تتصدى للقيادة ، عن مستوى التربية المطلوب لافراد الشعب في النظام الديمقراطي الحقيقي . وعن مفارقة دعاوى الديمقراطية يقول الاستاذ محمود :
    ولما كان حكم الشعب ، بواسطة الشعب ، من الناحية العملية ، مستحيلاً ، فقد جاء ، الحكم النيابي ، ونشأت الاحزاب السياسية .. وفي الحكم النيابي قلة قليلة جداً هي التي تباشر ، نيابة عن الشعب ، السلطة التشريعية ، والسلطة القضائية، والسلطة التنفيذية .. والمفترض ان الشعب يراقب هذه القلة حتى يطمئن الى انها ، انما تدير دولاب السلطة لمصلحته هو ، لا لمصلحتها هي .. وهذا أمر يقتضي وعي الشعب ، ويقتضي وعي القلة التي تباشر السلطة أيضاً .. وليس هناك شعب من الشعوب ، الى وقتنا الحاضر ، استطاع ان يكون في مستوى الوعي الذي يمكنه من مراقبة اداء من يتولون ، نيابة عنه ، إدارة مرافقه بصورة تقرب ، ولو من بعيد من مستوى الحكم الديمقراطي بمعنى الكلمة . وليست هناك ، الى وقتنا الحاضر ، قلة ، في أي شعب من شعوب الأرض ، استطاعت ان ترتفع فوق مطامعها ، وانانيتها ، وجهلها ، لتحكم شعبها حكماً ديمقراطياً صحيحاً.. فالقلة إنما تحكم الشعب لمصلحتها هي ، لا مصلحته هو.. ويصدق في كل قلة حاكمة اليوم ما قاله أبو العلاء المعري منذ وقت طويل :
    مل المقام فكم اعاشر أمة أمرت بغير صلاحها أمراؤها!!
    ظلموا الرعية واستباحوا كيدها وعدوا مصالحها وهم اجراؤها!!
    أما نحن السودانيين فقد بلونا أسوأ ألوان الحكم النيابي ، في محاولتنا الاولى ، في بدء الحكم الوطني ، وفي محاولتنا الثانية ، بعد ثورة أكتوبر 1964 .. فقد كانت أحزابنا السياسية طائفية الولاء ، طائفية الممارسة ، فهي لم تكن تملك مذهبية في الحكم .. والطائفية نقيض الديمقراطية .. ففي حين تقوم الديمقراطية على توسيع وعي المواطنين ، تقوم الطائفية على تجميد وعيهم .. وفي حين ان الديمقراطية في خدمة مصلحة الشعب ، فان الطائفية في خدمة مصلحتها ، هي ، ضد مصلحة الشعب .. ومن هنا جاء فساد الحكم النيابي الأول عندنا .. فكانت اصوات الناخبين توجه بالاشارة من زعيم الطائفة ، كما كانت تشترى !! وكان النواب يشترون أيضاً !! وذلك في جو من الصراع الحزبي الطاحن على السلطة أدى الى تهديد سيادة البلاد واستقلالها .. فقد كانت الحكومة إئتلافية بين حزب الأمة وحزب الشعب – حزبي الطائفتين ذواتي الخصومة التقليدية ، طائفة الأنصار ، وطائفة الختمية .. ودخلت البلاد في أزمة سياسية من جراء عدم انسجام الوزارة ، وبروز الاتجاه للالتقاء بين الحزب الوطني الأتحادي ، الذي كان في المعارضة ، وحزب الشعب ، عن طريق وساطة مصر .. فسافر رئيسا الحزبين ، السيد إسماعيل الأزهري ، والسيد علي عبد الرحمن الى مصر لهذا الغرض.. ولقد نسب لرئيس الوطني الاتحادي تصريح ، بمصر ، يعترف فيه باتفاقية 1929 التي كانت حكومة السودان الشرعية قد ألغتها .. (وهي الاتفاقية التي أبرمت في الماضي ين دولتي الحكم الثنائي ، بريطانيا ومصر ، بينما كان السودان غائباً ، تحت الاستعمار ، فأعطت السودان نصيباً مجحفاً من مياه النيل ، بالنسبة لنصيب مصر) وكان ذلك الاعتراف بالإتفاقية بمثابة مساومة مع مصر لتعين الحزب على العودة للحكم ، كما صرح رئيس حزب الشعب ، بمصر ، بان حزبه يقف في المعارضة!! (انباء السودان 15/11/1958 – الرأي العام 19/11/1958) في هذا الجو السياسي الذي يهدد استقلال البلاد ، وسيادتها ، بالتدخل الاجنبي ، سلم السيد عبد الله خليل ، رئيس الوزراء الحكم للجيش (أقوال الفريق عبود في التحقيق الجنائي حول الانقلاب بعد ثورة أكتوبر- التجربة الديمقراطية وتطور الحكم في السودان للدكتور ابراهيم أحمد الحاج) .. فكان انقلاب 17 نوفمبر 85 بمثابة انقاذ للبلاد .. وحكم الحكم العسكري ست سنوات ، صادر فيها الحريات الديمقراطية .. وبرغم انه حقق شيئاً من التنمية الاقتصادية ، الا انه آل الى صور من العجز عن الاصلاح ، والفساد ، أدت الى قيام ثورة 21 أكتوبر 1964 .. ولقد تمثل في تلك الثورة الشعبية ، السلمية، إجماع الشعب السوداني الكامل على الرغبة في التغيير ، وان لم يكن يملك المعرفة بطريقة التغيير .. فتخطى الشعب الولاءات الطائفية ، وهو ينادي بعدم العودة لماضي الحزبية الطائفية .. ولكن سرعان ما اجهضت الاحزاب الطائفية تلك الثورة ، وصفّت مكتسباتها .. فقد ضغطت بالارهاب السياسي ، على رئيس حكومة أكتوبر الثورية حتى استقال ، وشكل حكومة حزبية برئاسته .. ثم عادت الاحزاب الطائفية للسلطة ، عن طريق الأغلبية الميكانيكية الطائفية ، في الانتخابات .. وقامت حكومة ائتلافية من حزب الأمة والوطني الاتحادي .. وتعرضت الديمقراطية في هذه التجربة النيابية الثانية ، لاسوأ صور المسخ ، علاوة على المسخ الذي تعرضت له الديمقراطية من جراء فساد القلة ، ومن جراء قصور وعي الشعب .. فقد عدل الدستور مرتين لتمكين الحكم الطائفي من الاستمرار: مرة ليتمكن أزهري من ان يكون رئيساً دائماً لمجلس السيادة ، في اطار الاتفاق بين الحزبين على اقتسام السلطة .. ومرة أخرى لحل الحزب الشيوعي ، وطرد نوابه من الجمعية التأسيسية .. فقد عدلت الجمعية المادة 5/2 من الدستور ، والتي تعد بمثابة روح الدستور ، وهي المادة التي تنص على الحقوق الاساسية ، كحق التعبير وحق التنظيم .. ولما حكمت المحكمة العليا بعدم دستورية ذلك التعديل (مجلة الاحكام القضائية 1968) أعلن رئيس الوزراء آنذاك ، السيد صادق المهدي "ان الحكومة غير ملزمة بان تأخذ بالحكم القضائي الخاص بالقضية الدستورية" (الرأي العام 13/7/1966) .. فتعرض القضاء السوداني بذلك لصورة من التحقير لم يتعرض لها في تاريخه قط!! ولما رفعت الهيئة القضائية مذكرة الى مجلس السيادة تطلب فيها تصحيح الوضع بما يعيد للهيئة مكانتها (الرأي العام 27/1/1966) وصف مجلس السيادة حكم المحكمة العليا بالخطا القانوني (الأيام 20/4/1967) فاستقال رئيس القضاء السيد بابكر عوض الله ، وقد جاء في استقالته "إنني لم اشهد في كل حياتي القضائية اتجاهاً نحو التحقير من شأن القضاء ، والنيل من استقلاله كما أرى اليوم .. انني أعلم بكل أسف تلك الاتجاهات الخطيرة عند قادة الحكم اليوم ، لا للحد من سلطات القضاء في الدستور فحسب ، بل لوضعه تحت إشراف الهيئة التنفيذية" ( الكتاب المشار اليه آنفاً) .. هذه صورة لفشل التجربة الديمقراطية النيابية في بلادنا ، مما حولها الى دكتاتورية مدنية ، فهدد الاستقرار السياسي ، حتى جاءت مايو بمثابة انقاذ للبلاد !! إن قصور تجربتنا الديمقراطية مرده الاساسي الى قصور الوعي – وعي الشعب ، ووعي القلة التي تحكم الشعب ، مما أفرغ مدلول كلمة الديمقراطية من محتواه – هذا وفشل الديمقراطية في كل البلاد المتخلفة ادى الى الانقلابات العسكرية في كل مكان ، في النصف الاخير من هذا القرن .. وليس في الانقلابات العسكرية حل ..[4]


    (15)

    ولكن السيد الصادق ليس مشغولاً بفهم عميق للديمقراطية ، ولا هو مشغول بمشاركته في تجاربها الفاشلة ، وانما يرفع شعاراتها كوسيلة يصل بها للسلطة . أكثر من ذلك فإن الصادق يريد ان يحد من سلطة الديمقراطية ، ويفرغها من محتواها ، حتى لا يتزعزع حكمه ، وتتحول الديمقراطية ، تحت حكمه ، الى دكتاتورية مدنية ، فهو يقول: (و لكن أهم مشاكل الديمقراطية هي الديمقراطية ذاتها ، ليه؟ لانو الديمقراطية بتلزم القوى السياسية بان تراعي سيادة القانون ، وتراعي استقلال القضاء حتى اذا كان عندي حق انا على قناعة بان زيد من الناس يعمل عمل للاطاحة بالديمقراطية لا استطيع ان اعمل أي شئ اذا ما عندي وثائق ودلائل على انو بيعمل هذا العمل كافية لادانتو امام القضاء... فالديمقراطية نظام محتاج ان تكون الاطراف المختلفة محترمة لهذا النظام ومقدرة له والا تستطيع أي مجموعة ان تتآمر ضد الديمقراطية لان نقاط الضعف الموجودة في الديمقراطية كثيرة ... انا كتبت في الكتاب الكتبتو انو نحن محتاجين لمفهوم للديمقراطية يراعي كل العوامل دي وعشان كدا سميتها الديمقراطية التعاقدية انا ارى انو بدون مراجعة هذه الاشياء عشان نقنن وننظم ممارسة الحريات الاساسية اعداء الديمقراطية حيستغلوا الثغرات المتاحة اصلاً في ظل النظام الديمقراطي للتآمر ضدها للاطاحة بها...)[5]

    ولقد علقت على حديث السيد الصادق هذا بقولي:
    ان الصادق المهدي يعتقد ان أهم مشاكل النظام الديمقراطي هي ان السلطة لا بد ان تراعي سيادة حكم القانون واستقلال القضاء ، فلا تستطيع التسلط على المواطنين وتوقيع أي عقوبة عليهم الا بعد ادانتهم بوثائق واضحة أمام القضاء !! لعمري ان هذا الذي يشكو منه الصادق هو الديمقراطية نفسها .. أليس الحق والعدل يقتضي هذا الوضع الذي يعتبره الصادق المشكلة ؟! أما العلاج لهذه السماحة التي يستغلها اعداء الديمقراطية فيطيحوا بها فان الصادق يقترح له قيام صورة (تعاقدية) تتفق فيها الاطراف التي تمثل السلطة (الاحزاب الحاكمة) على تجاوز هذه الثغرات كأن يجدوا طريقة لادانة المتهم دون وثائق تكفي لادانته أمام القضاء. وذلك بحجة حماية النظام الديمقراطي من تـآمر المتآمرين !! فهل يمكن ان يعتبر مثل هذا النظام ديمقراطي ولو اتفقت عليه الاغلبية أم انها دكتاتورية مدنية تهدر فيها حقوق الاقليات ؟
    والصادق المهدي هنا لا يتحدث عن نظرية جديدة ، وردت في كتابه كما احب أن يوهم المستمعين ، وانما هنالك تجربة حدثت بالفعل ابان أزمة حل الحزب الشيوعي السوداني1965 فقد (تعاقدت) الاحزاب الطائفية ، وجبهة الميثاق الاسلامي، على تعديل الدستور بتغيير المادة 5/2 التي تتيح الفرصة لحرية التعبير والتنظيم ، ليستثنى من ذلك الحزب الشيوعي ، ويطرد نوابه المنتخبين من الجمعية التاسيسية .. وحين حكمت المحكمة العليا ، بان هذا التعديل غير دستوري ، وامرت بابطال حل الحزب الشيوعي ، رد السيد الصادق وهو حينذاك رئيس الوزراء ، بان قرار المحكمة العليا غير ملزم للحكومة !! وحين اصر الشيوعيون على فتح دورهم ، وممارسة حقهم الديمقراطي الذي كفله لهم القانون ، هرعت مليشيات الانصار، والمجاهدين من جماهير الجبهة الاسلامية ، لتعتدي عليهم في دورهم ، وتجبرهم بالقوة على التنازل عن حقهم القانوني !! هذه هي الديمقراطية (التعاقدية) التي يريدها الصادق المهدي ، حيث تتفق الاحزاب على تجاوز سيادة حكم القانون ، واستقلال القضاء ، لتنفذ مؤامرتها على مصادرة الحرية باسم الديمقراطية .. ألم يعلن الصادق المهدي في سذاجة مؤسفة بان مشكلة الديمقراطية هي انها (تلزم القوى السياسية بان تراعي سيادة القانون واستقلال القضاء) ؟!
    وليس حقاً ان ( نقاط الضعف الموجودة في الديمقراطية كثيرة ...) كما قال الصادق ، ولكن الضعف في نفوس الزعامات الطائفية ، التي تعودت على السيادة ، ونشات وسط الخدم والحشم ، مما افقدها فرصة التربية الذاتية ، التي تعين الفرد على التواضع ، الذي يؤهله لممارسة الديمقراطية ..
    والصادق يريد الديمقراطية (التعاقدية) كوسيلة لقمع النقابات ، التي يعتقد انها من اسباب الاطاحة بالنظام الديمقراطي ، وذلك لان: (كثير من النقابات تصرفت في اثناء الديمقراطية بما لا يميز بين المطلبية المشروعة وما بين استغلال سياسي للحركة النقابية أدى الى عدم استقرار والاخوة لو يذكروا كيف آخر اضراب كان اضراب اتحاد المزارعين مع انو اتحاد المزارعين دا نحنا كنا بنعاملو معاملة مفضلة جداً .. للأسف في آخر ايام الديمقراطية كان عندهم قيادات عندها مؤثرات مايوية وكانت بتمهد لاضطرابات في البلاد عشان يحصل انقلاب يتصوروا انو مايوي ولذلك عملوا اضراب حقيقة هو سياسي) ..[6]
    هذا ما قاله الصادق ، ولكن الحقيقة هي ان الحكومة كانت قد فشلت في كل المجالات ، حتى ان الصادق نفسه ادان حكومته وقام بحلها ، وعقد تحالفات جديدة اكثر من مرة ، بعد ان فاحت رائحة الفساد المالي ، واستقال ابو حريرة من وزارة التجارة ، بسبب ضغوط حزبه عليه، ليسمح بالتلاعب في الرخص التجارية ، ولم يعزل مبارك الفاضل من الوزارة ، رغم اتهامه وتشكيل لجنة للتحقيق معه!! في هذه الظروف ، التي انشغلت فيها الاحزاب السياسية بسرقة المال العام ، تدهور الاقتصاد ، ورفعت الحكومة الاسعار ، مما ادى للمظاهرات واضراب النقابات . وكانت الحكومة تناشد النقابات الصبر والتحمل ، لأن خزينة الدولة لا تحتمل زيادة المرتبات ، بينما تصرف بسخاء على تعويضات آل المهدي !!)[7]

    (16)

    يحدثنا السيد الصادق ، عن نظم الحكم في العالم العربي ، وكيف انها اعتبرت بواسطة الامم المتحدة ، مدانة ، لانها لا تطبق الديمقراطية . وهو يرى ان هناك اربعة مقولات تدفع تلك الادانة هي (المقولة الاولى : مقولة هجومية ترى ان الديمقراطية جزء من غزو فكري وثقافي دخيل . وهي مرفوضة إسلامياً بل الدعوة اليها دعوة للخروج من الدين. هذا هو موقف حركات الغلو الاسلامي التي صار يمثل صوتها الأعلى جماعة القاعدة وطالبان ) .. والصادق المهدي يصر على الشريعة الاسلامية ، فهو حين اقترح قيام هيئة تشريعية قال عنها (على ان تستعين بهيئة الخبراء للتأكد من ان تشريعاتها لا تعارض أصلاً قطعياً من اصول الشريعة الاسلامية )!! وهو مع ذلك يرفض المقولة الهجومية هذه ويقول عنها (من حيث المبدأ فان رفض المفاهيم والنظم بحجة انها آتية من مصادر غير اسلامية موقف ينافي مبادئ الاسلام ...) ولكنه يعترف بان (معاملة الغرب للمسلمين عامة وللعرب خاصة سلسلة من إهانات أسوأ من "فرساي" لذلك فرخت غضباً هو الكامن وراء حملات الاحتجاج الواسعة النطاق) ..
    هذه الجماعات التي تزعم انها متمسكة بالشريعة ، ترى نفس رأي الصادق في سوء معاملة الغرب للمسلمين ، ولهذا رفضت ان تستعير نظمه بما فيها الديمقراطية . ثم هي نظرت للتاريخ ، فوجدت ان اليهود والنصارى كانوا اعداء للمسلمين ، ووجدت النصوص التي تحث على قتالهم ومعاداتهم . ثم هي في نفس الوقت ، لا ترى ان المسلمين في حاجة الى الديمقراطية لان عندهم الشورى ، التي قال عنها السيد الصادق (الديمقراطية تتفق مع الشورى في نقاط عديدة: منع الانفراد بالحكم ، وايجاب حقوق الانسان واحترام سيادة القانون وغيرها من المبادئ) !! والشورى تزيد على ذلك انها ذكرت في القرآن .. فبماذا يعيبهم الصادق لرفضهم للديمقراطية واستمساكهم بالشورى مع انه يتفق معهم؟؟
    وعن المقولة الثانية ، التي تدفع إدانة الامم المتحدة للدول العربية ، يقول السيد الصادق (المقولة الثانية تبريرية ترى ان الديمقراطية لا تناسبنا . وعندنا الشورى وهي افضل منها واكثر ملاءمة لاحوالنا . هذا ما تقول به اكثرية نظم الحكم في البلدان العربية) وفي رده على أصحاب هذه المقولة يقول (نعم الشورى مبدأ سياسي عظيم كالعدالة . ولكن العدالة لا تتحقق الا عبر مؤسسات القضاء المستقل . فما هي المؤسسة المماثلة للشورى؟ كل الحديث عن أهل الحل والعقد وعن استشارتهم حديث عام لذلك الذين ينادون بأفضلية الشورى يجدون متسعاً للمناداة بها دون الالتزام بضوابط معينة) !! فالصادق هنا يرفض دعوة الداعين للشورى ، بحجة ان الشورى ليست بها مؤسسات لتحقيق العدل ، مثل القضاء المستقل ، الموجود في الديمقراطية!! ولكنه في موضع آخر، من ورقته هذه العجيبة ، يقارن بين الشورى والديمقراطية فيقول (كلاهما يوجب الاعتراف بكرامة الانسان ...كلاهما يمنع الانفراد بالسلطة . كلاهما يوجب احترام استقلال القضاء وسيادة حكم القانون)!! فإن صح هذا ، فلماذا يرفض رأي المصرّين على الشورى اذا كانت تحقق ما يراد من الديمقراطية ثم انها اقرب لتراثنا ؟!
    وعن المقولة الثالثة يقول (مقولة اعتذارية ترى ان الديمقراطية غير مجدية في مجتمعات جاهلة ومسكونة بالولاءات الطائفية والقبلية فهي لا تفهم معنى الديمقراطية وتسوقها ولاءات وعصبيات موروثة . وبلداننا محتاجة لنظم مستقرة وفاعلة لتحقيق أهدافها الوطنية مثل التنمية والتحديث والعدالة والتأصيل . هذا ما تدفع به النظم الانقلابية التي تفرض وصاية يسارية "التنمية والتحديث والعدالة" أو نظم يمينية "التأصيل والتنمية" ) !! وفي رده على هذه المقولة التي سماها اعتذارية يقول (هذه الحجة استخدمتها انقلابات عسكرية استولت على السلطة وفرضت سلطتها بالقوة منفردة أو متحالفة مع تيار فكري شمولي يساري أو يميني أو قومي . هذه الاطروحة كامنة في مبررات كثير من النظم العربية ، ومن فرط ما استخدمت في السودان جعلته اشبه بحقل تجارب عرف النسخة اليسارية منها والنسخة اليمينية. إن حالة التردي التي آل اليها السودان الآن وبعد ان خضع لحكم استبدادي في 75 % من عمر حياته المستقلة تعود بلا نزاع للشمولية والايدولوجية بوجهها اليساري واليميني . أصدرت في عام 1989 كتاباً بعنوان "الديمقراطية في السودان عائدة وراجحة" إستعرضت في الكتاب أداء ثلاثة نظم ديمقراطية وعمرها القصير ، واداء ثلاثة نظم دكتاتورية وعمرها الطويل وقارنت بينهما ، وقدمت الدلائل على ان النظم الديمقراطية مع هشاشتها كانت أفضل اداء في معالجة قضايا الوطن والمجتمع من النظم الديكتاتورية . واوضحت ان النظم الديمقراطية عجزت عن الدفاع عن نفسها لالتزامها بحقوق الانسان وسيادة القانون بينما النظم الديكتاتورية استطاعت حماية نفسها مهدرة سيادة القانون وحقوق الانسان ) !!
    هذا حديث الرجل الذي رفض حكم المحكمة العليا عندما كان رئيس الحكومة ، ثم لا يتردد الآن وهو يحدث الناس عن استقلال القضاء وسيادة حكم القانون!! فهل كان في وضعه ذاك ديمقراطياً ام ان المفاضلة في التجربة السودانية هي بين الدكتاتورية العسكرية ، والدكتاتورية المدنية التي كان هو على رأسها؟! أما نحن ، فقد ذكرنا كيف ان الفساد ، والقصور في النظم التي تدعي الديمقراطية ، هو السبب المباشر في زوالها ، وان الانقلابات العسكرية لم تكن الا اثراً من آثار فساد تلك النظم التي تزعم انها ديمقراطية !!
    ولكنني لا احب ان ازايل هذا المقام ، قبل ان اقف عند عبارة السيد الصادق (النظم الديمقراطية عجزت عن الدفاع عن نفسها لالتزامها بحقوق الانسان وسيادة القانون بينما النظم الديكتاتورية استطاعت حماية نفسها مهدرة سيادة القانون وحقوق الانسان) !! فهي شديدة الدلالة على مبلغ عدم فهمه للديمقراطية ، وعدم ثقته بها ، وسعيه الحثيث للتحايل عليها وتزييفها .. فهو يرى ان الالتزام بحقوق الانسان وسيادة حكم القانون ، هو الذي ادى لزوال النظم الديمقراطية في السودان ، وهو يعني بها بالتحديد حكمه ، فكأنه يريد ان يقول لنا اننا اذا اردنا للديمقراطية ، ان تستمر ولا تفشل أبداً ،ً فعلينا ان نسمح لها ببعض التجاوز عن حقوق الانسان وسيادة حكم القانون ، حتى تستطيع الديمقراطية ان تحمي نفسها !! وهذا هو نفس رأيه ، الذي قاله قبل سنوات في ندوة واشنطن ، ورددنا عليه بما نقلناه أعلاه ..
    ولكنه بعد اسطر من هذا الحديث ، يحدثنا عن نجاح الديمقراطية في الهند واندونيسيا وماليزيا وبنغلاديش والسنغال وبنين فلماذا نجحت الديمقراطيات في جميع هذه الدول ولم تنجح في السودان؟ وكيف استطاعت هذه الدول ان تراعي حقوق الانسان وسيادة حكم القانون ، ومع ذلك لم تسقط حكوماتها ، كما سقطت حكومة الصادق المهدي ، اكثر من مرة؟!
    خلاصة الأمر ان السيد الصادق ، لم يستطع دفع المقولات التي تصورها ، واخذ يعارضها ، دون ان يفلح في نسبتها الى جهة محددة . وحتى لو كانت هذه المقولات صحيحة ، واستطاع هو ان يفندها ، ويعزز بذلك النظرية الديمقراطية ، فان هذا كله لا يعني تاييده للديمقراطية ، بل لا يعني مجرد فهمه لها ، ما دام يعتقد انها لن تحافظ على نفسها الا بمفارقة جوهرها المتمثل في حقوق الانسان وسيادة حكم القانون ، وليس هنالك دليل ابلغ من الواقع ، وهذا الواقع يقول بانه حين حكم في ما بعد اكتوبر، عدل الدستور، ليحرم حزب من ممارسة حقه الديمقراطي ، ثم بعد عشرين عاماً حكم مرة اخرى بعد مايو ، وكان يسعى الى تحكيم القوانين الاسلامية التي تعارض الديمقراطية ، وإئتلف مع الجبهة الاسلامية ، التي كانت وراء قوانين سبتمبر، التي قال عنها انها لا تساوي المداد الذي كتبت به !! ولكن الجبهة تنكرت له وانقلبت عليه ، فادعى المعارضة ، وسعى الى المصالحة ، ولا يزال يتراوح بينهما ، ثم هاهو يعقد المؤتمرات ليحدث الناس عن الديمقراطية وسيادة حكم القانون !!
    -نواصل-

    عمر القراي


    [1] - محمود محمد طه (1967) الرسالة الثانية من الاسلام . ص 172-173
    [2] - المصدر السابق .
    [3] - محمود محمد طه (1984) الديباجة ص 3
    [4] - محمود محمد طه ( 1984) الديباجة . ص 1-3
    [5] - من شريط فيديو لندوة عقدت بواشنطن يوم 25/5/1997
    [6] - المصدر السابق .
    [7] - مقال نشر بجريدة الرأي الآخر التي كانت تصدر في الةلايات المتحدة بتاريخ 15/8/1997

                  

12-07-2004, 07:24 AM

Omer Abdalla
<aOmer Abdalla
تاريخ التسجيل: 01-03-2003
مجموع المشاركات: 3083

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. عمر القراي: الصادق المهدي و"الانكفائية" ودعاوى التجديد (Re: Omer Abdalla)

    الصادق المهدي و"الانكفائية " ودعاوى التجديد
    تعقيب على ورشة عمل الانصار" نحو مرجعية اسلامية جديدة ..."

    الحلقة الخامسة

    (17)

    يعتقد السيد الصادق ، ان المشكلة يمكن ان تحل بتطوير الفقه !! وهو لما كان مغرماً بالتقسيمات ، والتعديدات ، فقد قسم المؤسسة التي ستتولى تطوير الفقه ، الى ثلاثة أقسام فقال:
    (إن الوسيلة الأفضل في ظروفنا المعاصرة لتطوير الفقه الإسلامي وجعل أحكامه مادة للقوانين هي تكوين مؤسسة مكونة من ثلاثة شعب:
    الشعبة الأولى: هيئة الموسوعة. وهي هيئة للموسوعة الإسلامية مهمتها إحصاء كل آراء المجتهدين المسلمين عبر العصور، وإحصاء وتنظيم أدلة الآراء المختلفة وبيان الآراء التي كانت محل اتفاق الجمهور وآراء الآحاد والأقليات، وجعل كل تراث الفقه الإسلامي وتفسير القرآن والأحاديث مبوبا ومرتبا، بحيث يسهل الرجوع إليها بسرعة ودون عناء.
    الشعبة الثانية: هيئة الخبراء. وهي تتكون من علماء في الشريعة الإسلامية وفقهاء ومتخصصين في القانون الوضعي وفي الاقتصاد وفي السياسة وفي الإدارة وفي العلاقات الدولية وسائر العلوم الاجتماعية وينظم هؤلاء أنفسهم داخليا بحيث يستطيعون استنباط أحكام من الكتاب والسنة واقتراح ديوان شامل :جنائي، مدني، شخصي، دولي، وحيثما لا يتفق رأيهم حول الاستنباطات المختلفة يسجلون الآراء المختلفة.
    الشعبة الثالثة: هيئة تشريعية. وهي هيئة تنوب عن الأمة نيابة صحيحة وحرة هذه الهيئة هي التي تنظر في ديوان القوانين الذي تعده هيئة الخبراء وتشرع بأغلبيتها القوانين. ولها أن تبادر ما تشاء في سن التشريعات، على أن تستعين بهيئة الخبراء للتأكد من أن تشريعاتها لا تعارض أصلا قطعيا من أصول الشريعة الإسلامية. هذه المؤسسات ذات الثلاث شعب هي المؤسسة التشريعية الإسلامية الملائمة لمبادئ الإسلام والمناسبة للعصر الحديث.)

    ان ما ينبغي على الصادق ان يواجهه ، قبل ان يحصي آراء المجتهدين ، هو ان يحدد ما هو الاجتهاد، وهل يجوز الاجتهاد في ما ورد فيه نص قطعي ؟! أما فقهاء السلف ، الذين يريد السيد الصادق ان ينشئ موسوعة تجمع كافة آرائهم ، فقد اتفقوا في انه لا يجوز الاجتهاد مع النص ، وان ماورد فيه نص من الكتاب أو السنة ، فالواجب فيه الاتباع . ولقد اعتمدوا في هذا ، على حديث النبي صلى الله عليه وسلم ، لمعاذ بن جبل حين ارسله الى اليمن. فقال : بم تقض ؟ قال: بكتاب الله . قال: فان لم تجد في كتاب الله؟ قال : فبسنة رسول الله . قال: فان لم تجد . قال: اجتهد رأي لا آلو . فاصبح واضحاً من الحديث ، انه لا يلجأ الى الاجتهاد ، الا بعد ان لا يجد الحكم في نصوص الكتاب ثم نصوص السنة .
    ولقد اضاف الفقهاء "الاجماع" ، واعتبروه مصدراً من مصادر التشريع ، بعد الكتاب والسنة ، وهو ما يسعى اليه الصادق هنا ، حين يدعو الى البحث عن اتفاق الجمهور . ثم إنهم أيضاً استحدثوا "القياس" ليوجه الاجتهاد ، لأنهم منعوا الاجتهاد في النصوص ، فلم يبق الا ان يقبل الرأي على اساس قربه من النص ، ويرفض على اساس بعده منه .. والصادق المهدي ، تبنى في كثير من تصريحاته ، وكتاباته، واحاديثه نفس راي الفقهاء ، ومن ذلك مثلاً قوله :
    (...وفي رأي ان هناك تيارا ثالثاُ يرى ان الدين جزء لا يتجزأ من الحياة ولا يمكن ان يطرد من الحياة وهو في كل جوانب الحياة ولكن مع الالتزام بالقطعيات أي قطعيات الوحي التي هي محدودة للغاية ، اما بقية المبادئ والاسس والتشريعات الاسلامية الي آخره فهي مفتوحة للاجتهاد بحيث تقبل الصياغة الاجتهادية لتلائم ظروف الزمان والمكان ، وهذا ما نسميه اتجاه الصحوة الاسلامية ...)[1] !!
    أول ما تجدر الاشارة اليه ، هو ان القفزة التي حدثت للبشرية بعد الحرب العالمية الثانية ، جعلت مجتمع ما قبل الحرب ، يختلف تماما عن مجتمع ما بعد الحرب ، دع عنك مجتمع القرن السابع الميلادي .. ولعل أهم نتائج هذا الاختلاف ، فيما نحن بصدده ، ان سقط "القياس" تماماً ، فلا يمكن ان تقاس مشاكل المجتمع الكوكبي الحاضر، بمشاكل المجتمع البشري في القرن السابع !! أما "الإجماع" فانه يعتمد على مبلغ علم المجمعين ، بما أجمعوا عليه حيث الكثرة لا تعني بالضرورة ان اصحابها على الحق .. فقد اجمع الفقهاء - كما ذكرنا - على انه لا يجوز الاجتهاد فيما ورد فيه نص من الكتاب او السنة ، ولما كان "الاجماع" مصدر من مصادر التشريع ، فقد اعتبر هذا الرأي الذي يحد من الاجتهاد ، من ضمن الشريعة ، واصبح المخالف له وكأنه قد عارض الشريعة ، هذا مع ان القول بانه لا يجوز الاجتهاد مع النص ، نفسه ، ليس بنص وما كان ينبغي ان يفلت من النقد والتمحيص ..
    إن الخطأ في اجماع الفقهاء هذا ، انما يجئ من عدة وجوه ، أظهرها ان ما لم ينزل الله فيه نصاً ، لا قيمة له عنده ، فلو كان مهماً لأنزل الله فيه نصاً صريحاً ، فلماذا نجتهد في امور لا أهمية لها عند الله ؟؟ إن اجتهاد الفقهاء في اشياء كثيرة ، لم ترد فيها النصوص جعلهم ينشغلون بما هو دون الأولى ، حتى ساقهم ذلك الى الشطط في ابتكار المعضلات ، واصدار الفتاوي لها ، فأفتوا في "بيع الطير في السماء" !! و "بيع السمك في البركة العميقة"[2]!! فأخرجوا الفقه عن جادة الدين ..
    ومما يخطئ رأي الفقهاء ، في عدم الاجتهاد فيما ورد فيه نص أيضا ً ، ظنهم بان الآيات ، تحوي معنى واحداً هو ما يعطيه التفسير ، فان لم يجدوا فيه حكماً لما يريدون، اجتهدوا فيما ليس فيه نص .. والحق ان معاني الآيات لا تسنفد .. قال تعالى في ذلك (ولو ان ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله)!! ومعلوم ان المقصود ليس الكلمات الحسية ، لان المصحف كله ، يمكن ان يكتب بدواة واحدة ، ولكن المقصود هو المعاني اللامتناهية التي تحويها هذه الآيات ، وهذا ما عناه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال (إن هذا القرآن لا تنقضي عجائبه ولا يخلق على كثرة الرد ولايشبع منه العلماء ...)!! فالذي يعلم ان معاني القرآن لا تتناهى ، لا يطلب شئ من خارجه ، فاذا كان كل شئ موجود في القرآن ، فان الاجتهاد الحقيقي هو استنباط المعاني الجديدة ، من نفس الآيات القديمة ، وهذا يحتاج الى علم ، ولذلك قال تعالى (يعلمه الذين يستنبطونه منهم) ، والعلم المطلوب هنا ليس علم الفقه أو التخصص ، وانما هو العلم الذي يجئ ثمرة للتقوى ، على قاعدة (واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شئ عليم) ..

    (18)

    فاذا وضح ذلك ، فان الاجتهاد يجب ان يكون فيما فيه نص ، وذلك بمعرفة الحكمة وراء النص ، فاذا خدم النص غرضه ، حتى استنفده ، يتم الانتقال منه الى نص ، أقرب لروح الدين وكرامة الانسان ، من النص الذي كان محكماً. وهذا هو الاجتهاد الديني ، لأنه لا يترك النص الديني لمجرد الرأي ، كما يفعل الفقهاء حين يزعمون ان المسالة لا توجد في النص ، وانما ينتقل من نص الى نص، يدعمه الفهم العميق للنص ولروح الدين..
    ورغم ان السيد الصادق ، لم يقل في كل ورقته ، انه يختلف جوهرياً ، مع علماء السلف أو الفقهاء الحاضرين ، ورغم انه في طرحه جميعه ، يتفق معهم في اعتقادهم الخاطئ بان الاجتهاد لا يجوز فيما ورد فيه نص ، الا انه يوحي هنا بانه يختلف مع الفقه الموجود ، ويريد للهيئة التي اقترحها ان تستنبط احكاماً جديدة، لم يضعها السلف ، فهو يقول:
    ( هيئة الخبراء. وهي تتكون من علماء في الشريعة الإسلامية وفقهاء ومتخصصين في القانون الوضعي وفي الاقتصاد وفي السياسة وفي الإدارة وفي العلاقات الدولية وسائر العلوم الاجتماعية وينظم هؤلاء أنفسهم داخليا بحيث يستطيعون استنباط أحكام من الكتاب والسنة) !!
    ولو كان الصادق جاداً فيما ذكر، لحدد اولاً المسائل التي تحتاج الى استنباط احكام جديدة ، ثم دعا من العلماء من يتفق معه حول هذا الاجتهاد ، ومن يملك رأياً جديداً ليساهم به ، بدلاً من تحديد التخصصات بغض النظر عن أفكار اصحابها!! ثم ماذا يحدث اذا اختلف اصحاب التخصصات فيما يستنبطون من احكام ؟؟ لندع الصادق يحدثنا فيقول (وحيثما لا يتفق رأيهم حول الاستنباطات المختلفة يسجلون الآراء المختلفة) ولم يخبرنا ما الفائدة من هذا التسجيل ، وهل سيحسم الامر بالتصويت ؟؟ أم ان خلافاتهم تنقل للهيئة التشريعية ، لتقبل ما تشاء او ترفض ما تشاء منها ؟؟ ولعل الصادق اميل الى ان لجنة العلماء ترفع خلافاتها الى الهيئة التشريعية ، لتفصل فيها ، ولهذا يقول (الشعبة الثالثة: هيئة تشريعية. وهي هيئة تنوب عن الأمة نيابة صحيحة وحرة هذه الهيئة هي التي تنظر في ديوان القوانين الذي تعده هيئة الخبراء وتشرع بأغلبيتها القوانين. ولها أن تبادر ما تشاء في سن التشريعات)!! فاذا علمنا ان هذه الهيئة ، التي تنوب عن الامة جميعها تأتي بالانتخاب الحر ، فان اعضاءها، وهم من عامة الشعب ، سيكونون اقل دراية ، بأمور الدين من العلماء ، واقل معرفة في الامور الاخرى ، من المتخصصين الذين اشار اليهم ، في ما اسماه هيئة الخبراء ، فكيف يحكمون بينهم إذا اختلفوا ؟؟ أم ان رأي الاغلبية عند الصادق ، مقدم على المعرفة بالدين حتى في القضايا الخلافية الدينية ؟؟
    يقول الصادق عن هذه الهيئات التي اقترحها وشرح كيفية عملها (نتيجة لمجهود واجتهاد المؤسسة التشريعية المقترحة أعلاه سوف ينمو الفقه في أحضان الشريعة وفي ظروف العصر الحديث، وسوف تتكون قوانين شرعية وعصرية) !! ولقد اوضحنا مراراً بان القوانين الشرعية ، لا يمكن ان تكون عصرية ، ومن اجل ذلك جاءت الدعوة الى تطوير الشريعة ، حتى تعبر عن روح الدين وحاجة العصر .. ولكن السيد الصادق لا يوافق على هذا بل يسخر منه ، ثم هو يظن انه يمكن ان يجمع بين العصر والشريعة . على انه هنا يحدثنا- وقد نسي ما قال من قبل- بان نظام الحكم في عهد النبوة ، قد جمع السلطات كلها ، في يد النبي صلى الله عليه وسلم ، فهويقول (وفي عهد النبوة قامت عوامل روحية وخلقية بكفالة العدالة رغم توحيد السلطات في يد واحدة. وفي العهود اللاحقة ضاعت الشورى وأدى توحيد السلطات في يد الحاكم إلى فساد السياسة وضياع العدالة) . ومعلوم ان النبي صلى الله عليه وسلم قد طبق الشريعة ، قال تعالى (ثم جعلناك على شريعة من الامر فاتبعها) فاذا كان النبي قد جمع كل السلطات في يده ، فان ذلك هو حكم الشريعة ، وعليه اعتمد من جاء بعده ، ومع انهم كانوا اقل ببعيد من قامة النبي الكريم ، الا ان ابابكر وعمر قد حققا قدراً كبيراً ، من العدل والاصلاح ، وذلك قد كان ممكناً بالاضافة الى كفاءتهما الروحية والخلقية ، بسبب مناسبة الشريعة لذلك الوقت .. ولكن اليوم ، فان جمع حاكم فرد لكل السلطات في يده ، فان هذا لا يتفق مع روح العصر ، ولقد اوضح الصادق المهدي ، نفسه ، ذلك ، حين قال (وأدى توحيد السلطات في يد الحاكم الى فساد السياسة وضياع العدالة)!! فاذا كان جمع السلطات في يد شخص واحد يضيع العدالة و(إن الله يأمر بالعدل ...) ، فان هذا العمل يخالف الدين ، بالاضافة الى افساده السياسة ، ومن هنا ، قلنا بعدم امكانية التوفيق بين الشريعة والعصر ، واتهمنا من يحاول هذا التوفيق بالجهل بالدين ، وعدم الوعي الكافي ، بحاجة وطاقة العصر، ومن هؤلاء بكل اسف زعيم حزب الامة ، وامام الانصار السيد الصادق !!

    (19)

    لقد تحدثنا ، في الحلقة الماضية ، عن موقف السيد الصادق العملي من استقلال القضاء ، مما يغني عن التكرار هنا ، ولكنه يحدثنا عن فهمه لموضوع استقلال القضاء ، فيقول:
    (لا سبيل لكفالة العدالة التي يوجبها الإسلام إلا إذا تحققت الأسس الآتية: 1- استقلال القضاء: أن يكون القضاء مستقلا بحيث يطبق القانون بنزاهة تامة دون رغبة أو رهبة. 2- حياد القضاء: الشرط المكمل لاستقلال القضاء هو حياده، لأنه إذا لم يكن محايدا حيادا تاما صار استقلاله باب مفسدة كبيرة تسخر الاستقلال ضد العدالة)..
    فاستقلال القضاء ، يعني عند الصادق، ان يطبق القانون بنزاهة دون رغبة أو رهبة ، وهذا امر طيب ، ولكنه لا يتحقق الا اذا كان القضاء ، مؤسسة مستقلة عن السلطة التنفيذية ، والسلطة التشريعية. وهذا يعني ، فيما يعني ، الا يجمع الحاكم بين كل هذه السلطات في يده ، لان هذا الجمع يهزم إدعاء استقلال القضاء تماما!! ولما كان حكم الشريعة ، يقضي بجمع السلطات في يد الحاكم ، كما ذكرنا السيد الصادق بان النبي صلى الله عليه وسلم جمع السلطات في يده ، فان الشريعة إذن، لا تقوم على استقلال القضاء!! ولا يحتاج السيد الصادق ان يذكر في تعريفه لاستقلال القضاء ، بعد ان ذكر النزاهة (التامة دون رغبة او رهبة) ما أورد في الفقرة 2 من أمرالحياد لان النزاهة التامة ، تحوي الحياد ، والانحراف عن الحياد لا يحدث الا بسبب الرغبة أو الرهبة .. يقول السيد الصادق:
    (تقاليد القضاء الإسلامي تترك القاضي لتقديراته، وتقاليد القضاء الوضعي تحد صلاحيات القاضي بتضييق خياراته فيما ينزل من عقاب واليوم مع كثرة التقاضي واتساع مهام القضاء ينبغي تقنين الأحكام تقنينا مفصلا في مراجع قانونية يستند إليها القضاة، على أن يراعى في التقنين تقليد القضاء الإسلامي) ..
    ان الواقع الجديد ، الذي كثر فيه التقاضي ، وتوسعت فيه مهام القضاء ، هو الذي دعى السيد الصادق للموافقة على تقاليد القضاء الوضعي ، التي لا تترك الامر للقاضي ، بل تحد من خياراته ، بما توفر من تقنين ، ورصد للسوابق ، يعين القاضي على القرار السليم .. وبعد ان ذكر الصادق كل هذا ، وشعر بانه سوف يتهم من جمهوره بان انحاز للنظام الوضعي ، بدلاً عن النظام الاسلامي قال (على ان يراعى في التقنين تقاليد القضاء الاسلامي) هذا مع انه اخبرنا بان (تقاليد القضاء الاسلامي تترك القاضي لتقديراته) وهو ما من اجله فضل الصادق النظام الوضعي!!
    ان السبب في اختلاف تقاليد القضاء الوضعي ، والقضاء في الشريعة ، هو اختلاف الفلسفة التي ينطلق منها كل منهما .. ففي حين يعتمد القضاء الوضعي على الديمقراطية ، ويسعى لذلك للحد من سلطة القاضي الفرد ، بتوسيع التقنين ، ورصد السوابق ، أو بنظام المحلفين وسلطة الاستئناف ، فان القضاء في الشريعة يقوم على الوصاية ، فالخليفة وصي على الأمة ، في كل أمورها ، والقاضي وصي على المتخاصمين ، وله السلطة المطلقة في تقرير مصائرهم ، ولهذا لا يحد سلطانه ولا يراجع حكمه .. يقول الصادق
    (إن نظام القضاء الإسلامي يقوم غالبا على انفراد القاضي بقراره فلا يشاركه فيه أحد ولا يرفع الحكم لمحاكم أعلى استئنافا وذلك لأن ضمانات العدالة في البينات كانت دقيقة جدا وواضحة والقاضي يعتبر نفسه محاسبا أمام الله فيستحضر محكمة أعلى روحية ويجهد نفسه في تحقيق العدل)..
    ورغم ان نظام البينات دقيق في القوانين الاسلامية ، فان ذلك لم يكن السبب في عدم الاستئناف ، ولا كون القاضي يعتبر نفسه محاسباً أمام الله ، لان هذا اعتبار، اخلاقي ، فردي ، لا تقوم القوانين عليه . ان السبب هو روح الوصاية ، التي تفترض قصور المواطنين ولو لم يكونوا متهمين فما بالك بالمتهمين؟! .. يقول السيد الصادق
    ( ينبغي أن تتوافر في الذين يختارون للقضاء –على الأقل –الصفات الآتية: التقوى، والاستقامة، والعلم بالقوانين، والوعي بأحوال الناس النفسية والاجتماعية، وحسن التصرف الذي يوحي بالثقة فيه.)!!
    فان كانت هذه الصفات على الاقل فما هو الأكثر ؟ والتقوى لو تحققت ، تكفي وتغني ، عن كل الصفات التي ذكرها السيد الصادق ، فالشخص التقي لو لم يكن عالماً بالقوانين ، لرفض منصب القضاء ، حين يعرض عليه .. ولقد شهدنا في تجربة شريعة نميري قضاة غير مؤهلين قبلوا منصب القضاء وتسلطوا به على رقاب المواطنين ، وكان الخلل والفساد في قوانينهم وفي أشخاصهم ، وحين قامت الانتفاضة لتحطم هذا الفساد ، وعد السيد الصادق جماهير الشعب السوداني بالغاء قوانين سبتمبر وقال انها لا تساوي المداد الذي كتبت به ، ولكن حين انتخب لم يلغها ، اكثر من ذلك !! تحالف مع واضعيها وسعى في ان يأتي بها من جديد باسم القوانين الاسلامية البديلة ..

    (20)

    لقد تحدث السيد الصادق عن القضاء الواقف ، واشاد بدور المحاماة ، في دعم مؤسسة القضاء ، ولكنه اعتبر ذلك دوراً نظرياً ، واتهم المحاماة ، بانها اصبحت عملاً تجارياً ، يؤدي الى عرقلة العدالة ، ومع انه يقر بان المحاماة مؤسسة جديدة ، نبعت من النظام الوضعي ، الا انه يقول
    ( لقد عرف تاريخ الفقه الإسلامي نظائر لدور المحاماة:
    أ- فاختلاف الآراء الفقهية نفسه يلعب دورا في تبرئة المتهمين كما لعب دورا في تطوير الفقه ولذلك قال الناس: اختلاف الأئمة رحمة.
    ب-كان القضاة كما ذكرنا يستشيرون غيرهم من الفقهاء وطبعا كان المتهمون يلتمسون مشورة العارفين بالمسائل الفقهية وهذان الإجراءان يساعدان في توضيح مسائل قانونية للقضاة وفي تبصرة المتهمين بحقوقهم القانونية.
    ج-ويجيز كثير من الفقهاء ما يسمى بالحيل الشرعية وهي تصرفات فيها التزام بشكل الأحكام لا بروحها وقد برع فيها فقهاء الحنفية لأنهم كما ذكرنا يميلون إلى الجانب القانوني من الشريعة )
    .
    فهل اختلاف الفقهاء نظير لدور المحاماة؟ فماذا لو أخذ القاضي برأي الفقيه المتشدد ، ولم يأخذ برأي الفقيه المتساهل ، فتضرر المتهم من اختلاف الفقهاء ، بدلاً من ان يستفيد منه؟ وهذا ايضاً ينطبق على مشاورة القاضي للفقهاء ، فقد يشيرون عليه ، بما هو اشد مما كان سيحكم به ، لو لم يشاورهم .. ثم ان شورتهم في النهاية ، ليست ملزمة ، حتى تعتبر مثل وجود المحامي كما اعتقد الصادق المهدي .
    ثم ما هذه الحيل ، التي يشيد بها السيد الصادق ، ويضعها نظيراً للمحاماة ؟ هي الالتزام بشكل الاحكام دون روحها!! وهل هذا عمل ديني ، حتى يحدثنا عنه السيد الصادق ، ويصفه بانه شرعي؟! مثل هؤلاء الفقهاء الذين اصبحوا وعاظاً للسلاطين ، يذكرونهم بما يحبون ، ويفصلون لهم الفتاوي على قدر مفارقاتهم ، ويفرطون في روح الاحكام ، ويتعلقون بشكلها، هم الذين اشاد بهم الصادق في قوله
    (إن المتصفح لأعمال فقهاء السلف لا يسعه إلا أن يقول معنا "هؤلاء الرجال الأتقياء النيرة بصائرهم ، النافذة عقولهم ، تصدوا للنصوص الإسلامية الثابتة وعرفوا دور العقل ، والمصلحة ، واستوعبوا النافع من ثقافات عصورهم ، وأحاطـوا بظروف مجتمعاتهم ، واستخدموا وسائل نافذة ذكية فاستنبطوا أحكاماً دقيقة المعاني عادلة ونافعة فأرضوا ربهم وأورثونا ثروة غنية") ..
    بهذا اختم حديثي عن موضوع القضاء ، على ان اتعرض لراي السيد الصادق في الاقتصاد في الحلقة القادمة .

    عمر القراي

    -نواصل-

    [1]- جريدة البيان الاربعاء 15 شعبان 1422 الموافق 31 اكتوبر 2001
    [2]- راجع باب البيوع في الفقه على المذاهب الاربعة لعبد الرحمن الجزيري.
                  

12-08-2004, 07:09 PM

Fadel Alhillo
<aFadel Alhillo
تاريخ التسجيل: 12-04-2004
مجموع المشاركات: 357

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. عمر القراي: الصادق المهدي و"الانكفائية" ودعاوى التجديد (Re: Omer Abdalla)

    لى فوق (بدون تعليق).
                  

12-08-2004, 11:25 PM

عبداللطيف خليل محمد على
<aعبداللطيف خليل محمد على
تاريخ التسجيل: 09-01-2004
مجموع المشاركات: 3552

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. عمر القراي: الصادق المهدي و"الانكفائية" ودعاوى التجديد (Re: Fadel Alhillo)

    فوق يا قراي .. فوق ..
                  

12-13-2004, 05:41 AM

Omer Abdalla
<aOmer Abdalla
تاريخ التسجيل: 01-03-2003
مجموع المشاركات: 3083

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. عمر القراي: الصادق المهدي و"الانكفائية" ودعاوى التجديد (Re: Omer Abdalla)

    الأعزاء فاضل وعبد اللطيف
    شكرا على المتابعة وعلى رفع الخيط
    سأنزل الحلقة السادسة من نقد الدكتور عمر القراي بعد قليل
    عمر
                  

12-13-2004, 05:44 AM

Omer Abdalla
<aOmer Abdalla
تاريخ التسجيل: 01-03-2003
مجموع المشاركات: 3083

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. عمر القراي: الصادق المهدي و"الانكفائية" ودعاوى التجديد (Re: Omer Abdalla)

    الصادق المهدي و"الانكفائية " ودعاوى التجديد
    تعقيب على ورشة عمل الانصار "نحو مرجعية اسلامية جديدة ..."

    الحلقة السادسة
    (21)


    بدأ السيد الصادق المهدي ، حديثه عن الاقتصاد بقوله (المشكلة الاقتصادية واحدة ، إنها تتعلق بندرة السلع والخدمات وسعة حاجة الناس لهما. الإنتاج الذي تشترك فيه عوامل عديدة: الخامات ، ورؤوس الأموال ، والأيدي العاملة يسعى لإنتاج السلع والخدمات لكي تلبي حاجة الناس . عملية الإنتاج تواجه مشكلتين ، الأولى: اختيار الاستخدامات البديلة للموارد ، والثانية: توزيع عائد الإنتاج بين العوامل المساهمة فيه) .
    إن هذا التعريف ، المنقول بلا تصرف ، من كتب الاقتصاد الغربي الكلاسيكي ، هو تعريف الرأسمالية للمشكلة . وهو تعريف زائف ، ومضلل ، ومع ذلك لم يملك السيد الصادق غيره!! ووجه التضليل في هذا التعريف ، انه يريد ان يشغل الناس بالمنافسة ، عن حقيقة المشكلة ، ثم يبرر غنى الغني وفقر الفقير . فمادامت السلع والخدمات نادرة ، ومحدودة ، وحاجة الناس غير محدودة ، فليس امام الفرد الا ان ينافس بكل السبل ، والذكي هو الذي يكسب ، ويثرى ، والغبي او الكسول ، هو الذي يصبح فقيراً ، ولا يستفيد من فرص المنافسة .
    اما حقيقة المشكلة الاقتصادية ، فهي سوء توزيع الثروة . فلو ان ماتنتجه البشرية من الخدمات والسلع ، وزع على افرادها بعدالة لما بقى في الأرض فقير ولا محتاج . والرأسمالية لا تملك ان تدعو لعدالة التوزيع ، لان هدفها من الانتاج زيادة الربح ، ولهذا جاءت الدعوة الى عدالة التوزيع ، من الفكر الاشتراكي بكافة مدارسه ، وفي طليعتها الماركسية . ولقد أهمل السيد الصادق الاشتراكية ، تماماً ، في ورقته هذه ، ولعل ذلك بسبب عجزه عن الدفاع عنها ضمن اطروحته الاسلامية ، بالاضافة الى ظنه بان الاشتراكية ، قد فشلت وانهارت بانهيار الاتحاد السوفيتي ، وهو وهم قد وقع فيه كثير من الكتاب والمفكرين ، بسبب عدم التمييز بين الاشتراكية والماركسية ، ومن هؤلاء بكل اسف كثير ممن من كانوا ينتسبون الى اليسار .
    ان الماركسية مدرسة في الاشتراكية ، لها حسناتها وعليها سيئاتها ، فمن حسناتها الدراسة الاقتصادية الدقيقة ، والتحليل السليم للتطور الاقتصادي ، وربطها للاقتصاد بالسياسة .. ومن سيئاتها الفلسفة المادية ، التي قطعت صلة الانسان بالغيب ، فقضت على الحافز المعنوي البديل لسعر الفائدة . ومن سيئاتها الدكتاتورية ، التي ركزت السلطة في يد الحزب ، ثم اللجنة المركزية ، ثم سكرتيرها ، حتى اعادت قيصراً جديداً ابشع من سلفه ، اعطى الخبز وسلب الحرية ، ثم لما زادت المعارضة الصامتة ، التي تمثلت في انخفاض الانتاج ، لم يفلح الدكتاتور حتى في توفير الخبز ، فانهار النظام الذي كان منخوراً من الداخل ومتماسكاً من الخارج ..
    والانتاج في ظل النظام الرأسمالي ، الذي يتبناه الصادق ، لا يسعى لكي يلبي حاجات الناس كما ذكر ، وانما يسعى لكي يحقق اكبر الارباح ، ولو على حساب حاجات الناس . واما النظام الذي يوجه الانتاج ، لتلبية حاجات الناس ، فهو النظام الاشتراكي . ولهذا حرم ملكية وسائل ومصادر الانتاج ، على الفرد والافراد القلائل ، في صورة شركة أوشراكة و ألغي سعر الفائدة ، الذي ينمي رؤوس أموال الافراد ، على حساب مصلحة الغالبية الكادحة ، التي يستغلها الرأسمالي ليزيد من ارباحه .
    ولما كانت الاشتراكية فكرة انسانية ، في المقام الاول ، فقد دعا لها الاسلام في اصوله ، وان تخلفت عنها شريعته . ففي اصل الدين ، والذي قام عليه عمل النبي ، صلى الله عليه وسلم ، فان الاصل ، في الانفاق هو العفو ، قال تعالى: (ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو) . ولقد فسره النبي الكريم ، بانه ما زاد عن الحاجة الحاضرة ، وهذا يعني ان ما زاد عن استهلاك الفرد ، لا حق له فيه ، وانما يجب ان يذهب مباشرة الى المحتاج. ولقد عاش النبي الكريم ،عليه افضل الصلاة واتم التسليم ، هذا المستوى الرفيع في قمته . فقد روي انه رفع يديه مرة ، يؤم اصحابه في الصلاة ، ثم لم يهو بهما ، بل هرع الى حجرة عائشة ، رضي الله عنها ، ثم رجع . فرأى الحيرة على وجوه اصحابه ، فقال: لعلكم راعكم ما فعلت؟ قالوا: بلى يا رسول الله . قال: فاني تذكرت ان في بيت آل محمد درهماً ، فخشيت ان ألقى الله وانا كانز!! ولقد اوصى النبي اصحابه ، بهذا المستوى فقال (من كان عنده فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له ، ومن كان عنده فضل زاد فليعد به على من لا زاد له) قال راوي الحديث: (فذكر رسول الله من انواع المال ما ذكر حتى راينا انه لا حق لأحد في فضل)!! (لا حق لاحد في فضل) تعني بلغة العصر، انه ليس لاي شخص حق ، في فائض انتاجه ، لانه من حق المحتاج في تلك اللحظة . وحين سار الاصحاب ، في اول العهد ، على هذا النهج ، لفترة قصيرة ، أمتدحهم الله ، في قوله تعالى (ويؤثرون على انفسهم ولو كان بهم خصاصة) .. وامتدحهم النبي بقوله (كان الاشعريون اذا املقوا ، او كانوا على سفر ، فرشوا ما عندهم على ثوب ، واقتسموه بالسوية ، اولئك قوم هم مني ، وانا منهم)!! وقال عن عموم الملكية لمصادر الانتاج البدائية (الناس شركاء في الماء والكلأ والنار) .. ويمكن ان تعتبر هذه المعاني الواردة في الكتاب ، والسنة ، دستوراً يشرع منه ، في تخطيط نظام اقتصادي حديث ، يقوم على الاشتراكية ، وبذلك نكون ادخل في الدين ، واقرب لحياة النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم اننا نكون بذلك اكثر تعبيراً عن حاجة عصرنا ..
    وحين عجز الاصحاب ، رضوان الله عليهم ، ان يعيشوا على مستوى العفو في الانفاق ، تنزل الله لهم بمحض فضله الى الصدقة ، فجاءت ناسخة للعفو في الشريعة .. قال تعالى (خذ من اموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم ان صلاتك سكن لهم) .. وبهذا جاءت الزكاة ذات المقادير، وجعلت فرض في شريعة الامة ، واعتبرت في حقنا الركن التعبدي الوارد في أركان الاسلام الخمس ، وظل النبي صلى الله عليه وسلم في سنته على العفو ، واصبح العفو هو زكاته ، وهو الركن التعبدي في الاصل .. ولم يكن من الممكن ان ينظم مجتمع الاصحاب ، على نظام اقتصادي يقوم على الاشتراكية ، لأن ظهور الاشتراكية كمرحلة من مراحل التطور الاقتصادي للمجتمع ، لا بد ان تعقب الرأسمالية المزدهرة، والراسمالية نفسها ثمرة من ثمرات الآلة ، ودخولها في عملية الانتاج ، فلا تتوقع نجاحها في المجتمع الرعوي الذي كان سائداً عند ظهور الاسلام .
    يقول السيد الصادق: (عملية الإنتاج تواجه مشكلتين ، الأولى: اختيار الاستخدامات البديلة للموارد ، والثانية: توزيع عائد الإنتاج بين العوامل المساهمة فيه) .. وليس حقاً ان مشكلة الانتاج الاساسية ، هي اختيار استخدامات بديلة للموارد ، أو توزيع العائد على عوامل الانتاج . وانما مشكلة الانتاج الاساسية ، هي عدالة توزيعه على عموم الشعب بما في ذلك العجزة والعاجزين . ثم بعد ذلك تأتي مسألة زيادة الانتاج من مصادر الانتاج . وكما يمكن زيادة الانتاج ، باستخدامات بديلة للموارد ، يمكن ان زيادته ، وبقدر اكبر ، بتطوير التكنولوجيا المشاركة فيه ، ورفع الكفاءة الانتاجية . ولقد تمثل الملكية الجماعية لوسائل ومصادر الانتاج ، اكبر حافز لزيادة الانتاج ، لأن الشغيلة التي كانت تبيع عرقها للرأسمالي ، تصبح في ظل الملكية الجماعية مالكة لمصيرها ، بملكيتها لوسائل الانتاج ، ومن هنا ، كانت الاشتراكية ، كنظام ، اكفأ من الراسمالية ، حتى من ناحية الانتاج.

    (22)

    يتحدث الصادق المهدي ، عن المبادئ الاسلامية ، ذات المحتوى الاقتصادي ، فيذكر منها التعمير ، ثم يقول (الثاني: الملكية ، وهي من ناحية الأصل لله أي أنه مالك كل شيء في الوجود والثروة ملك له، ولكن هذا الأساس لا يترتب عليه معنىً دينياً (ثيوقراطيا)ً لأن الإنسان ـ كل بني الإنسان ـ مستخلف على هذه الثروة ومسلط عليها وهي مسخرة له . ولا يجوز لأحد بموجب ملته أو نفوذه أو لمؤسسة أن تدعي النيابة عن الله . الملكية الاستخلافية هذه عامة ومشاعة ويمكن أن تصبح فردية عن طريق: الكسب ، والعقود الناقلة للملكية ، والوراثة . هذه هي وسائل الملكية الفردية ، ولكن تحقيقها عن طريق الغش ، أو القمار ، أو الربا ، أو الاحتكار ، أو الغرر يجعلها ملكية باطلة) .
    وكون عين الاشياء ، مملوكة في الاصل لله تعالى ، فتلك حقيقة هامة ، تنبني عليها اعتبارات دينية ، واقتصادية ضرورية لتطور الافراد الروحي ، ثم لاقامة الدولة على اساس العدل . واول هذه الاعتبارات ، هو تحقيق العدل باعطاء كل ذي حق حقه . فاذا علمنا ان الاشياء ملك لله ، وان الخلق عيال الله كما ورد في الحديث ، اقتضى العدل ان نعطي المال لمن يستحقه . ثم حتى نعين الافراد على هذا المستوى ، لا بد من تحريم الملكية الفردية لمصادر ووسائل الانتاج ، اذ يحرم على الفرد بالقانون ، ان يمتلك ما يمكنه من استغلال شخص آخر ، ولا يجوز له الا ملكية الاشياء الضرورية لحياته ، والتي لا يحتاج الى غيره لتشغيلها ، او ادارتها .. وحتى هذه فان ملكيته لها ملكية ارتفاق ، وليس ملكية عين ، اذ يجب ان يرتفق بها غيره ، متى ما كان اكثر حاجة لها . أما المزارع والمصانع وغيرها ، مما لا يمكن لفرد ان يديرها بنفسه ، فهي تملك للمجموعة في صورة جمعيات تعاونية ، يكون الافراد العاملين ، شركاء واصحاب اسهم فيها . وحين ذكرنا الله تبارك وتعالى ، بحقيقة ان الاشياء ليست ملكنا ، انما اراد لنا ان نتعامل في هذا المستوى من المعرفة .. قال تعالى (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم)!! وحين عجزنا ، في الماضي عن هذا المستوى ، تنزل لنا الى مستوى الزكاة ذات المقادير ، فقال (خذ من اموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) فسمى المال مالنا نحن ، مجاراة لوهمنا وعجزنا ، عن المستوى الرفيع من الدين!!
    فمبدأ ان الملكية لعين الاشياء لله ، وهي بالنسبة لنا ملكية ارتفاق والمحتاج لها اكثر هو الاولى بها ، هو المعنى الاقتصادي الدستوري ، الذي على اساسه تقوم الاشتراكية كنظام للدولة الحديثة . وفي ظل الاشتراكية تمنع الممارسات التي تؤدي الى تجميع الثروة في يد القلة ، ويمنع كل ما يؤدي للاستغلال ، فلا يقوم نظام الوراثة ، ولا تقوم الزكاة ذات المقادير ، كما سافصل لاحقاً.
    يقول الصادق المهدي (إلى جانب هذه المبادئ العامة ذات المحتوى الاقتصادي توجد أحكام محددة أهمها: ‌أ- تحريم الربا ‌ب- تحريم وسائل الكسب الزائفة مثل الغرر ، والقمار ، والاحتكار. ‌ج- إيجاب الزكاة على المسلمين . ‌د- إيجاب الجزية على غير المسلمين . ‌ه- بناء مالية الدولة على الزكاة، والجزية ، والعشور والخراج . وهي موارد دورية، وإيرادات غير دورية هي: خمس الغنائم ، والفيء ، والتركة بلا وارث ، والمال الذي لا يعرف له مستحق)
    وبعد عدة اسطر يقول (الاختلاف بين ظروف الماضي والعصر الحديث أذكر من ذلك الاختلاف الآتي: أولاً: طبيعة الأموال كانت مباشرة من أنعام وزروع وصناعات وأعراض تجارة . وملكيتها كذلك كانت مباشرة . اليوم نشأت واتسعت الشركات المحدودة المسئولية وشركات المساهمة العامة والملكية فيها غير مباشرة لأسهم قيمتها في حركةٍ مستمرة تحددها بورصة الأسهم حسب أداء الشركات المعنية ربحاً وخسارة . ثانياً: مالية الدولة كانت تقوم على الزكاة، والجزية ، والخراج ، والكفارات ، وهي مصادر تتوقف على اختلاف ملة دافعيها . اليوم تقوم مالية الدولة على أساس ضرائب على دافعيها كمواطنين دون اعتبار لاعتقادهم الديني . نعم وجوب دفع الزكاة قائم ولكن هنالك اختلاف واسع بين الأمس واليوم حول الزكاة كما سوف نبين لاحقاً . ثالثاً: نظام الفيء والغنائم يقوم على افتراض الحرب حالة مستمرة. واليوم عبر المواثيق الدولية ومنظمة الأمم المتحدة الافتراض هو أن يكون السلام حالة دائمة . رابعاً: كانت المعاملات المالية بين المقرض والمقترض تقوم على علاقة مباشرة بحيث يفرض المقرض على المقترض شروطه الربوية ، اليوم هذا النوع من المعاملات يتم عبر مؤسسات ائتمان محددة يحكمها القانون الذي يحكم النظام المصرفي. والنظام المصرفي وسيلة لتنظيم الائتمان وللتحكم في حجم الادخار، وفي حجم كمية النقود المتداولة، وهذه الوظائف غير مسبوقة في الماضي . خامساً: كانت النقود معدنية مصكوكة بالذهب والفضة وثابتة القيمة مع الزمن ، أما اليوم فالنقود صارت عملة ورقية متحركة القيمة من ساعةٍ لساعة حسب أسعار تبادل العملات في الأسواق المالية . هذا بدوره يجعل أي قرض اليوم شيئاً مختلف القيمة عنه غداً أو بعد غد ، هذا يعنى أن قيمة المبلغ المقترض اليوم مختلفة تماماً عن قيمة نفس المبلغ بعد شهر أو سنة . هذه ظاهرةٌ جديدة . سادساً: إذا استعرضنا الأحكام المحددة المحرمة كالربا ، والواجبة كالزكاة لوجدنا أن الاختلاف الشامل في ظروف اليوم والأمس يقتضيان اجتهاداً جديداً يطبقها على ضوء مقاصد الشريعة لا على أساس الصيغة القديمة لأن تطبيقها على أساس تلك الصيغة يأتي بنتائج عكسية ويهزم مقاصد الشريعة).
    فاذا كان الاختلاف بين الماضي والحاضر ، يلغي اشياء كثيرة ليس لها وجود اليوم ، فلماذا ذكرها السيد الصادق وهو يعدد الاحكام الدينية ذات المحتوى الاقتصادي؟! وحين تحدث عن الزكاة ذكر ان الاختلاف بين الماضي والحاضر (يقتضيان اجتهاداً جديداً) ولم يقدم لنا هذا الاجتهاد ، فمن ينتظر ان يقدمه له ، وهو المفكر الذي يقدم ورقة يتوقع ان تحدث تجديداً في الفكر الاسلامي؟! والصادق يقول (نظام الفيء والغنائم يقوم على افتراض الحرب حالة مستمرة. واليوم عبر المواثيق الدولية ومنظمة الأمم المتحدة الافتراض هو أن يكون السلام حالة دائمة)!! وما هو رأي الدين؟ وهل يمكن ان نتركه جانباً ونتبع المواثيق الدولية خاصة ، وان الصادق كرر كثيراً بان النصوص القطعية ، لا يتم فيها الاجتهاد ، وانه يحدثنا في نفس هذه الورقة، عن الجهاد مما سنعرض له لاحقاً؟!
    وعبارة الصادق (كانت النقود معدنية مصكوكة بالذهب والفضة وثابتة القيمة مع الزمن ، أما اليوم فالنقود صارت ورقية متحركة القيمة من ساعة لساعة حسب اسعار تبادل العملات في الاسواق المالية) تحتاج الى مراجعة من الناحية الاقتصادية . فالنقود سوى ان كانت معدنية او ورقية ، قيمتها ليست في ذاتها ، وانما قيمتها تداولية أي في مقدار ما توفر من سلع او خدمات ، عندما تتداول في المجتمع . وهذه القيمة ليست ثابتة ، لانها تتاثر بالعرض والطلب للسلع والخدمات ، كما تتأثر من وراء ذلك بالعوامل التي تؤثر في العرض والطلب ، مثل تغيير عادات الناس ، ومن ثم مطالبهم الحياتية ، وتتاثر ايضاً بازدياد وعي العمال ، وارتفاع اجورهم وفوائدهم ، مما يرفع تكلفة الانتاج . كما تتأثر بتكلفة عناصر الانتاج المختلفة ، وخاصة دخول التكنولوجيا المتقدمة . كل هذه العوامل اختلفت في ظل الراسمالية المتطورة ، عما كانت عليه في المجتمعات الاقطاعية ، او البدائية الرعوية ، التي كان فيها تطور المجتمع وئيداً ، وتغير ملامحة الاقتصادية بطيئاً ، ومن هنا ، كانت قيمة النقود شبه ثابتة ، وهو ما يختلف عن واقع حياتنا اليوم ، وهو ما يقصده السيد الصادق ، ولم يوفق اليه .

    (23)

    يفتتح الصادق المهدي ، حديثه عن الربا ، بقوله (الربا محرم شرعاً لأنه يقوم على استغلال صاحب المال لصاحب الحاجة فيفرض عليه زيادة في حجم القرض مقابل الإمهال للسداد بعد فترة زمنية معينة) ، ولكن التشديد على حرمة الربا ، لا ينطلق فقط من استغلال صاحب المال ، لصاحب الحاجة ، بفرض زيادة نظير تاخير السداد ، وانما لان المال في الاساس ، ليس ملك صاحبه ، وانما هو لله . وكان المفترض ان يعطيه للمحتاج ، بلا مقابل ، لا ان يطلب منه ارجاعه ، واذا تأخر في السداد ، يجب ان يمهله حتى يستطيع (وان كان ذو عسرة فنظرة الى ميسرة وان تصدقوا خير لكم ان كنتم تعلمون) .. فاذا قصر الشخص ، الذي انعم الله عليه بالغنى ، عن كل ذلك وطالب المحتاج ، بان يعطيه اكثر مما اخذ منه ، ليستكثر في الغني ويزيد الفقير فقراً ، وقهراً ، وغلبة ، فان هذا وضع يقوم على الكفر بنعمة الله ، والايذاء لخلقه ، بصورة تستوجب العقوبة القاسية ، والتشديد المنكر ، وهذا ما حدث في الربا .. قال تعالى (الذين يأكلون الربا لا يقومون الا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بانهم قالوا انما البيع مثل الربا واحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وامره الى الله ومن عاد فأولئك اصحاب النار هم فيها خالدون)!!
    يقول السيد الصادق (إن فائدة البنوك اليوم آلية مختلفة لأنها:
    • مرتبطة بمؤسسات ائتمان قانونية ومحددة الشروط وغير قابلة للمساومة بين مقرضٍ ومقترض.
    • أموال المصارف اليوم مكونة من أسهم وودائع لجمهور عريض منهم الغني والفقير، بينما القروض تذهب في الغالب لمستثمرين لزيادة حجم الاستثمار لا لحاجة خاصة بهم . وهؤلاء يقدمون مشروعات مجدية اقتصادياً وضمانات تؤكد أنهم من قطاعات المجتمع الأغنى لا الأفقر.
    وسعر الفائدة اليوم – في إطار المؤسسات المالية التقليدية - يقوم بوظائف نقدية ومالية لا غنى عنها إلا إذا وجد بديل مناسب له في أداء هذه الوظائف الهامة والضرورية:
    • إنه يشكل حافزاً للادخار.
    • إنه ينظم حجم المال المتداول ومن ثمَّ ضبط النشاط الاقتصادي تمدداً وإنكماشاً.
    • يعطي مقياساً للمفاضلة بين الاختيارات الاستثمارية المختلفة
    • يعوض عن تدهور قيمة العملة مع الزمن عن طريق التضخم وهبوط سعر تبادل العملة)
    .
    ومع ان هناك فرق بين سعر الفائدة المصرفي الحديث ، وبين الربا المشدد عليه النكير ، بسبب أختلاف المجتمع، وتعقد مشاكله ، بصورة خففت من اثر الاضرار المترتبة على كافة المعاملات المالية ، بالاضافة الى ما اشار اليه السيد الصادق المهدي ، الا ان سعر الفائدة ، هو حجر الزاوية في النظام الرأسمالي ، وأي تعامل به يدعم من النظام الرأسمالي ويقوية . فاذا وضح ان النظام الرأسمالي ، لا يستطيع ان يتجاوز الظلم ، فان اي دعم لهذا النظام بالتعامل معه ، بصيغة سعر الفائدة او غيرها ، يعتبر مفارقة دينية ، في الفهم الدقيق للاسلام ، والذي هو ارفع من الشريعة ، وهو الفهم الذي يطرح الاشتراكية بديلاً عن الراسمالية .. والى ان تجئ الاشتراكية ، فان المطلوب هو اخذ الكفاف من التعامل مع النظم التي تفرض سعر الفائدة ، وحصر الاستفادة منها ، في اطار ما تبرر الضرورة أخذه ، ثم العمل من داخلها ، على انشاء الكيانات التي تتجه نحو الاشتراكية ، مثل الجمعيات التعاونية وبنوك التنمية المحلية والنقابات المهنية .
    ولعل الصادق المهدي ، يتفق معنا في ان الظلم يحدث بنظام سعر الفائدة ، ولذلك يقول (نعم إن سعر الفائدة الزائد عن حد معين يشكل استغلالاً ويضر بالنشاط الاقتصادي نفسه، إنه في هذا الصدد يشبه معاملات أخرى كثيرة ذات طابع استغلالي. قال النبي " الربا ثلاثة وسبعون باباً" ـ أي نوعاً. وقال: "غبن المسترسل" "الذي لا يعرف قيمة الأشياء" ربا. وإشارة لهذا المعنى الواسع للربا وصف ابن عربي ، لجهله أو لغفلته أو لأنه غريب "الفقيه لا الصوفي" كل ربح أو كسب يزيد عن المثل بأنه ربا. هذا معناه أنك إذا ربحت ربحاً فاحشاً من تجارة محتكرة، أو أجرت منزلاً بأجرة باهظة استغلالاً لحاجة المستأجر ، فالمعاملة في الحالين زائدة عن المثل ـ وهذا ربا) . ولما كان الربح الفاحش ، الذي تقوم عليه التجارة الجشعة ، يشبه الربا ، فان الله تبارك وتعالى ، لم ينف ذلك ، حين اعترض المعترضون على تحريم الربا ، بتحليل البيع ، قال تعالى (الذين يأكلون الربا لا يقومون الا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بانهم قالوا انما البيع مثل الربا واحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وامره الى الله ومن عاد فأولئك اصحاب النار هم فيها خالدون) ..
    ومن هنا ، من كون وضع الزيادة على السعر ، لا يختلف عن سعر الفائدة ، جاء اعتراضنا ، على ما سمي بالبنوك الاسلامية ، التي الغت سعر الفائدة ، واستبدلته بالمرابحة ، التي يفوق فيها الربح الموضوع على السعر، سعر الفائدة ، في البنوك التجارية ، وسجل ذلك النقد المفصل منذ نهاية السبعينات . ولعل ما لحق بتجربة البنوك الاسلامية من فشل ، وما وجه اليها من نقد في مصر ، حيث نشأت ، قد جاء متأخراً كثيراً على نقد الجمهوريين الذين تصدوا لهذه القضية ، حينما كانت الغالبية العظمى ، توافق على هذه البنوك وتتعامل معها [1] .. يقول السيد الصادق (ممارسات المصارف "الإسلامية" المعاصرة لا تمثل بدائل مجدية لسعر الفائدة وهي في الوقت نفسه لاسيما في صيغتي المرابحة والسلم أكثر استغلالاً للمستثمر وانحيازاً لصاحب المال بمراحل من سعر الفائدة وأقل حرصاً على تمويل الأنشطة الاستثمارية الصناعية ، والزراعية ، والتعدينية، والبنية التحتية) .. ان نقد السيد الصادق في هذه الورقة لتجربة البنوك الاسلامية ، لا يمكن ان يمحو حقيقة ان حزب الامة ، قد كان وراء انشاء ودعم البنك الاسلامي لغرب السودان ، في منافسة الحزب الاتحادي الديمقراطي ، الذي كان قد انشأ بنك الشمال الاسلامي!!

    (24)

    وعن الزكاة ، يقول السيد الصادق (الزكاة فريضة إسلامية ، وهي من حيث المبدأ تعني تطهير المال الزائد عن الحاجة . هذا معنى روحي ، وهي توجب نقل المال من مستكفٍ إلى محتاج ، هذا معنى اجتماعي) .. والحق ان الزكاة تعني تطهير النفس ، من الشح ، وتزكيتها بانفاق المال الزائد عن الحاجة . قال تعالى (خذ من اموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) ، وذلك لان الشح من ضمن الفواحش التي تستوجب التطهير، قال تعالى في ذلك (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليم) فالشيطان يعدنا الفقر ، اذا انفقنا ، ويخوفنا عواقب الكرم ، ويأمرنا بعكس ذلك ، وهو البخل الذي عبر عنه هنا بالفحشاء .
    وبقدر ما يستطيع الانسان ، ان ينفق بقدرما تزكت نفسه . ولما كانت الزكاة ذات المقادير، لا تأخذ من المال الا بعد ان يحول عليه الحول ، ويبلغ النصاب ، ثم هي لا تتعدى العشر ، نصف العشر ، او ربع العشر ، فانها لا تكفي لتزكية النفس ، ولكنها انما قبلت من الأمة ، واعتبرت ركناً من اركان الاسلام ، بمحض الفضل الالهي ومراعاة لضعف النفوس ، التي جبلت على الشح .. قال تعالى (واحضرت الانفس الشح وان تحسنوا وتتقوا فان الله كان بما تعملون خبيرا) .. ولو ان الاسلام اصر في تشريعه ، على ان ينفق المسلم اكثر من الزكاة ذات المقادير ، من باب الالزام لا التطوع ، لشق ذلك على الأمة ، ولكرهت الدين نفسه .. قال تعالى (انما الحياة الدنيا لعب ولهو!! وان تؤمنوا ، وتتقوا ، يؤتكم اجوركم ولا يسألكم اموالكم * ان يسالكموها فيحفكم ، تبخلوا ويخرج اضغانكم) .. وحتى الزكاة ذات المقادير ، على قلتها ، كانت أهم اسباب الردة عن الاسلام ، بعد التحاق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الاعلى . فقد قالوا: انا نشهد الا اله الا الله وان محمداً رسول الله ونصلي ونصوم ولكنا لا نتؤتي اموالنا!! فحاربهم ابوبكر رضي الله عنه على منع الزكاة .
    ولما كانت الزكاة ذات المقادير ، تخرج مغالبة للشح ، وتعطى من باب التصدق ، وليس الحق ، فان النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يخرجها ، ولم يكن يأكلها ، ولقد منع عنها آل بيته فقال (الصدقة اوساخ الناس وهي لا تجوز لمحمد ولا لآل محمد)!! ومعلوم ان النبي الكريم ، لا يريد ان يجعل آل بيته طبقة خاصة ، فوق الامة، وهو حين منعهم عن الصدقة ، كان يود لو يستطيع منع الأمة كلها منها ، ولكن ذلك لم يكن ممكناً . فدعا الأمة لما هو افضل ، من باب الندب وليس الالزام، فقال (في المال حق غير الزكاة) .. ودعا مرة لدفع مال فاتى ابوبكر وعمر بمال فسال النبي عمر: ما ابقيت لأهلك؟ قال: ابقيت لهم نصف مالي . وسأل ابوبكر فقال: ابقيت لهم الله ورسوله . فقال النبي: الفرق بينكما كالفرق بين قوليكما!! ولقد ظن بعض شراح الحديث ، ان الفرق بينهما هو الفرق بين المال ونصف المال المنفق . ولكن الحقيقة هي ان الفرق هو بين ماترك في البيت ، أي بين الله ورسوله ونصف المال ، وهذا فرق كبير ، لا يكاد يقاس ، بين شخص اعتمد على الله وشخص اعتمد على نصف ماله!! ومع ذلك ، فقد استطاع عمر رضي الله عنه ، ان يتنازل عن نصف ماله ، بدلاً عن ربع العشر ، الذي نصت عليه الزكاة ذات المقادير . واكبر من الفرق بين ابو بكر وعمر ، الفرق بين النبي وابوبكر ، فمع ان ابوبكر رضي الله عنه ، قد انفق كل ماله في ذلك اليوم ، الا انه جمعه قبل ذلك ، ثم استطاع في مناسبة معينة ، ان يتنازل عنه .. أما النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم يكن يدخر رزق اليوم للغد ، لأنه كان يعيش على مستوى الزكاة الاصلية ، وهي انفاق العفو ، حين كانت الأمة ، وفي طليعتها ابوبكر، تعيش في غالب حالها ، على الزكاة الفرعية ، وهي الزكاة ذات المقادير ..
    ورغم ان الصادق المهدي ، لا يعرف غير الزكاة ذات المقادير ، الا انه حتى في هذه ، تائه بين اختلافات الفقهاء، فهو يقول (اختلفوا حول المزكي بين مضيقين وموسعين .... واختلفوا حول قسمة الزكاة بين المواضع المختلفة ... واختلفوا حول جواز نقل الزكاة ولزوم صرفها في محل المال المزكي ... وقال بعضهم: المصارف الثمانية باقية كما هي . وقال آخرون: بل سقط سهم المؤلفة قلوبهم ... واختلفوا هل يصرف من الزكاة لغير المسلم؟ .... واختلفوا حول هل يخرج المزكي الزكاة للدولة؟ .... واختلفوا هل على المال الخاص التزام سوى الزكاة؟ ...)!! ولعل حضور ورشة العمل ، لا يحتاجون من يذكرهم باختلافات الفقهاء ، التي لا نهاية لها ، بقدرما يحتاجون الى ترجيح رأي على الآخر ، باعتباره اجتهاد جديد ، او رفض كل الآراء القديمة ، وطرح مفهوم جديد للزكاة ، يتناسب مع الواقع الجديد ، وهذا ما قصر عنه الصادق المهدي ، في ورقته هذه ، قصوراً مزرياً!!
    وعن تجربة تطبيق الزكاة ، في عهد النميري ، يقول الصادق (نظام جعفر نميري الذي طبق قانوناً للزكاة (1983ـ 1985م) ضمن ما سماه تطبيق الشريعة _ طبق الزكاة كضريبة مباشرة على كل المواطنين وسماها زكاة للمسلمين، ونفس الجباية سماها ضريبة تكافل اجتماعي لغير المسلمين. وبموجب هذه الضريبة المباشرة أُلغيت الضرائب المباشرة وغير المباشرة على المواطنين وخوّل القانون لرئيس الجمهورية صلاحيات واسعة في أمر الزكاة جبايةً وصرفاً خرجت عن الضوابط الشرعية المعروفة. لقد كان قصد النظام في ذلك الوقت زيادة إيرادات الدولة للقضاء على عجز الميزانية وتصور أن التوسع في جباية الضريبة باسم الزكاة والتكافل الاجتماعي كفيل بتحقيق التوازن في ميزانية الدولة إذ قُدمت له تقديرات خيالية عن حجم الجباية باسم الزكاة فسارع في إصدار قانون بذلك. كانت التجربة غير ملتزمة بالضوابط الشرعية وفاشلة في تحقيق أهدافها الوضعية كوسيلة أفضل للجباية).
    وعن تطبيق الزكاة ،على عهد الجبهة الحالي ، يقول الصادق (أما في النظام الحالي (1989- حتى الآن) فقد طبق القانون الزكاة على المسلمين وحدهم ولكنه توسع في الزكاة بحيث فرضها على كل المعاملات المالية، والتجارية ، والاستثمارية والتبادلية، دون استثناء كأنها دمغة على كل المعاملات الاقتصادية. هذا الإجراء غير مصحوب بأية ضوابط تتعلق بحولان الحول ، ولا أية ضوابط تتعلق بالمسح الاجتماعي المطلوب ليدفعها المستكفي . إنها جباية عامة على المعاملات الاقتصادية دون إشارة لحالة المُزكي، ولا لبراءته من دين ولا لحولان الحول. هذا من ناحية الجباية ، أما من ناحية الصرف فقد تحكمت فيه أولويات سياسية لا حاجة المحتاجين . أوجب القانون هذه الجباية الواسعة باسم الزكاة على المسلمين ولم يفرض القانون على غير المسلمين أية جباية سوى جباية الضرائب العامة على كل المواطنين . فالعدول عن الجزية في السودان - باعتبار أن العلاقة تقوم على عهد المواطنة لا على عهد الذمة - أدى إلى إعفاء غير المسلمين عن أية جباية سوى الضرائب العامة . هذه الظروف أدت إلى ازدواجية العبء الضريبي على المسلم فصار المسلم في السودان باسم تطبيق الشريعة يتحمل جباية مضاعفة، لذلك صار كثير من المسلمين يجرون كثيراً من المعاملات والصفقات بأسماء أصدقاء أو أعوان غير مسلمين تجنباً لازدواجية العبء الضريبى باسم الزكاة . إن الزكاة كما تمارس في السودان تهزم مقاصد الشريعة وتشوه الزكاة، فالسودانيون قبل هذا التقنين كانوا يؤدون زكواتهم بإخراجها مباشرةً لمستحقيها أو عن طريق مشايخهم . ومع أن ذلك الوضع كان محتاجاً لإصلاح وتقنين، فإن التقنين البديل الذي أدخله النظام أسوا مما كان عليه الحال وأبعد من مقاصد الشريعة).
    ومعلوم ان مفكري نميري ، الذين اغروه بتطبيق القوانين التي اسموها اسلامية ، هم اعضاء الجبهة الاسلامية ، الحاكمة اليوم ، في شقيها الوطني والشعبي ، وان تطبيقهم الفاشل في الماضي والحاضر ، اعتمد على الغاء الضرائب ، واستبدالها بالزكاة ، بحجة ان الضرائب لم ترد في الشريعة . ولقد اهمل ذلك التطبيق ، اختلاف الواقع عن العهد الذي كانت فيه الزكاة ذات فعالية ، في الدولة البسيطة ، التي ليس فيها وزارات ، ومؤسسات تنفق عليها الدولة ، دون عائد مادي منها .. كما جهل دور الضرائب ، كجزء اساسي في النظام الراسمالي ، يستهدف السيطرة على تدفق النقد ، وتوجيه مسار الحركة الماليه في المجتمع .
    ولم يكن السيد الصادق ، افضل حالاً ، بل ان مفكري الجبهة ، قد كانوا عبر تاريخهم ، محط اعجابه . فقد اتفق معهم في حكومته بعد الانتفاضة ، واخذ يتدارس معهم وضع قوانين اسلامية بديله ، فهل كان يتوقع ان يقدموا له رأياً في امر الزكاة ، غير الرأي الذي قدموه لنميري وساقه الى الفشل؟! ان الواقع يقول بانهم لم يكن لديهم فهم افضل ، بدليل ما طبقوا الآن ، فهل عرف السيد الصادق ، بعد كل هذه التجارب ، انه كان لشدة خيبته ، يراهن دائماً ، على الجواد الخاسر؟!

    عمر القراي
    -نواصل-

    [1] - راجع كتاب "بنك فيصل الاسلامي" للاخوان الجمهوريين .
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de