الوثيقة الدستورية القائمة اليوم أجيزت وألغي بموجبها دستور 2005 الانتقالي.. وقد كان مطلب الثورة أن تؤسس دولة مدنية بمعنى غير عسكرية ولم يكن هناك برنامج تفصيلي من قوى الثورة لتبنى عليه هذه الدولة المدنية.. ولذلك كثر الحديث عن أن الوثيقة عبارة عن دستور علماني يفصل الدين عن الدولة وهو كلام فارغ لا أساس له.. بل قصد منه هدم بناء الثورة باسم إعادة شرع الله ومحاربة العلمانية!! فالتضليل باسم الدين كان على الدوام هو الستار الدي تمارس تحته جميع ألوان الفساد منذ الاستقلال!!
وقد تحدثنا عن معالم الدولة المدنية وأوردنا تعريف الويكيبيديا بأنها دولة المواطنة والتسامح والنظام الديمقراطي.. وقلنا إنها لا ترفض أن تأتي التشريعات الدينية عبر البرلمان فهي لا تتبنى فصل الدين عن الدولة كما في الدولة العلمانية.. ومن ذلك خلصنا إلى أن الدولة المدنية ليست عسكرية ولا دولة وصاية دينية وكذلك لا علاقة لها بالعلمانية..
كما أشرنا إلى (وثيقة المدينة) كأول دستور في التاريخ لدولة مواطنة تكفل الحقوق الدستورية لجمبع مواطنيها على قدم المساواة.. وتحت مظلة هذا الفهم الراقي عاش المسلمون مع اصحاب المعتقدات الأخرى كاليهود والنصارى وكذلك الوثنيون في سلام وتسامح ردحا من الزمن إلى أن خرق اليهود الوثيقة فنسخت من ثمّ فتحول الأمر إلي وصاية الشريعة..
الوثيقة الدستورية التي بين أيدينا استوفت كل مبادئ دولة المواطنة.. فكما ورد في مستهل وثيقة المدينة: (نحن أمة واحدة) كذلك نصت وثيقتنا على نفس المبدأ وأسست أنه لا فرق بين مواطن وآخر بسبب العقيدة والجنس واللون ......الخ.. ثم إنها كفلت حق حرية التفكير والاعتقاد والنشر وتكوين الجمعيات والاحزاب والصحف.... الخ يضاف إلي ذلك أنها بينت بالنص كيفية التعامل مع جرائم الحدود والقصاص كقوانين دينية تحكم بنفس الأسس التي بنيت عليها..
الوثيقة نصت على احترام المواثيق الدولية واذا حدث تعارض تكون السيادة للمواثيق الدولية بشرط أن يكون السودان موقعا عليها.. وهذه النقطة تخالف دستور 2005 الذي نص على أن تكون السيادة للمواثيق الدولية في هذه الحالة بغض النظر عن موقف حكومة السودان..
إذن هذه الوثيقة كما هو واضح مكتملة ومستوفية لمتطلبات الدولة المدنية.. أكثر من ذلك منسجمة مع (وثيقة المدينة).. ولذلك يحب على المثقفين عامة أن يعضوا عليها بالنواجذ.. وأن يبعدوا عن دمغها بأنها علمانية لأنهم إن فعلوا ذلك فسيجعلون الأرض ممهدة لعودة الهوس الديني وسيتركون الشعب فريسة سهلة ونهبا للتضليل الديني وبذلك تنتهي آمال الثورة رغم التضحيات الضخمة التي بذلت..
السند لمبادئ هذه الوثيقة يؤخذ من أصول القرآن وليس الشريعة السلفية إذ إن الشريعة كانت مرحلة وصاية فرضها حكم الوقت.. وأصول القرآن عمدتها الآيات المكية وهي التي أسست مبدأ (المسئولية الفردية) تحت سيادة الدستور والقوانين الدستورية..
الجعجعة التي تحدث من حين لآخر ضد الحقوق والحريات المنصص عليها في هذه الوثيقة إنما هي جعجعة لا طائل تحتها.. فالحقوق الدستورية ترسخت في العالم بفضل الصراع بين البشر عبر الزمن.. والإسلام دوما ينظر في التراث البشري ليثبت العرف الصالح ويجتث الطالح..
هل معنى هذا الكلام أن هذا التطبيق للوثيقة الجاري الآن مسنود من الرسالة الثانية من الإسلام؟؟ الجواب: نعم.. هل هو نسخ للشريعة السلفية؟؟ الجواب: نعم.. وليس أدل على ذلك من الإلغاء الحاسم الذي تم مؤخرا بلا تردد لمادة الردة التي تتعارض من الوثيقة.. فالشريعة السلفية في جملتها تتعارض مع دستور أصول القرآن.. فهي مرحلة وصاية خدمت غرضها حتى استنفدته ولم تعد صالحة لقيادة المجتمع المعاصر.. ولم يبق إلا التوجه نحو الحكم الدستوري المضمخ بروح القرآن..
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة