|
Re: ليل الغرباء البارد (Re: أبوذر بابكر)
|
أقلعت بنا طائرة الخطوط الجويّة الهولنديّة "كي. إلْ. إمْ" من مطار القاهرة الجديد في طريقها إلى أرض الميعاد المسماة "كندا". وأضواء القاهرة لا تزال هناك في الأسفل، خيل لي كأن غناءً ما أشبه بحُداء الرعاة في ليالي البيداء الداجيّة قد أخذ يتردد هناك في أعماقي: "أرض الميعاد هي ما قد تركتَ أنت في البدء خلفك. وقد كان العماء (يا هذا الغريب) دليلك". حدث ذلك حوالي الثالثة بعد منتصف الليل. هذا إذن ليل الطيران بعيداً بعيداً "هذه المرة". "يا ليلي يا عين يا عيني يا ليل"! على أنني قد أعود يوماً ما إلى ما قد كان يدعى الوطن. إذا حدث أنني متّ في بلاد بعيدة، فلربما تجد هذه المذكرات طريقها إلى من سيطالعها فيما كان يدعى الوطن. عندها، سأكون أنا محضَ صوتٍ ما للمنفى والرحيل. هذا إذن ليل وداع لمدينةٍ حملت من "اسمها" ذاك الكثير: "القاهرة"! وذلك ليل آخر لم أعد أذكر تفاصيله بوضوح. ليل قدمتُ فيه لأول مرة إلى المدينة المسماة: "القاهرة"! هذه المدينة المتراجعة الآن عبر نافذة الطائرة المنطلقة على المدرجِ بعنفٍ أشبه في عنفوانِ قوته بحراكِ الزلازل الكبرى أسفل قشرة الأرض السميكة الصلبة. برد ليل شهر ديسمبر القارس ذاك، كان ما استقبلتني به هذه القاهرة في مطارها القديم. كان البرد ما استقبلتني به المدينة المسماة القاهرة، لا الدفء، لا الحضن، لا الغطاء، يا ليل يا عين، يا عين يا ليل. ليل.. وليل. اكتمال دائرة حياتي هذه اللحظة، في مصر. ... وماذا تبقى من حكايات الوداع القاهريّة تلك؟ ... ذهبنا أنا ولورد الله الفقير (ولم تكن الشائعة أطبقت عليه تماماً) إلى زيارة رفيقنا في الحزب معاوية الكامل لوداعه. كان معاوية الكامل هذا قد قرر العودة فجأة إلى الوطن في أعقاب زيارة قريبه بهاء عثمان تلك. انتظرناه أمام غرفته المؤجرة في سطح بناية عتيقة نحو نصف الساعة قبل أن نعلّق حول أوكرة الباب خرقة قديمة في شكل سوار كدليل على حضورنا في حال أن التقينا به مجدداً بعد سنوات في "الوطن". القدر حرمني حتى مما بدا لي وقتها "مصالحة تاريخية مع نفسي". وقد كنت أرغب في استغلال ذلك القدر من الطيبة الذي يحيط عادة بساعات الوداع في كسر جدار الشائعة المتكوّن ذاك حول لورد الله الفقير. كان القلم يقبع في جيب بنطالي ومعه نصف ورقة فلوسكاب مطويّة بعناية. لم أرغب في نزع سدادة جحيم التأويلات بكتابة مذكرة من ذلك النوع: "حضرنا أنا ولورد الله الفقير لوداعك. تصحبك السلامة. حامد". تمكّن الخبث مني حتى خلال الأوقات الطيبة. في الأثناء، تهادت صوب مطار القاهرة طائرة بنوافذ مضيئة. كانت قريبة جداً من الأرض وواضحة كما لو أن بالوسع لمسها. "ماذا يمثل لك مرأى هذه الطائرة، يا حامد"؟ سألني لورد الله الفقير، وعيناه على الطائرة. قلت: "مجرد طائرة في طريقها للهبوط كما تر ى"! كنت أعلم هناك، في قرارة نفسي، أن إجابتي تلك على سؤاله ذاك على قدر ما من "المباشرة"، أو التسرع. سألني مجدداً: "ألم يشكل لك مرأى تلك الطائرة المتهادية الآن صوب المطار ما هو جدير بالتأمّل، يا حامد"؟ حاولت في عتمة السطوح رؤية ما هو كامن هناك في تلافيف عقلي بتركيز أكبر هذه المرة. واللورد ينتظر. لم يكن بوسعي الإتيان بفكرة لم تكن هناك. كان أحدهم أنار نور شرفة في بناية مجاورة. فرأيت ما بدا كما شبح ابتسامة ما على طرف فمه الأيسر، ثم ذلك الشيء الذي أخذ يلتمع هناك، على عينيه، كما لو أنّه الذكاء الخارق. "يبدو أن لورد الله الفقير هذا لا يزال متماسكاً حتى هذه اللحظة"، فكرت خطفاً في نفسي. ما لبث أن تناهى صوته: "هذه الطائرة، يا حامد، قد تحمل الآن إلى القاهرة الخير أو الشر، الحزن أو الفرح". اللورد هذا ينظر دوماً إلى الأشياء على نحو مختلف. غمره الفرح ذلك الصباح لمرأى الضباب يلتف حول مبنى ماسبيرو. قال وقتها: "الأشياء في الضباب كما الحقيقة، تبدو ولا تبين". ذلك النوع المختلف من التفكير هو بالضبط ما يرى فيه بعض الناس شذوذاً. كان من علامات الإجهاض المبكّر لثورة الوطن الأخيرة ما عُرف باسم المفقودين الذين لم يكن بالوسع العثور على أغلبهم. بعض هؤلاء وُجِدَ بعد مرور أيام على إختفائه جثّة طافية على سطح النهر عليها آثارُ تعذيب بشع. بينما أطالع "الفيسبوك"، كان عليَّ أن أدقق طويلاً في هيئة رجلٍ مسنّ عُثرَ عليه في غير مدينته. كما لو أنّه ظلّ في العراء لمدى أشهر مرتدياً الأسمال نفسها. كان غائباً بوعيه عن العالم. يُحدّق في الناس ولا يراهم. أحياناً، تتردد على لسانه كلمة واحدة. وهي "ليبيا". أما هناك أسفل مقطع الفديو فتعليق مفاده: "على مَن يتعرّف على هذا المسكين أن يتصل بنا على رقم هذا الهاتف". كان عليَّ أن أدقق طويلاً في هيئته البائسة تلك، حتى أتعرّف فيه على رفيق الحزب السابق معاوية الكامل.
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
ليل الغرباء البارد | عبد الحميد البرنس | 06-11-21, 00:27 AM |
Re: ليل الغرباء البارد | عبد الحميد البرنس | 06-11-21, 08:10 AM |
Re: ليل الغرباء البارد | ابو جهينة | 06-11-21, 09:48 AM |
Re: ليل الغرباء البارد | عبد الحميد البرنس | 06-12-21, 00:01 AM |
Re: ليل الغرباء البارد | أبوذر بابكر | 06-11-21, 08:20 AM |
Re: ليل الغرباء البارد | عبد الحميد البرنس | 06-11-21, 09:03 PM |
Re: ليل الغرباء البارد | osama elkhawad | 06-11-21, 09:30 PM |
Re: ليل الغرباء البارد | الشيخ سيد أحمد | 06-11-21, 09:42 PM |
Re: ليل الغرباء البارد | osama elkhawad | 06-11-21, 11:33 PM |
Re: ليل الغرباء البارد | الشيخ سيد أحمد | 06-11-21, 11:40 PM |
Re: ليل الغرباء البارد | عبد الحميد البرنس | 06-11-21, 11:58 PM |
Re: ليل الغرباء البارد | عبد الحميد البرنس | 06-12-21, 08:01 AM |
Re: ليل الغرباء البارد | عبد الحميد البرنس | 06-12-21, 03:26 AM |
Re: ليل الغرباء البارد | عبد الحميد البرنس | 06-12-21, 12:18 PM |
Re: ليل الغرباء البارد | عبد الحميد البرنس | 06-12-21, 06:45 PM |
Re: ليل الغرباء البارد | Osman Musa | 06-12-21, 08:41 PM |
Re: ليل الغرباء البارد | عبد الحميد البرنس | 06-13-21, 08:02 AM |
Re: ليل الغرباء البارد | عبد الحميد البرنس | 06-13-21, 06:10 PM |
Re: ليل الغرباء البارد | Abdalla Gaafar | 06-14-21, 08:42 AM |
Re: ليل الغرباء البارد | عبد الحميد البرنس | 06-14-21, 09:52 PM |
|
|
|