يراودني إحساس بالخيبة وإنقطاع الأمل من حدوث تغيير في الواقع المرير لهذا الوطن وهذه الأمة ، كلما صادفتُ أشخاصاً عبر الوسائط الإعلامية أو شبكات التواصل الإجتماعي الإلكترونية أو حتى في (ونسات) و(دردشات) بيوت الأفراح والمآتم و(السمايات وغيرها) ، يتحدثون بذلك الحماس العجيب والتفاخُر المُريب عن أن هذه البلاد تمتلك تاريخياً شامخاً وعظيماً وسابقاً لكل الحضارات ، حينها ينتابني إحساس بأننا من أكثر المبالغين في إستنباط التفوَّق والعلو على تجارب الآخرين وإنجازاتهم بالحق وأحياناً بالباطل ، والتفاخر حتى لو كان مستنداً على أسس حقيقية وماثلة ولاتقبل النقاش ، لم يكُن يوماً واحداً من أدوات بناء الذات وتحقيق الإنجازات الشخصية ، وقديماً قال المثل (ليس الفتى من قال كان أبي ولكن الفتى من قال ها أنا ذا) ، ففي رأيي الخاص ان الشخصية السودانية كما حلَّلها بعض المتخصصون الأجانب تعاني بصورة أو أخرى من مركبات نقص مختلفة لعدة أسباب أهمها ضبابية الهوية الثقافية والعرقية وأحياناً إنعدامها ، وفقدان حالة الإنتماء الكُلي والمُطلق للواقع التاريخي والموروث الثقافي لجغرافيا السودان ، من يركبون صهوة جواد العروبة فينا لا يشبهون العرب في كل صفاتهم بإستثناء الموروث الثقافي واللغوي ، ومن يشبهوننا من الشعوب الأخرى على مستوى اللون والعنصر لا نتشارك معهم ثقافتهم وموروثوهم التاريخي ، كل هذا ربما أدى إلى إتساع هوة شعورنا بعقدة النقص و(اللاهوية) بالقدر الذي جعلنا دائماً (نحتاج) لسد أغوار هذا النقص في نفوسنا وفي إنطباعات الآخرين عنا إلى كثرة الحديث عن أمجادنا التاريخية على مستوى الأحداث والمؤسسات والأشخاص ، أما على المستوى الشخصي فقد عشت زمناً طويلاً في حالة إغتراب عن الوطن في مناطق عدة من العالم بعضها قريب والبعض الآخر قصية ، وإلتقيت فيها بالعديد من الجنسيات المختلفة في مشاربها الإثنية والثقافية والسياسية ومستويات بلدانها الإقتصادية المتراوحة ما بين الثراء الفاحش والفقر المدقع ، ولم ألمس في أحدهم أو بعضهم ميلاً مثل ما نفعل نحو الحديث المتواتر عن أمجاد بلاده الوطنية على مستوى ما مضى من تاريخ ، وللحقيقة وإثباتاً لتطور هذه العقدة في ذواتنا نفسياً تجدنا دون شعور نتلمس في بعض الأجانب الذين نلتقيهم ما أورده التاريخ القديم عن بلدانهم ومجتمعاتهم ، من فينا حين يلتقي الليبيين أول مرة لا تجرهُ المشاعر إلى ذكرى عمر المختار ، والجزائريون المعاصرين يذكروننا بمقولة أرض المليون شهيد ، والسعوديون يذكرونك بمجتمع مكة وشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابة ، وإذا إلتقيت تركياً تذكرت في نفسك القصية الدولة العثمانية وكمال أتاتورك ، وهكذا دواليك ، أما على الإتجاه الآخر تجد كل أولئك المذكورين آنفاً على الأقل في المستوى الظاهري غير معتدين ولا آبهين بما أنت غارق فيه من خيال وزكريات ، مُجمل القول في هذا الموضوع إن الإستغراق الذي يفوق حده الطبيعي في إجترار أمجادنا التاريخية التي مضت هو آلة من آلات التقاعس والإفشال للإنجازات الآنية التي يمكن أن تُعبِّر عما يجب أن نُخلَفه من مفاخر تاريخية لأجيال قادمة .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة