في الأصل كان لقب أحمد محمد قدح الدم هو "قدح العشا"، لكرمه وفروسيته. ثم عندما جاءت واقعة كرري، أبلى فيها بلاءً حسنا، ثم التحق بمجلس الخليفة في أمدرمان، ذلك المجلس الذي انعقد للحظات ومنها انطلق الشهيد الخليفة عبدالله إلى الغرب. عندما دخل أحمد محمد قدح العشا لمجلس الخليفة، لم يتعرف عليه الناس حيث كانت الدماء تغطي كامل جسمه وثيابه. وعندما عرفوا أنه الأمير أحمد محمد قدح العشا، هللوا وكبروا، ثم قال الخليفة مخاطبا له: " إنت من اليوم ما قدح العشا؛ إنت قدح الدم"! وسار اللقبُ عليه إلى يوم الناس هذا. هذا هو التاريخ المروي على لسان الناس ممن عشناهم في حيواتنا هذي، تلقيناها منهم سماعا وحضورا، لا غيابا. هذا الكلام سمعته من والدي الجليل الشيخ عباس قدح الدم في مجلسه بعيد صلاة المغرب بمسجد والده قدح الدم عام 1990م عندما كنت أساعده في كتابة مذكراته من ناحية وترتيب ما هو مكتوب منها في ناحية أخرى، وكان وقتها قد فقد بصره دون بصيرته. فكيف لمثل من لقبوه بقدح العشا ثم عدله خليفةُ المهدي إلى قدح الدم أن يكون عميلا ضد بلاده ووطنه؟ ثم فلنفترض أن بعضا من وثائق المستعمر قد قالت ما يخالف ذلك، أفلا تُرشدنا أولى أسس علم دراسة الوثائق Diplomatique أن الوثيقة، أي وثيقة، وعلى وجه الخصوص الوثائق الاستعمارية، لا تؤخذ على وجهها كحقيقةat its face value؟ فالوثائق لا تُعتمد بل تُستنطق. ثم إذا كان هناك تحريف قد حدث للتسجيل (وهو شيء وارد وكثير الحدوث هذه الأيام)، فليس أيسر من إيراد التسجيل الأصلي. وكذلك طالما تمت الإشارة إلى وثائق بعينها، فليس أيسر من إيرادها ولو بالإشارة إلى أرقامها التسلسليةالإرشيفية. ولا اعتقد أنه يمكن القبول وبسهولة بالدفع بأن الاتهامات بالعمالة لا تنسحب على المجموعة الإثنية كلها. فهذا يصعب الدفع به إزاء قوله (مقتبسا): ".. استغل المشاكل بين الفلاتة وعدم ولاؤم للدولة السودانية .." الإحالة هنا للفلاتة في مواجهة الدولة السودانية، وليس لشخص بعينه. ".. الفلاتة ديل كانوا هم المخبرين .." هنا أيضا الإحالة للفلاتة وليس لشخص بعينه. كما يصعب الدفع بعدم القصد بخصوص استصحاب الزعم بالخيانة الوطنية وتتبعها من الابنة إلى الأب ثم إلى الجد، إن لم يكن المقصود في الأصل هو الإثنية كلها. فتحليل بنية الخطاب فنٌّ متاح لمبتدئي دراسات الأدب بالجامعات. في الختام، وفي هذه العُجالة، هذا الموضوع لن يقف هنا. ولنا عودة! لقد كتبتُ كثيرا عن العنصرية ضد أهلنا الفولاني بصفة خاصة وعموم من يُشار إليهم بالوافدين من غرب أفريقيا كما لو كانت العربُ قد نبتت فيما بين النيلين. كما أشرت إلى تغلغل الفولاني عميقا في بنية المجتمعات السودانية النيلية على وجه الخصوص، متعرضا لأوجه الإنكار والاستنكار التي تُجابه بها هذه الحقائق الماثلة. وفي ذلك قلت بأن صرحاء الفولاني قومٌ أكارم تشرف بهم السودان قبل أن يتشرفوا هم به؛ في المقابل، فإن نُكراء الفولاني قومٌ خبثاءُ المظهر والمبطن. ولو عدنا إلى هذا الموضوع، فستكون عودتُنا لتحليل ظاهرة المغرّة prestigma في مواجهة المعرّة stigma، بوصفها السلسلة الفقرية للأيديولوجيا الإسلاموعروبية بوصفها أيديولوجيا السلطة في السودان طيلة الخمسة قرون الماضية. تحديدا سوف نتحدث عن ظاهرة استهداف الفلاتة برغم راسخ وجودهم في السودان وبرغم انتشارهم واندغامهم ثم تخالطهم مع جميع إثنيات السودان، بشماله وجنوبه. ثم التحية للصديقة الشهيدة نجوى عباس قدح الدم ولوالدها ولجدها وجدودها كابراً عن كابر، والتحية والتجلة لزين قبائل السودان، لأهلي الفلاتة، داعين اللهَ أنِ أللهمّ إجعلنا في زمرة الفلاتة فهم قومٌ بركةٌ، مباركون، لا يكرههم إلا مأفون، ولا يُحْبِبْهم إلا عادلٌ معدول. د. محمد جلال هاشم الخرطوم 31 مايو 2020م
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة