وردي: مشروع الوطن.. وقبول الآخر (1) بالأمس القريب شاهدت مثلي مثل الكثيرين تدشين عام "محمد وردي 2022”.. حقيقة القول لقد غمرتني سعادةُ عارمة لسببِ بسيط وهو إننا كسودانيين أدركنا أخيراً معنى أن نخلد مبدعينا.. ولقناعتي الراسخة أن الأمة التي لا تحتفي بالرواد من أبنائها هي أمةُ ناكرة للجميل.. ذاكرتها مشوهة وممسوخة.. وبما أننا لسنا كذلك فقد انطلق التكريم تحت رعاية الدولة بما يليق ب"وردي" كرمز للوطن.. وبما هو جدير بنا كشعب بدأ يخطو بثبات نحو آفاق رحبة من الانعتاق والتحرر من قيود الشمولية البغيضة. ليس من السهل بمكان الحديث عن الراحل "محمد وردي".. فالرجل قامة سامقة يلتف حولها الجميع بمختلف انتماءاتهم وثقافاتهم. ولعمري رجل بهذه الكاريزما في بلد تنعدد فيها الثقافات والسحنات لهو غور عميق يذخر بالأسرار والطقوس التي تحتاج منا لكثير من الدراسة والتحليل من أجل فهم مضامينها وأبعادها. تتجلي عبقرية محمد وردي في اختيار الكلمات ونظم الألحان التي تنسجم معها، فتبدو الأغنية واللحن معاً كفسيفساء متناثرة الأجزاء تجتمع معاً لتكون لوحةً مكتملة الملامح... ليس ذلك فحسب، فهو قد وظف إمكاناته الصوتية المتفردة علواً وهبوطاً.. مداً وجزراً.. انحساراً وتدفقاً.. خفوتاً وسطوعاً.. لتنساب تلك الكلمات والألحان في تناغم منقطع النظير. يبدو ذلك جلياً في أغنية "الحزن القديم" التي سكب فيها عمر الطيب الدوش عصارة تجربته الشعرية وأبدع "وردي" في تجسيدها بما يتناسب وعبقرية الكلمات.. فعندما يردد "وردي" "بتطلعي إنتِ من غابات.. ومن وديان.. مني أنا" تحس أن اللحن يتسلل إلى حنايا روحك في انسيابٍ ملائكي مهيب.. فتحس نبرة صوته تتضاءل وتتهادى لتجد نفسك في لحظةٍ ما أنك تنحدر نحو وادٍ سحيق تمتزج فيه اليقظة والحلم ..الغبطة والحبور. ليصعد بك مرة أخرى الى واقع الذات الإنسانية "الأنا". في اعتقادي أن "وردي" لم يعتاد على ارتياد محلات القصائد الجاهزة.. بل كان يرتاد بيوتات الحياكة المترفة والمرموقة.. هناك حيث تُفصل له الكلمات بحسب طلبه وبمقاييسه هو بمهارة متناهية الدقة والحرفية.. لا يقف الأمر عند ذلك بل يأخذها بعد ذلك ليضفي عليها لمساته الابداعية من حياكةِ وتطريز. إذن فللرجل نظرة ثاقبة أتاحت له أن يغوص في تفاصيل الكلمة واللحن معاً.. أغلب الظن أنه كان يقضى أوقاتاً طويلة في خلوته.. مغمضاً عينيه.. ليجول بخياله في عالمٍ ثلاثي الأبعاد تحتدم فيه صور التاريخ والتراث.. وتتداخل فيه الأسطورة مع الواقع.. وتتزاحم فيه الأمنيات والأشواق.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة