ثلاثة مرتكزات أو سلطات تقف عليها دولة القانون؛ السلطة القضائية، والسلطة التشريعية (البرلمان)، والسلطة التنفيذية (الحكومة)، في الخرطوم اليوم تبدو الدولة عرجاء عرجاً مُقعداً، فلا سلطة تشريعية قامت أصلا منذ أبريل 2019، فيما تلقى القضاء والنيابة العامة ضربة قاتلة، فدخلت البلاد في ما يشبه الفراغ الدستوري، بضربة واحدة أقال السلطة الانتقالية رئيس القضاء وقبلت استقالة النائب العام الذي ظل مغاضباً تنازعه لجنة بمسمى لجنة إزالة التمكين ظلت تستجمع في يدها سلطات تنفيذية وقضائية وتشريعية في آن واحد في ظل تجاهل السلطة الانتقالية لتصرفاتها إلا من انتقادات متفرقة وخجولة وبشكل فردي من حين لآخر. وفيما ظلت الهيئة القضائية تشكو لطوب الأرض من تدخلات السلطة التنفيذية وتعطيلها للعدالة بشكل مكتوم، وكذلك شكا النائب العام بشكل جهير، استخدمت السلطة الانتقالية مبدأ الهجوم خير وسيلة للدفاع، فوجهت مع قرارها إقالة رأس السلطة القضائية وقبول استقالة النائب العام، انتقادات حادة لكلا الاثنين رئيسة القضاء والنائب العام، متهمة إياهما ببطء سير عمل الأجهزة العدلية والنيابية في تقديم العديد من المتهمين للمحاكمات وكشف الجرائم، فوقع عليهما حال من ألقاه مولاه الجبار في اليم، وقال له إياك إياك أن تبتل، فبعد أن رفع النائب العام صوته وقبل أن تتبعه رئيسة القضاء، كان لابد من ضربة مزدوجة توحي من ناحية بجدية السلطة في إرساء العدل وإعمال القانون ومن ناحية أخرى الحيلولة دون تحول الخلل في الجهاز القضائي لقضية رأي عام كاسح تصعب مواجهته. مع سقوط نظام الرئيس السابق عمر البشير في أبريل 2019 وتولي سلطة انتقالية (عسكرية – مدنية) زمام السلطة في البلاد، وُعد الشعب السوداني بقيام نظام ديمقراطي تسود فيه دولة القانون القائمة على استقلال السلطات الثلاث، غير أن من تولوا الأمر نسوا على ما يبدو وضع خمر السلطة في أكواب العدل، وما دروا أن غياب العدل يصنع الثورة وهو أقل تكلفة من الظلم. لقد ظلت تدابير الانتقال نحو الديمقراطية عرجاء؛ إذ لم تتم تهيئة القضاء وتعزيز استقلاليته، إذ يشكل الدعامة الأساسية التي تحمي الديمقراطية وتقويها من خلال فرض سيادة القانون وإعطاء بعد قوي للمؤسسية، فاستقلال القضاء يعد مدخلاً أساسياً وحقيقياً للانتقال نحو الديمقراطية، ومن ثمّ مقاربة مختلف القضايا والملفات بنوع من الجرأة والنزاهة والموضوعية. وفقا للوثيقة الدستورية وهي دستور الفترة الانتقالية، فإن مجلس السيادة الانتقالي يعتمد تعيين رئيس القضاء وقضاة المحكمة العليا ورئيس وأعضاء المحكمة الدستورية بعد ترشيحهم من قِبل مجلس القضاء العالي، لكن هذه الوثيقة التي تم تعديلها أكثر من 4 مرات منذ العمل بها في أغسطس 2019 بحجج ومزاعم كثيرة، لم تطبق بنودها المتعلقة بالجهاز القضائي؛ فلمَ تشكيل مجلس القضاء العالي وقد أوشكت الفترة الانتقالية على الانتهاء، فرئيسة القضاء المقالة عينها مجلس السيادة على هواه، كما انطبق ذات الأمر على النائب العام، وتقول الوثيقة الدستورية: "يعتمد المجلس تعيين النائب العام بعد ترشيحه من قِبل المجلس الأعلى للنيابة العامة"، لكن كذلك لم يتم تشكيل المجلس الأعلى للنيابة، فعين مجلس السيادة النائب العام المستقيل، وحتى بعد إقالة رئيس القضاء، فإن ذات النهج بدا مستمرا من خلال تحركات محمومة للسلطات السياسية الحاكمة لتعيين رئيس القضاء الجديد. بموجب القانون الدولي فإن استقلال القضاء يتمثل في عدم جواز أن تقع سلطة التعيينات القضائية في يد جهة سياسية واحدة لا سيما السلطة التنفيذية ويمثل مجلسا السيادة والوزراء السلطة التنفيذية. وبالضرورة فإن استقلالية القضاء تعني عدم وجود أي تأثير مادي أو معنوي أو تدخل مباشر أو غير مباشر وبأية وسيلة في عمل السلطة القضائية، كما تعني أيضا رفض القضاة أنفسهم لهذه التأثيرات والحرص على استقلاليتهم ونزاهتهم. في جانب آخر من وجه العدالة وسيادة القانون كانت ما تسمى بلجنة إزالة التمكين التي يتولى أمرها سياسيون معلومة انتماءاتهم السياسية، قد بدأت برفع وتيرة استهدافها للنيابة العامة، عقب موافقة النائب العام المستقيل على فتح بلاغات ضد عضو بتلك اللجنة الذي دخل في تناوش علني مع النائب العام إثر تصاعد الخلافات بين الطرفين بعد عزم اللجنة إنهاء خدمة 56 من رؤساء النيابة ووكلائها، إلى جانب فصل 56 من القضاة، ولعل المقصود من ذلك تمكين منسوبي الأحزاب التي ينتمي لها أعضاء اللجنة في سلك القضاء والنيابات، كما تم فصل الآلاف بين موظفين وسفراء ومسؤولين، فضلا عن اقتحام النقابات والمؤسسات والمقار الصحفية والإعلامية بالقوات المدججة بالسلاح، وإغلاقها. وكان النائب العام المستقيل يتساءل بمرارة: هل يمكن للقاضي المفصول أن يستأنف إلى لجنة إزالة التمكين؟، وفي النهاية خيّر النائب العام مجلس السيادة بين بقائه في منصبه ولجنة إزالة التمكين، وفي حين أن اللجنة تتحجج بصلاحيات منحتها لها الوثيقة الدستورية وتصف قراراتها بـ"الثورية" تتغاضى في نفس الوقت عن بنود ونصوص بذات الوثيقة تنص على استقلال القضاء وتساوي المواطنين أمام القانون بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية والعقدية، وهكذا انطبق عليهم قول الفيلسوف برنارد شو "عندما يريد الرجل أن يقتل نمرا يسميها رياضة وعندما يريد النمر قتله، يسميها شراسة"، وظلت اللجنة لا تسمح للمواطنين بالاستئناف ضد أحكامها وقراراتها وتعطيل إجراءات الاستئناف في غياب كامل ومتعمد للمحكمة الدستورية العليا ملاذ الاستئناف الحصين. وبلغ العسف الذي لازم قرارات وإجراءات اللجنة مبلغا أن اضطر رئيس لجنة إزالة التمكين وهو جنرال كبير وعضو بمجلس السيادة لتقديم استقالته، مبينا أن هنالك انتقادا مستمرا من كافة مستويات الحكم ومعظم المكونات السياسية لقانون ونهج عمل اللجنة، وأيضا عدم مباشرة لجنة الاستئنافات لعملها، مما أعاق دورة العدالة، فضلاً عن التهاتر المستمر بيننا وبقية أجهزة ومؤسسات الدولة وفي وسائل الإعلام.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة