ناشتنى اليوم، وأنا طريح فراش المرض، هموم ونبهنى وجيب القلب لتزايد ضرباته وتصاعد خفقانه، وتداعت خواطر على العقل ثقال، وأنا أرى مغتصب السلطة من يدعى كذبا أنه رئيس لوطن كان، حتى هجم عليه صغار النفوس وفاقدو الضمائر ومنكسرو الخواطر ، رمزا للعزة والشموخ بين الشعوب والأمم، أراه وهو فاقد الشرعية يعكس مذلة وهوانا أمام العالم يستجدى رئيس روسيا الذى لا يحير له ردا.
حينها جال فى خاطرى حالنا اليوم مقارنة بما كان عليه ماضينا، وحناجر القوم فى بحرى تنطلق نساءا ورجالا بعد ندوة فى نادى العمال فى قلب حبيبتى بحرى "إلى الجحيم يا روبرت هاو" و "السودان عزيز ما داير إنجليز" "الإستعمار ياهو الدمار، يانموت أحرار... يا نعيش فى عار". فتقشعر جلود أجسادنا الغضة ونحن أطفالا. فترسخ فى العقل قيم الكرامة والنضال ونحن نرى القوم ما همهم أدخنة "البنبان" ولا هروات رجال الشرطة، وقائدهم البريطانى الذى يجلس فى داخل سيارته الجيب يراقب الموقف عن كثب. ثم فجأة يولى هاربا بسرعة أنطلاقة السيارة، وحشود تتنطلق صوب العربة. وما ظننت أنهم كانو سيهاجمونه. وإنما كانوا يتدافعون والشرطة تطاردهم فتقبض على هذا أو تهوى بالهراوى على أولئك. ولكنه جبن الطغاة وعيشهم فى هلع دائم، هو ما حدا بالقمندان لتولية الدبر والهروب من الموقف. وقد علمنا لاحقا التعليمات الصارمة الصادرة من وزارة الخارجية البريطانية لموظفيها فى السودان، وكان ملف السودان يقع ضمن إختصاصاتها، وليس لإدارة المستعمرات كبقية مستعمرات البريطانيين حول العالم. ومن تلك التعليمات ما معناه "هؤلا قوم عزيزو نفس أنوفون لا يرضون الذلة. فلا تعاملوهم بقسوة أو تهينونهم لأنه لا يمكن التكهن بردود أفعالهم فى مثل تلك الحالات. مدوا معهم جذور التواصل والإحترام حتى تنالوا رضاهم فإنهم قوم ودودين فى علائقهم الإنسانية"
فطفرت على التو إلى عينى دميعات معصورة من دواخل قلب هرم، ليس من تقادم الأيام وحدها؛ ولكن للمذلة والدونية التى بلغناها كشعب اليوم، وفظاظة من أجهزة أمن كأن رجالها لا ينتمون إلى هذه الأمة! فهم لا يحمون إلا مكاسب الطغمة الفاسدة الحاكمة، يرفلون فى وهم زائف بأنهم أسياد الأمر والواقفين على مسار الدنيا يقتلون هذا ويعذبون ذاك وينتهكون شرف هذه. ولا يضعون فى إعتبارهم يوم السقوط الكبير حينما يكتمل الضيق على الهر الجريح. يومها سيكون أمرهم لا كأمر مر على قوم فى تاريخ السودان قديمه ولا جديده.
وفى خضم تلك الجولة العقلية المؤلمة القاسية على النفس والقلب، لجأت إلى السياحة فى الذكريات عساها تكون لى ملاذا. فسعيت لاسترجع بعضا من ذاكرتى يوم كنا أعزاء ذووى كرامة وشهامة ونخوة تجسدت فى كل ما كنا نراه ونعيشه ونسمعه فى بحرى -- روح الأمة التى جمعت كل مكونات الشعب السودانى وأعراقه ومناطقه فى حب ووئام لم أجده فى أى مكان فى العالم، ولا فى السودان وقد طوفت أوسكنت فى كل شبر من ترابه وزرت تسعة وثلاثون دولة. ولكن تظل بحرى متفردة، حاوية للأمة، موحدة للتطلعات القومية وقلبا للنضال العمالى مع صنوتها عطبرة. وتذكرت لحظتها هذا البوست وتقصيرى فى الرد على عدد من المداخلات لظروف قاهرات. فأفقت هنيهة وأنا أستحلب عقلى لمداخلة أو أخرى فى هذا البوست لأذكر فيها ماضى الأيام الجميلات الجليلات. ولكن خاب مقصدى وتضععت صلابتى، فلم يكن ذلك إلا مضاعفة لآلامى وأنا أذكر أين كنا وأين صرنا الآن. وطاف ذهنى مسترجعا أيام أكتوبر وأنا طريح فراش الإصابة أصحو من غفوتى على وقع أنغام وصوت العطبراوى ومحمد وردى ومحمد الأمين وأحمد المصطفى وعثمان الشفيع وعثمان حسين وعبدالعزيز داؤود وسيد خليفة وعائشة الفلاتية. فأسمع اليوم فى أذنى عقلى ويرن صدى تلك الأيام دفاقا فى " وطن الجدود" و"انا سودانى" و "بلادى أنا". ويزداد حزنى وإنكسار روحى وثقل عذابى وحدة وجدى:
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة