إن الكرامَ إذا ما أيسروا ............ ذكروا ما كان يألفهم في المنزل الخشن
و المعنى لا يخفى على أحد .. و ها نحن نستقبل شهر رمضان .. في شقة مكيفة .. و ننتقل إلى العمل بسيارة مكيفة ... و المكتب مكيف .. و الثلاجة متروسة حتى النخاع .. و لا إحساس بالعطش و الجوع حتى مغيب الشمس .. و الموائد تكتظ بكل ما لذ و طاب من المأكل و المشرب ... نقطع لياليه بأمور شتى متاحة في متناول العين و اليد .. هذه الرفاهية .. لا بد أن نذكر معها شهر رمضان في قريتي التي تقبع في آخر شمال.....قريتي التي تحدها من الغرب سلسلة من الجبال الشماء داكنة الصخور .. و يمتد خلفها العتمور حتى درب الأربعين ( طريق تجارة الجمال لمصر ) ثم يقع خلف كل هذا ( العتمور المؤدي إلى كردفان غربا ) .. و شمالا طريق يؤدي إلى واحة سليمة .. ثم إلى الصحراء المؤدية إلى ليبيا و جبل عوينات المشترَك مع مع مصر و ليبيا ..
تقع بالضفة الغربية للنيل .. بينها و بين النيل أرض زراعية ضيقة ثم شريط من غابة نخيل ثم النيل الخالد .. تراه من حوش المنزل .. يمر رقراقا صوب الشمال .. يحمل بين جنباته تحيات كل أهل السودان و ينثرها بين كل القرى الوادعة على الضفتين .. أول شهر رمضان أصومه في قريتي .. كان في شهر صيف ترمض فيه الفصال في وقت مبكر .. و كأن الشمس قد تدلّتْ بضعة أمتار .. تلسع النافوخ بسياط من فيح و قيظ .. و تلهب الظهور بسياط من لظى .. فيتدلدل اللسان منذ الساعة العاشرة صباحا .. و تزوغ الأبصار .... و يتصبب العرق مدرارا يرطب الأجساد قليلا .. و يلجأ الناس إلى ظلال النخيل مستجيرين بفيئها .. يلتمسون نسمة تهب من بين الفينة و الأخرى من صفحة النيل لتداعب الوجوه الملفوحة بالهجير ..
و عند العصر يتقاطر أهل القرية إلى النيل و يدخلون لجته معانقين ماءه حتى أذقانهم .. بحيث لا ترى إلا الوجوه تبرق منها العيون المتعبة ،، كأفراس البحر تنعم بحمام في النيل .. و يبقون هناك حتى مغيب الشمس ... لا زلت أذكر أول ( فطور رمضان ) رغم كل هذه المدة الطويلة .. فقد كان يتكون من صحن ( ماكن ) به قراصة و دمعة .. و صحن به بعض بصلات خضراء و حزمة جرجير .. و صحن آخر به بليلة لوبيا سمراء ..و آخر به تمر و عجوة و ( كورية ) بها عصير ليمون داكن بفعل ماء النيل المغروف رأسا من النهر دون ( إضافة كلور أو إستعمال فلتر ) .. ما أن ترشف منه رشفة واحدة حتى ترتوي حد الثمالة .. فالماء من الزير الذي لفحه السموم طوال اليوم و لم يرحمه حتى الغروب .. و كورية حلو مر و أخرى آبري أبيض .. حقيقة .. الأكل هناك له مذاق ( الأكل ) .. و هذه جملة لا يحس معناها إلا كل مغترب يأكل و كأنه يؤدي واجبا مدرسيا أو يقوم بواجب العزاء ..
ثم يُختتم الفطور بأكواب من الشاى و أحيانا ترافقها الزلابية ( اللقيمات ) .. ليبدأ الليل .. ثقيلا ثقيلا و طويلا .. دون كهرباء .. أو راديو .. أو تلفزيون .. لا شيء غير أناس حولك منبطحين على ظهورهم .. يجترون ذكريات الغائبين .. و يسمعونك كل يوم نفس أحلامهم و أمنياتهم .. و سرعان ما يغط البعض في نوم عميق .. و البعض يقتل الليل في لعب الورق على ضوء لمبة الجاز .. تناوشهم حشرات ليلية تتحاوم حول زجاج اللمبة .. يمازج مغالطاتهم نباح كلاب بعيدة .. و أصوات طائر ليلي ... و المكان حولك يلتحف الظلام بحيث لا ترى أصبعك و إن قربته من عينيك .. لا ترى غير النجوم .. تزين صفحة السماء .. و نجوم تتهاوى و تسقط في المجهول بعيدا .. سألني أحد الظرفاء هناك : الحكمة شنو من فرض الصوم ؟ قلت له : أهم شيء هو الإحساس بما يعانيه الفقراء من جوع و عطش و معاناة . فقال : طيب نحن بنصوم لينا كم سنة .. معقول لي حسع ما حسينا ؟ يعني ما عندنا إحساس ولا شنو ؟ أنا غايتو حسيت من أول يوم صمتو قبال عشرين سنة .. يعني ممكن بعد دة ما أصوم ؟؟؟؟ و رغم محاولاتي المتكررة لتعريفه ببقية الحكم من مشروعية الصوم إلا أنه أبى و إستكبر إستكبارا و قال : إنت جبت الفيها الفايدة بالأول .. ما تحاول تقنعني .. خلي الشهر دة ينتهي على خير و أنا عندي بعد داك فيهو راى ...
ينتهي الليل هناك حوالى الساعة العشرة في الغالب الأعم ... و لا يصحو للسحور إلا من رحم ربي و أفاق مصادفة قبل ( أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود ) .. ألم أحكي لكم ماذا فعل زميلي ؟ فقد إستيقظ ليلة من ليالي رمضان فجأة فوجد أن الخيط الأبيض قد صار واضحا و أن الليل الأسود قد تسلل أثناء النوم الثقيل .. فما كان منه إلا وضع ملاية على الشباك الوحيد و ملاية أخرى على فتحة الباب السفلى .. فصارت الغرفة مظلمة .. فتسحر الخلق في هذا الليل المصنوع Artficial Night كذلك الليل الذي تمناه ( العاشق روميو .. في مسرحية شكسبير روميو و جولييت ) ..
كلما أتى رمضان .. أتذكر تلك الأيام .. و رغم تغير الظروف في قريتي و دخول معالم و وسائل حضارية و إنتشرت ( مولدات الكهرباء ) .. إلا أن رمضان هناك لا يزال ذو بصمة مختلفة لا تزال محفورة في قاع الذاكرة .. كل سنة و أنتم طيبين أهلنا هناك ... كل سنة و أنتم طيبين أهلنا بالسودان .. كل سنة و أنتم طيبين أهلنا في المهجر .. كل سنة و أنتم طيبين .. سكان حوش سودانيز أون لاين .. تصوموا و تفطروا على خير ...
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة