التيارات السياسية لا تُخلق من العدم ، فهي تظهر وتنمو نتيجة لأسباب وشروط موضوعية ولازمة لحركة التطور الطبيعية في المجتمعات .. ظل مفهوم اليسار في السودان ولسنوات طويلة حكراً علي أحزاب بعينها ، وهي أحزاب ذات تفكير عقائدي وأيدلوجي وذات بُعد وعمق أممي وإقليمي .. وإنحصر مفهوم اليسار في السودان في هذه الأحزاب ، ولعل أبرز هذه الأحزاب هو الحزب الشيوعي السوداني والذي نشأ منذ أواسط الأربعينات في السودان بمُسميات مختلفة حتي صار بإسم الحزب الشيوعي السوداني ، وهنالك الأحزاب القومية العربية كاحزاب البعث والناصريين والقوميين العرب ، والتي ظلت علي إرتباط بالعراق وسوريا ومصر وعدد من الدول العربية الأخري التي تؤمن بالوحدة للأقطار العربية ، لست هنا معنياً بتفاصيل نشأت ومسيرة كل تلك الأحزاب والتي شكلت مفهوم اليسار السوداني بشكله التقليدي القديم والمعروف .. ما أُريد أن أركز عليه هو مُجمل التجربة لهذه الأحزاب ومدي صلاحيتها للقيام بدور حقيقي وفعال في واقع اليوم مع كل التقدم والتغيرات التي حدثت في الأفكار والأحداث في عالمنا الحديث داخل السودان وخارجه .. بالنسبة للأحزاب القومية والعربية فهي لا تتمتع بأي ثقل جماهيري وقامت علي فكرة أن السودان قُطر عربي يتبع للجامعة العربية وأن مفهوم الوحدة العربية هو الذي يُعطي القوة السياسية والإقتصادية وكل ذلك مرتبط أيضاً بالصراع العربي الإسرائلي والحروب التي قامت بين العرب والإسرائليين منذ حرب فلسطين أواخر الأربعينات وحتي حرب أكتوبر في 1973 ، مروراً بمواجهات الجنوب اللبناني وحرب المقاومة في لبنان وسوريا والأردن وفلسطين .. وبرُغم خطأ أن السودان دولة عربية بالكامل ويجب إلزامها بهذا المسار الذي جرّ علينا الكثير من المُشكلات والتعقيدات الداخلية ، بل والحرب والإنقسام للجنوب ، فقد كان هذا نتيجة مُباشرة لعقلية السودان العربي هذه !! .. ، فلم يكن هذا هو المأخذ الوحيد علي تلك الأحزاب القومية والعربية والناصرية الإشتراكية ، فهي أحزاب قد حكمت بالديكتاتورية المُطلقة والحُكم العسكري في العراق وسوريا ومصر وحتي إذا أضفنا لها تجربة القذافي في ليبيا واللجان الثورية ، كلها كانت تقوم علي القمع والبطش والتنكيل بشعوبها ومُعارضيها وإقصاء الآخرين ، وهي بذلك أعطت تجربة ونموذج سئ في الحُكم الإستبدادي المُرتبط بالفساد والمحسوبية والإنتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان وغياب الديمُقراطية والحُريات وغيرها من سلبيات تلك الحكومات التي قامت علي فهم البعث أو الناصرية والعروبويّة ! .. ولقد شهدنا التمزق الذي حدث في العراق وسوريا كنتيجة مباشرة لغياب الديمُقراطية وسيطرة الحزب الواحد والديكتاتوريات العسكرية والنهج الشمولي الإقصائي ، ولم تستطيع مصر الخروج من النهج العسكري الديكتاتوري مُنذ ما عُرف بالثورة المصرية في يوليو 1952 بزعامة عبدالناصر ومن معه في تنظيم الضباط إلي تاريخ اليوم نسبة لتمكن المفهوم العسكري الشمولي الإستبدادي في عقلية الإنسان المصري ولم تنجح ثورة 25 يناير من الصمود كثيراً لتمكُن تلك العقلية ومؤسسات الإستبداد هنالك ! .. إذاً بالضرورة فإن تأثُر أحزاب البعث والأحزاب الناصرية والعربية في السودان بما جري في العراق وسوريا ومصر يكون تأثيراً مباشراً لإرتباطها بها ، وساهم أيضاً في تراجع تلك الأحزاب والتيارات والتي أضحت ذات طابع صفوي وقديم وفاشل و لا يتماشي مع الواقع السوداني ولا حتي العربي والإقليمي نسبةً للتغيرات التي حدثت فيه ! .. و نواصل في المقال القادم ونستعرض نتائج تجربة الحزب الشيوعي وفشلها أيضاً في الواقع السوداني بعد فشلها عالمياً وإنهيار تجربتها ، وكذلك أيضاً في ظل عدم وجود إلتفاف جماهيري حقيقي يتناسب و تاريخ الحزب الطويل مُنذ ميلاده في الأربعينات من القرن الماضي ، وإعتماد الحزب علي العمل التكتيكي و علي الأذرع واللافتات الديمُقراطية التي هي في الأساس لا تنسجم وطريقة التفكير داخل الحزب الشيوعي السوداني نفسه !! ..
نضال عبدالوهاب .. الأحد 11أكتوبر 2020 ..
العنوان
الكاتب
Date
آن أوان اليسار الديمُقراطي الجديد في السودان (1/3) .. بقلم:نضال عبدالوهاب
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة