على الرغم من أن ما يعرف بالحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي السابق قد انتهت رسميا قبل 32 عاما إلا أنها ظلت قائمة بصورة أو أخرى إذ لم ينته التنافس والصراع بين القوتيين العظمتين. ولعل المصطلح أستخدم لوصف حالة الصراع بدون المواجهات العسكرية كما كان الحال إبان الحرب العالمية الثانية التي وضعت أوزارها في 1945. بيد أن حالة استقطاب عمت العالم كله فانقسم بين حلفاء للاتحاد السوفييتي وحلفاء للولايات المتحدة.
اليوم بدا العالم قلقا من تصاعد حدة التراشق الأمريكي الروسي لا سيما بعد انتخاب جو بايدن مرشح الحزب الديمقراطي رئيسا للولايات المتحدة. أمس الأول الخميس بلغت التجاذبات بين القوتين الأعظم درجة الغليان، حين قامت واشنطن بطرد دبلوماسيين روس قالت إنهم قاموا بأعمال ضد الولايات المتحدة. وهدد بايدن أنهم بإمكانهم الذهاب إلى ما هو أبعد من هذه العقوبات. وتضمن الاجراء الأمريكي حزمة واسعة من العقوبات ردا على تدخل روسيا الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وعلى دورها في هجوم إلكتروني واسع طال أمريكا نهاية 2020، وعلى دورها في أزمة أوكرانيا. موسكو ردت بسرعة وتوعدت بالرد على واشنطن بالمثل، مهددة بإن ردها لن يتأخر. قد لا نسمي التجاذب اليوم حربا باردة من حيث أنه لا يصل لدرجة استقطاب كل دول العالم إذ على الأقل تبدو الصين بكل جبروتها العسكري والاقتصادي على مسافة بعيدة من كلا القوتين المتصارعتين. ورغم أن حلف شمال الأطلسي (ناتو) والاتحاد الأوروبي وبريطانيا قد عبروا عن دعم القرار الأمريكي، إلا أن الظروف قد اختلفت تماما كما كان في الفترة من منتصف الأربعينيات حتى أوائل التسعينيات؛ فلا شيوعية راديكالية تسعى الولايات المتحدة لإستئصالها بحشد الحلفاء في أوروبا الغربية والشرق الأوسط. ولا دعم ستقدمه روسيا للحركات الشيوعية حول العالم ى سيما في أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية ودول جنوب شرق آسيا. فخلال تلك الفترة، ظهرت الندية بين القوتين العظيمتين عبر التحالفات العسكرية والدعاية المكثفة وتطوير الأسلحة والتقدم الصناعي وتطوير التكنولوجيا والتسابق الفضائي، مع تصاعد الإنفاق الضخم على الدفاع والترسانات النووية. اليوم في ظل نذر هذه الحرب التي قد نسميها تجاوزا حربا باردة قد تزدهر بين الغريمين الحروب غير المباشرة باستخدام الوكلاء في عدد من مناطق العالم الملتهبة حيث الموارد والأسواق. وفيما أختلف الغريمان سابقا اللذان كانا حليفين في الحرب العالمية الثانية ضد قوات المحور في كيفية إدارة حقبة ما بعد الحرب العالمية وإعادة بناء العالم، فإنهما اليوم يتسابقان على الاستحواذ على موارد العالم وسرقتها وكذلك على الأسواق التي تستوعب منتجاتهما وصناعاتهما، والتي تتمثل في أوروبا والشرق الأوسط والشرق الأدنى وإفريقيا وإمريكيا اللاتينية.
وقد حرص بايدن على تغليف حقيقة الصراع بعناوين أخرى، فهو يقول إذا استمرت روسيا في الاعتداء على "ديمقراطيتنا فنحن مستعدون لتصعيد خطواتنا" في اشارة إلى مزاعم التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية وما سماه بايدن بالأنشطة الخبيثة عبر الإنترنت. أو قوله: "بأننا ثابتون على دعم حلفائنا حول العالم"، أي دعم بلاده لسيادة أوكرانيا، ومطالبته روسيا وقف التصعيد هناك. وفيما بدا أن التصعيد الأمريكي تزامن مع تسلم إدارة بايدن السلطة والتي تمثل الحزب الديمقراطي، فأن الروس يعتبرون أن بلادهم ظلت عدوا يناسب الديمقراطيين والجمهوريين على حد السواء، فهي وسيلة ملائمة لاتهام بعضهم البعض، وتحسين شعبيتهم، لإنها صورة عدو جيدة. وتعتقد موسكو أن كلا الحزبين يحتاجان لفزاعة روسية وتغذية مزاج العداء نحوها. وأن روسيا تُعد أجندة مناسبة للاتهامات المتبادلة بين الحزبين، مثل قول الديمقراطيين أن روسيا ساعدت الرئيس الجمهوري السابق دونالد ترامب؛ أو اتهام الجمهوريين للرئيس الديمقراطي الأسبق بارام أوباما بأنه لم يستطع أن يضع حدا لبوتين، فاجتاحت روسيا شبه جزيرة القرم في أوكرانيا. فروسيا تبدو مقتنعة بأن الفرق بين الحزبين الأمريكيين، الجمهوري والديمقراطي كالفرق بين مذاق البيبسي والكوكاكولا. في مقابل "عدائية" بايدن بدا بوتين أكثر هدوءً ورد على اتهام بايدن له بالخواء الروحي بأنه يتمنى الصحة الجيدة للرئيس بايدن. فهل استخدم بايدن بالفعل تكتيكا محفوفا بالمخاطر، قد يؤدي إلى تفاقم الوضع مع روسيا وانزلاق التجاذبات إلى مربع آخر؟. أم أن بايدن أعترته حالة مزاجية عابرة، ربما أقتضتها حاجة أمريكية لتحديد من هو العدو؟. بينما أتخذ الرئيس السابق ترامب الصين عدوا رئيسيا، يعود بايدن إلى العدو الجيوبوليتيكي وهو روسيا. ونعلم أن بايدن كان قد أكد في خطاباته الانتخابية ضمن برنامج الحزب الديمقراطي، أنه يعتبر روسيا العدو الرئيسي لأمريكا، أما الصين فليست عدوًا لكنها منافسا. مع ذلك كله لا يبدو أننا أمام حرب بين البلدين لا باردة ولا ساخنة بالضرورة، لكن قد يقف العالم على عتبة أوضاع عالمية جديدة بعد أن أوجعته سياط جائحة الكورونا. ومع "عدائية" بايدن فقد يكون العالم في وضع استقرار نووي استراتيجي، أفضل مما كان الأمر في عهد إدارة ترامب السابقة. ولعل ما يعضد ذلك تأكيدات وزير خارجية بايدن، بأن واشنطن ستعمل على تعزيز الاستقرار الاستراتيجي مع روسيا. وبالفعل تمكن البلدان فور تسلم بايدن الرئاسة وبسرعة كبيرة، من تجديد العمل بمعاهدة ستارت 3 لمدة خمس سنوات حتى 2026. تاريخيا فقد جرى أول اتصال روسي - أمريكي في العام 1698 حين التقى القيصر بطرس الأكبر مع وليام بين مؤسس المستوطنة البريطانية بنسلفانيا في أمريكا والذي يعتبر أحد مؤسسي الولايات المتحدة الأمريكية. بل أن روسيا ساعدت الولايات المتحدة في تحقيق الاستقلال من بريطانيا حين رفضت تقديم المعونة العسكرية إلى لندن لإخماد الانتفاضة التي اندلعت في عام 1775 في 13 مستعمرة بريطانية في أمريكا واعلنت روسيا حيادها لاحقا. وفي الفترة من 1842 إلى 1851 كان المهندسون الأمريكيون المستشارين الرئيسيين لمد طريق السكك الحديدية بين موسكو وبطرسبورغ.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة