الأجدى للشعب والوطن من تبادل إطلاق الإتهامات وردود الأفعال الصبيانية بين العسكر والمدنيين على نحو ما يحدث ، التسلح بممارسة النقد الذاتي.
هذه الفريضة السياسية الغائبة تمثل الطقس الأول لجهة عمل وطني جماعي نافع على المستويين الخاص والعام ..
ثمة دروس بالغة الأهمية كشفت عنها تجربة الشراكة الثنائية.. ما من فريق يتملك من الطهارة الوطنية ما يجعله أكثر برآءة من الآخر ، أزاء التورط في ما بلغنا من التدهور على كل الجبهات ..
ربما كشفت تداعيات "المحاولة الإنقلابية الفاشلة" للعسكر فشل الرهان على القوة ، إذ يصعب استخدامها في كل الأوقات.. ذلك أحد مؤشرات الإدانة الفورية والقوية لـ"المحاولة" على الصعيدين الداخلي والخارجي ..
هذا رادعٌ يكفي لقمع كل ذوي الطموحات غير المشروعة..
لكن ينبغي على الجانب المدني استيعاب أنه عند أي منعطف يهدد استقرار السودان فإن رهان القوى الخارجية سيكون على المؤسسة العسكرية ، ليس على الكتلة السياسية المتشظية
هذه القراءة أكثر نفاذاً وصدقية في سياق رؤية المشهد الإقليمي المأزوم.. فبالإضافة إلى السيولة المزمنة في ليبيا يقف الوضع في تشاد على حافة الإنفجار ، بينما هو في إثيوبيا على حافة الإنهيار .. تلك حالة تجعل الحفاظ على استقرار السودان شأناً ملحاً من النافذتين الإقليمية والدولية ..
ربما يكون مفيدا لفت الإنتباه إلى خفوت الإهتمام الخارجي بالشأن الدارفوري رغم عدم وصول الإقليم إلى مرافئ السلم الإجتماعي ..في حيثيات هذا الهبوط غياب القوى زارعة الفتنة وباثة الزعزعة في دارفور وانزياح القوى المستثمرة فيهما.
من هنا يصبح تعويل أيٍ من القوى الداخلية على جهةٍ خارجية رهانٌ مغلوطٌ خاسر قصير النظر لا يستوعب المصلحة الوطنية أو مصالح الأطراف الخارجية ..
السلطة كائنٌ حي لا يتعايش مع الفراغ ، من أبرز خصائصه فرز عناصر"بيلوجسياسية"تستقطب حال بروز فراغ ، الطرف الأقوى لشغل ذلك الفراغ .. لهذا ، عندما يتقدم فريق للإستئثار بفرض النفوذ فعلى الأطراف الأخرى أولاً مراجعة مواقفهم ..
على القوى المدنية القابضة على مفاصل السلطة حاليا الإعتراف أنها ليست في عنفوان ذلك الثالوث الموقع على الوثيقة الدستورية.. ذلك مثلثٌ إنفرطت أضلاعه فتبعثرت مكوناته .. توصيف معسكر السلطة المدني الحالي بأنه أكبر تحالف سياسي في تاريخ السودان ، لا يطابق الأمانة الفكرية ..فهو كبير من حيث تعدد اللافتات الحزبية ليس بوزن الثقل الجماهيري ، بالاضافة إلى كونه كيانٌ تنهشه التباينات على نحو يكبل قدرته على الإنجاز .
وفق التعريفات القانونية فإن الدولة تقوم على ثلاثة أركان هي الإقليم و الشعب و السلطة السياسية .. الجيش هو حارس الدولة في وجه التهديدات الخارجية.. من الشعب تستمد الدولة سيادتها .. و بسلطة الشعب تبسط الدولة السيادة على إقليمها الجغرافي وعلى من هم عليه ..
من هنا ينتفي كل كلام يمنح الجيش حق الوصاية على الدولة أو الشعب ..
لكن لأسباب متباينة أمسى تدخل المؤسسة العسكرية في السياسة ظاهرة واسعة الإنتشار عبر العالم الثالث خاصة في الوطن العربي..و أي نظرة عميقة في التاريخ السوداني المعاصر تكشف بوضوح أن الإنقلابات العسكرية هي صناعة مدنية على نحو أو آخر .. وعندما يستولي الضباط الإنقلابيون على السلطة يزعمون التوجه نحو تصحيح المسارات السياسية و الإقتصادية على وجه التحديد .. غير ان تلك الدعاوى لا تصمد أمام التجربة ، إذ على النقيض تعمّق الإنقلابات الأزمات ولا تعين على تفكيكها.
القوى السياسية السودانية ارتكبت خطأً فادحا مرتين : الأول إبان ثورة إبريل ، والثاني في ثورة ديسمبر .. في الحالتين أفسحت خلافاتها المزمنة أمام العسكر فرصة قطع الطريق أمام الثوار .. فلم تبلغ الثورتان حد تنصيب سلطة مدنية خالصة تعبر عن روح الثورة أو أحلام الثوار .. هكذا جاء سك مفهوم "الشراكة" في سياق هشاشة الجبهة المدنية و أطماع كبار الضباط..
التجربتان أثبتا حرص "الشركاء العسكريين" على الحفاظ على هياكل الدولة السابقة أكثر من الإقبال على بناء مؤسسات الدولة الجديدة.. أخطر ماظل باقيا ًمن هياكل الإنقاذ استمرار مؤسسات تجاريةعسكرية تموّل الجيش إلى جانب شرعنة ميلشيات النظام البائد .. هذه المؤسسات التجارية تهيمن على 82% من حركة الإقتصاد الوطني ، ووفق المفاهيم السياسية فإن من يملك المال يستأثر بإملاء خياراته السياسية ..
أكثر من ذلك يحاجج ساسة و كبار من الجنرالات بقومية الجيش أكثر من أي مؤسسة مغايرة ، كما يحاججون أن بناءها على الضبط و الربط يجعلها أكثر تأهيلا من القوى السياسية المدنية للحفاظ على الدولة في المنعطفات الحرجة مثل المرحلة الإنتقالية الراهنة.. في ذلك غير قليل من الصدقية لكن الأكثر مصداقية من ذلك أن مؤسستنا العسكرية الحالية تفتقر إلى سمتي القومية و الإنضباط أكثر من أي وقت مضى في تاريخها.. تلكما نتيجة تلقائية لحالها إبان عقود الإنقاذ.. فالثابت في المخيلة الجمعية أن كبار الحنرالات حاليا هم من المرفعين بولاءآتهم لا كفاءآتهم في ذلك العهد .. لذلك لا يحق لمن منهم على قمة هرم السلطة الكلام باسم المؤسسة من منطلق تمثيلها أو قوميتها.. هذه خلاصة مجحفة.. لكن أكثر منها إجحافا ممارسات جماعة الجنرالات الأربعة و خامسهم زعيم الدعم السريع في حق الثورة و الثوار و المرحلة الإنتقالية.
لعل مداواة الإهتراء العام في المشهد السياسي تفتقد القائد الوطني صاحب الكاريزما الجاذبة حضوراً و اداءا .. ربما كان ذلك الشرط أبرز فرضيات الرهان على رئيس الوزراء الهابط خشبة المسرح الوطني من المجهول .. فهو جاء منزهاً فوق شبهات مماحكات القوى السياسية وعليه وقار التكنوقراط ، ثري التجربة قوي الشكيمة .. غير ان التجربة أثبتت أن ذلك الرهان كان ضربا من خيالٍ فهوى .. الرجل آثر الترقب عوضا عن المبادأة ، الإختباء على المواجهة و الحيدة ، بدلاً عن المصادمة .. ثم أغرق نفسه في محيط بروقراطي مترهل عطّل أداء السلطة التنفيذية .. في الوطن كفاءات مقتدره تضيق رؤى الأحزاب عن النظر إليهم .. الشعب يسبغ لقب الزعامة على من ينتزع افتنانه برؤاه السياسية ، حكمته الإدارية ، و قبل ذلك بمشروعه الوطني.
القفز فوق ركام الإحباطات والفشل المكدس لن يكون ممكناً ما لم يقبل الجميع على منصة التوافق الوطني بروح تنأى عن كيل السباب و تبادل الإتهامات ، و العمل على استبدال الصفح بالتهديد و الوعد بالوعيد..
حالة الإستقطاب الحاد المتمكنة من المشهد السياسي تعكس وهن السلطة و المتنازعين ، على نقيض ما يتوهم الأقطاب المتصارعون .. ذلك الوهن يغري أصحاب الطموحات غير المشروعة للإستثمار في الشأن العام بغية تحقيق مآرب خاصة أو مصالح ضيقة ..
المفارقة المحزنة تتبدى في عجز أطراف الإستقطاب عن إدراك قيمة الفرص التاريخية المتاحة أمامهم ، من أجل بناء أمجاد وطنية أو على الأقل كتابة سير ذاتية ناصعة.
ممارسة النقد تتطلب الإعتراف الشجاع أولاً بخطل المحاصصة.. ذلك سبيل أفضى بنا إلى ترفيع ذوي الولاءات على أهل الكفاءات ، على نقيض التوافق فجر الثورة .. كما أفرز ترهل في هرم السلطة.. مجلس رأس الدولة أكثر تضخما من رمزيته .. مجلس الوزراء يتطلب رشاقة قوامها مهارات و خبرات .. النسخة الوزارية الأولى أفضل حالاً من الثانية.. رئيس الحكومة يحتاج إلى مجلس مصغر متعدد الكفاءات ، يعد مشاريع قرارات حاسمة و ليس ورش عمل ، تعد دراسات كما يريد هو من آليته المتورمة..
من الأجدى للوطن والبناء الديمقراطي أن تنأى الأحزاب عن التكالب على جهاز الولة برمته ، على ان تتفرغ إلى إعادة بناء هياكلها الرثة و كتابة برامجها الغائبة وإعداد كوادرها المغيّبة ، استعداداً للتنافس على السلطة عبر الإنتخابات المأمولة.
خلافاتنا المتصاعدة ليست على السياسات بل على جوهر القيادة السياسية .. الشعب يريد النظر إلى قيادات سياسية بلا اشمئزاز ، إن لم يكن في إعجاب.
09-28-2021, 06:51 PM
نعمات عماد
نعمات عماد
تاريخ التسجيل: 03-08-2014
مجموع المشاركات: 11404
Quote: ممارسة النقد تتطلب الإعتراف الشجاع أولاً بخطل المحاصصة.. ذلك سبيل أفضى بنا إلى ترفيع ذوي الولاءات على أهل الكفاءات ، على نقيض التوافق فجر الثورة .. كما أفرز ترهل في هرم السلطة..مجلس رأس الدولة أكثر تضخما من رمزيته .. مجلس الوزراء يتطلب رشاقة قوامها مهارات و خبرات .. النسخة الوزارية الأولى أفضل حالاً من الثانية.. رئيس الحكومة يحتاج إلى مجلس مصغر متعدد الكفاءات ، يعد مشاريع قرارات حاسمة و ليس ورش عمل ، تعد دراسات كما يريد هو من آليته المتورمة..
من الأجدى للوطن والبناء الديمقراطي أن تنأى الأحزاب عن التكالب على جهاز الولة برمته ، على ان تتفرغ إلى إعادة بناء هياكلها الرثة و كتابة برامجها الغائبة وإعداد كوادرها المغيّبة ، استعداداً للتنافس على السلطة عبر الإنتخابات المأمولة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة