♧ من روائعِ (قِلَّة) أدبِ عمِّنا الطيب صالح £

● الشبح المريع أحال مخيلة الجارية بؤرة مشاعر متلاطمة
و ذاكرتها خرقةً من الشاش، و لأكثر من عام راحت تلاحق ذاك
الرجل [الشبيه] من قناة إلى قناة ، و من حديث إلى حديث ، ملكها
هذا الكائن ، هزها بين أصابعه الغليظة الطويلة كما يهز حبات سبحته ،
يتساقط جسدها بين يديه كما تتساقط الذكريات و كما تتداعى الأشياء
جانباً [ Things~Fall ~Appart] ، تتغير وتتناقض أحوالها و هي في
الثامنة تناقض ذكرياتها حين كانت في الخامسة عشرة أو السادسة عشرة.
● كان لها أب وهي في الثامنة، أبٌ غائبٌ في العمل، لم تر منه إلا احفنات مالٍ،
ثُمَّ اختفى أبوها، لا تعرف أين ذهب، مات أو هجر أمها و تزوَّج امرأة أخرى أو
فصلوه من العمل أو دخل السجن أو هاجر إلى بلاد الله يبحث عن عملٍ ،
احتمالاتٌ واردةٌ كلها، اختفى أبوها و تبخر فجأة من حياتها تاركها {كَبَاسِطِ
كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِ}و لم تفتح أمها الموضوع أبدًا ، و إن
سمعتها تقول: راح مطرح ما راح وخلاص. تربت عليها بأناملها الحنون، تداعب
بأناملها خصل شعرها حتى تتماثل إلى النوم. بالليل تصحو لتجدها صاحيةً تمسح
دموعها، تسمعها تناجي: عدمانين يا بنيتي، لازم أشتغل أية حاجة، ماعندي شهادة،
أشتغل إيه، غسَّالة في البيوت؟ بعداك خلاس كبرتي و ليك خمسطاعشر سنة..عمر
الزهور..عمر الغرام..عمر المنى. في المدرسة لها ناظرٌ حنونٌ، إنه في مقام والدها
يتحابان ليس كابنةٍ و أبٍ لكن كصديقَين حميمين، يثق بهاو به تستعين على
تجاهل الذكرى عن ذلك الشبح الآخر الذي هو عمها أيضًا ، أو هي ليست
ابنة أخيه أو ليست الطفلة التي كانت له كلميت بين يدي مغسله، كان
يتلبسها ليلاً لتذوب في أحضانه خوفاً وطمعاً كالعرجون القديم.