قالوا إن مظاهرة السودانيين الأمريكيين في نيويورك كانت قليلة العدد، ونسوا أن تأثير المظاهرات تحدده قيمتها النوعية ورسائلها وتوقيتها وليس “بدعة” المليونيات، فالقاتل يظل قاتلاً مطلوباً للعدالة ولو قتل نفساََ واحدة”.عبد الرحمن الأمين
الأحد
مقابل مبنى الأمم المتحدة- نيويورك…
الموكب الذي شارك فيه سودانيون أمريكيون من عدة ولايات، واستصغروا من أجله مشقة السفر إلى نيويورك بالطائرات والباصات وسياراتهم الخاصة، كان بحق تظاهرة “نوعية”. وقد قصدت وصفه بأنه “موكب نوعي” لتمييزه وإنقاذه من الأحكام المبتسرة والظالمة التي يطلقها من لا يرون في فعالية صوت الجماهير سوى الكم والعدد.
بصراحة، لا علم لي بمن ابتدع فكرة “المليونية” في وصف المظاهرات، وبالتالي ما تسبب فيه هذا الوصف الرقمي المعطوب من دمار وتسميم لموازين الفهم العام عند تقييم فعالية الحراك الجماهيري ضد ديكتاتورياتنا. وفق تلك الصيغة الحسابية، أصبحت المظاهرة “بائسة” إذا حضرها (999,999) ثائراً وكنداكة، وغاب عنها رضيع ليكمل العدد ويوفي النصاب. وحتى هذا النصاب المليوني ليس له من حاسوب يعدّه سوى عيون الرائي وشطارته أو بلادته في علم الحساب “والإحصاء بالنظر “.
هذا التوصيف الرقمي الذي نتبناه للاستدلال أو الحكم على، أو قياس، “فعالية” النشاطات الجماهيرية وقدرتها على إحداث التغيير أمر محزن حقاً، فهو معطوب وبدائي ومعوج. المتعارف عليه في الديموقراطيات المحترمة أن الناس تخرج لتحتج وتندد وترفض، فيطير صوتها الرافض إلى أركان الدنيا، ويعكف المحللون على تفسير دلالات تلك المظاهرات وإسقاطاتها علي حياة الناس ومستقبل الجهاز التنفيذي وقراراته المستقبلية.
الديموقراطيات المحترمة لا تشترط أن يكون هذا الصوت مُقيَّماً بعدد، وتتجاهل حجم التظاهرة وعدد الشوارع التي احتشد فيها الناس. فمثلاً، خرجت مظاهرة قبل (4) أيام في موسكو ضد قرار بوتين بفتح التجنيد الإجباري، واحتجاجاً على تفويج مقاتلين روس جدد إلى محرقة أوكرانيا. تابعت، مثل غيري من الملايين في أركان الدنيا، هذه المظاهرة من منظور كونها كانت حدثاً نوعياً ينبئ بتفاقم خسائر مغامرة بوتين في أوكرانيا، وما يتصل بذلك من مستقبل الصراع الدموي المفتوح على كل الاحتمالات. من كل تقارير المنصات الإعلامية، لم توفر سوى وكالة رويترز للأنباء تقديراً رقمياً لهذه المظاهرة، فذكرت أن المشاركين فيها كانوا حوالي (1300) شخص.
بداهة، مثل هذا الرقم يمكن أن يتضاءل حتى أمام متفرجي مباراة بين أبوسعد وود نوباوي في ليق أمدرمان، لكن الأثر الذي تركته، بلا شك، كان ملياراً بحساب الأرقام، وصادماً لبوتين الذي ورغم أنه يبطش بأمة قوامها (145.8) مليون، إلا أن خروج ما نسبته (0.11215384615) من شعبه إلى الشارع للتنديد بالحرب وقراره بالاستمرار فيها وتأجيجها قلب الطاولة عليه، وأصبح اليوم أكبر دليل على رفض الناس لبوتين وسنوات حكمه الديكتاتوري الرديء.
ما قلته أعلاه ينسحب على كثير من المواقف والطريقة المعيارية والحسابية “الخاطئة جداً” التي ندير بها ثورتنا المستمرة، فمظاهرة نيويورك لم تنقلها فقط قناة الجزيرة مباشر، بل كانت ذات حضور خبري أكبر في الإعلام الغربي الأكثر تأثيراً والأوسع انتشارًا. فقد تحدث معنا وسألنا عن رأينا في برهان وسبب مجيئنا إلى الأمم المتحدة عدد من المراسلين، ويكفي أن أول تقرير عن التظاهرة وجرائم انقلاب البرهان نقلته صحف باريسية بعد ساعات من انطلاق المظاهرة، وكان عنوان أول تقرير هو “السودان: أمام مقر رئاسة الأمم المتحدة مظاهرة مضادة للبرهان” Soudan: devant le siège de l’ONU, une manifestation hostile au général al-Burhan (مرفق سكرين شوت من الخبر الفرنسي).
ما يتوجب قوله والتذكير به هو، أن الانقلابي البرهان قاتل ولو تسببت طلقة واحدة أطلقها نظامي في قتل متظاهر، فالبرهان هو القائد العام لهذه القوات المسلحة القاتلة بكل أفرعها. وبذات المقدار من المسؤولية فإن “دقلو إخوان” قتلة ومسؤولان عن أي قطرة دم طاهرة سالت من بريئ بسبب طعن جنجويدي له بسكين فقتله.
فالقاتل، ولا يهمنا معرفة الأداة التي استخدمها لإعدام نفس كرّمها الله فقضي هو عليها، لا يحتاج لأن يسفك دم خمسة أو مائة أو ألف من الأبرياء حتى ندينه ونطالب بالقصاص منه وشنقه، فالعدد وأداة القتل لا قيمة لهما أمام مبدأ القصاص. هذا المفهوم العدلي الباذخ هو عين ما قال به الحق عز وعلا في سورة المائدة: “مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ” الآية ٣٢.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
زهير ابو الزهراء
Yasir Elsharif
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست