حياة الخاتم عدلان ... مشروع مفتوح على المستقبل الأحداث تثبت كل يوم أن رحيل الخاتم المبكر هو خسارة لا تعوض
محمد سليمان في فجر مثل هذا اليوم من سنة 2005، خبا بريق وغاب نجم وتوقف قلب كبير عن الخفقان، إذ رحل عن عالمنا المناضل الفذ الخاتم عدلان بعد صراع عاصف مع داء شرس لم يمهله، منذ التشخيص إلى وقت الرحيل، إلا شهرين أو أقل. زارنا في الدوحة في شهر يناير قادماً، من الخرطوم التي أتاها للمرة الأولى منذ خروجه من السودان في خواتيم سنة 1993، في طريقه عائداً إلى أسرته المملكة المتحدة، وقضى معنا بضعة أيام كانت حافلة، كالعادة في كل زيارة له، بجلسات نقاش سياسي تؤمها أعداد مقدرة من الضيوف ليستمعوا إلى ويستمتعوا بتحليلاته الثاقبة الغنية. عاد الخاتم بروح معنوية عالية من السودان، وكان سعيداً جداً بإنجازاته ومقابلاته هناك، وبدا واضحاً أنه كان يعد العدة لمرحلة جديدة من نضال وهب حياته كلها له.
في زيارته تلك أقلقني مرة حينما ألمت به بعض الحمى ذات نهار ولكنه رفض أن نذهب للطبيب، وأصر أن الأمر مجرد إرهاق، وذهب لينام استعداداً للاستقبال ضيوفه مساء، وفعلاً كان حاضراً جاهزاً متقد الذهن، كالعادة، حينما حضر الزوار. بعد مغادرته الدوحة وعودته إلى لندن، اتصلت به قبل يومين من موعد رحلته المخططة إلى الولايات المتحدة، فأخبرني بأنه يعاني بعض الآلام في بطنه وأن الأطباء طلبوا منه تأجيل رحلته تلك لإجراء الفحوصات اللازمة، ولكنه رفض وأصر على السفر لأن تلك الرحلة، كما قال، تأجلت عدداً من المرات من قبل، ولابد من القيام بها هذه المرة بعد أن أكمل الرفاق هناك إعداد برنامجها.
إذا كانت هناك من خصلة وسمت حياة الخاتم عدلان من بدايتها إلى نهايتها فإنما هي تلك الغيرية اللانهائية، فلا الألم ولا الحزن ولا الجراح ولا المرض ولا السجون ولا الاعتقال ولا المطاردة ولا الاختفاء ولا المنفي، لا شيء من ذلك كله يحول بينه وبين أن يكون في الموعد حينما يتعلق الأمر بالآخرين. "كانت نشأتي في الريف بخصائصه المعروفة قد صقلت شخصيتي كما أنضجتني مشقة الريف لمجابهة مصاعب الحياة.. من خلال اللهو العنيف والعراك مع البيئة في الرعي والزراعة والتنقل الشاق بين القرى في تلك الأيام"، ذلك ما ذكره الخاتم عن سني صباه الأولى في مقابلة صحفية أجراها في زيارته الأخيرة للسودان. في تلك المقابلة تحدث أيضاً عن الأحزان المقيمة في حياته، موت أمه وهو بعد طفل في السادسة من عمره والذي كان "عملاً صاعقاً مزلزلاً" كما وصفه، ورحيل شقيقته قبلها، ثم موت جده الذي رباه وخالته التي تعهدته. لقد ترك رحيل أولئك الأقارب "بصمات عميقة في نفسي وإحساس طفولي بالاعتباط والظلم ... وشعرت بأن هنالك أشياءً تحدث في الدنيا لا مبرر لها في مخيلتي كطفل" كما قال.
تلك النشأة لم تكسب الخاتم فقط تلك القوة النفسية والقوة الجسدية التي احتاجها لمواجهة معارك الحياة، إنما أكسبته أيضاً "قدرة كبيرة على الفهم والاستيعاب فيما يتعلق بالأحداث والدراسة بانطباع الأشياء في الذهن بصورة قوية". لقد كانت الدراسة هي عزاء الخاتم، لذلك أحبها وتفوق فيها من اللحظة الأولى في المدرسة وإلى أن تخرج من الجامعة "التي كانت تبعد بي عن المحيط المباشر الذي عشت فيه لكنها ترجعني إليه من ناحية أخرى باستيعاب الظواهر التي علقت بفهمي في البداية واستيعاب كيفية السيطرة على هذه الظواهر وإخضاعها للإرادة الإنسانية الواعية لرسم مسيرة عقلانيّة من الحياة الاعتباطية في ظل غياب الطب المتقدم والتعليم الواسع المنتشر وأشكال الحياة الحضرية الميسورة التي توفر الكثير من الأشياء." ذلك هو جوهر المشروع الفكري والوطني، مشروع النهضة الوطنية الشاملة، الذي نذر الخاتم حياته كلها له. إنه المشروع الذي ظل حلماً يداعب أخيلة بنات وأبناء شعبنا، والذي يعم فيه الوطن السلام، ويطوى فيه الشعب عصور التخلف المتراكمة، ويتحرر من ربقة الفقر والعوز، ومن قبضة الجهل والمرض، ويبنى مجتمع الوفرة والرخاء والسعادة والمعرفة، ويلبى الاحتياجات المادية والروحية المتجددة لأجياله المتعاقبة، ويتصل بروح العصر ويصعد إلى ذرى الحداثة، وذلك بالديمقراطية الراسخة، وبالتنمية الاقتصادية المتوازنة، وبالعدالة الاجتماعية، وبالازدهار الثقافي.
العنوان
الكاتب
Date
حياة الخاتم عدلان مشروع مفتوح على المستقبل مقال للأستاذ محمد سليمان
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة