اتصل بي قبل نحو عامين المرحوم حسن عابدين يسألني إن كنت أوافق على تضمين رسالتي له في ١٩٨٨ في كتابه الجديد. وفتح رأسي لأنني نسيتها تماماً. ولم أزد عن قولي له لو سمحت أراجعها فلربما هترنا فيها بحق أحد. وانتهى إلى نشرها في كتابه "أصداء الزمن الجميل" (٢٠١٩) الذي اشتمل على مكاتبات أخرى ومواقف مع غيري. لماذا يكاتبني من افترقت دروبنا في السياسة واكاتبه إلى رحيله عنا؟ لقد كان حسن في عمق نظام مايو الذي كنت ملاحقاً من جهاز أمنه لسنوات ونسميه "نظام الردة"، ونطلق على رئيسه "سفاح ولن يرتاح"؟ ليس في الأمر عجب. هي الزمالة التي جمعتنا ناشطين باتحاد طلاب جامعة الخرطوم في الستينات الأولى. كان حسن زعيماً في المستقلين حتى تحولوا إلى المؤتمر الديمقراطي الاشتراكي. وكنت شيوعياً. والفضل في هذه الزمالة عائد للتمثيل النسي الذي كان به العمل في الاتحاد. وهو نظام يقتصر فيه المعسكر الطلابي بترشيح عشرين في قائمته لمجلس الاتحاد الذي تكون من أربعين عضواً. ومعنى هذا أن يقبل المعسكر ذو الغلبة (أو المعسكرات ذات الغلبة) بشهامة بنصف مقاعد المجلس كأقصى ما ينال إكراماً منه لتمثيل جماعات أخرى كان مصير صوتها الضياع متى كان الحشاش يملأ شبكته. وهيأ لنا التمثيل النسبي "النوم مع العدو". ثم تتفتح بين الأخوة الأعداء هؤلاء مسارب للزمالة عجيبة. أهداني حسن في إجازة من بعثة بأمريكا كتابين لفرانز فانون الماركسي. ووفرت له مذكرات أحد مناضلى ثورة ١٩٢٤ كنت أخذتها إملاء منه. ونعيت حافظ الشيخ الإسلامي. وكذلك مبارك قسم الله. وكذلك الطيب زين العابدين. وناصحت على الحاج أيام القصر العشوائي. وكنت وحسن وعلى الحاج أعضاء بلجنة للاتحاد أوقفتنا الجامعة عاماً بعد مظاهرة لا معنى لها. لم أكف عن الدعوة للتمسك بالتمثيل النسبي. فهو ممارسة ديمقراطية وثقافة غراء عادة ما ننساها ونحن نندب خلونا من الثقافة الديمقراطية لغلبة العقل البدوى علينا. وهي ثمرة فكرة انقدحت في فكر قريب الله محمد حامد من الجبهة الديمقراطية والإسلامي أحمد عبد الرحمن بوحى من أستاذهم سعد الدين فوزي حين أزعجهم تواتر الانتخابات للاتحاد لأن المهزومين يتربصون بالفائز ويقلعوه. وهكذا لا يتفرغ الاتحاد لمهامه من فرط الانتخاب وإعادة الانتخاب. عشنا عصر التمثيل النسبي. وانبثقت ثورة أكتوبر منا باختلاف عقائدنا كتفا لكتف. ولو لم أحظ من ذلك العصر بشىء سوى زمالة حسن عابدين وأنسه لما ندمت. كتب لي حسن من السعودية يقول إن أحزبنا العائدة بعد ثورة ربريل ١٩٨٥باتوا مثل آل البوربون الفرنسيين لم ينسوا شيئاً ولم يتعلموا شيئا. فكتبت الأخ الكريم حسن، تحياتي وشوقي وصلني مكتوبك مع عبد الغفار (محمد أحمد) وظللت في أرق الرد عليه مع الأيام والليال التي تنسحب منا وسيطرتنا عليها قليلة. أشكر لك عنايتك بما كتبت في (جريدة) الأيام. وأود لو أتيح لنا حديث طويل حول ما اعترضت عليه. غير خاف عليّ ما انتهت إليه التعددية (الحزبية) عندنا: سيطرة "مهتزة" للمهدوية والميرغنية المتحالفة أو المؤتلفة. إن الضيق بهذا التكرار التاريخي مشروع جداً ولكن إلى أين أفضى بنا؟ ١-إلى فقدان كل مناعة للعيش في ظل الديمقراطية التعددية. إننا لا نحسن العيش فيها. وأقصد بالذات المتعلم-الأكاديمي-المتسيس ونقضي سنواتنا القليلة معها في ضجر . . . ضجر يملأ الخرطوم الآن. وقد بلغ حداً أصبح انتظار (الخلاص على يد) قرنق نوعاً من التسلية المنتظرة. ٢-إلى فقدان كل عطف أو ثقة بالشعب لأن اختيار الميرغنية المهدوية خيار شعبي مشروع في مقاييس الديمقراطية. إن استنكارنا لهذا الاختيار يحول دون أن نتعمق البنيات السياسية والاجتاعية في بلادنا لنقف على جدل تكرارها. وفي قاع كل ذلك قناعة لا سند لها أننا أدرى بما يريد الشعب. وهذا جذر كل خطة انقلابية. ٣-ويتمثل انقطاعنا عن الشعب قي ميل جماعات من المتعلمين أن تجرب المجرب: قبول الطائفية من أجل مقعد برلماني يعتقد المتعلم أنه سيستخدمه بشكل أفضل. وهذا إخفاق تكرر ومع ذلك لم نمله. الأجيال من المحجوب وأزهرى حتى بشير عمر وأبو حريرة يجربون المجرب. ٤-إننا بلا بدائل كثيرة إما الائتلاف الطائفي أو الكارثة. ٥-لقد تركنا الشعب للطائفية أو لقوى ترجمه من أعلي لا تنبثق من معاناته، وتتلون بها، وتشفق عليه، وتصمم على إنقاذه نهائياً. إن لعن الديمقراطية أمر هين. غير أنه سيصعب التكهن بيسر ما تنذر به الاحتمالات الأخرى. إنني متفائل بالديمقراطية التعددية بشرط وحيد: الدعوة إلى فعل يغير تركيبتها (من خلال الممارسة للديمقراطية ذاتها) إلى مكان للشعب وطاقمه السياسي القدح المعلى. أعتقد أن الديمقراطية لم تعد بيئة سياسية وحسب إنا الآن صنو لغريزة البقاء. أرجو أن تكون والأسرة بخير. وأعذرني للتأخير وسعيد بتجديد خوتكم مع عظيم محبيت وتقديري. المخلص عبد الله على إبراهيم * كتبت قبل مدة عن ثورة ٢٠١٨ أن باعثها غريزة البقاء فلا أحد تخيلها كما وقعت ولم تنطو على معنى لا تشمله غريزة البقاء.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة