ألتوسير و"التُّونسيَّة"؛ ومصرُ ومصيرُ الدَّولة السُّودانيَّة/ محمد خلف

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-03-2024, 01:35 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف للعام 2020-2023م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
07-14-2020, 01:39 AM

النصرى أمين

تاريخ التسجيل: 10-17-2005
مجموع المشاركات: 9382

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
ألتوسير و"التُّونسيَّة"؛ ومصرُ ومصيرُ الدَّولة السُّودانيَّة/ محمد خلف

    01:39 AM July, 13 2020

    سودانيز اون لاين
    النصرى أمين-كالغرى, كندا
    مكتبتى
    رابط مختصر



    ألتوسير و"التُّونسيَّة"؛ ومصرُ ومصيرُ الدَّولة السُّودانيَّة

    محمد خلف

    الدَّلالة، بحسب عالِمِ اللِّسانيَّاتِ السُّويسري، فيردينان دو سوسير، هي علاقةٌ قائمةٌ في العمق بين دالٍ ومدلول؛ وما دام الأمرُ كذلك، فيتعيَّن علينا ألَّا نُقلِّلَ من شأنِ أيِّ طرفٍ من طرفي التَّعريف (أي الدَّال، وهو التَّعبير الصَّوتي أو المكتوب؛ والمدلول، وهو الصُّورة الذِّهنيَّة)؛ وفي الغالب، يكون الدَّال، على أهميَّته القصوى، هو الذي يقعُ ضحيَّة هذا التَّقليل من الشَّأن، إن لم نقلِ الإهمالَ التَّام. فمَن مِنَّا توقَّف قليلاً ليتأمَّل عبارة "وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ" في سورة "هود"، الآية رقم 36؛ أو عبارة "مَا وَصَّى بِهِ نُوحَاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ" في سورة "الشُّورى"، الآية رقم 13. تنبيهاً لنا جميعاً وتفادياً لهذا الإهمال غير المقصود، ندعو القارئ المُستعجِلَ أن يتوقَّفَ قليلاً أمام الجِناسِ اللَّفظيِّ للدَّوال في الثُّنائيَيْن ["ألتوسير" و"التُّونسية"]، و[مصر والمصير]، ريثما نشرعُ لاحقاً في توضيح الدَّلالة المُستقِرَّة في أحشاء العلاقةِ القائمة بين كلٍّ من هذينِ الزَّوجَيْنِ اللَّفظييَيْن.

    نبَّهنا في كتاباتٍ عديدة إلى أهميَّة نظريَّة الفيلسوف الفرنسي، لوي ألتوسير، حول الدَّور التَّكويني والتَّكميلي لأجهزة الدَّولة الآيديولوجيَّة في رفد وتطوير المفهوم الكلاسيكيِّ للدَّولة. فالمفهوم الكلاسيكيُّ ينحصرُ في منظورٍ يتناولُ مصطلح "الدَّولة" باعتبار أنَّها أداةٌ (مُستقِلَّة أو طبقيَّة) لتنظيم المجتمع، استناداً إلى الإدارة العلميَّة، ووفرة المال، وقوَّة الجيش والشُّرطة، والتَّحكُّم في أنظمة السُّجون وأجهزة الاستخبارات (وإن أُضيفَ إلى هذه التَّرسانة الأمنُ السِّيبرانيُّ الحديث، فإنَّ الإضافة، على أهميَّتها، لن تخرُجَ بالأداة عن المفهوم الكلاسيكيِّ للدَّولة). أمَّا ألتوسير، فإنَّه يؤكِّد على الدَّور الحاسم لأجهزة الدَّولة الآيديولوجيَّة في تصريف شؤون الدَّولة الحديثة؛ وهذه الأجهزة تتمثَّل، حسب نظريَّته، في مؤسَّسات التَّربية والتَّعليم، ودواوين الثَّقافة، وأجهزة الإعلام، ودور النَّشر، والصُّحف والمجلَّات، والمرافق الدِّينية، والأندية الرِّياضية، والتَّنظيم الأُسري.

    قد يحتلفُ كثيرٌ من علماء السِّياسة مع الفيلسوف الفرنسي، إلَّا أنَّ نشوء الدَّولة الحديثة في السُّودان، مع استكمال الغزو الاستعماري في أواخر القرن التَّاسع عشر، لا يُمكِنُ تفسيرُه إلَّا بعونٍ من نظريَّة ألتوسير؛ بل يُمكِنُ القولُ بأنَّ نظريَّته كان سيطالُها النِّسيان، لولا أن تهيأ لها في دولة السُّودان المصري الإنجليزي وضعٌ نموذجيٌّ للتَّطبيق. فبادئ ذي بدء، كان الحكمُ، بِحُكمِ اتِّفاقيَّة عام 1899، ثنائياً؛ ثمَّ سرعان ما تقاسَمَ الشَّريكان، بِحُكمِ الخصائص المتوفِّرة لدى الطَّرفين، أعباء السَّيطرة على البلاد. فاضطلع الشَّريكُ الأضعف بمهامِّ التَّرجمة، وكتابة المنشورات باللُّغةِ العربيَّة، والتَّعليم في المدارس الابتدائيَّة، والإشراف على المساجد، وإقامة المناسبات الدِّينيَّة (المولد والأعياد)، وتنظيم الفرق والأندية الرِّياضيَّة. هذا، بينما سيطر الحاكم العام، بسكرتيرَيْهِ الإداري (الذي كان بمثابةِ رئيسٍ للوزراء) والمالي، على أجهزة الدَّولة الكلاسيكيَّة (بدون تدخُّلٍ منه يُذكَرُ في إدارة أجهزة الدَّولة الآيديولوجيَّة).

    حاولنا التَّدليل في مقالاتٍ سابقة على قدرة الشَّريك الأضعف على التَّأثير بانتشارِ الكلمات الفرنسيَّة التي لا مُبرِّرَ لوجودها إلَّا لأنَّ لغةَ بلاد الغال (فرنسا وبلجيكا) قد أتت إلى مصرَ مع حملة نابليون الشَّهيرة، ومنها إلى بلاد السُّودان، عن طريق الشَّريك المهيمن على أجهزة الدَّولة الاستعمارية الآيديولوجيَّة. وبالرَّغم من أنَّ الكاتب الرِّوائي الكبير، الطَّيِّب صالح، قد استهجنَ في إحدى زياراتِه إلى السُّودان وجودَ لافتةٍ في مطار الخرطوم مكتوباً عليها ترحيباً باللُّغة الفرنسيَّة "بيا(نْ)فينو"، إلى جانب التَّرحيب باللُّغتين العربيَّة والإنجليزيَّة، إلَّا أنَّ الكلمات الفرنسيَّة المُستخدَمة في العامِّيَّة العربيَّة في الخرطوم لا حصرَ لها. على سبيل المثال، يستحِمُّ شابٌّ أنيقٌ من ساكني الأحياء الرَّاقية بصابونٍ ("سافون"، وليس "سوب")؛ ويرتدي قميصاً ("شيميز"، وليس "شيرت")؛ وبنطلوناً ("بنتالون" بالمفرد، وليس "تراوزرز" بالجمع)؛ ويجلس هُنيهةً على الصَّالون ("سالون"، وليس "ليفينغ روم")؛ ليتناولَ كأساً من الأناناس ("أناناس"، وليس "باينابل")؛ قبيل أن يخرج، فتطأ قدماه الرَّصيف ("تروتوار"، وليس "بيفمنت").

    إلَّا أنَّ ما ذكرناه هو مجردُ عددٍ من الكلمات؛ وكنَّا نبحثُ عن عباراتٍ أو جملٍ كاملة، حتَّى نستيقنَ من صِحَّة ما نقول؛ وما كان يقفُ أمام طريقنا غيرُ نضوبِ المعرفة باللُّغة الفرنسيَّة وقلَّةِ المتعاونين معنا في هذا الشأن، على كثرةِ خرِّيجي شُعَبِ اللُّغةِ الفرنسيَّة بجامعاتِ البلاد، وازديادِ عددِ المستوطنين السُّودانيين بالمدنِ الفرنسيَّة. إلى أن ظهرت معضلةُ "التُّونسيه"، في عبارة "رِكِب التُّونسيَّه" الدَّارجة، والمُنتشِرة في دردشات الإنترنت. وهي عبارةٌ عن عربةِ "كومر" قديمة لشرطة الخرطوم، مكتوباً على واجهتها كلمة "التُّونسيَّه"؛ وكان يُظنُّ أنَّ المقصود بهذه الكلمة شركة الطَّيران التُّونسيَّة، إلَّا أنَّ ما يُكذِّبُ هذا الظَّنَّ هو أنَّ طائرات الخطوط الجوِّيَّة التُّونسيَّة قد اشتُهِرت بحُسنِ أدائها ونظافتها، وهذه عربةٌ مهترئة لنقلِ المعتقلين بواسطة الشُّرطة العاصميَّة؛ كما أنَّ العبارة تُستخدَمُ كنايةً عن "وقوعِ المرءِ في شرِّ أعمالِه"، وليس كنايةً عن تمتُّعه برحلةٍ مريحة تُسيُّرها شركة طيران عربيَّة مرموقة.

    وتفسيرُنا، وهو ما نعتبرُه "دليلاً دامغاً" (إسموكينغ غن) يأتي من التَّأثيرِ المنسيِّ للُّغةِ الفرنسيَّة في السُّودان، باعتبارها عنصراً مُكوِّناً لأجهزة الدَّولة الآيديولوجيَّة، التي تسرَّبت بشكلٍ ناعمٍ إلى عاصمةِ البلاد عبر حاملها الأساسي، وهو الشَّريكُ الأضعف في الحُكمِ الثُّنائي لبلاد السُّودان. فالعبارة هي في الأساس جملةٌ فرنسيَّة في غايةِ التَّعقيد، لا يلمُّ بها إلَّا من خَبِرَ دروبَها النَّحويَّة الشَّائكة؛ ونحنُ لا ندَّعي لأنفسِنا هذه المعرفة العميقة، ولكنَّا كمواطنينَ محظوظينَ ببلوغِنا الرُّبعَ الأوَّل من القرن الواحد والعشرين، قد استعنَّا بمجهوداتٍ مُدَورَنةٍ (إيفولفد) من غوغل. ضمير الجمع للغيبة (إل) باللُّغةِ الفرنسيَّة يُشيرُ إلى الذُّكور، وهو ما يَلقَى تغضيداً باضطلاع الرِّجال بالخدمة الشُّرطيَّة في العاصمة المثلَّثة؛ والضَّميرُ الشَّخصيُّ المُدغم (تـ"و")، قد استُخدِمَ عِوضاً عن ("فو")، إمعاناً في الازدراء بالمقبوض عليهم وإهانتهم بالمخاطبة غير الرَّسميَّة؛ والحرف المدغوم ("تـ") مع "أو(ن) الأنفيَّة" يُصبح "تون"، بمعنى يحتفظون بكم لديهم؛ والظَّرف ("سي")، بمعنى هكذا؛ لِتُصبح الكلمة (الجملة الفرنسيَّة الكاملة) على واجهة العربة "التونسيه" (بدون تاء مربوطة، إشارةً إلى وجود مدَّة بعد الياء)، بمعنى، "سيرمون بكم في هذه العربةِ هكذا"؛ ولِتُصبح عربة الكومر، وليس شركة الطيران "التُّونسيَّة"، "ضبطيَّةً" أو "حراسةً" متحرِّكة يُوضع بها معتقلون، لا براءةَ لهم إلى أن تتمَّ إدانتهم (حسب القاعدة الجنائيَّة المُتَّبعة)، فهم مُدانونَ ومرذولونَ مُسبقاً بالعبارةِ الفرنسيَّةِ الجارجة: "التونسيه" (فالهمزةُ التَّحتانيَّة لا يحفلُ بها أحدٌ؛ وهو ما جرت عليهِ العادةُ إلى وقتِنا هذا، مع توفُّرِ كلِّ التَّسهيلاتِ اللَّازمة في لوحاتِ المفاتيح "الكيبوردات" الحديثة).

    سنحاول أن نُكمِلَ التَّحليل بالتَّركيز على الثُّنائية الأخرى في حلقةٍ مُقبِلة.






                  

07-14-2020, 01:41 AM

النصرى أمين

تاريخ التسجيل: 10-17-2005
مجموع المشاركات: 9382

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: ألتوسير وandquot;التُّونسيَّةandquot;؛ ومصرُ ومصي� (Re: النصرى أمين)

    ألتوسير و"التُّونسيَّة"؛ ومصرُ ومصيرُ الدَّولة السُّودانيَّة

    أهميَّة نظريَّة الفيلسوف الفرنسي، لوي ألتوسير، حول الدَّور التَّكويني والتَّكميلي لأجهزة الدَّولة الآيديولوجيَّة لا تقتصرُ فقط على رفدِ وتطويرِ المفهوم الكلاسيكيِّ للدَّولة، وإنَّما تتعدَّاه، في نظرنا، إلى تنصيب التَّاريخ الثَّقافيِّ نفسِه صنواً للتَّاريخ السياسي؛ وكلاهما، من منظور ألتوسير، يشوِّشانِ على نقاء المفهوم الكلاسيكي، الذي يعتمدُ الاقتصادَ أساساً أوحدَ لبلورةِ أطروحاته. فمن الأشياء اليوميَّة المُعتادة، وليس بالضَّرورة الأحداث الضخمة الجِسام، يُمكِنُ التأسيسُ لتدوينِ تاريخٍ جديدٍ للبلاد، هو أقربُ إلى روحِ الشَّعب، وأبعدُ عن الأطروحاتِ التي تُردِّدُ بقلمٍ واعٍ لمقصدِه أحياناً، وفي مرَّاتٍ أخرى من دون وعي كافٍ منه، طريقة شوف الرَّحالة الأجانب والمُقيمين المؤقَّتين، وتبنِّي ملاحظاتهم العابرة أو القبول التَّام لها من غير تمحيصٍ نقديٍّ لِما جاء في مذكِّراتهم التي لا غنًى للباحثِ عنها، والتي تُضمِّنت في شكلِ وثائقَ ومتونٍ امتلأت بها رفوفُ المكتبات وخزانات دورِ الوثائق في المؤسَّسات الأكاديميَّة المحليَّة والأجنبيَّة.

    على سبيلِ المثال، يُمكِنُ صياغةُ تاريخٍ حميم لجماعتَيْ أو طائفتَيْ الأنصار والختميَّة (وبالتَّالي، حزب الأمَّة والحزب الاتِّحادي الديمقراطي، إن لم نقُلِ الأحزابَ الاستقلاليَّة والاتِّحاديَّة) من خلالِ رصدِ الأنشطة اليوميَّة لدار الذِّكرى ببيتِ المال (والذي يُقرأُ فيه راتبُ الإمامِ المهديِّ مرَّتين يوميَّاً)، وقصر الشَّريفة الواقع على مرمى حجرٍ من الدَّار (والذي يُقرأُ في ساحتِه المولدُ يوميَّاً ويُختَمُ كلَّ خميس). كما يُمكِنُ كتابةُ تاريخٍ أنصعَ بتتبُّعِ الأنشطة اليوميَّة لِجَدِّي بدوي سليمان كركساوي؛ فقد كان يحتفظُ إلى جوارِ سريرِه (عنقريبه) بشيئين: مُصحفٌ مكتوب بخطِّ اليد، يتمُّ استلافُه من قبل سكَّانِ الحيِّ كلَّما طلَّ في كَنَفِ أُسرةٍ صغيرةٍ مولودٌ جديد؛ ودفترُ الأستاذِ الكبير، الذي يُقيِّدُ في أسطرِه المُتتابِعة ما يصطلِحُ علماءُ الاجتماع على تسميته بالأزماتِ الاجتماعيَّة الأُسريَّة الأساسيَّة: ميلادُ طفلٍ، وزواجُ راشدٍ، وموتُ إنسانٍ أيَّاً كان عُمُرُهُ.

    وعندما يُولدُ طفلٌ جديد في بيتِ المال، كان يُسمَّى، على سبيل المثالِ، محمَّداً أو فاطمة؛ مصطفى أو أسماءَ؛ أحمدَ أو رُقيَّة. وبتأثيرٍ ناعمٍ من الشَّريكِ الأضعفِ في الحُكمِ الثُّنائي، صار المولودُ يُسمَّى عادلاً أو فاتنَ؛ سامي أو سامية؛ مجدي أو ماجدة. وعندما يخطو راشدٌ أو تأتي القِسمةُ إلى راشدةٍ، كانتِ الخطوةُ تُكلَّلُ بالدَّلُّوكةِ والزَّغاريدِ النَّديَّة. وبتسلُّلِ ذاتِ التَّأثير، أصبحتِ المناسبةُ تُجَهَّزُ بالشَّاشاتِ وكاميرات السِّينما المُتجوِّلة التي تعرِضُ أفلاماً مصريَّة لمحمود شكوكو وإسماعيل يسن، تتخللَّها أُغنياتٌ خفيفة مرِحة وقفشاتٌ كوميديَّة تسرُّ النَّاظرين؛ هذا كلُّه قبل ظهورِ الفنَّانِ "الذَّرِّي"، إبراهيم عوض، بصوته الذي تحمله النَّسماتُ منذ أطرافِ اللَّيل، فيتقاطرُ حوله الفتيانُ والفتياتُ من كلِّ حَدَبٍ وصَوب. وعندما ينتقلُ شخصٌ إلى رحمةِ ربِّه، كانت أيَّامُ المأتم تُجَلَلُ بالقرآنِ، بصوتِ الشَّيخ عبد الباسط عبد الصَّمد والشَّيخ محمود الحصري، قبل أن يجدَ الشَّيخانِ الجليلانِ، عوض عمر وصدِّيق أحمد حمدون، مشكاةً للتِّلاوة أو شرفةً للتَّرتيل، إلى جانبِ الشَّيخَيْن الكريمَيْن من شمالِ الوادي.

    وإذا انتقلنا إلى التَّعليم، أي غير التَّعليم التَّقليدي في الزَّوايا والخلاوي، كانتِ المؤسَّسات التَّعليميَّة للشَّريكِ الأضعف تُنافِسُ الأخرى التي تمَّ افتتاحُها حديثاً: من المداراس الأوَّليَّة (الأساس)، إلى الابتدائيَّة (المتوسِّطة)، ثمَّ الكلِّيَّات الثَّانويَّة (التي تطوَّرت لاحقاً إلى جامعة). وكان المدرِّسون المصريون همُ الذين يُشرِفون على تلك المدارس التي تمَّ افتتاحُها منذُ العقودِ الأولى للحُكمِ الثُّنائي. وكان طلاب كليَّة غردون ينقسمون إلى "أفنديَّة" و"شيوخ"، فاضطلعَ الشَّريكُ الأضعف بمهمَّة تربية النشءِ وتخريجهم "شيوخاً". وفي رواية "موسم الهجرة إلى الشَّمال"، قاد شخصٌ يركبُ حصاناً ويرتدي بنطالاً وقبعةً بطلَ الرِّواية، مصطفى سعيد، إلى مدرسةٍ فسيحة على شاطئ النِّيل؛ وعندما دخل الطِّفلُ (البطل) إلى الفصل، وجد المدرِّسُ يرتدي قفطاناً، فطاردته لعنةٌ قادته في نهاية المطاف إلى القاهرة ولندن (عاصمتَيِ الحُكم الثُّنائي)، ليكتوي بسعيرِ المأساة بقتلِه لشريكتِه الأولى، وشَرَكِه المنصوب، جين موريس.
                  

07-14-2020, 01:41 AM

النصرى أمين

تاريخ التسجيل: 10-17-2005
مجموع المشاركات: 9382

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: ألتوسير وandquot;التُّونسيَّةandquot;؛ ومصرُ وم� (Re: النصرى أمين)

    وكان المتعلِّمون "يتثقَّفون" بقراءةِ الصُّحف والمجلَّات المصريَّة؛ ويستمعونَ إلى إذاعاتِ القاهرة قبل أن تُفتَتَحُ واحدةٌ في أمدرمان؛ ويُشاهدون الأفلام المصريَّة التي تُعرَضُ مساءً في دورِ العرضِ المحدودة؛ وكانتِ الخِيَمُ وصيواناتُ الطُّرقِ الصُّوفيَّة وسُرادقُ الحكومة يُشرِفُ على تزيينها ورسمِ خطوطِها عددٌ من الخطَّاطين المصريِّين؛ كما شارك أفرادُ البعثةِ المصريَّة في تأسيسِ الفرق الرِّياضيَّة، فلا عجبَ أن يُغيِّرَ الدِّكتاتورُ الثَّاني اسمَ فريقٍ منها في بيت المال من "فاروق" (الملك المخلوع في أعقاب "الثَّورة" المصريَّة) إلى "ناصر"، عند تنفيذِ قرارِ دمجِ الأندية، فضاع الفريقُ الوطنيُّ "الكراكسة" من جرَّاءِ هذا القرار المُجحِف؛ وكانتِ الأسطواناتُ الأولى لكرومة وزنقارَ وسرور تُطبعُ في القاهرة؛ وكان الشُّعراءُ يهفون للإقامةِ المؤقَّتة فيها؛ فلا غروَ أن تشرَّبتِ الحركةُ الوطنيَّة السُّودانيَّة، بجناحَيْها الاتِّحادي والاستقلالي معاً، إبَّان عهد الطَّلب في القاهرة، بروحِ الثَّقافة المصريَّةِ العميقة، إن لم يكن بتبدِّياتِها السِّياسيَّةِ الظَّاهرة على السَّطح.

    لا نقولُ إنَّ للقاهرةِ أطماعاً في السُّودان، ولكن نقول إنَّ لها مرامياً واضحة في جنوبها منذ نشوء الدَّولة المصريَّة الحديثة في كَنَفِ الاستعمار؛ فإستراتيجيَّتُها الكبرى - التي أدَّت إلى مشاركة الوطنيِّين المصريِّين في حملة الغزو، ومن ثمَّ المشاركة في حُكمِ البلاد بدَورٍ محدود - قائمةٌ على حراسةِ الحدودِ الجنوبيَّة وتأمينِ مصادرِ مياه النِّيل. ولم يكن في مقدورها بجُثُوِّ المستعمرِ على صدرِها أن تقومَ بهذا العملِ وحدَها. وكان من حظِّ الحركةِ الوطنيَّة المصريَّة في أعقاب ثورة عرابي أنَّ كان لدى المستعمرِ البريطانيِّ هدفٌ واحدٌ من وجوده في مصر، وهو حراسةُ حركةِ الملاحة في قناةِ السِّويس لضمانِ وصولِ البضائع من الهند، جوهرةِ التَّاجِ البريطاني. لوضوحِ هذينِ الهدفَيْن وأهميَّتهما الإستراتيجيَّة لكلٍّ من بريطانيا ومصر، كان من اليُسرِ عقدُ شراكةٍ، أو زواجِ مصلحةٍ، تبرمه وزارةُ الخارجيَّة البريطانيَّة بالاتِّفاقِ مع تركيا ومصر، التي كانت خاضغةً للسُّلطانِ العثماني، من غيرِ حاجةٍ إلى تدخُّل وزارة الحرب أو المستعمرات في هذا الشأنِ الدبلوماسيِّ الخاص. ومن هنا نشأ ما يُسمَّى بالحُكمِ الثُّنائي أو السُّودانِ الإنجليزيِّ المصري.

    هذا ما كان بشأنِ تأسيس دولة الحكم الثُّنائي، ولكنَّ تطوُّرَه قد شابه صراعٌ دائم بين الطَّرفين، أدَّى إلى خصومةٍ سافرة، خصوصاً مع تتالي قدوم الحُكَّام الجدد من خرِّيجي جامعتَيْ أكسفورد وكيمبردج، ونمو الحركة المتصاعدة داخل المركز الكولونيالي لتفكيكِ جميعِ المستعمراتِ البريطانيَّة. وكان من جرَّاءِ هذه الخصومة أنِ استمالَ كلُّ طرفٍ قسماً من أقسامِ الحركةِ الوطنيَّة؛ فكانتِ المجموعاتُ الاتِّحاديَّة، بحُكم فكرتها الأساسيَّة، أقرب إلى مصر؛ بينما كانتِ المجموعاتُ الاستقلاليَّة، بشكلٍ مفارقٍ ومتناقضٍ، أقرب إلى بريطانيا (ولا يُمكِنُ تفسيرُ هذا القرب إلَّا برغبةِ الموظَّفين البريطانيِّين - لتأكُّدهم من المصير المحتوم للمستعمرات - ألَّا يتركوا في السُّودانِ وراءهم مستعمرٌ آخرُ، ولو تسربل بأزياءِ العروبةِ والإسلام أو الوحدةِ المصيريَّة لشعوبِ وادي النِّيل. وبالفعل، تسلَّلت هذه الخصومة بين الشّرِيكين إلى الحركةِ الوطنيَّة النَّاشئة، فنشبَ بينها صراع، أُزيلَ في إحدى المرَّاتِ بالتَّوصُّلِ إلى صيغةٍ تصالحيَّة، يتمُّ بموجبها تعريفُ الحركة الوطنيَّة السُّودانيَّة بأنَّها "في اتِّحادٍ مع مصرَ وتحالفٍ مع بريطانيا".

    هذا الوضعُ، على غرابته، لا ينتقصُ من قامةِ الحركةِ الوطنيَّة الوليدة، بوجودِ كلٍّ من دهاقنة السِّياسة البريطانيَّة وإستراتيجييِّ السِّياسة المصريَّة، التي لم تتغيَّر ولن تتغيَّر؛ ولولا دهاءُ الأزهريِّ المُطابقِ لذكاءِ الشَّريكين، لتعثَّرَ نشوءُ الدَّولةِ السُّودانيَّة منذُ لحظةِ الميلاد. إلَّا أنَّ المشكلة ما زالت تُراوحُ مكانَها، فمصيرُ الدَّولةِ السُّودانيَّة مرتبط بمصيرِ مصر. وإذا لم تستصحبِ الدَّولةُ السُّودانيَّة ذكاءً ودهاءً أزهريَّاً يوميَّاً، ستؤدِّي الضَّوضاءُ المتصاعدةُ من الجانبَيْن في الإنترنت، وردودُ الأفعالِ غيرِ المراقبةِ في الصُّحفِ السَّيَّارة، إلى حدوثِ ما لا يُحمَدُ عُقباه. نحنُ واثقونَ بأنَّ أجهزةَ الاستخباراتِ المصريَّة تعملُ بمنتهى الحكمة، في مراعاةِ مصالحها، ولكنَّها قادرةٌ على اللُّجوءِ أحياناً إلى قعقعةِ السِّيوف، مثلما هو بائنٌ من مواجهتها للتهديدِ الإثيوبيِّ بملءِ سدِّ النَّهضة. فهل تتمتَّع أجهزةُ استخباراتِنا ودبلوماسيِّينا في أعقابِ الثَّورةِ بدهاءٍ وذكاءٍ أزهريَيْن؟؛ فإن لم يكنِ الأمرُ كذلك، وهو في الغالبِ ليس كذلك، فيجبُ الإسراعُ في هيكلةِ الأجهزة الأمنيَّة ووزارتَي الخارجيَّة والرَّي (مع ملاحظةِ أنَّ تسمية الأزهريِّ جاءت من نَيلِ شهادة "العالِميَّة" أو "المشيخيَّة" من الجامع الأزهر الشَّريف في مصر).

    في الختام، نودُّ أن نُعبِّرَ عن احتفائنا بدحضِ تفسيرِنا في الحلقة السَّابقة لعبارة "التُّونسيَّة"، بعد أن تبيَّن لنا تعرُّضُ الصُّورةِ التي اعتمدنا عليها للتَّزييف عن طريق تقنية "الفوتوشوب"؛ إلَّا أنَّ أطروحتَنا الرَّئيسيَّة بصدد أهميَّة دور أجهزة الدَّولة الآيديولوجيَّة ما زالت قائمة، وما طرحناه أعلاه يمضي أكثر في تعضيدِ هذه الفكرة الجوهريَّة التي استندت إلى تطبيقِ الفكرة على واقعِ نشأةِ الدَّولة وتطوُّرِها في السُّودان. وربَّما نشرحُ في حلقةٍ مُقبِلة ما نعني بالاحتفاء، الذي سيقودنا إلى جون إكِلِس، وكارل بوبر، وتوماس كون، وليونارد سسكِند، ومنهجيَّةِ العلوم الطَّبيعيَّةِ والاجتماعيَّةِ معاً.
                  

07-14-2020, 01:42 AM

النصرى أمين

تاريخ التسجيل: 10-17-2005
مجموع المشاركات: 9382

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: ألتوسير وandquot;التُّونسيَّةandquot;؛ ومصرُ وم� (Re: النصرى أمين)

    ألتوسير و"التُّونسيَّة"؛ ومصرُ ومصيرُ الدَّولة السُّودانيَّة

    بمثابة حلقة ثالثة

    - محمَّد خلف -

    عبَّرنا في الحلقةِ السَّابقة عن احتفائنا بدحضِ التَّفسيرِ الذي تقدَّمنا به لعبارة "التُّونسيَّه"، بعد أن تبيَّن لنا تعرُّضُ الصُّورةِ التي اعتمدنا عليها للتَّزييف عن طريق تقنية "الفوتوشوب"؛ وقلنا إنَّنا ربَّما نشرحُ ما نعني بالاحتفاء، الذي سيقودنا إلى جون إكِلِس، وكارل بوبر، وتوماس كون، وليونارد سسكند، ومنهجيَّةِ العلوم الطَّبيعيَّةِ والاجتماعيَّةِ معاً. ومبعثُ احتفائنا، الذي سنأتي إلى تفصيلِه بدءاً من الفقرةِ المُقبِلة، يأتي من أنَّ الكشفَ مُبكِّراً عن تعرُّض الصُّورة للتَّلاعبِ الرَّقمي قد أسدى لنا خدمةً كبيرة بدحضِ ما اعتبرناه "دليلاً دامغاً" (إسموكينغ غن) على تأثير اللُّغة الفرنسيَّة - باعتبارها موشِّراً على هيمنة الشَّريك الأضعف على جهاز الدَّولة الآيديولوجي – في اللُّغة العامِّية المُستخدَمة في عاصمة البلاد؛ فكلَّما كان الدَّليلُ المقدَّم قابلاً للدَّحض، كلَّما كان عِلميَّاً، بتعبير كارل بوبر. علاوةً على ذلك، فقد انهار دليلٌ واحد فقط، وبقيت أدِلَّةٌ كثيرة في جوفِ التَّفسير؛ وهي الأُخرى قابلةٌ للدَّحض، من غير أن تتأثَّرَ الفكرة الأساسيَّة، وهي سيطرةُ الشَّريك الأضعف على الجهاز الآيديولوجي لدولة الحكم الثُّنائي، التي ما زالت تُلقِي بظلالِها الكثيفة على تطوُّر الدَّولة السُّودانيَّة الحديثة.

    في عام 1946، التقى عالِمُ الأعصابِ الأسترالي، جون إكِلِيز، بالفيلسوف النَّمساوي، كارل آر بوبر، في نادٍ للأساتذة بجامعة دَنِيدِن النِّيوزيلنديَّة، فأبلغه أثناء محادثتهما بالخلاف الدَّائر بشأن انتقال الإشارات عبر صدعِ التَّشابكِ بين الخلايا العصبيَّة (ساينابتيك كِليفت)، وانقسام العلماء إلى فريقين أحدُهما يرى أن الانتقالَ يتمُّ كيميائيَّاً، وآخرُ على رأسِه إكِلِيز يرى أنَّ الانتقالَ يتمُّ كهربائيَّاً؛ وكانت كلُّ الدَّلائل تُشيرُ إلى أنَّ العالِمَ الأستراليَّ سيكونُ بين الفريق الخاسر، الأمر الذي أصابه بحالةٍ من اليأس وال################؛ فما كان من بوبر إلَّا أن حثَّه على الاحتفاءِ بدحضِ فرضيَّتِه، لأنَّ ذلك لن يمسَّ طريقة الوصول إلى نتائج البحث، وإنَّما يمسُّ فقط تفسير تلك النَّتائج، وأنَّ ما يقومُ به إكِلِس هو ممارسةٌ علميَّة من الطِّرازِ الأوَّل، بصرفِ النَّظر عمَّا تأتي به النَّتائج؛ كما طلب منه بوبر أن ينضمَّ إلى الفريقِ الآخر أو يُشرِفَ بنفسِه على دحضِ فرضيَّته الأولى، وهو ما تمَّ لاحقاً: فقد تمَّ على يد بيرنارد كاتز أوَّلاً دحضُ الفرضِيَّة الكهربائيَّة، وتأكيد انتقال الإشارات العصبيَّة المُستثارة عن طريق التوسُّط الكيميائي؛ إلَّا أنَّ إكِلِيز قد دعم أيضاً نظريَّة كاتز بإثبات أنَّ النواقل العصبيَّة المكبوتة تُساهِمُ هي الأخرى في تنظيم الإشارات عن طريق التوسُّط الكيميائي.

    من حسنِ الطَّالع أنَّني تعرَّفتُ على طريقة بوبر إبَّانَ عهدِ الطَّلب، وقد كان عنوانُ بحثِ تخرُّجي هو "حلُّ بوبر لمشكلة هيوم المتعلِّقة بالاستقراء". وقد اتَّبع كثيرٌ من العلماء طريقته، كما تبنَّاها لفيفٌ من غير العلماء، بينهم المُستثمِرُ المجريُّ-الأمريكيُّ الشَّهير، جورج سوروس. وقد حفِظني من الارتماءِ الكاملِ في أحضانِ نظريَّتِه تعرُّفي على توماس كون عبر كتابه الأشهر: "بنية الثَّوراتِ العلميَّة"، وكتابه الآخر الأقلِّ شهرةً والذي نُشِرَ بعد مماته، وهو "ما بعد البنية". يقِرُّ كون بشكلٍ عام بطريقة بوبر، ولكنَّه يرى أنَّ العلوم لا تتطوَّرُ بتخلِّي العلماءِ سريعاً عن الفرضِيَّاتِ المُدحَضة، وهم أولئك العلماء الذين يُسمِّيهم ليونارد سَسكِند بالبوبراتسي، في إشارةٍ لاذعة إلى الباباراتسي، وهمُ الصَّحفيُّون الذين يطاردون المشاهير، ويستعجلون النَّتائج بالاكتفاء من غيرِ تمحيصٍ كافٍ بمصادِرَ غير موثوقٍ بها عنهم أو صورٍ تُلتقطُ لهم على عجلٍ للتَّدليل بها على "حقائقَ" لا يدعمها سياق، فينشرونها للتَّكسُّب خارج حاكميَّة السِّياق.

    يرى توماس كون أنَّ هناك نوعينِ من العِلم: عِلمٌ "عاديٌّ" يومي، يتطوَّر بالتَّراكم، ويعملُ تحت إطاره العلماءُ "العاديُّون" وفقاً لنظريةٍ عامَّة نموذجيَّة (بارادايم)، لا يتخلَّى عنها المُشتغِلونَ بالعلمِ التَّجريبيِّ مهما تراكمتِ الإخفاقاتُ المختبريَّة التي لا يُوجَدُ لها تفسيرٌ في إطار الصِّيغة أو النَّظريَّة النُّموذجيَّة المهيمنة، إلى أن تصِلَ إلى الدَّرجةِ التي تُحدِثُ أزمةً في مجالِ الفيزياء؛ وحينها يبرزُ نوعٌ آخرُ من العِلم، وهو عِلمٌ استثنائيٌّ ينهض بمهمَّةِ تغييرِ الصِّيغة النُّموذجيَّة واستبدالها بأخرى، في ثورةٍ علميَّة تكونُ قادرةً على معالجةِ كلِّ الإخفاقات المختبريَّة السَّابقة، وتوسيع المدى التَّفسيريِّ للإطارِ النَّظريِّ الجديد، الذي سيُمارَسُ تحته بعد حينٍ عِلمٌ عادي، يواجِهُ مُقبِلاً إخفاقاتٍ جديدة، تستدعي هي الأخرى، بعد نشوبِ أزمةٍ لاحقة، تغييراً يؤدِّي إلى إيجادِ صيغةٍ جديدة؛ وهكذا تتطوَّرُ العلوم عن طريقِ القفزاتِ التي تحقِّقها تحوُّلاتُ البرادايم، وليس فقط عن طريق تراكم المعارف العلميَّة المتفرِّقة.

    من النَّتائج المنطقيَّة لهذه الرُّؤيَّة العِلميَّة الثَّاقبة أنَّ العلماء يتشبَّثونَ بنظريَّتهم العِلميَّة العامِلة مهما طرأ عليها من عيوب، وأنَّهم لا يتخلَّون عنها تماماً إلَّا إذا انبثقت نظريَّةٌ أخرى، أكثرُ نجاحاً في معالجة الإخفاقات، وأكبرُ مدًى تفسيريَّاً لتوسيعِ آفاقِ التَّطوُّر العلمي. وما نشاهده اليوم في علم الفيزياء ينهضُ دليلاً على ذلك؛ فمن جهة، يوجد النُّموذج القياسيُّ لفيزياء الجُسيماتِ المتناهية في الصِّغر، الذي يعمل وفقاً لمقتضيات الفيزياء الكموميَّة؛ ومن جهةٍ أخرى، يوجد النُّموذج القياسيُّ لعلم الكونيات، الذي يعمل وفقاً للنَّظريَّة النِّسبيَّة العامَّة؛ وكلا النُّموذجَيْن موفَّقٌ في مجالِه، لكنهما متناقضَيْن عند استخدامهما في تفسير الظَّواهر الفيزيائيَّة العامة، مثل الضَّوء والطَّاقة والجاذبيَّة. وقد سعى ألبرت آينشتاين حتَّى ساعةِ مماته إلى إيجادِ صيغةٍ نظريَّةٍ لتوحيد حقول الفيزياء، فلم يُوفَّق؛ كما حاول إستيفن هوكينغ المُضيَ في نفسِ الطَّريق، فلم يُوفَّق هو الآخر؛ ويُمكِنُ تفهُّمُ جزءٍ من سعيِّه هذا من مشاهدةِ فيلمٍ عن حياته، اختار له المخرِجُ عنواناً مُوحياً، هو: "نظريَّة كلِّ شيء"؛ وهي ما زالت حلماً يراود المشتغلين بالفيزياء، الذين ينتظرون بأنفاسٍ متلاحقة نتائج التَّشغيل المتقطِّع لمصادم هيدرون الكبير في معهد "سيرن" بسويسرا.

    ما نُريدُ أن نخلُصَ به من هذا التَّناول هو: لا أحدَ منَّا يملك الحقيقة كلَّها، بل يحتاجُ العلماءُ وغيرُهم من المُشتغِلين بالقضايا التي تهمُّ النَّاسَ إلى التَّمسُّكِ بآرائهم إلى أن يتَّضحَ أمام أعينهم بطلانُها؛ كما يحتاجون إلى تفهُّمِ وجهات نظر الغير، والاستعدادِ لتقبُّلِها والدِّفاعِ عنها على مرأًى ومسمعٍ من الجميع، إذا ما ثبت صِحَّتُها. وقد ظللنا في هذا الرُّكن (أو الخيط) نعتقدُ بأنَّ المعرفة جهدٌ جماعي، وأنَّ الحركة الثَّقاقيَّة لا تنمو بجهدِ المثقَّفين الأفراد وحدهم، إلَّا إذا انفتح أمامهم الفضاءُ الثَّقافيُّ الدِّيِمقراطي، الذي تتصارعُ فيه الأفكار، وليس الأفراد، وتُحترَمُ فيه كافَّةُ وجهاتِ النَّظر، إلى أن يتبيَّنَ بما لا يدعُ مجالاً للشكِّ القريب بطلان أيٍّ منها، من هذا الجانب أو ذاك.
                  

07-14-2020, 02:04 AM

النصرى أمين

تاريخ التسجيل: 10-17-2005
مجموع المشاركات: 9382

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: ألتوسير وandquot;التُّونسيَّةandquot;؛ ومصرُ وم� (Re: النصرى أمين)

    IMG-20200706-WA0059
                  

07-15-2020, 10:26 PM

Sinnary
<aSinnary
تاريخ التسجيل: 03-12-2004
مجموع المشاركات: 2770

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: ألتوسير وandquot;التُّونسيَّةandquot;؛ ومصرُ وم� (Re: النصرى أمين)

    لا ياتي النصري إلا بالروائع... فشكراً له، ولأستاذنا محمد خلف على هذه الكِتَابَة الكَتَّابة وهذا العنبر في المنبر، والذي إستفز قلمي إلى التعليق عليه في مداخلات عدة
    بدأ خلف مقالاته بسوسير، ذلك الفتح العلمي الواسع الأبواب، ,اقول العلمي لأن من بعده أضحت علوم اللغة أقرب الإنسانيات إستشرافاً لمناهج علوم الطبيعة. لقد عَبَّر سوسير في مقاربته التزامنية للغة، والتي أتت على مخالفة مع التقاليد التي سبقتها في العناية باللغة (طبيعتها وتاريخها وخصائصها وأنواعها) إذ نحّى سوسير التاريخ جانباً ليركز إهتمامه على الكيفية التي تشتغل بها اللغة في الزمن المعين، وكان يعمد من ذلك إلى البرهنة على أن اللغة ليست كما يُعتقد لها علاقة مباشرة بعالمنا. هكذا فتح سوسيرالباب لليفي إشتراوس ولاكان وبارت وغيرهم للإنكباب على البنية والنسق في الظواهر والمجتمعات. بينما كان إفلاطون يرى أن المعنى في المفردات ثابت، أثبت سوسير ومن مشى مشيه عكس ذلك فيشير سوسير لدور اللاشعور في إستقبال وإستدراك الصورة الصوتية، ويضيف لاكان أن من المستحيل على شخص مفرد تحديد دلالة المفردة. أيضاً وكما أورد الأستاذ خلف يؤكد لاكان على الأهمية القصوى للدال ولشبكة الدوال، حيث تتخذ الكلمة معناها عبر مقابلتها بكلمة أخرى، الأمر الذي يتسبب في التغيير في معنى بعض المفردات عبر الزمن. وللتأمين على منحى التقليل من شأن الدال رغم عظم شأنه في المعنى أضرب مثلاً بسيطاً"؛ ماذا أعني عندما أقول "أنا"؟ بالطبع إن هذه المفردة الضمير لوحدها لا تعني شيئاً، ولا بد من إضافة ما يصنع جملة معها مثل: أنا سعيد، أنا حزين، أنا على سفرٍ وغيرها. لقد قمنا في هذه العملية بإحالة الدلالة إلى سلسلة الدوال وحدها. لكن في جملة أخرى عندما أقول أنا أكذب عليكم، فهل أنا صادق أم كاذب؟ ربما نرى أنها عبارة متناقضة لكن يمكننا فهم هذه العبارة على أنها غير متناقضة في حالة شقّها إلى قسمين، القسم الأول ويتكون من ذات العبارة أنا، والقسم الثاني منطوق العبارة أكذب عليكم، وهنا نلاحظ أن في مستوى ذات العبارة أنا تفيد الكذب، بينما في مستوى منطوق العبارة أكذب عليكم تفيد بأني أقول الحقيقة عن حالة كذبي. هنا يعتبر لاكان أن منطوق العبارة مادة في اللاوعي تظهر في أثناء حديثنا عبر الدوال وهي تختلف عن أو تناقض الضمير المفتاحي ولا تنتج الخطاب بل تنتج عنه. هذه مداخلة أولية أدلف بعدها للمفكر لويس التوسير والمسألة الأيديولوجية وما يتفرع عنها
                  

07-16-2020, 05:11 AM

Sinnary
<aSinnary
تاريخ التسجيل: 03-12-2004
مجموع المشاركات: 2770

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: ألتوسير وandquot;التُّونسيَّةandquot;؛ ومصرُ وم� (Re: Sinnary)

    إنّ مفهوم الآيديولوجية الذي إشتغل عليه ألتوسير إبتدر كارل ماركس مستفيداً من شيخه فيورباخ مسألة التنظير فيه، وإستمر في زيارته من بعد ذلك ألتوسير وعبدالله العروي وكثيرون غيرهم. والطريقة التي عرض بها ماركس للآيديولوجية هي ما يمكن أن نطلق عليه النموذج المعرفي للآيديولوجية، نعني بذلك أنه في الماركسية الكلاسيكية توصف الآيديولوجية بالقناع، وظيفته تزوير الصورة الحقيقية لواقع الناس الوجودي وهذا القناع على النقيض من قناع الجهالة (الرومانسي) عند المفكر السياسي الإمريكي جون رولز، ويعمل بنفس الطريقة التي تشتغل بها عدسات كانط الترانسدنتالية، التي لا ترى الكون إلا عبرها، وتصوّر العدسات الآيديولوجية في هذه المجتمعات أن مصالح الطبقة الحاكمة هي مصالح المجتمع، وتشدد على ضرورة إستقرارالأوضاع السائدة حتى لا تنتشر الفوضى في المجتمع ويفقد الناس الأمن والطمأنينة بسبب نزعات المتهورين الطائشين الذين لا يرضيهم شيء ويدمنون على الإحتجاجات والثورة ضد الأنظمة. الناس في الطبقات الدنيا في المجتمع يستبطنون هذا الوعي لأنهم محجوبون عن الوعي بحقيقة واقعهم ومصالحهم.، وهذا هوالأمر الذي يجعل العبد الذي يتم تحريره من العبودية يرفض مغادرة سيده (إرادة القوة النيتشية) لأنه يؤمن بأن ليس في الإمكان أفضل من حاله في رحاب سيده. واصبحت تلك عقيدة في وعي ولا وعي العبد يرى العالم من خلالها(كان الأنصار في الجزيرة أبا والختمية في الشمال والشرق يدينون بولاء عقدي أيديولوجي مشابه، وكانوا يطلقون على آل المهدي والمراغنة السادة، وبينما يعيش السادة الحياة المترفة يعاني أتباعهم شظف العيش، لكن ذلك لا يدفعهم للتفكير في التمرد على السادة ويستمرئون العيش في أفق السادة المسوّر بقش العقيدة (ولامناحة في قلب القاف غيناً أو الغين قافاً) فيرفضون حتى مجرد التفكير في الخروج من ذلك الأفق. لقد ساهمت الأديان أيضاً في تثبيت هذه الآيديولوجيا وحالة الإستكانة الرابضة فيها، إذ تنهى الأديان عن الفوضى والفتنة والثورة على الحكام، وتعد القانعين بما قسم الله لهم الجنة، بسبب الصبر على شظف عيشهم وظلم سادتهم والقبول بإرادة الله الذي يخلق البشر منهم الغني والفقير، القوي والضعيف والسيد والمسود.لا نقول أن الأديان خلقت هذا الفهم والقناعات، لكنها ساعدت في تبريرها وإستدامتها. الآيديولوجيا في كل عهد تصر على أن تشرح للناس ضرورة وأهمية إستقرار الأوضاع الراهنة في المجتمع وعدم القيام بأية إحتجاجات، وبالتالي يستبطن الناس هذه الوصايا والتحذيرات. دعا ماركس إلى الإنتظام في النضال لأجل تمزيق ذلك القناع الآيديولوجي حتى يتمكن البسطاء من رؤية الواقع عارٍ وبدون رتوش، فيثورون عليه ويغيرونه. كان السؤال الذي تسعى الآيديولوجية للإجابة عليه هو لماذا نرى الناس يختارون دائماً أن يصمتوا على الظلم ويقبلوا بالخضوع ما داموا أحراراً في إختياراتهم؟ كانت الآيدلوجية الكلاسيكية تفسر ذلك بالخوف من بطش السلطات وأجهزة النظام من بوليس وغيره، فهو ما يجعل الناس يقبلون بالأنظمة القائمة فيهم ويخضعون لها قولاً وفعلاً. كانت هذه هي الفرضية التي إنطلق منها هوبز ولوك في تنظيرهم للطبيعة البشرية ولضرورة قيام حكومة (ديمقراطية عند لوك وجبرية عند هوبز) وسلطة يتم تقنينها بالعقد الإجتماعي بين الشعب والحكام، ولا بد أن تمتلك السلطة أجهزة للضبط والربط من بوليس لمحاكم وسجون. ولكن فشل حتى الآن كل ذلك في حل معضلة الطبيعة البشرية، لأن البشر بطبيعتهم لهم القابلية للإستبداد بالسلطة عندما يتولونها أو القبول وبها ودعم الفساد السياسي، والسياسات العنصرية والمحسوبيات وفوق ذلك الترحيب بأنظمة لا تزيد حياتهم إلا سوءاً. هل الخوف حقاً هو السبب؟ وإذا لم يكن الخوف فماذا إذ يجبر الناس على الإستكانة لأنظمة سيئة إذن؟ كانت هذه النقاط محور تأملات ألتوسير في المسألة. عمل ألتوسير على مراجعة هذه الفكرة الماركسية عن الآيديولوجيا مستفيداً من التحليل النفسي اللاكاني البارع في إستعادته لفرويد، ولا سيما من ضمن سجلاته سجل الحقيقي “the Real register” الذي شغل جاك لاكان في أخريات حياته ,وتفكره في أطوار الوجود، إذ أن الحقيقي هو أخطرها وهو فينا (بل أقوى ما فينا) ولكننا لا نعرفه، ولا توجد كلمات لوصفه، وإلا لأصبح غير حقيقي،ولا توجد كلمات نعرِّفه بها مع أن الطريقة التي نعرف بها الأشياء هي اللغة ونحن نمتلك لغات وليس لغة واحدة، ولكن لا توجد في أي لغة المفردات التي توصف هذا الحقيقي الذي هو مشكلة المشاكل في حياتنا، وأن معافرتنا له هي حجر الزاوية في فهمنا لوجودنا ولعالمنا، لأننا رغم أننا نكابده في حياتنا الديزاينية رغم أننا لا نصادفه إلا لماماً أو أحلاماً، ثم لا نعرف كيف نوصفه. الآيديولوجية الكلاسيكية هي بناء معرفي أساسه اللغة والكلمات مع ما تتضمنه من عناصر اللاشعور فيهاوالسجل الحقيقي عند لاكان يجافي اللغة. إلتقاء ألتوسير بلاكان هداه لفهم جديد يراجع بواسطته مفهوم الايدلوجية الماركسي، كما يناقش عبره مفهوم الهيمنة القرامشي والذي يفصِّل في فعل الهيمنة الذي تحدثه الأيديولوجيا في المجتمع لأخضاعه وإستدامة نظامها. بيت القصيد عند ألتوسير هو ما وصفه الأخ محمد خلف بأجهزة الدولة الآيديولوجية ودورها التكويني والتكميلي في الهيمنة والإخضاع، ونفس الفكرة التي كونها ألتوسير عن مفهوم الآيديولوجية شرحها بأفضل ما يكون تلميذه وصديقه ميشيل فوكو في كتابه "المراقبة والعقاب" ضمن شرحه لكيفية عمل القوي المؤثرة علي حياتنا اليومية سعياً لإشاعة سطوة و سلطة خطابها المعرفي و الآيدلوجي الذي يعمم مقولاته كمسلمات لا سبيل أمام الناس سوى إستبطانها. يتوسع ألتوسير في التعريف الماركسي للسلطة كظاهرة فوقية منبثقة عن حركة ما يجري على الأرض من صراعات لتعريف تمتد فيه السلطة إلى نقاط تقاطع كل الأنظمة المشتغلة علي وعي ولاوعي مواطنيها، ويشرح كيف أننا نجد أنفسنا نعيش ضمن فضاء آيديولوجي تنتجه وتحدد حدوده وملامحه الأنظمة بشكل أكبر عبر خطابها ومؤسساتها "وأجهزتها التكوينية والتكميلية "وهنا لا مناص أمام الذات من التنفس إلا داخل أفق السلطة وفضائها الإبستيمي المهيمن على عملية إعادة إنتاج نفس البنية الإجتماعية المترهلة. ألتوسير لا يفهم الأيديولوجيا كوعي زائف يقسر العمال والناس على رؤية العالم بعدسات الطبقات المتسيدة على المجتمع وأشيائه، لكنها شيء أوسع من ذلك (منتقلاً من التقاطع بين المؤثرات الخارجية والموقف الذي تتبناه الذات) فهو يرى أن الآيديولوجية ترتبط بالمقاربات التصورية والتخييلية للذات فيما يختص بشروط وجودها. كان الإعتراض الألتوسيري الاساسي لهذه الموجهات المقاربة للآيديولوجية أن كلا الفكرتين تفترضان أن صورة العالم التخييلية في وعي الذات تشيء بأن شروط الوجود المادية وعلى رأسها أدوات وعلاقات الإنتاج هي العالم الحقيقي الذي تقنعه وتذوقه الأيديولوجيا. يركز ألتوسير في مناقشته للمسألة الأولى بإقتراح مفاده أن ما تعرضه الآيدلوجية ليس منظومة العلاقات الحقيقية التي تحكم وجود الأفراد ولكنها العلاقات التخييلية لهؤلاء الأفرد مع العلاقات الحقيقية التي يعيشونها. وشرحه أن الأولوية عند ألتوسير هو العلاقات التخييلية للأفراد لشروط وجودهم الحقيقية لكن هذه العلاقة لم تصنعها دسائس المجموعة المستبدة والمتسلطة ولا ينتجها الإغتراب الذاتي للفرد بسبب صيغ الإنتاج بل عوضاً عن كل ذلك وبعبارة مبسطة بالطريقة التي ينظر بها الأفراد إلي ما يعيشونه من حياة وعبر الفعل التخييلي، والأيديولوجية بالتالي هي مسبقاً جزء من فعل المخيال أو بعبارة أخرى فغن هذا المخيال لا يقع خارج الآيديولوجية بل تصنعه الذاتية الفردية نفسها. بعد أن خلص ألتوسير من المسألة الأولى فيما يتعلق بالآيديولوجيا تقدم إلى المسألة الثانية وهي أن للآيديولوجية وجود مادي ونَبَّه ألتوسير إلى أن مادية الآيديولوجية ليست مثل مادية الحجارة والأجسام الأخرى فالآيدلوجيا دوماً تعيش كامنة في كل الأجهزة، في البيت والمدرسة والميديا والمستشفى والملعب، في الخطة السكنية وفي المعابد الدينية. وماديتها تتمظهر في تجليها عبر الفعل الممارسي. بمعنى آخر إذا ما إتفقنا مع هذه الرؤية، أي كون للأيديولوجيا كيان مادي يتواجد ضمن منظومة مادية أكبر للممارسة والمضمون فسيكون تعبيرها بالتالي مشاهداً مادياً في أفعال هؤلاء الذين يتبعون أويعيشون داخل فضاء الآيديولوجية المعينة. يرى ألتوسير أن إستبطان الآيديولوجيا يتم عبر التحفيز على السلوك المقبول والذي يجعل الشخص مواطناً صالحاً مندغماً في دولاب الأنشطة الإقتصادية الإستهلاكية أكثر منها إستبطان وعياً زائفاً تخلقه السلطة عبر أدوات القمع والإخضاع في المجتمع من أجهزة أمنية، محاكم، كاميرات المراقبة، وسجون. ينبه ألتوسير هنا إلى أن الخوف ليس هو المحفز الأساسي على ضبط السلوك، ولكن حوافز التقبل من المجتمع وربما الثناء هي التي تدفع الفرد للحرص على السلوك المقبول ليظفر بالتقبل من الآخرين (ولد ممتاز صلواته كلها في الجامع، مقابل صايع هلفوت وداقي سستم) والطريقة التي تتفعل بها ماكنيزمات الأيدلوجية لا ضرورة معها لظهور البوليس وإستخدام القاب لأن آليات ترسيخ الأيدلوجية في المجتمع وتشمل الأدوات السياسية، الإعلام، والمدارس (وهذه أخطرها) وغيرها كفيلة بذلك، لكن لا بد أن تظهر الأجهزة الأمنية وأدواتها عندما تفشل حوافز الأيديولوجيا أعلاه حتى تؤمن حراسة النظام الإجتماعي السائد وتمنع أي خروقات أو تهديد له. الأدوات السياسية على سبيل المثال في واقعنا السوداني الحالي قد تتمثل في إتاحة الفرصة للإنتماء لأي حزب تختاره، ولكن ليس أمامك إلا مجموعة أحزاب متشابهة، متهالكة البنى التنظيمية، بعيدة عن روح الشباب وأدوات السياسة الحديثة بما فيها الوجود الألكتروني الفاعل، لا تمتلك قواسم وطنية مشتركة تفرق فيها بين الوطني غير القابل للمزايدة والسياسي القابل للمزايدة، لا تجدد نفسها ولا تتعلم من أخطائها، والأدهى وأمر أن فرص الفعل السياسي لا يتوفر إلا لأسوئها. هذه هي الخيارات السياسية التي جعلت الأفندية والمثقفين السياسيين في مؤتمر الخريجين ينتبهون فجأة لإنكشاف ظهورهم فقد عملت آليات عدة على حرمانهم من التواصل مع عمقهم الشعبي وإحتكرت ولاء الشعب للطائفتين فلم يجد هؤلاء المثقفون غير إرتماء في إحضان الطوائف علهم يستطيعوا تغيير تفكيرها السياسي ولكن للأسف كانت أشطر وأقدر منهم. إذن الخيارات الأيديولوجية في المجتمع لا تبقي أمام المواطنين إلا إختيار واحد وهو إعادة إنتاج ما هو قائم وليست إختياراً يمكنك أن تغير عبره أي شيء. وسائل الترفيه ولا سيما الرياضة تزود الناس بولاءات وإنتماءات تشغل الفرد إن لم تخلعه عن مآزقه الوجودية وتلهيه عن العمل المُكْلِف مع غيره لأجل غدٍ أفضل. لكن ما دامت هنالك مباريات محلية وعالمية وبشكل يومي فغالب الإحتمال أن توصف بأنك هلالابي وريال مدريدابي من أنك ناشط في كتل التغيير، رغم أن كونك هلالابي لا يسهم بأي قدر في تغيير الظروف الإقتصادية أو عدالة توزيع الفرص في بلدك. في كل هذه الحالات تعمل الآليات الآيديولوجية على تغييب الناس عن المشاركة المستمرة في النضال لاجل التغيير لواقع أفضل إلا ما يأتي عبر القنوات المخصصة لذلك. يرى ألتوسير أن المدرسة هي أخطر الأدوات الآيديولوجية لأنها تلعب مع البيت الدور الأعظم في التنشئة وقد تعرضت لذلك بتفصيل أكبر في بوستي عن فوكو. فالمدرسة ومنذ البداية هي ليست خيار إلا في النجوع المهملة والمنسية. يذهب الطفل إلى المدرسة منذ أن تصبح وحتى بعد منتصف النهار (أثمن فترات اليوم) لأنها المكان الذي يصنع النجاح والعلم والأخلاق، المكان الذي ينمّى فيه الطفل ويفهم كيف يصبح مواطناً صالحاً (أذكر ذات مرة أن القذافي في لحظة من لحظات تجلياته الدرامية فكر في إلغاء المدارس وقرر أن الطالب تعلمه أسرته لكنها فكرة ولدت ميتة) المدرسة ليست فقط المكان الذي يتعلم فيه الطفل القراءة والكتابة والحساب ولكنه أيضاً المكان الذي يتعلم فيه الطفل الطاعة ويتعلم فيه كيف يستبطن الآيدلوجية السايدة في المجتمع ولكن اللوم لا يجب أن يوجه للأساتذة فهم ليسوا إلا مالئي فراغات في بنية تحكمها أيدلوجية التربية والتقويم فإذا لم يعلموا الأطفال السلوك المنضبط وتحولت فصولهم إلى غرف للفوضى فهم أنفسهم سيتعرضون للعقاب بواسطة مدراء مدارسهم ومكاتب التعليم. الأسرة أيضاً لا يمكن لومها فهي بالتأكيد أن لا يفشل أبنائها وينتهون في الشارع لذا فيلعبون دورهم في هذه الأيدلوجية فتعليم أبنائهم حدودهم ووجوب طاعتهم للنظام في المدرسة وخارجها. أي فرد هنا أمام خيارين إما إحترام السلطة والنظام العام أو التعرض للعقاب بواسطة الأدوات القمعية للسلطة من إعتقال وتعذيب وحرمان من حقوقك الإنسانية. يؤكد ألتوسير أن الأيدلوجيا ليست قدراً محتماً على بل يمكن بالوعي بها وحربائيتها التوصل لواقع غير آيديولوجي تتصوره الذات لنفسها في السجل التخييلي لأن الفكرة الشائعة للآيديولوجية ليست هي شرط وجود الذات الحقيقي، بل عالمها الحقيقي الذي تعرضه الذات لذاتها في الآيديولوجية، إنها هذه العلاقة التي في المركز لأي تمثل تخييلي آيديولوجي للعالم الحقيقي، إنها هذه العلاقة التي تحوي السبب الذي يشرح التشويه التخييلي للتصور الأيديولوجي للعالم الحقيقي أو عوضاً عن ذلك فلتنحية لغة العِليَّة فالطبيعة التخييلية لهذه العلاقة هي التي تقف وراء كل التشوه التخييلي الذي نستطيع ملاحظته إذا لم نعش في حقيقته في كل آيديولوجية.
                  

07-17-2020, 04:55 AM

النصرى أمين

تاريخ التسجيل: 10-17-2005
مجموع المشاركات: 9382

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: ألتوسير وandquot;التُّونسيَّةandquot;؛ ومصرُ وم� (Re: Sinnary)

    ماشاء الله اخونا سنارى..
    ربنا يحفظ و يزيدك علم
                  

07-17-2020, 08:35 AM

بدر الدين الأمير
<aبدر الدين الأمير
تاريخ التسجيل: 09-28-2005
مجموع المشاركات: 22961

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: ألتوسير وandquot;التُّونسيَّةandquot;؛ ومصرُ وم� (Re: النصرى أمين)

    ياسلام على محمد خلف
    شكرا النصرى
                  

07-19-2020, 08:26 PM

Sinnary
<aSinnary
تاريخ التسجيل: 03-12-2004
مجموع المشاركات: 2770

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: ألتوسير وandquot;التُّونسيَّةandquot;؛ ومصرُ وم� (Re: بدر الدين الأمير)

    الأحباء نصري، خلف، وود الأمير تحايا وود
    حاولت تطبيق المنهج الألتوسيري على الظروف والشروط التي صاحبت تكوين الدولة السودانية ووجدت نفسي في مأزق، لأن قراءة واقع الدولة السودانية وعناصر تكوين بنيتها الإجتماعية ألتوسرياً لا يمكن أن يكون نزهة سريعة بين المذكرات والذاكرة. ألتوسير ورفاقه من البنيويين الفرنسيين يرون، كما أوردت في المداخلة السابقة أن الذات بشكل عام وليدة الخطاب المهيمن على أفقها، وعندما بحثت عن الإرهاصات الأولي لهذا الأفق والإفادات المزعنة بولادته وكذلك المؤسسات التي ساهمت في هذه الولادة لم ترحمني النتائج. كنت أطمع في الإشتغال بالكثير على مجتمع التشكيلات ما قبل الرأسمالية والتي زامنت تكون أول دولة في السودان الحديث (دولة الفونج) ،ومن ثم أتحرك في ركابها لتحليل ما حدث بعد ذلك في السودان من تغيرات في الثقافة والأفكار والقبائل وفوق ذلك أنماط كسب العيش في زمن بدت فيه التجارة الداخلية والخارجية تتوسع في سودان سنار، وإن كانت في بداية الأمر تحت سيطرة السلاطين (فمثلاً ما يجلب من رقيق نصفه يبقى للسلطان والنصف الباقي يوزع على من إشتركوا في حملة جمعه من بلاد جنوبي النيلين الأزرق والبيض أو جبال النوبة، ثم أنواع المواد المستوردة، وفي غالبها كماليات يحددها السلطان وتعود إليه أولاً وكذلك الأسعار للبيع يحددها السلطان أيضاً) لكن مع توسع التجارة ودخول النقود والتجار العرب بدأت الشوكة تتحول من السلاطين للتجار قبل أن تنهار الدولة السنارية تحت سنابك إسماعيل باشا وما تلى ذلك من تحول تدريجي وإنفتاح أكبر للسودان على الخارج، وهذه المرةدخول الأوروبيين الطمعانين في العاج وسن الفيل والرقيق في جنوب ووسط السودان تدعمهم قنصلياتهم التي فتحوها في الخرطوم لتضعف دور الأتراك المصريين ويحدث بالتدريج إنتقال في السودان من التشكيلة ما قبل الرأسمالية إلى تشكيلة رأسمالية مخموجة وأولية، تبدأ مقدماتها بتحول المزارعين طوعاً أو قسراً بالتخلي عن بعض سلعهم التقليدية الكفائية و الدخول في تجربة زراعة محاصيل نقدية وظهورالعمل الحر النقدي للأفراد في الزراعة وغيرها من الأنشطة مثل المعامل الناشئة ويتوج كل ذلك في النهاية مع دخول كتشنر (فيما يعرف بالغزو الثنائي الإنجليزي المصري) ظهور السوق ومجتمع السوق وثقافة السوق كنمط حداثي جديد متجاور مع النمط التقليدي للحياة وهو النمط الأوسع، ويشمل تركيبة المجتمع التقليدي المنتشرة في الريف كله (والسودان آنذاك جله ريف) جنباً إلى جنب مع تركيبة حداثة السوق في المدن والتي كانت تحمل ثمار التقدم في العالم الخارجي (للمفارقة أن يقدم الإستعمار الحداثة وهي تقوم على أساس ضده)، إستمر وما زال الصراع بين التركيبتين التقليدية والمتشبثة بالحداثة بإختلاف أنماطها ولا زال التفاصل بين التركيبتين يصبغ حياتنا الثقافية والإجتماعية ويعرقل تطورنا بما تحدثه معاول بنية الوعي الرعوي من تحطيم لمحاولات بناء دولة مركزية ديمقراطية حديثة.
    كما أسلف الأستاذ محمد خلف كان لمداخلات المصالح المصرية وأدواتها المعلنة والمستترة القدح المعلى في النقلة الحداثية المشوهة والرانية بظلالها على حالتنا الإجتماعية والثقافية الراهنة وكنت أود لو أدلل أكثر على هذه الحالة لولا المأزق الذي وجدتني فيه، هو كما أسلفت انني أحتاج للرجوع لتاريخ السودان على الأقل للقرن الخامس عشر، لمتابعة بدايات تشكل ومن ثم تعميم الوعي العربي الإسلامي في السودان إذ أنه عندي مهم للغاية لفهم ما يجري الآن، وهذا بحث على كل حال جدصعيب. أتمنى لو أظفر بكثير من المذكرات والنصوص الموثقة فيه إذ لا حيلة لي لأكثر من ذلك (يعمل البحاث الجادين على السفر إلى المواقع التي يبحثون في تاريخها بغية معاينة الآثار المادية والتحدث للناس على الطبيعة وربما زيارة المتاحف التي تحتفظ بأثار تعود لتلك المناطق) وهذا للبحث الأكاديمي الجاد. أما في حالتي فمراجعة بعض ما كتب تكفي. من المعوقات في هذا البحث أن الباحثين دائماً ما يركزون على المركز ويتجاهلون هوامشه، والكتب دائماً ما تكتب عن الروايات الرسمية وتتجاهل إفادات من لا صوت لهم. لكن لنقل بالله العزم والسايقة واصلة ختم الأستاذ محمد خلف مقالاته بخلاصة يقول فيها أن لا أحد منا يملك الحقيقة كامل،ة بل الحقيقة هي مشروع بحث لا ينتهي، وكم كان جميلاً أن يقدم لهذه الخلاصة بالحوارات التي شهدتها أروقة فلسفة العلوم عن مفهوم الحقيقة في العلوم، والتي حاول كارل بوبر (آخر رواد الوضعية) في محاولته تصنيف ما هو علمي مما ليس علمياً أن يثبت إمكانية دخول الإستنباط بإعتباره المنهجية التي تفصل ما هو علمي مما ليس علمياً بعد أن كانت الإمبيريقية الهيومية هي المنهجية السائدة لكنها تقف متعثرة أمام مشكلة الإستقراء السيكلوجية المستحيلة الحل، لكن حسب بوبر أننا وبإحالة البحث العلمي عبر نظرية قابلية الدحض إلى المناهج الإستنباطية سنستطيع التفريق بين النظرية العلمية وتلك التي تدعي العلمية كالنظرية الماركسية لكنها تفشل عند تطبيق آلية قابلية الدحض عليها، لأنها وحسب مبدعيها حتمية علمية لا تقبل الدحض، وبالتالي حسب بوبر تصبح النظرية الماركسية غير علمية. هذا في العلوم التطبيقية فما بالك بالعلوم النظرية فعندنا كشواهد على عناد الجهل فينا من السذج المغرر بهم من يتوهم إمتلاكه الحقيقة الكاملة، ببراءة يحسدون عليها، متوهمين أن ما يعرضونه من رؤى ثابت كطود الذي الذي يسخر من التاريخ ويتجاوزه ولا يعبأ بتغير أحوال الزمان، والأنكأ أن هنالك أيضاً من يفعل ذلك بدون براءة، أحياناً شبقاً في الإنتصار لذات فانية، أو نرجسية لا شعورية تصور لهم أنهم أذكى من جميع من حولهم، فتعميهم شجرة الأفكار التي يعتقدونها عن رؤية الغابة الثرية التي تقبع وراء الشجرة، فيبقون يحدقون في شجرة ما يعتقدون ولا عزاء للغابة الكائنة ورائها.هنالك معضلة أخرى لا بد من بحثها ولو طال السفر وهي موقع الحقيقة في بحوث الإنسانيات، الأمر الذي سخر منه هايدجر وهو يراجع ميتافيزيقيا أرسطو وديكارت وكانط لا سيما وأن أستاذه هوسرل (أستاذ هيدجر) قد فضح من قبل خطل فرضية ثنائية الذات والموضوع برد كل الأمر للذات داعياً غلى معرفة جديدة، ولكن لو أجلنا محاورة سؤال الحقيقة في الإنسانيات وحصرنا نفسنا في العلوم وهمها المركزي في إستنكاه الكون وألغازه، نجد أن أهم خصائص العلوم هي مناهجها التي تبحث بها في الكيمياء والفيزياء والطب وبرامج الكمبيوتر والصناعات المختلفة، لأن العلماء يستخدمون تجارب عملية وإمبيريقية للبرهنة على نظرياتهم (بعض العلوم زي الفلك والإحصاء والفيزياء الدقيقة وغيرها تستخدم الحساب عوضاً عن التجارب العملية)عندما أصدر الفلكي البولندي نيكولاس كوبرنكس في عام 1542م كتاب عن أن الأرض تدور حول الشمس وليس العكس إهتزت الدنيا كلها لأن ما كان متفقاً عليه بين العلوم والأديان أن الأرض هي مركز الكون (وتعرف بالنموذج البطليمي الأرسطي) وكل شيء يدور حول الأرض وحل بالتدريج محله النموذج الهيليني (الشمس مركز الكون) طبعاً الكنائس عارضت هذه الفرضية بشدة وابن باز رحمه الله حتى موته كان يصر بأن الأرض هي مركز الكون (لكنهما فرضيتان في النهاية والحشاش يملآ شبكته) المهم أن نظرية كوبرنكس بدأت الخطوة الأولى في الإنتقال بالبشرية (على الأقل في دول الشمال) من العصور الوسطى للعصور الحديثة خاصة عبر إضافات كبلر وجاليليو جاليلي ونظرياتهم التي نقدت الفيزياء الأرسطية القديمة خاصة نقد جاليليو لنظرية أرسطو عن أن الأجسام الأثقل تسقط على الأرض أسرع من الأحسام الخفيفة بمعني لو رمينا حجراً وورقة من سطح عالٍ سيصل الحجر للأرض قبل الورقة. جاليليو حاجج بأن الحجر والورقة سيصلان في نفس اللحظة لو لم تكن هنالك موانع في الفضاء تعوق حركة الورقة وأن الوزن لا يعني شيئاً هنا. أواصل

    (عدل بواسطة Sinnary on 07-19-2020, 08:43 PM)

                  

07-21-2020, 02:39 AM

Sinnary
<aSinnary
تاريخ التسجيل: 03-12-2004
مجموع المشاركات: 2770

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: ألتوسير وandquot;التُّونسيَّةandquot;؛ ومصرُ وم� (Re: Sinnary)


    وقفت في المداخلة الماضية على نقد جاليليو لنظرية أرسطو التي تقول بأن الأجسام الأثقل تسقط على الأرض بصورة أسرع من الأجسام الخفيفة. يرى جاليليو وأيده بعد ذلك نيوتن بأن الأجسام المختلفة الكتل تسقط من الأعلى بنفس التسارع إن لم تكن هنالك موانع في الفضاء تعوق حركتهما وأن الوزن أو الكتلة لا يغيران شيئاً هنا. عُرِفت الفرضية أعلاه بقانون جاليليو للسقوط-الحر، وأصبح قانون السقوط-الحر يمثل محور الإرتكاز في نظريته في الميكانيكا، رغم أن إهتمامه الأكبر كان بالفلك. من مآثر جاليليو أيضاً إدخاله للرياضيات في تحقيق النظريات الفيزيائية، الأمر الذي أدى لنهضة عظيمة في علوم الطبيعة ورصيفتها علوم الإنسان التي حاولت تقليد مناهج علوم الطبيعة. من أبرزأبرز المساهمات التي أعقبت جاليليو مساهمة ديكارت في النصف الأول من القرن السابع عشر، فبالإضافة لنظريته الأثيرة في المعرفة (الإبستمولوجيا)، أبدع كذلك نظرية في الميكانيكا تفترض بأن الكون الطبيعي يتكون من جزيئات مادية خاملة لكنها في الوقت نفسه تتفاعل مع بعضها البعض، وتلى ديكارت الفيزيائي الشهير إسحاق نيوتن، وكلنا نذكر قوانين نيوتن الثلاثة الخاصة بالحركة، وكذلك مبدأ الجاذبية النيوتني وقد إمتازت هذه القوانين بدقة تطبيقاتها الرياضية وإخترع نيوتن حساب التفاضل والتكامل. إستمرت فيزياء نيوتن في إلهام كثير من التطورات العلمية طيلة القرنين التامن والتاسع عشر لكنها بدأت في فقدان بريقها في بواكير القرن العشرين مع ظهور النظريتين الكمومية و النسبية. أثبت إنشتاين بأن قوانين الميكانيكا النيوتنية لا تعطي نتائج صحيحة عندما تطبق على حركة الأجسام الضخمة أو الأجسام المتحركة بسرعات فائقة (لاحقاً إتضح أن نسبية إنشتين نفسها تفشل قوانينها عند تطبيقها على حركة الأجسام الصغيرة جداً، والتي من ناحية ثانية تنجح الكمومية في حسابها) أمام هذه المعضلة بعد أن كان هم نيوتن الأول والأخير أن يطور النظرية النسبية حتى تصبح القانون الذي يفسر كل حركة في الكون، أمام فشل النظرية النسبية في تحقيق ذلك ظهرت الآن نظرية الأوتار المغزلية والتي تحاول بصورها المتعددة أن تقدم قانوناً يجمع ما بين قوانين النسبية والكمومية ويفسر كل حركة وقد طرحت خفايا كونية مذهلة منها أن الأبعاد الممكنة في الكون ليست هي الثلاثة (الطول والعرض والأرتفاع) زائداً الزمن بل أن هنالك أصعاف ذلك من الأبعاد، وهذا يفتح الباب لوجود عوالم أخرى تعيش معنا ولا نراها أو ندركها بالحواس لأن حواسنا تشتغل على ثلاثة أبعاد فقط. تخيل لو أن هنالك كائنات تعيش في عالمنا ولكنها تعيش في بعدين فقط (الطول والعرض. سيكون أي شيء يعيش في البعد الثالث الأرتفاع هو بمثابة الغيب بالنسبة لها.داً للجاذبية.
    نحن نعيش في عالم يعتمد على الصناعة، فالسيارة والثلاجة والمروحة والمكيف والنظارة والكمبيوتر والأدوية صارت أشياء أساسية في حياتنا وسهلت الحياة، ولكن كل هذه المنتجات أنتجها العلماء والمهندسين بإستخدام المنهج التجريبي. مع الفائدة المنظورة لهذه المنتجات والنظريات العلمية التي تنتجها، لكن المنهجية التي تتبعها هذه المنتجات يشوبها بعض العطب، وهو ما أشار إليه الأخ خلف بمشكلة الإستقراء او المشكلة الهيومية، ولكننا نثق في جودتها ونجاعتها رغم أنه مع مرور الوقت تبدأ الأعطاب بالظهور، وأحياناً تسحب أدوية من الأسواق لإكتشاف أضرار أكبر من فوائدها لم يكن المنتجين ولا السلطات تدري بها. وحتى النظريات العلمية كما حدث مع نظريات نيوتن في الحركة والجاذبية (والتي لا زال بعضها يعمل بشكل مفيد حتى الآن) يتضح خطأها أو وجود ثغرات بها بعد فترة من تطبيقها، فتحل نظريات جديدة محلها. السبب في ذلك أن النظريات العلمية تتم البرهنة عليها بواسطة المنهج الإمبيريقي التجريبي الهيومي كما أسلفت. على سبيل المثال تجتهد شركات الأدوية حالياً في التجارب بأمل التوصل لأدوية أو لقاحات للمناعة من فيروس الكرونا وكل ما تفعله بإختصار هو تجريب أو الدواء على مجموعة من المتطوعين بعضهم يأخذون جرعات الدواء وآخرون يأخذون جرعات مماثلة لكنها بلاسبو placebo (جرعة خالية من أي دواء أولقاح و لاتهدف لإحداث أي أثر في المتطوع) ثم تبدأ مراقبة كل المشتركين فلو كانت النتيجة أن كل الذين تلقوا الجرعات الحقيقية شفوا أو كونوا مناعة، يدل ذلك على فعالية الدواء ويقدم للجهات المسئولة عن الصحة في البلد لإجازته وترخيصه. المشكلة هنا أن المشتركين في التجربة لو بلغوا ألف شخص (وهذا نادراً جداً ما يحدث) وكانت النتيجة فعالية الدواء مع كل من تلقاه، فهل ستكون النتيجة هي نفسها لو أعيدت التجربة في ظروف مختلفة ومع أشخاصٍ مختلفين، مثلاً 10 الف بدلاً عن ألف، أو في بلد أو قارة مختلفة ومع أعمار مختلفة. ربما أيضاً أن لا تظهر أعراض جانبية مع المتطوعين الأوائل لكن تظهر أعراض جانبية خطرة مستقبلاً. مشكلة التجارب المستخدمة في البرهنة على أي نظرية أو إختراع أنها تكون محدودة جداً لكن في نفس الوقت تعمم نتائجها على إنها صالحة تماماً في كل الظروف ومع كل الناس، فبعد أن يحصل القائمون على التجربة على نتائج إيجابية من العدد المحدود الخاضع للتجربة، يتوهمون بأن أيّ إعادة للتجربة المعينة على أفراد آخرين ستكون إيجابية النتيجة أيضاً، وهذا رجم بالغيب وتعميم أو قوننة للوهم. لو ضربنا مثالاً بالكلوروكين فعلى سبيل المثال في سنوات إنتاجه الأولى كان دواءً فعالاً في علاج الملاريا، وبدأ تعميمه على أنه العلاج الناجع لكل حالات الملاريا، ولكن مع مرور الأيام، ولأسباب قد يكون منها أن طفيلي البلازموديوم بدأ يكون مناعة أو أنه حدثت طفرات جينية بالطفيلي أو غيرها، لم يعد الكلوروكين هو العلاج الناجع وبدأ البحث عن أدوية بديلة (الفانسدار مثلاً)، خلاصة ذلك أن المنتوجات التي تتم صناعتها وفقاً لأبحاث تجريبية لا يوجد أي ضمان أن تعمل بفعالية طول الوقت، بل أكثر من ذلك أحياناً تكون لها نتائج كارثية. على سبيل المثال أن الفرامل بالسيارة مهمة جداً لسلامة السائق والركاب، وكلاً منا يكون كلما يركب سيارته ليقودها على قناعة بأن فرامل سيارته تعمل بشكل جيد، ولا يحتاج لإختبار ذلك، فقط لأننا تعودنا أنها تعمل دائماً، أعني أننا كلما ندوس على الفرامل تتوقف السيارة، نتخدر بهذا الوهم، أن الفرامل ستؤدي دائماً المطلوب منها عندما ندوسها، لكن الحقيقة أن الكثير من الحوادث كان سببها أن الفرامل فجأة تعطلت عن العمل عندما داس عليها السائق ليتفادى الخطر!! وأهم من فرامل السيارة عندما تتعطل كمبيوترات القيادة في الطائرة وتعطي الطيار معلومة خاطئة تكون نتيجتها كارثية. هنا كان لا بد من مسائلة كل القوانين والمنتجات التي نتحصل عليها وفق مناهج التجريبية وننبه الناس أنها قوانين ومنتجات قد تعمل بنسبة 99% ولكنها محال أن تعمل بنسبة 100%. هذا لا يعني أن نقلل من شأن التجريبية فحياتنا في غالبها تعتمد على آليات و منتجات أخرى نتجت عبر هذه الآلية.
                  

07-22-2020, 02:25 AM

Sinnary
<aSinnary
تاريخ التسجيل: 03-12-2004
مجموع المشاركات: 2770

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: ألتوسير وandquot;التُّونسيَّةandquot;؛ ومصرُ وم� (Re: Sinnary)

    كارل بوبر سعى من جانبه للتفريق بين النظرية التي تستحق صفة العلمية والنظرية التي تدعي العلمية لكنها غير ذلك، فطرح منهجيته للفصل بين ما هو علمي وما يدعي العلمية زوراً، وهذه المنهجية تقوم على ما أطلق عليه بوبر قابلية الدحض. وحتى لا يختلط الأمر على القارئ أوضح بأنه عندما نقول أن النظرية المعينة قابلة للدحض، لا يعني هذا أنه سيتم دحضها (فرق كبير بين المعنيين) قابلية النظرية للدحض تعني أن النظرية العلمية، وهي تطرح إفتراضات معينة تقبل البرهنة عليها ولا يهم لو فشلت البرهنة أو نجحت ( لنضرب مثلاً بنظرية مساحة المربع التي تقول أن م المربع = حاصل ضرب الضلع في نفسه، أو نظرية في مجال مختلف مثل نظرية سمات القائد، والتي تفترض إن القادة يولدون قادة ولا تصنعهم الظروف أو الصدف) في كلا النظريتين هنا نلاحظ أن ما تطرحه النظرية يمكن إختباره وتحقيقه بالتجربة العملية، بمعنى أنه يمكن عبر التجربة الوصول للتأكيد على صحة ما تفترضه النظرية، أو إثبات عللها. يقترح بوبر بأن أيّ نظرية لا تقبل الخضوع للبرهنة عبر التجربة (والتي وحدها تقرر متانة النظرية أو ضعفها) لا تعتبر نظرية علمية. عندما نقول أن هذه النظرية أو تلك المقولة ليست علمية فإن هذا لا يعني بالضرورة خطئها، ولكنه يعني أنه لا يمكن القطع في صحتها من خطئها. دعنا نعرض مثال لصيق بنا. عندما يقول أحدنا أن الله تعالى خلق الكون، وهي مقولة بالطبع عند البعض قاطعة ولا مجال لتخطئتها، وهذه بالضبط مشكلة مثل هذه المقولات، كيف؟ من يتبنى مثل هذه المقولة يستند فيه على إيمانه بدين محمد عليه السلام وما جاء بالتالي في القرآن الكريم وأحاديث الرسول، لكن هل يكفي ذلك؟ هل يغني إدعاء أيّ مسلم بأن الله خلق الكون لأن ذلك ما جاء به القرآن عن البرهنة على صحة الإدعاء بالتجربة العملية؟ بالطبع لا. لقد فشلت المحاولات المنطقية العديدة التي حاولت بالكلام فقط إثبات خلق الله للكون. فشلت في إقناع المتشككين الذين يشترطون البرهان العملي. طرح المؤمنون أمثلة عدة لأقناع المتشككين من أشهرها مثال القديس انسلم ودليله الأنطولوجي، و الذي بنى عليه ديكارت فلسفته المثالية، ومثال أرسطو عن المحرك الأول، الذي يحرك ولا يتحرك، وما تلى ذلك من براهين متعددة (براهين الغائية والصنائعية والواجب وغيرها). وكلها تنبني على المنطق النظري، و لا يمكن تأكيدها عملياً والبرهنة على صحتها. لذلك أعاد كانط الإيمان إلى القلب وليس العقل، وبرر لضرورة الإيمان منطقيّاً في فلسفته للعقل العملي (لاحظ ضرورة الإيمان وليس وجود خالق في الكون). بوبر يسمي النظريات والمقولات التي تعرف نفسها بالعلمية، لكنها لا تقبل البرهنة عليها بالتجربة، بالنظريات والمقولات زائفة العلمية (لكن أعود وأذكِّر أنَّ ذلك لا يعني عدم صحتها، فقط يعني عجزنا عن التحقق من صحتها وبالتالي إنتفاء صفة العلمية عنها حسب بوبر) من هذه الأمثلة ما ذكرته سابقاً في حديثي عن النظرية الماركسية المعرَّفة بالنظرية العلمية في التاريخ. لا يقبل الماركسي الحكم بفشل الماركسية، وبأن فشل التجربة الإشتراكية في العديد من الأقطار في العالم دليل على فشل تنبؤات النظرية الماركسية. يطرح الماركسي مبرراته على سلامة المادية التاريخية وهي مبررات من جنس أن ما فشلت هي تجربة أو عدة تجارب شابها القصور، ولكن النظرية باقية وصالحة ولم تسقط رغم كيد الرأسمالية لها وللتجارب الإشتراكية في كل مكان وأن الدلائل على ذلك عديدة، فمثلاً عندما أثبتت الماركسية في شيلي أن طائرالإشتراكية يمكن أن يحلِّق بأجنحة الديمقراطية وثبت ذلك بوصول الحزب الشيوعي للسلطة في تشيلي بقيادة سلفادور أليندي عام 1970 ديمقراطياً، إرتعب عندها الغرب وصرح الرئيس الأمريكي نيكسون بأن سنجعل اقتصاد تشيلي يصرخ، وبالفعل صرخ بعدها الإقتصاد الشيلي لتصبح البلاد مهيأة وجاهزة لبينوشيه للإنقلاب على الديمقراطية بالعسكر والسند الإمريكي. وتمتد التبريرات إلى أن الرأسمالية لم تسقط تحت ضغوط أزماتها كما بشرت بذلك الماركسية في نظريتها عن أطوار التاريخ والتحول الحتمي في التاريخ من الرأسمالية إلى الإشتراكية كما أشار إلى ذلك ماركس في البيان الشيوعي والمقولة الشهيرة فيه (إن البرجوازية تنتج، قبل كل شيء، حفاري قبورها) والمقصود هنا بالطبع أن الطبقة العاملة في الغرب هي التي ستحفر قبر الرأسمالية بعد أن يدفعها الظلم الطبقي والفجوات المتسعة بين الأغنياء والفقراء إلى الثورة وإسقاط النموذج الرأسمالي، ولكن عندما حدث العكس بسقوط النظام الإشتراكي حتى في مركزه (الإتحاد السوفيتي) وتفتت الإتحاد مع بقاء الرأسمالية مهيمنة أكثر وأكثر تم التبرير لذلك بقدرة النظام الرأسمالي على المناورة والتغلب على تناقضاته قبل أن تستفحل بظهور الكنزية وإجراءات الضمان الإجتماعي التي خدرت البروليتاريا في إمريكا والغرب وأضعفت حماسهم الثوري بالأضافة لقدرة الرأسمالية على التخلص من فوائض الإنتاج قبل تراكمها وخلق حالة من العطالة لا قبل للمجتمع بها، ويستمر الماركسيون على تنبيهنا للأورام والدمامل التي لا زالت تطفو على جسد المجتمعات الرأسمالية و أن عدم تطور الرأسمالية إلى الإشتراكية هو حالة جمود تاريخي مؤقت سيستأنف التاريخ مسيرته من بعدها لتنتقل الرأسمالية إلى الإشتراكية. من كل هذا يتضح بأن النظرية الماركسية مجبولة على إنتاج المبررات لأي فشل في تحقيق فروضاتها النظرية. قارن بوبر النظرية الماركسية بنظرية انشتاين المعروفة بالنسبية العامة، والتي من فرضياتها أن أشعة الضوء تسير في خطوط مستقيمة في الكون لكن الجاذبية -والتي حسب إنشتاين تسببها إنبعاجات مركب الزمان/مكان (كونتمنيوم الزمكان)- تحرف هذه الأشعة بسبب إنبعاجات المركب الزمكاني، ولذلك فإن أشعة الضوء التي تصدرها النجوم البعيدة تنحرف بسبب مجال الجاذبية الذي تخلقه الشمس. سيكون من الصعب التحقق من مثل هذه المقولات بالتجربة، ما عدا في أوقات كسوف الشمس، لذا ففي سنة 1919 قرر فلكي بريطاني إختبار هذه النظرية فجهَّز بعثتين لمراقبة كسوف الشمس الذي سيحدث في تلك السنة، وتموقعت البعثة الأولى في البرازيل والثانية في إحدى الجزر الإفريقية المطلة على المحيط الأطلنطي، وكان الهدف أن يعرّض مبدأ إنشتاين الخاص بإنحراف أشعة الضوء بفعل الجاذبية الشمسية (التي يسببها تأثير الشمس في مركب الزمكان) للإختبار العملي. البعثتان لاحظتا بالفعل أن الضوء المنبعث من النجوم البعيدة ينحرف مساره تحت تأثير الشمس وبنفس الدرجة التي قدّرها إنشتاين. يقول بوبر هكذا تفرق نظرية النسبية العامة عن النظرية الماركسية، ذلك أن النسبية طرحت فرضية محددة أمَّنت عليها التجربة العملية، ولو كانت نتيجة التجربة غير ما جاءت به وثبت خطأ النظرية النسبية ذلك لا ينفي علميتها بسبب إجتيازها شرط قابليتها للدحض. الخلاصة أن هدف بوبر الأساسي كان هو التفريق بين العلمي الحقيقي والعلمي الزائف. من هنا ينطرح سؤال عن هل يمكن أن نقرر بأن قابلية الدحض البوبرية هي الخاصية المشتركة بين كل ما نطلق عليه صفة العلمي؟ فيلسوف اللغة لودويج إنشتاين وكان قد إنتمى من قبل لحلقة فينا للوضعية المنطقية التي يعتبر بوبر من أهم اعضائها المعاصرين لا يتفق مع بوبر ويقول؛ حتى بالنسبة لأي لعبة، ناهيك عن العلوم، لا توجد خصائص محددة تفرق بين اللعبة وغيرها، لكن هنالك مجموعة غير متماسكة من الخصائص معظمها تشترك فيه معظم اللعبات، لكن إذاشذت لعبة ما عن كل هذه الخصائص لا ينفي ذلك عنها صفة اللعبة. يرى فجنشتاين أن نفس الشيء يجب أن ينطبق على العلوم ونبتعد عن التقرير بأن خصيصة وحيدة مفردة هي الفيصل بين العلمي وغير العلمي.
    في الختام لا بد من التعريج على الفيلسوف والمؤرخ الإمريكي توماس كون أصدر كتاباً مهماً جداً بعنوان "بنية الثورات العلمية" وهذا الكتاب قد يعتبر أهم كتاب في فلسفة العلوم صدر منذ القرن العشرين وحتى الآن، وقد إمتد تأثيره حتى للإنسانيات. تناول كون أعمال العلماء العظام الذين أحدثت مشاريعهم ثورة علمية أبطلت بموجبها ما كان سائداً من معرفة علمية كليّاً أو جزئياً وإبتدرت مسارات علمية جديدة مثل ثورة كوبرنكس في الفلك والتي غيرت مفهوم الناس عن أن الأرض مركز الكون وكل الكون يدور حول الأرض، أو ثورة إنشتاين في الفيزياء والتي غيرت مفهوم الناس عن الجاذبية الأرضية وحركة الضوء، والثورة الداروينية في البيولوجي ونظرية التطور. أطلق كون وصف العلوم العادية على النشاط العلمي اليومي والنظريات التي يصدرها العلماء بإستمرار عندما لا تحدث تحولاً ثورياً فيما كان سائداً من معرفة علمية. سمَّى توماس كون المعرفة العلمية السائدة في فترة محددة بالبراديغم Paradigm (الأفق العلمى الكُلِّي للمرحلة المعينة) وأي براديغم أو منظومة علمية تتكون من شعبتين أساسيتين، أولاهما سلطة العلم، والتي تتجلى في مجموعة من النظريات العلمية المهيمنة في المنظومة وفضائها العلمي بإتفاق كل العلماء الراهنين عليها وعلى جدواها. ثانيهما خلاصة الفوائد العملية التي يجنيها المجتمع من العلم والتي تتمثل فيما يقدمه العلم من حلول تسهل الحياة وتتصدى لإحتياجاتها. كل أفق علمي ناجح تقابله تحديات وظواهر تحتاج لحلول وحتى نظريات تفشل في التصدي لتحدي ماثل (تخيل عدد النظريات التي ظهرت مع الكورونا تدعي إكتشاف علاج ناجع لها) وواجب العلماء هنا محاولة تأسيس الحل العلمي حتى ولو فشل في نهاية المطاف لكن على الأقل تأسيس المسار العلمي سيكبح كل المحاولات العشوائية التي لا تلتزم بهذا المسار لأن العلم دائماً متحفظ وتحفظي ولا مكان فيه للمندفعين المهووسين بإكتشاف الحلول لا بإلتزام المسار. يقول كون أن العلم الحقيقي لا يستهدف إبتداع النظريات أو الحقيقة والتي عند تطبيقها ينطبق عليها المثل "أسمع جلبة ولا أرى طحيناً" لكن كون يلفت نظرنا إلى نقطة مهمة جداً مفادها أن العلوم المنضوية ضمن أي أفق علمي (أقصد بافق علمي هنا أن كل العلوم التي نتجت من النموذج القديم الذي كانت الأرض فيه مركز الكون تمثل أفقاً علمياً محدداً، وأن كل العلوم التي نتجت علن مرجعية أن الشمس مركز الكون تمثل أفقاً آخر تحدى الأفق الأول وتجاوزه) النقطة المهمة التى شدد عليها توماس كون هي أن العلوم المنضوية ضمن أي أفق دوماً ما تأمِّن على نظرياته ومقولاته ومن النادر أن تطل نظرية كالنسبية أو الدارونية تلغي ما قبلها أي تتمرد على حدود الأفق العلمي الذي نتجت ضمنه. أتوقف هنا وبالنقاش يمكننا التوسع في الموضوع مع الشكر أجله للأستاذ محمد خلف الذي شجعنا على الحوار مع ما كتب وأستاذنا النصري الذي ننتظر دوماً منه أينع الثمار. أتمنى أن يثري آخرون الموضوع ويلفتوا نظري إلى أي معلومة تحتاج المراجعة أو المزيد من التحقيق أو أي إستفسار عما كتبنا
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de