التوظيف السياسي للفكر الديني

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-04-2024, 08:56 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الأول للعام 2006م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
02-06-2006, 09:11 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
التوظيف السياسي للفكر الديني

    التوظيف السياسي للفكر الديني
    هادي محمود


    مقدمة
    ثمة ما هو مشترك في المواد الواردة في هذا الكراس. فالجامع والمشترك بينها، هو المنهج الذي كُتِب به أولاً، وما يمكن أن نطلق عليه الحقل المتخصص ثانياً. والهدف هو القاء الضوء على تلك العلاقة التي تربط الفكر الديني، بالعمل السياسي. وبالتالي يبدو عنوان الكراس "التوظيف السياسي للفكر الديني" منسجماً مع جملة المواد الواردة فيه.
    يكتسي التطرق للقضية الدينية، وللإسلام السياسي في بلد كالعراق، أهميةً بالغة. فالتيارات الإسلامية السياسية بمختلف أشكالها واتجاهاتها، تمتلك حضوراً فاعلاً في الحياة السياسية، وفي حياة المجتمع بشكل عام. وهي تطرح توجهاتها من خلال الربط والتلازم بين الإسلام كعقيدة وعبادات، وقيم وجدانية وأخلاقية، وبين مشروع الإسلام السياسي المتمثل بالدولة الدينية المبنية على أسس الشريعة الإسلامية، كمصدر وحيد للتشريع.
    كما تسعى تلك التيارات الى احتكار التراث الإسلامي، من خلال النظرة الأحادية في التعامل معه، لتجييره لمشروعها السياسي، عبر خلق هوية إسلامية إنعزالية، منكفئة على نفسها، وتجعل من الآخر عدواً دائماً لها.
    ولا تنصب مسعى قوى الإسلام السياسي على أسلمة الدولة فحسب، بل تسعى أيضاً لأسلمة المجتمع سياسياً، من خلال فرض أنماط معينة للسلوك الاجتماعي، وطرق للمعيشة اليومية، من خلال أساليب القهر التقليدية في المجتمعات. ويتزامن هذان المشروعان من خلال استغلال الهوية الإسلامية لأغلبية جماهير شعبنا، والتي هي هوية حضارية ووجدانية، أكثر من كونها هوية دينية سياسية.
    ان الصراع على الهوية، صراع اجتماعي، من أجل مشاريع سياسية مختلفة. صراع لا يتعلق بالماضي بقدر تعلقه بالحاضر، وبالمستقبل أيضاً. ودورنا كيساريين ديمقراطيين، هو تجنب النظرة العدمية للتراث، ودفع الأمور باتجاه تقدمي عقلاني منفتح على منجزات الفكر البشري، وعلى أساس استيعاب الديمقراطية كقيم، وكأسلوب حضاري في الحياة اليومية، وعدم التعامل مع مفهوم الديمقراطية كآليات، أو اختزالها في مفهوم الأكثرية والأقلية.
    ان اختلافنا الأساسي مع قوى الإسلام السياسي، اختلاف حول ما يدور في الأرض، وهو صراع اجتماعي سياسي، لا يتعلق بالسماء. وبالتالي هو اختلاف في المشاريع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، دون أن يعني ذلك عدم إمكانية التوافق في هذه النقطة أو تلك، مع جهة أو أخرى، وعلى قضايا مشتركة تخدم التقدم الاجتماعي والتنوير، وقضية الديمقراطية والحريات العامة.
    مواد هذا الكراس ، مسعى لفهم متجدد للظاهرة الدينية، من خلال فهم عقلاني وواقي للتراث ولوظيفة الدين في المجتمع. وهي مساهمة لتشخيص بعض الإشكاليات المتعلقة بهذا المجال، من خلال النظر الى الظاهرة الدينية في إطار التاريخ، وفي إطار تأثير الجهد البشري.

                  

02-06-2006, 09:16 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: التوظيف السياسي للفكر الديني (Re: Sabri Elshareef)

    كتاب منشور علي ويب سايت الحزب الشيوعي العراقي جدير بالقراءة

    ساوالي نشره للفائده للكاتب هادي محمود ولقد تعلمنا من مثقفي وكتاب

    العراق امثال هادي العلوي وعبدالله ابراهيم وفالح عبد الجبار

    وسعدي يوسف واخرون واخريات
                  

02-07-2006, 06:06 AM

Suad I. Ahmed
<aSuad I. Ahmed
تاريخ التسجيل: 02-11-2003
مجموع المشاركات: 436

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: التوظيف السياسي للفكر الديني (Re: Sabri Elshareef)

    لك الشكر على هذه المبادرة الرائعة في هذا الزمن القميئ الذي يلبس فيه المتأسلون مختلف الجلابيب لمواصلة تحكمهم على الرقاب.. ويقبل بهم بعض المنظمات حرصا علة التسجيل الرسمي الذي يتحكم فيه النظام.. هم يتجاهلون أنك لا يجوز أن تحفظ الشياه مع الذئب في حظيرة واحدة وتتوقع ألا تؤكل!!
    لقد سبق لي في عام 1970 أن نشرت تقريرا مطولا للجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي المناضل ينتقدون فيه التوجه نحو التحالف مع نظام البعث باعتبار ذك كان وبالا للحركة الجماهيرية المستقلة لشعب العراق.
    واصل التنوير فنحن في حاجة لمن يذكر الناس بالحقلئق..
    لك الشكر والتحية
    سعاد إبراهيم أحمد
                  

02-08-2006, 07:41 AM

عوض محمد احمد

تاريخ التسجيل: 12-12-2005
مجموع المشاركات: 5566

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: التوظيف السياسي للفكر الديني (Re: Suad I. Ahmed)

    مزيدا من الدراسات الجادة اخى صبرى.
    و لتلاحظ ان الجماعات الاسلامية رغم انها تخوض حربا ضد كل العالم(على الاقل هذا ما يبدو لنا) الا انها لا تزال قادرة على تحقبق اختراقات مهمة. هذا جدير حقا بالدراسة.
    لماذا تتمتع هذه الجماعات بالمقدرة الكبيرة على تجديد هياكلها التنظيمية و افكارها كلما اقتضى الامر و كل مرة تعود اقوى مما سبق بينما يخوض الحزب الشيوعى مناقشات منذ 1991 لتجديد برنامجه دون نتائج واضحة امام الجماهير و اصدقاء الحزب.





































    9
                  

02-08-2006, 08:30 PM

Abureesh
<aAbureesh
تاريخ التسجيل: 09-22-2003
مجموع المشاركات: 30182

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: التوظيف السياسي للفكر الديني (Re: Sabri Elshareef)

    >

    (عدل بواسطة Abureesh on 02-08-2006, 08:33 PM)

                  

02-08-2006, 08:53 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: التوظيف السياسي للفكر الديني (Re: Sabri Elshareef)

    من الغبطة والسرور مرور الاستاذة المناضلة سعاد ابراهيم احمد وطريق

    النضال من عصرا بدري منذ والدها الراحل ابراهيم احمد الي برير


    الانصاري وحامد الانصاري وتعلمنا تلمس صحيح الخطاوي بفضل رجال



    والنساء اصحاب الهمة والمسئولية فسلام لك واتمني نشر كل ما يساهم

    في التنوير والمعرفة
                  

02-08-2006, 08:59 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: التوظيف السياسي للفكر الديني (Re: Sabri Elshareef)

    ودي مشكلة تاخر قضبتنا السياسية لو تقدم الحزب الشيوعي قطع شك سوف

    تتقدم كل النواحي الاخري انهيار المعسكر الاشتراكي وغياب الحريات

    والديمقراطية ادت لازدياد ظاهرة الهوس الديني وسط الجماهير


    نتمني عودة صحة وعافية الحزب لتعود مفاصل الوعي والمعرفة لوطننا
                  

02-08-2006, 09:23 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: التوظيف السياسي للفكر الديني (Re: Sabri Elshareef)

    من أجل فهم متجدد للظاهرة الدينية في مجتمعاتنا

    تعرضت الماركسية، ولا تزال، الى الكثير من التشويه في مواقفها من الظواهر الاجتماعية نتيجة النظرة السطحية التبسيطية في التعامل مع مقولاتها من قبل مريديها، إضافة الى حملات التشويه المقصودة من قبل المعادين للفكر الماركسي. وقد نجم عن هذا الأمر تشويه الطابع المعرفي لمقولات ماركس وتحليلاته للظواهر الإجتماعية.
    ويتطلب الفهم الديالكتيكي المتجدد لمقولات ماركس، فهم منهجه عبر دراسة وتحليل نتاجاته ومساهماته المعرفية في المجالات المختلفة.
    يتجسد جوهر أفكار ماركس في كونه ثورة فلسفية اجتماعية تطرح فهمها للظواهر الاجتماعية بترابطها وتأثيراتها المتبادلة. وبعكس المدارس الفلسفية الأخرى، أعلنت الماركسية عدم حياديتها، وكونها لا تكتفي بتفسير الظواهر الإجتماعية بل تسعى الى التغيير الأجتماعي بمعناه الفلسفي، وبرهنت من خلال هذا الطرح عدم الحيادية المعرفية للفلسفات الأخرى أيضاً.
    شكلت الماركسية ولا تزال تشكل تهديداً مباشراً لمصالح الطبقات المستغِلة المسيطرة على السلطة السياسية ومراكز القرار، لذا لم يتوانَ ممثلو هذه الطبقات في معاداة هذا الفكر، وتشويه مقولاته بشكل مغرض لخلق حاجز نفسي وإجتماعي يمنع التواصل بين هذا الفكر وبين الوسط الإجتماعي الذي بعتبر أداة ومحرك عملية التغيير الإجتماعي.
    وفي ظل هذا الصراع تعاملت أوساط واسعة من حملة هذا الفكر ـ من الذين لا يمكن الشك في نواياهم الطيبة للتغير الثوري ـ بشكل سطحي، أفضى الى التعامل مع مقولات ماركس، كنصوص مقدسة، لتبرير مواقف سياسية يومية، بدلاً من التعامل مع فكر ماركس كمهنج معرفي وفهم عام لقوانين التطور الإجتماعي.
    وتصور البعض ضمن هذا الوسط أن مجرد ترديد بعض مقولات ماركس، وتثبيت الإلتزام بالمقولات الماركسية اللينينية في الوثائق التي يعتمدها، ضمان لعدم الوقوع في التحليلات الخاطئة، وبالتالي إيصال مسيرة الثورة الإجتماعية وعملية التغيير الى أهدافها وحتميتها التاريخية.
    وجرى ترديد الكثير من هذه المقولات بعد أختيار جمل معينة من تحليل مطول لماركس حول ظاهرة إجتماعية، بشكل إنتقائي وتجريدي، بحيث تصبح هذه الجملة أو ذلك المقطع معبراً عن موقف ماركس والماركسية عموماً من تلك الظاهرة، في حين لا يتكامل الفهم المعرفي والعلمي لتلك الظاهرة إلاّ من خلال فهم وتحليل مجمل النص، وبالإرتباط بمساهمات أخرى حول موضوع ذلك النص، وتزامناً مع الواقع المتغير والوظيفة الإجتماعية المتغيرة دوماً للظواهر التي ينبغي دراستها من خلال حركتها المستمرة دوماً.
    من بين تلك المقولات، تتميز مقولة "الدين أفيون الشعوب"، وبالأخص في منطقة الشرق الأوسط، بشيوعها وحضورها الدائم. وقد أستخدمت هذه المقولة على الدوام ذريعةً لمحاربة الماركسية، من قبل التيارات السياسية المعادية للماركسية في بلداننا، بشكل واسع، بحيث لو جرى الإستفسار من أي شخص عادي بعيد عن الإهتمامات السياسية في هذه البلدان عن مقولة لماركس، لما تردد عن ذكر مقولة "الدين أفيون الشعوب" منسوباً الى ماركس.
    وأدى شيوع هذه المقولة وإنتشارها الواسع الى تعامل الكثير من الماركسيين مع الظاهرة الدينية في مجتمعاتهم من خلال الكلمات الثلاث التي تتكون المقولة منها. وتبنى البعض الموقف السلبي من الظاهرة الدينية وتجلياتها السياسية بشكل عام من خلال الإلتزام بتلك المقولة، وإعتبارها "نصاُ مقدساً"، وخلاصةً لموقف ماركس من الدين والظواهر الدينية. في حين وجد آخرون نوعاً من التناقض بين هذا النص الذي اعتبروه مقدساً كغيره من مقولات ماركس، وبين واقع الحياة الإجتماعية وتأثير الظواهر الدينية على الأفراد، وبضمنهم اوساط الكادحين في مجتمعاتهم، وكيفية إستغلال خصومهم لتلك المقولة لعرقلة عملية التطور والتقدم الإجتماعي، من خلال إبعاد الكادحين عن الحزب الماركسي الذي يتبنى الدفاع عن مصالحهم الطبقية. وسعى هؤلاء الى حل هذا التناقض بين "النص المقدس"، وتأثيره على الواقع من خلال تحريم أو تجنب خوض النقاش حول هذه المسألة، لكي يبقى النص المقدس على حاله من جهة، ويتم مراعاة مقدسات الناس من خلال تجنب النقاش.
    " الدين.... أفيون الشعب" كلمات منتقاة من نص مطول نسبياً لماركس في كتابه (مقدمة لنقد فلسفة الحق أو القانون عند هيجل). يقول ماركس:
    " إن العذاب الديني هو تعبير عن العذاب الفعلي، وهو في الوقت ذاته احتجاج على هذا العذاب الفعلي. فالدين هو زفرة المخلوق المضطهد، وهو بمثابة القلب في عالم بلا قلب، والروح في أوضاع خلت من الروح. إنه أفيون الشعب".
    إن قراءةً متأنية لهذا النص تظهر جملة أمور منها:
    ـ استخدم ماركس في النص تعبير "أفيون الشعب"، بعكس تعبير "أفيون الشعوب" الشائع والمستخدم من قبل مريديه وخصومه في الوقت نفسه.
    ـ ورد تعبير "أنه أفيون الشعب" في نهاية فقرة تتحدث عن الدور الإيجابي للدين على الفرد في مجتمع يكون الإنسان فيه مضطهداً. فإذا تعاملنا مع المفردتين في إطار النص الكامل والفقرة الواردة أعلاه، نجد أن ماركس لا ينتقص من دور الدين وتأثيره في تلك الفقرة. فماركس استخدم هذا التعبير في سياق إعتبار الدين تعويضاً للإنسان عن ما فقده بسبب إضطهاد المستغلين له في الحياة الإجتماعية. إنه يمثل عزاء نفسياً لإنسان مطحون معرض للظلم الإجتماعي في عالم بلا قلب و لا روح. الدين هو القلب والروح في عالم فُقِدَ فيه القلب والروح حسب تعبير ماركس. الدين هو زفرة المضطهدين في ذلك العالم، حتى يستمر في الحياة. أنه يمثابة الأفيون الذي يجعل ذلك الإنسان يحلم بالغد وبالأماني المتحققة في الأحلام. أنه يمثل الحلم بالعدالة على الأقل على صعيد الخيال بعد أن لم يجدها أو يحققها على أرض الواقع. وبالتالي فهو يحتاجه كعزاء نفسي لكي يستمر في الحياة.
    والسؤال المثار هنا هو هل تعامل الماركسيون وخصومهم بهذا الفهم مع تلك المقولة؟
    الجواب واضح بالطبع. فالشائع هو أن ماركس طلب من الناس الإبتعاد عن الدين لكونه مضراً، وبالشكل الذي يتطلبه الإبتعاد عن الأفيون المضر للإنسان!
    أزعم أن التحليل السطحي لهذه المقولة الماركسية لا يشكل ضرراً في فهم منهج ماركس المعرفي فحسب، بل يشكل إنتهاكاً للأسس العلمية البحثية في التعامل مع النصوص وتحليلها. فالكلمات والجمل عندما تُنتَقى وتُجَزَأْ عن سياق الفقرة الكاملة، وإرتباطات تلك الفقرة بسابقاتها، تلحق ضرراً كبيراً بالمفاهيم المستنبطة، والأفكار المرادة التعبير عنها.
    هناك أمثلة كثيرة وشائعة تثبت هذه الوجهة. ومنها إذا قرأنا في النص الديني آية " ولا تقربوا الصلاة "دون أن نتمم بقية النص " وأنتم سكارى" نكون أمام فهم مغاير للفكرة المطروحة في النص إذا قُرِأَ كاملاً.
    قد يعترض البعض من معتنقي المنهج الديني على إيراد هذا المثل، وهو إعتراض مردود، لأن الحديث يتعلق ببنية النص وإضرار التجزئة والإنتقائية في إختيار المفردة، دون أن نتناول مسألة المقدس أو غيره من النصوص.
    وأزعم أيضاً أن تجريد هذه الكلمات الثلاث عن مجرى الفقرة الكاملة التي يتحدث فيها ماركس عن ما يوفره الدين من عزاء نفسي وروحي للإنسان في مجتمع الإستغلال الرأسمالي في تلك الحقبة الزمنية التي كتب فيها ماركس هذا النص، أمر غير بعيد عن نوايا مقصودة ومُبَيَّتة ضد الفكر الماركسي من أجل تشويهه لكونه أداةً نضالية لمواجهة المستغِلين والطغاة، وشكَّل أرقاً حقيقياً يقض مضاجع أعداء التحرر. في حين يؤكد ماركس في تلك الفقرة على مساهمة الدين في تخفيف المعاناة الإنسانية، دون أن يكون بديلاً عن سعي الإنسان للإنعتاق كما هو واضح في منهج ماركس وكتاباته بشكل عام.
    فماركس في الفقرة أعلاه يقدم تقريراً عن حالة موجودة ويحلل الجانب النفسي للإنسان المعرض لكل أنواع الإضطهاد في عالم ينعدم فيه الروح والقلب، دون أن يقصد من كلمة الأفيون وصف الدين بشكل مقرف، أو كحالة مؤدية الى الإدمان.
    لا يتكامل فهمنا لموقف ماركس من الدين، ومن العقيدة الدينية، ومن الظاهرة الدينية، بمجرد تحليل الفقرة التي أشرنا إليها في بداية هذه المادة. وليس الغرض من تحليل الفقرة أعلاه الدعاية للماركسية أو طرح ماركس كفيلسوف "متدين". فماركس وكثيرون من فلاسفة عصره وقفوا في المسألة الأساسية في الفلسفة الموقف المبين والداعي لأولوية المادة على الفكر. وقد سبق أن كان هذا الموقف موجوداً قبل ماركس. واستمر عند الكثير من الفلاسفة بعد ماركس. وقد وجد عدد من الفلاسفة الماديين في الفلسفة العربية الإسلامية ( وهنا استخدم مصطلح الفلسفة العربية الإسلامية بمعناه الفكري الحضاري، وليس بمعناه العقائدي الديني).
    وفي الفلسفة الأوروبية يمكن ذكر أسماء عديدة من الفلاسفة الماديين قبل ماركس وبعد ماركس، ومنهم: ديدرو، لامتري، فيورباخ، هايدغر، سارتر ..الخ. وقد جرى تقديم هؤلاء الفلاسفة والمفكرين في مجتمعاتنا بعيداً عن موقفهم المناوئ للدين بشكل عام. كما تجرى ترجمة ودراسة نتاجاتهم الفكرية في الصحف والمجلات دون أن يشكل موقفهم من الدين حاجزاً أمام نشر نتاجاتهم.
    لم يكن تقديم ماركس في مجتمعاتنا للجمهور كمناهض للدين بشكل عام، نابع عن كونه فيلسوفاً مادياً، بل أخذ معادو الماركسية في بلداننا يقدمون ماركس بهذه الشاكلة للجمهور بناءاً على إعتبارات أخرى، أهمها ما يُمَثِّلُ فكر ماركس من تهديد لمصالح الطغاة والمستغِلين، وطرحه للصراع الطبقي كمحرك للتاريخ وتحول الماركسية الى أداة للنضال الوطني والطبقي، وإجراء التغييرات الإجتماعية في مجتمعاتنا، بما يضمن مصالح الكادحين، وطرح فكرة الإشتراكية وأسسها العامة كبديل للرأسمالية وشرورها. وهكذا شكلت الماركسية، ولا تزال، على الصعيد الفكري، التهديد الأساسي للمستغِلين بلبوسهم وعناوينهم المختلفة التي تبرر الطغيان والإستبداد السياسي والقهر الروحي والإستغلال الإقتصادي والتخلف الإجتماعي والظلامية الشاملة.
    وقد سعت القوى المعادية للماركسية الى خلق هوة بين جمهور المتدينيين من جهة والماركسيين من جهة أخرى، لا من منطلق فهم ماركس للدين وللعقيدة الدينية، بل لما تشكله الماركسية بشكل عام من مخاطر على المصالح الطبقية والسياسية لتلك القوى.
    وإذا كان موقف هذه القوى الطبقية من طرح ماركس كعدو رئيسي للدين معروفة الدوافع والنوايا كما بيَّنا في الفقرات أعلاه، إلاّ أن الموقف الملتبس للكثيرين من المحسوبين على قوى التقدم، مِمَّن يكررون عبارة "الدين أفيون الشعوب"، بدون التمعن في معناها ضمن السياق الوارد في العبارة بمجملها، وبالتالي يستنتجون ضرورة العمل وفق فهمهم القاصر، ويعتبرون العبارة خلاصة موقف ماركس من الدين ومن الظاهرة الدينية التي تتسم بالتعقيد الكبير تاريخياً في مجتمعاتنا، أمرٌ يدعو الى التوقف الجاد والتصدي الفكري عبر دراسة الظاهرة الدينية بكل تعقيداته، لأن الإبتعاد عن التحليل العميق والدراسة المتأنية المبنية على أساس إرتباط الفكر بالواقع، من شأنه تعميق الهوة بين جمهور المتدينيين الذين يتطلعون الى تحسين أوضاعهم الحياتية المختلفة، ويشكلون نسبةً كبيرة من الكادحين، وبين الماركسيين وحزبهم السياسي الذي يفترض ان يعبر عن مصالح الكادحين ويوحِد كلمتهم النضالية.
    تشكل علاقة الفكر بالواقع، عل أساس ارتباط الأول بالثاني ديالكتيكياً، وما ينعكس على علاقة النص بالواقع، كونه نتاجاً للواقع الإجتماعي، أساساً لمنهج ماركس الجدلي في فهم التاريخ. وإذا تعاملنا وفق هذا المنهج من النصوص والمقولات، ومن ضمنها مقولات ماركس نفسه من الضروري رفع القدسية عن النصوص وعدم التعامل معها ضمن وضعها في دائرة المطلق.
    تعامل عدد من المفكرين في مجال الفكر الإسلامي، وقبل وجود الماركسية، وعبر العصور التاريخية المختلفة، إنطلاقاً من الضرورات الإجتماعية، بدءاً من القرن الأول الهجري، بشكل مرن مع النص المقدس في ظل الفكر الديني السائد والمهيمن على مجالات الحياة الإجتماعية. واستطاع هؤلاء ضمن الآليات المنتجة في الفكر الديني السائد، رغم نزعة الإطلاق السائدة فيه، إيجاد نوع من العلاقة بين النص والواقع وتطويع الأول لخدمة الثاني المتغير على الدوام، وفق منهجية تعطي إهتماماً لحاجات الناس ومتطلبات الحياة الأجتماعية غير المتناهية في ظل وجود نصوص متناهية.
    هذه المنهجية التي انتبه الفكر الديني المتنور لها، وسعى إلى ديمومتها في مراحل تاريخية مختلفة، لم تجد ما يوازيها على الأقل في منهجية بعض أحزاب اليسار والأحزاب الشيوعية في قراءاتهم لنصوص ومقولات ماركس، في حين كان يتوجب عليهم أن يتعاملوا مع نصوص ماركس وفق منهجيته الديالكتيكية.
    وفي المحصلة النهائية حمل بعض أحزاب الماركسيين "الأرثودوكسيين" بطاقات التكفير بوجه المحاولات الرامية الى إعادة قراءة الماركسية وفق منهج تجديدي، هو منهج ماركس نفسه. وبذلك استخدموا نفس التابو المستخدم من قبل أحزاب التطرف الإسلامي ضد أفكار ماركس ومنهجيته العلمية، إلاّ أن أصحابنا يستخدمون هذا التابو من مواقع "ماركسية" !
    إذا تعاملنا وفق أسس منهجية ماركس في فهمه لعلاقة الفكر بالواقع، مع موقف ماركس من الدين ومن العقيدة الدينية، لا بد أن نقول بأن ما كتبه ماركس حول هذا الموضوع وما توصل إليه من إستنتاجات، لم ينزل عليه بشكل وحي في غرفة منعزلة. لقد عاش ماركس الحياة بكل تفاصيلها. وتعتبر طروحاته حول الدِين نتاجاً لتجربته الشخصية، وهي تجربة مثقف في مجتمع أوروبي في حقبة تاريخية محددة، سادت فيها قيم وتراث اليهودية والمسيحية بإرتباطهما الوثيق، وتأثير تلك القيم على الحياة الاجتماعية، وتحديدها للسلوك البشري في تلك الحقبة. وأعلن ماركس في تلك تقاطعه ورفضه لتلك القيم السائدة، بسبب الدور والوظيفة الإجتماعية للدين في تلك المرحلة. لقد تناول ماركس الظاهرة الدينية داخل إطار التاريخ البشري وضمن تأثيرات الفعل البشري. ففي رسالته حول المسألة اليهودية يشير ماركس إلى الأساس الدنيوي لليهودية المتمثل في الحاجة العملية والسعي الى تحقيق المصلحة الذاتية، ويقول: "إن المال هو الإله الغيور لإسرائيل، الذي لا يمكن أن يوجد إله قبله. والحق أن المال ليحط من قدر كل ألهة البشر. ويحيلهم إلى سلع.."
    أن جوهر المصالح الدينية المستمدة من النصوص الدينية تتجسد في المصالح الدنيوية لمعتنقيها، حسب فهم ماركس. وهذا الإستنتاج لا يزال يحتفظ بصحته. فالمتشددون والمتطرفون الإسرائيليون يستخدمون كل مفردات العهدين القديم والجديد لتبرير دوام الإحتلال الإسرائيلي. ويستخدم المتطرفون الإسلاميون آيات القرآن لتبرير حز الرقاب وتفخيخ البشر والقتل العشوائي، من اجل السلطة.
    وقف ماركس ضد سلطة الكنيسة ومحاكم تفتيشها وأفرانها الحارقة لأجساد المفكرين المتنورين. ففي ظل سلطة الكنيسة استشهد (جوردانو بردنو) لإيمانه بدوران الأرض حول الشمس. وتعرض مفكرون من أمثال (غاليلو، ديكارت، سبينوزا، بيكون، هوبز) وغيرهم للإضطهاد. هذه اللوحة التي تبيّن الدور القمعي للكنيسة لم تستطع حتى حركة الإصلاح الديني (مارتن لوثر) من تجاوزها، حيث وقفت هذه الحركة الى جانب قمع ثورة الفلاحين عام 1626 بشكل وحشي، وانتهت تلك الثورة بمجزرة بشرية رهيبة.
    هذه الخلفية التاريخية لسلطة الكنيسة في أوروبا وتلك الممارسات الدموية دفعت أعداد كبيرة من المثقفين والمفكرين إلى معاداة الفكر الديني المتجسد في السلطة المطلقة للكنيسة. ويمكن القول أن الحركة المعادية للدين وللفكر الديني في أوروبا والتي تطورت الى مفهوم الإلحاد، لم تكن نتاجاً للفكر الإشتراكي، بل أن العديد من المفكرين المعادين للفكر الديني، وأنظمتها المعادية لغالبية الشعب، لم يكونوا مؤمنين بالمادية الديالكتيكية أو بالمادية التاريخية. إلاً أن أعداء الفكر الإشتراكي في بلداننا اليوم يعتبرون الحركة المعادية للدين وللفكر الديني نتاج الفكر الإشتراكي.
    حملت اللوحة المتعلقة بالوظيفة الإجتماعية السياسية للدين وللفكر الديني في المجتمعات العربية الإسلامية في العصور التاريخية المختلفة نوعاً من الإزدواجية الوظيفية. فالسلطات الحاكمة وجدت "مشروعيتها" في الحكم وقمع المقابل في نصوص سائدة في الفكر الديني. كما أوجدت التطورات الإجتماعية نصوصاً تفسيرية للنصوص التي إعتبرت مقدسة وثابتة، أفضت مصالح السلطة نوعاً من التقديس على تلك النصوص التفسيرية وآراء المفكرين المسلمين، لاتقل عن القدسية الملازمة للنصوص الواردة في القرآن أو الأحاديث المنسوية الى النبي.
    واستطاعت السلطات في الدول الإسلامية، في أدوار تاريخية كثيرة، قبل نشوء الفكر القومي أو الفكر الإشتراكي، سحق المعارضة والتنكيل برموزها التي استمدت مشروعيتها في معارضة السلطة من الفكر الديني السائد أيضاً، من خلال سلطة التبرير الديني التي وفرها فقهاء ومفكرو السلطة للحكام المسلمين. لذا شهدت العصور الأسلامية محاكمات صورية دينية جرت فيها تصفية رموز القدرية كغيلان الدمشقي وعمرو المقصوص، كما جرى تقديم المعارضين كذبائح في عيد الأضحى من قبل الولاة الجائرين، وحُرِقَ البعض بتهمة الزندقة. ولكن، وفي نفس الوقت، استمدت حركات المعارضة للسلطة الجائرة، في تلك العهود التاريخية، مشروعيتها من الفكر الديني ومن النصوص التي اعتبرت مقدسة عند جميع المسلمين، ومن التفسير والتأويل اللاحق لتلك النصوص. وهنا تكمن الطبيعة الإزدواجية لوظيفة الفكر الديني. ولذا لا يمكن أن نضع الدور الفكري والسياسي الذي لعبته القدرية والمعتزلة كأيديولوجية دينية للمعارضة في المجتمع الإسلامي بموازاة أدوار الجبرية والأشاعرة التي كانت ايديولوجية السلطات الحاكمة بشكل أو آخر، رغم تحرك كل الأطراف في إطار الفكر الديني بشكل عام. لقد أصبح الفكر الديني الغطاء المعبر عن الصراع بين مصالح سياسية وحياتية ويومية متباينة في المجتمع الإسلامي.
    وإذا كان الحديث في هذه النقطة يتعلق بتوظيف الفكر الديني كأيديولوجية سياسية، فإن الأمر لا يتعارض مع حقيقة مساهمة الظاهرة الدينية في المجتمع في خلق الفكر الديني عبر توظيفه للتعبير عن المصالح السياسية والإجتماعية والإقتصادية المتباينة.
    يتميز الدور الإجتماعي للدين في بلداننا بمميزات في غاية التعقيد، لذا يصعب الحكم على هذا الدور دوماً بالأبيض أوالأسود، دون تحليل عميق لكافة مظاهر هذا الدور وأطروحات القوى المكونة للتيارات الدينية, فالماركسيون واليساريون في بلداننا يجب أن يدركوا بأنهم لا يتعاملون مع الدين أو الظاهرة الدينية في نفس العصر الذي كتب فيه ماركس تحليلاته عن الوظيفة الإجتماعية والدور الذي يلعبه الدين في المجتمع. ففي بلداننا وبسبب طبيعة وتائر النمو الإقتصادي والتطور الإجتماعي، يختلط الدين بالتراث وبالثقافة السائدة. ويجد دوره، بشكل أو آخر، في الحياة السياسية من خلال الفكر الديني. وعليه ينبغي التمييز بين الدين كمعطى ثقافي وحضاري وتراثي، وكحاجات روحية للأفراد بشكل عام من جهة، وبين الفكر الديني من جهة أخرى، الذي يطرح نموذجاً ومثالاً سياسياً للسلطة، وفي مجال تأطير المجتمع بغية تقَبُّل تلك السلطة.وهذا ما نطلق عليه مصطلح الدين السياسي، المصطلح المرفوض من قبل القوى السياسية الدينية، لأنه يحد من سطوتها على جمهور المتدينيين، ويقلل من تأثيرها ومساعيها الرامية إلى تهيئة المجتمع لتقبل بديل سياسي يستمد قوته من الفكر والإيديولوجية الدينية، ويولِّد روحية الإذعان والوحدانية الفكرية المستبدة.
    ومن الناحية العملية، ومن خلال تجربة العمل السياسي في بلداننا، نجد أن هناك جمهوراً كبيراً من المتدينيين يستمدون من الدين مبادئ العدالة والخير، وينخرطون في العمل السياسي والنضال الوطني الديمقراطي، دون أن يدعوا الى نموذج سياسي مبني على أساس الإيديولوجية الدينية، ودون أن يطالبوا بدولة الخلافة أو الإمامة، رغم كونهم متدينيين. ومن ضمن هذا الجمهور نجد رجال الدين المتنورين الذين يجدون توافقاً فكرياً في دعوتهم للإصلاح الديني، وإنخراطهم في العمل السياسي داخل أحزاب وطنية ديمقراطية كالحزب الشيوعي، الذي انخرط في صفوفه شخصيات دينية مرموقة مثل الشيخ عبدالكريم الماشطة، والشيخ محمد الشبيبي، وغيرهما كثير. وكذلك انخرط غالبية الفلاحين العراقيين، وهم متدينون، في النضال الذي حمل شعارات الحزب الشيوعي العراقي قبل ثورة 14 تموز 1958، وبعدها، في التصدي لمظالم الحكم، والنضال من أجل الإستقلال الوطني الناجز والحريات الديمقراطية، وموقفه الحازم من موضوع الإصلاح الزراعي وتوزيع الأرض على الفلاحين، وغيرها من المطالب الشعبية.
    من جانب آخر تتحرك قوى الإسلام السياسي في مجتمعاتنا على جمهور المتدينين، وتعتبر هذا الجمهور ملكاً خاصاً بها، بل وتجعل معيار تديين الأفراد في مدى دعمهم للمشروع الساسي المطروح من قبل تلك القوى.
    أن فهماً متجدداً لكافة جوانب الظاهرة الدينية في مجتمعاتنا، عامل أساسي لكسب جمهور المتدينين الذين يشاركوننا الهم الوطني والحاجة الى الحريات الديمقراطية، وضرورة تحسين أوضاعنا الإقتصادية. وبالتالي فأن الأحزاب الوطنية والديمقراطية العراقية ومن ضمنها الحزب الشيوعي العراقي تُعتبر ميداناً نضالياً لأوساط الكادحين العراقيين بمن في ذلك جمهور المتدينين الذين لا يجدون تناقضاً بين قناعاتهم الدينية وإقامتهم للشعائر الدينية، وبين إنتمائهم للحزب الشيوعي.
                  

02-08-2006, 09:24 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: التوظيف السياسي للفكر الديني (Re: Sabri Elshareef)

    حول مفهوم الإرهاب


    مقدمة
    بعد أحداث الحادي عشر من أيلول الماضي، ركز الخطاب السياسي الأمريكي، وأجهزة الإعلام وبعض مراكز الدراسات الغربية، على إطلاق مفاهيم، سبق وأن طرحت منذ نهاية الحرب الباردة، وسقوط الاتحاد السوفيتي، وذلك بشكل تجريدي.
    لقد أصبحت بعض المصطلحات، كالإرهاب وصراع الحضارات، وتصادم الإسلام والمسيحية واليهودية، الشغل الشاغل للكثير من أجهزة الإعلام. وجرى الحديث أيضاً عن «الإسلام والعنف» و«العرب والإرهاب».
    وانبرى العديد من حملة الفكر النيوليبرالي في المنطقة العربية، تقديم الخدمات لتلك الدوائر الغربية، عبر الحديث عن «العقلية الفاشية العربية ـ الإسلامية»، وكون العقلية العربية في «غياهب التاريخ»، ولا علاقة لها بالمعاصرة، أو أنها سقطت من القطار الحضاري، وهي تسبح ضد التيار الذي تمثله الولايات المتحدة الأمريكية بحضارتها الجديدة وإنجازاتها التاريخية.
    وقد استغل هذا الخطاب، طروحات بعض الجهات السياسية المتطرفة، التي تتبنى الإيديولوجية الدينية، عبر فهمها السياسي الخاص للفكر الإسلامي، والتي تضفي المشروعية من خلاله على أفعال وجرائم إرهابية.
    وجرى الخلط بين ما تمارسه تلك الجهات الإسلامية المتطرفة، من ممارسات، هي في جوهرها ممارسات سياسية مبنية على فهم بشري للفكر الديني، وبين عموم الفكر العربي الإسلامي، وفكر وممارسات الشعوب المناضلة ضد الهيمنة والتبعية، ومن أجل التحرر والتقدم الاجتماعي.
    إن التساؤل الذي أحاول معالجته في هذه الورقة، هو هل لمفهوم الإرهاب تأسيس تاريخي في فكر شعوب المنطقة العربية ـ الإسلامية؟
    وهل يمكن تقييم الممارسات التاريخية لقرون مضت، وفق القيم والمعايير الحالية، والتي وصل إليها المجتمع البشري، عبر سيرورة تاريخية؟
    أولاً: الإرهاب لغة
    يعني الفعل الثلاثي المجرد (رَهِبَ)، خاف. فيقال (رَهِبَ)، يَرْهَب ورَهبَةً ورُهْباً. أما كلمة «إرهاب» فهي مشتقة من الفعل المزيد [أرهب]. فيقال أرهَبَ فلاناً: أي خوَّفه وفزَّعه.
    أما الفعل المزيد بالتاء والمقصود (ترَهَّبَ)، فيعني انقطع للعبادة في صومعته. ويشتق منه كلمة الراهب، الراهبة، الرهبنة والرهبانية.
    وللمزيد من المعلومات حول الأصل اللغوي لكلمة الإرهاب، يمكن الرجوع إلى لسان العرب لابن منظور (الجزء الثالث)، وكذلك المعجم الوسيط (الجزء الأول).
    ثانياً: الإرهاب في النصوص التأسيسية الإسلامية
    وردت مشتقات كلمة (رهب) سبع مرات في مواضع مختلفة من القرآن الكريم، لتدل على معنى الخوف والفزع(*):
    1ـ الآية 40 من سورة البقرة: [يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمتُ عليكم وأوفوا بعهدي أوفي بعهدكم وإياي فارهبون].
    «فارهبون» فخافوني في نقضكم العهد ولا تخافوا غيري وإنما حذفت الياء لأنها في رأس الآية.
    2ـ الآية 116 من سورة الأعراف: [قال ألقوا فكلما ألقوا سحَروا أعين الناسُ واستَرهَبوهُم وجاءُوا بسحر عظيم].
    استرهبوهم بمعنى خوّفوهم تخويفاً شديداً.
    3ـ الآية 154 من سورة الأعراف: [ولما سكتَ عن موسى الغضبُ أخذ الألواحَ وفي نُسخَتها هُدىً ورحمةً للذين هُم لربِّهم يَرهَبُون].
    أي سبب رحمة للذين يخافون ربهم.
    4ـ الآية 60 من سورة الأنفال: [وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل تُرهبون به عَدوَّ الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يَعلَمهُمِ...].
    وتكمل الآية 61 مضمون الآية 60: [وإن جنَحوا للسَّلمُ فاجنح لها وتوكّل على الله إنه هو السميع العليم].
    وهنا تأتي كلمة ترهبون بمعنى تُخيفون.
    5ـ الآية 51 من سورة النحل: [وقالَ الله لا تتخذوا إلَهَين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون].
    فارهبون: أي خافوا عذابي.
    6ـ الآية 90 من سورة الأنبياء: {فاستَجَبنا لهُ ووَهَبْنا لهُ يحيى وأصلَحنا له زَوجَهُ إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعونَنا رَغَبا ورَهَبا وكانوا لنا خاشعينِ}.
    رَغبا ورهبا: بمعنى رجاءَ رحمتنا وخوفاً من عذابنا.
    7ـ الآية 13 من سورة الحشر: [لأنْتُم أشدُّ رَهبةً في صدورهم من اللهِ ذلك بأنهمُ قومٌ لا يفقهون].
    أشد رهبة: أشد تخويفاً.
    8 ـ الآية 32 من سورة القصص: {واضمم اليك جناحك من الرهب..}. أي من الخوف.
    كما وردت كلمة الرهبان بمعنى المنقطعين للعبادة من النصارى وذلك في الآيات التالية:
    1ـ الآية 34 من سورة التوبة: [يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان لَيَأكلون أموال الناس بالباطل ويصُدّون عن سبيل الله والذين يَكنِزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشّرهم بعذاب أليم].
    الرهبان: مُتنسّكي النصارى المنقطعين للعبادة.
    2ـ الآية 31 من سورة التوبة: [اتخذوا أحبارَهم ورُهبانهم أرباباً من دون الله].
    رهبانهم: نفس المعنى السابق.
    3ـ الآية 82 من سورة المائدة: [... ولَتَجدَنَّ أقربَهم مودّةً للذين آمَنوا الذين قالوا إنّا نصارى ذلك بأنّ منهم قِسيسينَ ورُهبانا وأنّهم لا يستكبرون].
    رهبانا: نفس المعنى السابق.
    4ـ الآية 27 من سورة الحديد: [.. وجعلنا في قلوب الذين اتّبعوه رأفةً ورحمةً ورهبانيةً..].
    رهبانية: مغالاةً في التعبد برفض النساء واتخاذ الصوامع.
    ومما تقدم نجد نوعاً من التطابق في استخدام الكلمة ومشتقاتها في القرآن الكريم، وما تدل عليه الكلمة في اللغة العربية عموماً.
    ونجد في القرآن الكريم وفي الأحاديث النبوية بعض الكلمات التي تتضمن معنى الإرهاب والعنف، بمعنى استخدام القوة أو التهديد لتحقيق أهداف معينة. ومن هذه الكلمات: القتل، العقاب، البغي، العدوان...
    هل عرفت الحضارة العربية ـ الإسلامية، الإرهاب في مجال الفكر والممارسة؟
    يتعلق مفهوم الإرهاب في الفكر والممارسة في الحضارة العربية ـ الإسلامية، لدى بعض المستشرقين، وفي ذهنية دعاة صدام الحضارات، بمشروعية استخدام القوة والعنف، وقتال الخصم وترويعهم من قبل المسلمين. ويتعامل هؤلاء مع النصوص الإسلامية المقدسة والمتعلقة بهذا الموضوع، ضمن سياق يجرد النص من الواقع التاريخي، كما يحكم ويحلل، ويضفي المشروعية من عدمها على حوادث، جرت قبل أكثر من أربعة عشر قرناً، بمعايير عالم اليوم.
    ومثل هذا المنهج، إضافةً إلى عدم صحته ودقته من الناحية المعرفية، منهج الغرض منه النبش في الماضي من أجل الوصول إلى مسوغات، لتبرير الحاضر، أو إعطاء صورة مشوشة عن الآخر.
    يتناغم هذا النهج النيوليبرالي لبعض المفكرين الغربيين في تحليل تاريخ المسلمين وتراثهم ومعتقداتهم، مع وجهة نظر خصومهم من بعض التنظيمات السياسية الإسلامية الذين يتبنون الإيديولوجية الدينية، ويستندون على فهمهم للدين الإسلامي على أسس ذرائعية مبنية على أفكار تجريدية دينية أو سياسية وتبسيطات وخرافات تعكس التشوش الفكري اللاعقلاني في فهم التاريخ. وتتحدث بعض هذه القوى باسم الإسلام، دون أن تكون مخولة بذلك من قبل الجماهير المسلمة. ولا يمكن وضع هذه التوجهات إلا ضمن سياق فهم بشري للنصوص الدينية وتأويلها، مبني على تجريد النص الديني من الظروف التي استوجبته.
    من ناحية أخرى يمكن أن يجد الباحث في التاريخ الإسلامي وفي العقيدة الإسلامية، نصوصاً توصل إلى استنتاجات مغايرة لما يتوصل إليها دعاة التطرف الديني.
    إن التعنت الديني ظاهرة تاريخية، وهي لا تشمل مجالاً محدداً، فنجد هذا التعنت في مجال التعامل مع الآخر من ناحية العقيدة، وفي مجال الفقه سواء في أحكام العبادات أو في أحكام المعاملات، وفي معرفة وتحديد العلاقات الدولية ضمن الفهم الإسلامي.
    وفي مقابل التعنت الديني، هناك أيضاً التسامح الديني وتقبل الآخر والتساهل، واللجوء إلى الإقناع والجدل الذي هو أجدى وأحسن من الجبر والقسر والإكراه.
    ويجد الباحث أو المرء عموماً من كلا الاتجاهين ضالته في النصوص الدينية المقدسة. وبالتالي فإن الأمر لا يعدو فهماً بشرياً لنصوص دينية، الهدف منها بالأساس، وعبر فهم الوظيفة الاجتماعية للدين تاريخياً،السعي عند البض تنظيم حياة الناس وإيجاد أشكال من السلم والتعامل الاجتماعي السويّ بين الناس، ومحاولة الآخرين للإستمرار في التسلط وإضفاء المشروعية على السلطة الحاكمة. ولكن دعاة صدام الحضارات، يتجاهلون النصوص المرنة السمحة، ويتجاهلون الجوانب الإيجابية المشرقة في الحضارة الإسلامية ومساهمتها في الحضارة الإنسانية.
    لقد حدد المسلمون الأوائل بعض القواعد الفقهية التي رأوا فيها مصلحة الناس بل واعتبروا (حيثما تكون المصلحة العامة، حيثما تكون مصالح الناس، يكون شرع الله) ويرى الإسلاميون المتنورون بأن الأصل في الإسلام الإباحة والحرية والتي تعني حرية الاختيار الكامل في العقيدة وفي أمور الدين. ويشيرون إلى عدم وجود دعوات أساسية في الإسلام لإلغاء الآخر واستخدام العنف والإرهاب في فرض الأمر الواقع على المقابل الآخر. وهناك نصوص في القرآن تذهب في هذا المنحى.
    جاء في الآية 108 من سورة يونس:
    «قل يا أيها الناس قد جاءكم الحقُّ من ربكم، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضلَّ فإنما يضِل عليها وما أنا عليكم بوكيل».
    وتقول الآية 29 من سورة الكهف:
    «وقلْ الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر».
    فالآية رقم 99 من سورة يونس تقول [ولو شاء ربُّك لآمَنَ مَنْ في الأرضِ كُلُّهم جميعاً أفأنت تُكرِهُ الناس حتى يكونوا مؤمنين].
    يؤكد المتنورون الإسلاميون ضمن قراءتهم للتاريخ الإسلامي بأن الرسول لم يبدأ دعوته للإسلام عن طريق استخدام العنف أو الإرهاب، بل حضّ القرآن على استخدام أسلوب قائم على أساس الجدل والإقناع.
    كما لم يأذن القرآن الكريم بالقتال ولم يعط للمسلمين وللرسول حق استخدام العنف والإرهاب ضد مخالفيهم طوال العهد المكي. وعندما هاجر الرسول إلى المدينة عقد وثيقة المدينة مع المشركين ومع اليهود، مع علمه باختلافهم في الرأي والعقيدة.
    والأكثر من ذلك لم يكن هناك لدى المسلمين وجهة لقتال مشركي قريش. فالتهديدات كانت تأتي من مشركي قريش. وقد أذن القرآن لمقاتلة مشركي قريش وفق الآية 39 من سورة الحج [أُذِنَ للذين يقاتلون بأنهم ظُلِموا وإنَّ الله على نصرهم لقدير].
    وهنا تعني الآية (بأن يدافعوا عن أنفسهم ولو بالقتال)(*).
    ويقول الواحدي النيسابوري المتوفى سنة 468هـ في أسباب النزول، بأن، قال المفسرون كان مشركو أهل مكة يؤذون أصحاب رسول الله (ص) فلايزالون يجيئون من مضروب ومشجوج. فشكوهم إلى رسول الله (ص)، فيقول لهم: اصبروا فإني لم أؤمر بالقتال حتى هاجر رسول الله (ص) فأنزل الله تعالى هذه الآية(**).
    لقد كان استخدام العنف والإذن بالقتال للرسول وللمسلمين محدداً وموجهاً بالأساس ضد مشركي قريش الذين قاموا بإيذاء المسلمين، ولم يكن هذا الإذن بالقتال موجهاً ضد المنافقين أو المشركين الأعراب في الجزيرة العربية، كما لم يكن موجهاً ضد اليهود والنصارى. ويرتبط هذا الإذن أيضاً بحق الدفاع عن النفس وارتباطاً بحماية دولة الرسول في المدينة.
    ونجد هذه الوجهة في التعامل الإسلامي واضحاً في كافة الغزوات والسرايا قبل بدر وقبل فتح مكة وكذلك بعد فتح مكة، حيث أن معظم أعراب الجزيرة قد انضموا إلى الإسلام وفق عهود ومواثيق في عام الوفود.
    ولا يمكن النظر إلى حروب الردة في زمن الخليفة الأول إلا عبر فهم ظاهرة الارتداد، كظاهرة سياسية لادينية وكونها تشكل خطراً على مستقبل دولة الرسول.
    يستند دعاة التطرف الديني ضمن بعض القوى والتنظيمات السياسية الإسلامية إلى بعض النصوص والآيات التي تدعو إلى استخدام العنف والقوة ضد الخصوم، وهم يبنون فهمهم على إحلال هذه الآيات الواردة في سورة التوبة محل آيات الجدل والدعوة إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، في حين يعتبر دعاة التسامح الإسلامي، أن هذه الآيات استثناء وليست القاعدة.
    تقول آية الجزية (الآية 29 من سورة التوبة):
    [قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله وباليوم الآخر ولا يُحرّمون ما حرَّم الله ورسولُه ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون].
    وتقول آية السيف (الآية 5 من سورة التوبة):
    [فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم].
    وبعد حركة الفتح الإسلامي وتطور الفقه الإسلامي وتنوع فروعه وبلورة أصول الفقه، نظم المسلمون الكثير من المبادئ التي تحدد التعامل مع الدولة غير الإسلامية في حالة الحرب وفي حالة السلم ويمكن للباحث أن يجد ضالته في كتب السير والذي هو بمثابة القانون الدولي العام والخاص في الفقه الإسلامي.
    وتعتمد تلك المبادئ الأساسية على نهج مرن يضمن حقوق النساء والشيوخ والأطفال وحمايتهم أثناء الحرب ولا يبرر بأي شكل من الأشكال إرهاب الناس وارتكاب المجازر وغيرها من الأمور البشعة التي تقترفها مجامع من القوى السياسية الإسلامية المتطرفة في الوقت الحاضر استناداً إلى فهمهم المشوش لتلك المبادئ الفقهية.
    إلا أن وجود مبادئ سمحة وفهمنا لها ضمن مرحلتها التاريخية وحساباتها التاريخية والاجتماعية والسياسية المعينة، لا يعني عدم ممارسة الإرهاب والعنف غير المبرر من قبل الحكام المسلمين ضد معارضيهم، فقد لجأ هؤلاء الحكام إلى حكم المسايفة لكي يسود الساحة العملية وبصفته الخيار الديني الأوحد، للتعامل مع الآخر، ووضع الآخر في خانة الكفر. إن الأعداد الكبيرة من المسلمين الذين اضطُهِدوا على يد الحكام المسلمين كانوا أكثر بكثير من عدد غير المسلمين سواء من أهل الذمة أو غيرهم من رعايا الدول غير الإسلامية. وقد مارس الكثير من الحكام ما يمكن أن نطلق عليه اليوم إرهاب الدولة المنظم.
    لقد برر الأمويون بطشهم وإرهابهم استناداً إلى الفكر الجبري. فقد قال معاوية: «الأرض لله وأنا خليفة الله فما أخذتُ فلي وما تركته للناس فالفضل مني».
    وترك الحجاج تاريخا حافلا بالبطش والقمع، حتى ان احد الفقهاء قال عنه لو أتت أمم العالم بأسوء ما لديهم، وأتينا نحن بالحجاج، لغلبنا امم العالم جميعا.
    وسار الحكام العباسيون على نفس نهج الأمويين في التعامل مع الخصوم وإرهاب الناس من أجل تثبيت الحكم. ويشير السيوطي في تاريخ الخلفاء ما مفاده أن الدوانيقي وهو لقب أبو جعفر المنصور لبخله، (قتل خلقاً كثيراً حتى استقام ملكه).
    وشمل الإرهاب لا المعارضين للسلطة خارج إطار العوائل الحاكمة، من الناس المنتفضين ضد الحكم، بل عناصر وأفراد من العائلة الحاكمة، سواء في العصرين الأموي والعباسي، أو في حكم السلاطين العثمانيين.
    وفي بعض فترات حكم العثمانيين، تتالت الفتاوى لمباركة أعمال السلاطين، وبلغت الذرائعية حداً أجازت فيه قتل السلطان الجديد، عند اعتلائه العرش، إخوته وبعض أبنائه بحجة منع الفتن والتناحر.
    وبلغ عدد الأمراء الذين قتلوا في يوم واحد، عند جلوس السلطان محمد الثاني (588هـ ـ 1456م) أربعين أميراً. وعندما توفي السلطان مراد الثالث (982هـ) وخلفه ابنه محمد خان الثالث، قتل بمجرد اعتلائه العرش 19 فرداً من إخوته، وعشر جوارٍ حاملات من أبيه، وقتل اثنين من أولاده. وظل الحديث عن هذا السلطان بأنه صالح عابد، يقيم الشعائر، ويذكر عنه كرد علي في خطط الشام «أنه جمع العلماء والعلماء المشايخ والقراء في الجامع الأموي، يقرأون القرآن، ويدعون لعساكر الإسلام بالنصر».
    وخلال التاريخ الإسلامي الطويل، نجم عن الاحتراب الطائفي، وعند المنعطفات الكبيرة، في فترات تغيير الحكم، مئات الآلاف من القتلى من الناس المسالمين.
    إن هذه الصفحات الدموية، هي تجسيد حي لصراعات سياسية اجتماعية، في فترة تاريخية معينة، من أجل السلطة، في إطار العلاقات الإقطاعية، التي ولّدت نظاماً إمبراطورياً، وجدت في الفكر الديني غايته، لتبرير حكمه وبطشه ومركزيته وقمعه وإرهابه. فالأمر يتعلق بمسألة كيفية استخدام الدين ووظيفته في المجتمع.
    وهنا ينبغي أن نذكر، أن الفئات المسحوقة، وحركات المعارضة ضد البطش والإرهاب، لجأت هي الأخرى إلى التعاليم الدينية والفكر الديني بشكل عام، من أجل الدفاع عن نفسها ومناهضة الإرهاب أو حتى لتبرير استخدام القوة والعنف ضد الحكم الجائر. ويتهم بعض المؤرخين المسلمين الذين كتبوا التاريخ وفق أهواء الخلفاء والسلاطين، تلك الحركات بالغلو في الدين واقترافهم للآثام والجرائم ضد الإسلام.
    وعندما كانت رحى هذه الصراعات الدامية، تدور في المنطقة العربية ـ الإسلامية، لم يكن وضع الغرب أحسن بكثير، فالصراعات الدامية والحروب، واللجوء إلى الإرهاب في التعامل مع الخصوم، كانت سمات تلك المرحلة التاريخية سواء في الشرق أو في الغرب.
    الحضارة الغربية ومسألة الإرهاب
    الإرهاب ظاهرة تاريخية قديمة، مرتبطة باستخدام العنف غير المحدود تجاه الخصوم. وكان الإرهاب والتعنت في التعامل مع الآخر، واستخدام العنف ضده، سمة من سمات الإمبراطوريات عبر التاريخ، وفي جميع أنحاء العالم.
    لقد استخدم الإرهاب في الحضارات القديمة، سواء في بلاد الرافدين أو في الهند، أو في مصر، من قبل الحكام. واستخدم الرومان العنف ومصادرة الممتلكات، وقتل الخصوم وإعدامهم، كوسائل لإخضاع المعارضين.
    إن محاكم التفتيش الدينية في العصر الوسيط الأوربي، إحدى مظاهر استخدام وممارسة الإرهاب بستار ديني في حين أن المسيحية، وفي نشأتها الأولى، دعت إلى التسامح والمحبة، ولم تتحول تعاليم المسيحية إلى تعاليم ونصوص مبررة للإرهاب، إلا بعد أن تحولت المسيحية من دين إلى سلطة، بعد قرون من وفاة السيد المسيح.
    وأزعم هنا أن الاختلاف بين الإسلام والمسيحية يكمن في هذه النقطة، فالمسافة الزمنية بين تحول الإسلام من تعاليم دينية وأخلاقية إلى تعاليم سلطوية كانت قصيرة جداً، لأن الدولة الإسلامية نشأت في عهد الرسول، في حين أن هذه الفترة الزمنية طويلة واستمرت عدة قرون فيما يخص الديانة المسيحية.
    لقد أقدمت محاكم التفتيش في إسبانيا عام 1483، على حرق ألفين من المواطنين بتهمة ممارسة السحر. ولم ينج المفكرون والفلاسفة من عقوبات محاكم التفتيش. فقد أحرقت جان دارك من قبل السلطات الإنكليزية. ويذكر ديورانت في قصة الحضارة بأن مجمع الكرادلة في جنيف أقدم على حرق 14 امرأة بتهمة تعاونهن مع الشيطان لجلب الطاعون للمدينة.
    وإضافة إلى حرق المعارضين، نجد بعض النماذج الأخرى لتصفية الخصوم في الحضارة الغربية، ومنها شوي المعارضين والأعداء.
    وعلى نفس شاكلة العباسيين الذين قاموا بشوي الأسرى من القرامطة والزنوج، قام الإقطاعيون عام 1514م بشوي قائد ثورة الفلاحين في هنغاريا. كما تم شوي قائد حركة الفلاحين الألمان جاكلين روبارخ، على نار هادئة، بعد أن تم ربطه بعمود. وقد أيد قادة حركة الإصلاح الديني في ألمانيا وعلى رأسهم (لوثر) هذا الأسلوب لتصفية حركة الفلاحين.
    إلا أن الفكر الغربي، استخدم مصطلح الإرهاب لأول مرة بعد انتصار الثورة الفرنسية عام 1789، وبالأخص خلال الأعوام 1793 ـ 1794، حيث استخدم مصطلح الإرهاب Terrorism في الموسوعة البريطانية للدلالة على الحملة التي قام بها الثوار خلال الأعوام 1793 ـ 1794، ضد تحالف الملكيين والبرجوازيين المعادين للثورة. وقد أدت تلك الحملة إلى اعتقال 300 ألف مشتبه وإعدام 17 ألف شخص.
    وتشير الموسوعة البريطانية (الأنسكلوبيديا)، إلى أن كلمة الإرهاب Terrorism هي في اللغة الإنكليزية العنف والرعب والهول.
    وإذا كانت محاكم التفتيش، وما جرى خلال ما يسمى بمرحلة الإرهاب إبان الثورة الفرنسية، مع الفارق بين الأمرين، محطات قديمة، فإن الغرب شهد محطات إرهابية معاصرة. فالحربان العالميتان الأولى والثانية، والسياسة الاستعمارية للغرب في المستعمرات، وكل تلك الجرائم التي أودت بحياة الآلاف وأهدرت الكرامة البشرية وأرهبت عموم الناس، مظاهر معاصرة للإرهاب الغربي.
    ولكن، ورغم تلك المحطات الإرهابية، لا يمكن إطلاق صفة الإرهاب على الحضارة الغربية عموماً، كما لا يمكن أن نطلقه على الحضارة العربية الإسلامية.
    فالحضارات ظاهرة تاريخية ضمن إطار تاريخ المجتمع البشري، وهي تحمل الشيء ونقيضه.
    إن الحضارة الإنسانية عموماً سيرورة تاريخية، متمخضة عن الصراع والنضال، وتحمل الحضارة الغربية محطات مشرقة عديدة، محطات تحمل إنجازات تاريخية كبيرة، ومساهمات عظيمة في التقدم البشري، بحيث تشكل رافداً أساسياً في الحضارة العالمية التي تواجه اليوم مهمة حمايتها وتعزيز كل ما هو إيجابي فيها، في ظرف حرج ، حيث التحدي الكبير لمواجهة الإرهاب ضمن لوحة شائكة وناتجة أساساً عن تحكم وإنفراد الولايات المتحدة الأمريكية في العالم، وسعيها لرسم قواعد المجتمع الدولي وفق معطيات قوانينها الداخلية في عالم ما بعد الحرب الباردة.
    ولا ينفي هذا الأمر وجود منظمات إرهابية إسلامية وغير إسلامية تخلط بين أسباب الإرهاب وتبريرها.
    وإذا كان بالإمكان تفهم أسباب الإرهاب كرد فعل غير عقلاني على السياسات الظالمة للولايات المتحدة الأمريكية، المبنية على أساس التلويح بالقوة العسكرية وإظهار نفسها كقوة إمبراطورية متحكمة في مصير العالم وحرصها على "العدالة" عن طريق فوهة البندقية، لا عن طريق تغيير صورتها في العالم، لكن لا يمكن قبول الذرائع وتبرير الإرهاب الذي تقوم به الحركات الإسلامية التي تريد فرض توجهاتها على الساحة الدولية وبالشكل الذي رأيناه في أحداث 11 سبتمبر. إن هذه الحركات جزعت من العمل السياسي الجماهيري والنفس الطويل في النضال، وبدلاً من ذلك تعطي لنفسها الحق لقتل وإبادة أعداد لا محدودة وغير معروفة من الجنس البشري، من أجل فرض بديل سياسي عن طريق العنف والإرهاب.

                  

02-08-2006, 09:25 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: التوظيف السياسي للفكر الديني (Re: Sabri Elshareef)

    الفرق بين الإرهاب و جهاد الدفاع"الدفاع عن الوطن"

    يمكن القول أن جهاد الدفاع يعني في النشريات السياسية المعاصرة حق المقاومة المشروعة في حالة تعرض البلد أو الوطن الى الغزو. فهو في الأساس فعالية سياسة تهدف درء المفسدة، و تحقيق مصلحة معينة. ولما كان الجهاد عموماً يعني بلوغ المشقة، وبذل الجهد، وقد يكون بالأموال والأنفس، فلا يجوز حصر جهاد الدفع بالقتال فقط. فإذا كان درء المفسدة وجلب المصلحة، والذي يعني إخراج المحتل وإستعادة السيادة، يتم بطرق أخرى، وخاصة في الظرف الحالي، كأن يكون هناك عصيان مدني أو إضراب عام، أو الحوار والتفاوض مع الآخر من أجل تحقيق الهدف أي جلب المصلحة للوطن وإخراج المحتل، فيجب خوض كل هذه الأساليب الجهادية العصرية.
    أن القتال واستخدام السلاح أسلوب مشروع من أساليب جهاد الدفع، و هو ليس الأسلوب الأوحد. وينبغي توفير مستلزمات هذا الاسلوب من جهاد الدفع. وهذه المستلزمات تخضع لموازين القوى السائدة والقدرة الفنية على القتال، وخاصة في ظل التكنولوجيا العسكرية الحديثة واسلحة الدمار الجماعي، والتي يتفوق العدو على المسلمين فيها.
    ولكي لا يؤدي القتال كأسلوب في ممارسة جهاد الدفع الى جلب المفاسد، بدل درئها، والقاء الناس في التهلكة، يجب أن يكون القرار باتخاذها صادراً من ولي أمر المسلمين. ولا يجوز لكل عالم أو مفتي أن يعلن القتال من جانبه، أو يدعو الناس الى القتال، لأن مستلزمات القتال وخوضه مسألة تتعلق بجوانب فنية وعسكرية، تخرج من اختصاص المفتي أو العالم الديني.
    وتثار المشكلة في حالة عدم اتفاق المسلمين على ولي للأمر، في حالة وجود ضرورات جهاد الدفع. وفي مثل هذه الحالات يمارس المتغلب وهو المتولي، تدبير الأمور في البلاد، ودور ولي الأمر، الى أن تترسخ الشرعية من خلال إرادة المواطنين في البلد المعين. ويقابل مصطلح المتغلب في النشريات السياسية المعاصرة وفي القانون الدولي مصطلح حكم الأمر الواقع.
    تختلف الأعمال القتالية في حالة جهاد الدفع، عن أعمال إرعاب الناس وإرهابهم وإخافتهم. فالقتال في حالة جهاد الدفع لا يعني القتل العشوائي للناس الآمنيين من نساء وشيوخ وأطفال. ولا يعني هدم البنى التحتية وهدر ثروات المواطنين، أو تفجير السيارات المفخخة، أو الأعمال الانتحارية. وتكون محصلته ونتائجه بقاء المحتل وتعريض الناس للقتل، وعدم الحصول على شيء. وقد أشار القرآن الكريم في الآية 195 من سورة البقرة {ولا تلقوا بأيديكم الى التهلكة}. كما أن العقل لا يسمح أيضاً بالتعامل مع هذه المسألة دون حسابات واقعية، تبعد الهلاك والمفاسد عن الناس، وتحقق المنفعة السياسية دون تكاليف باهضة في الأنفس. إن الاستعداد للشهادة عامل أساسي، وحافز للمسلمين لتحقيق الواجب الشرعي المتمثل بإخراج المحتل عن الوطن، ولكن يجب عدم هدر هذه الطاقات والاستعدادات، وعدم التعامل معها بشكل عدمي.
    فالقتال في الوقت الحاضر ليس مجرد مبارزة بالسيف والرماح بين شخص وآخر. ودماء المسلمين ليست أرخص من دماء الناس الآخرين. وعلى ولي الأمر أن يحافظ على هذه الدماء الزكية. وإن كان لا بدّ من بذل الدماء وتقديم التضحيات، فلا بدّ أن يكون اتخاذ قرار القتال وفق حسابات دقيقة، مبنية على الحرص على كل قطرة دم من دماء المسلمين في جهادهم وسعيهم الى استعادة سيادة وطنهم. ولا ضير من تجريب أساليب أخرى تحقق المنفعة المطلوبة قبل اتخاذ قرار القتال.
    وقد أشار القرآن الكريم في أكثر من آية الى مهمة ولي الأمر في هذا المجال.حيث يُشترط لصحة الجهاد وجود راية يُقاتَل من ورائها، يقودُها إمام المسلمين المبايع, أو مَن يُنيبه، أو المتغلب.
    ومن الأدلة على ذلك ما يلي:
    ـ {وإذا جاءهم أمرٌ من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر مِنهم لعلمه الذين يستنبطونه مِنهم ولولا فضلُ الله عليكم ورحمته لاتبعتمُ الشيطانَ إلا قليلاً}. (الآية 83 من سورة النساء)
    ففي هذه الآية: النصُّ على وجوب لزوم أولي الأمر في حال الأمن والخوف، ولا شكَّ أن الجهاد والغزو من أمور الأمن والخوف، التي ينبغي عندها الرجوع إلى أولي الأمر من الأمراء، وأصحاب الولاية من العلماء.
    ـ {يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال..} (الآية 65 من سورة الأنفال)
    ففي هذه الآية: أمر من الله الى النبي بحَثِّ أتباعه من المؤمنين على القتال، ولم يأمر المؤمنين بحَثِّ بعضهم بعضاً، وإنما خصَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بذلك لأنه هو ولي الأمر، فتبين بذلك أن التحريض على القتال مِن خصائص السلطان، وليس من خصائص غيره.
    ـ أكد القرآن الكريم على لزوم طاعة ولي الأمر، ومَن ينيبه ولي الأمر لشؤون الغزو والجيوش، : {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}. ( الآية 59 من سورة النساء )
    تناول الفقهاء موضوع مسؤولية ولي الأمر في حالة جهاد الدفع. وقد اشار ابن قدامة وهو من الحنابلة الى هذه المسؤولية في (المُغني) حيث قال: " أن النفير يعم جميع الناس ممن كان من أهل القتال، حين الحاجة إلى نفيرهم لمجيء العدو اليهم. ولا يجوز لأحد التخلف، إلاّ من يحتاج الى تخلفه لحفظ المكان والأهل والمال، ومن يمنعه الأمير من الخروج، أو من لا قدرة له على الخروج أو القتال. وذلك لقول الله تعالى { انفروا خفافاً وثقالاً}. وقول النبي صلى الله عليه وسلم(إذا استنفرتم فانفروا).
    وقد ذمّ الله تعالى الذين أرادوا الرجوع الى منازلهم يوم الأحزاب. فقال تعالى:{ ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلاّ فرارا }. ولأنهم إذا جاء العدو صار الجهاد عليهم فرض عين فوجب على الجميع. فلم يجز لأحد التخلف عنه. فإذا ثبت هذا فإنهم لا يخرجون إلاّ بإذن الأمير. لأن أمر الحرب موكول اليه. وهو اعلم بكثرة العدو وقلتهم ومكامن العدو، وكيدهم. فينبغي ان يُرجع الى رأيه لأنه أحوط للمسلمين".[1]
    ويمنع القتال كأسلوب في جهاد الدفع منه إذا لم تتحقق المصلحة منه. وتقييد الجهاد بالمصلحة هو ما قرره ابن تيمية حين قال (الفتاوى 15/174): "والمصلحة في ذلك تتنوع، فتارة تكون المصلحة الشرعية في القتال، وتارة تكون المصلحة في المهادنة، وتارة تكون المصلحة في الإمساك والاستعداد بلا مهادنة".[2]
    أشار ابن رشد في (بداية المجتهد) الى معيار المصلحة كاساس لتحديد الموقف في التعامل مع العدو. وقد أجمل ابن رشد الآراء المتنوعة حول الموضوع وبين رأيه فيها، عبر التساؤل الذي طرحه حول موضوع المهادنة مع العدو.
    يقول ابن رشد: " هل تجوز المهادنة؟.. فإن قوما أجازوها ابتداء من غير سبب، إذا رأى ذلك الإمام مصلحة للمسلمين. وقوم لم يجيزوها، إلا لمكان الضرورة الداعية لأهل الإسلام، من فتنة، أو غير ذلك، إما بشيء يأخذونه منهم لا على حكم الجزية، إذ كانت الجزية إنما شرطها أن تؤخذ منهم وهم بحيث تنفذ عليهم أحكام المسلمين. وإما بلا شيء يأخذونه منهم. وكان الأوزاعي يجيز أن يصالح الإمام الكفار، على شيء يدفعه المسلمون إلى الكفار، إذا دعت إلى ذلك ضرورة فتنة، أو غير ذلك من الضرورات. وقال الشافعي لا يعطي المسلمون الكفار شيئا، إلا أن يخافوا أن يصطلموا لكثرة العدو، وقلتهم، أو لمحنة نزلت بهم. وممن قال بإجازة الصلح إذا رأى الإمام ذلك مصلحةً، مالك والشافعي وأبو حنيفة. إلا أن الشافعي لا يجوز عنده الصلح لأكثر من المدة التي صالح عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم الكفار عام الحديبية. وسبب اختلافهم في جواز الصلح من غير ضرورة، معارضة ظاهر قوله تعالى {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم}، وقوله تعالى {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر}، لقوله تعالى {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله}. فمن رأى أن آية الأمر بالقتال حتى يسلموا أو يعطوا الجزية ناسخة لآية الصلح. قال لا يجوز الصلح إلا من ضرورة. ومن رأى أن آية الصلح مخصصة لتلك. قال الصلح جائز، إذا رأى ذلك الإمام، وعضد تأويله، بفعله ذلك صلى الله عليه وسلم. وذلك أن صلحه صلى الله عليه وسلم عام الحديبية لم يكن لموضع الضرورة.[3]
    وبرأينا أن قوله تعالى{وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله}، قول لا تخصيص ولا نسخ فيه.
    أن القتال كشكل من أشكال جهاد الدفع كواجب شرعي، يستلزم توفير شروطها التي أشرنا إليها في المقتبسات التي اوردناها عن ابن قدامة، وعن ابن رشد الذي عرض آراء الفقهاء حول الموضوع.
    استنتاجات
    ـ الإرهاب ظاهرة تاريخية قديمة، مرتبطة باستخدام العنف غير المحدود تجاه الخصوم. وكان الإرهاب والتعنت في التعامل مع الآخر، واستخدام العنف ضده، سمة من سمات الإمبراطوريات عبر التاريخ، وفي جميع أنحاء العالم.
    ـ أن القاعدة الأساسية في مجال جهاد الدفع هي أن اعداد القوة والاستعداد لملاقاة الأعداء يتعلق أساساً بالتخوف من غدر وخيانة الآخرين أي الكفار الذين عاهدوا المسلمين على عدم الغدر والخيانة. والاساس هنا أن المسلمين يلتزمون بالعهود التي قطعوها. ويتخذون الاجراءات اللازمة (اعداد القوة ورباط الخيل)، مخافة انتهاك هذه العقود والمواثيق من الجانب الآخر.
    ولذا يؤكد الطبري أن الآية 61 من سورة الأنفال {وإن جنَحوا للسَّلمُ فاجنح لها وتوكّل على الله إنه هو السميع العليم}، غير منسوخة، بالآيات {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} و{قاتلوا المشركين كافة}.
    ـ وحول مسألة الإرهاب في الفكر والممارسة الإسلامية، نستنتج من خلال ما ذكرناه في المبحث أن الغلو الديني ظاهرة تاريخية، وهي لا تشمل مجالاً محدداً، فنجد هذا الغلو في مجال التعامل مع الآخر من ناحية العقيدة، وفي مجال الفقه سواء في أحكام العبادات أو في أحكام المعاملات، وفي معرفة وتحديد العلاقات الدولية ضمن الفهم الإسلامي.
    ـ أن الأساس الذي ينبغي أن تتعامل به السلطة والقوى السياسية في مجتمعاتنا الإسلامية في علاقاتها مع بعضها ومع الغير، هو عدم وضع الإسلام في تناقض مع حرية الفكر والإعتقاد. والاختلاف في الديانات سنة من سنن الكون. ولا يجوز الاستناد والتعامل بموجب دعوات دعاة الغلو والتطرف الديني في استخدام العنف والقوة ضد الخصوم، بناءً على نسخ الآيات التي تدعو الى الجدل والدعوة إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، بالآيات 5، و29 من سورة التوبة التي ذكرناها في المبحث الثاني، وهي تعتبر استثناءً وليست القاعدة.
    وفي معرض حديثنا عن الإرهاب وجهاد الدفع، نستنتج أن القتال واستخدام السلاح أسلوب مشروع من أساليب جهاد الدفع لإنقاذ البلد من المحتل، وهو ليس الأسلوب الأوحد. وينبغي توفير مستلزماته، حتى يؤدي الى جلب المحاسن ودرء المفاسد. ولا يجوز لكل عالم أو مفتي أن يعلن القتال من جانبه، أو يدعو الناس الى القتال، لأن مستلزمات القتال وخوضه مسألة تتعلق بجوانب فنية وعسكرية، تخرج من اختصاص المفتي أو العالم الديني. كما أن جهاد الدفع لا يعني القتل العشوائي للناس الآمنيين من نساء وشيوخ وأطفال. ولا يعني هدم البنى التحتية وهدر ثروات المواطنين، أو تفجير السيارات المفخخة، أو الأعمال الإنتحارية. ويكون محصلته ونتائجه بقاء المحتل وتعريض الناس للقتل، وعدم الحصول على شيء.
    ـ يشكل الإرهاب تهديداً مباشراً وخطيراً للمجتمع، وهو دعوة الى الفتنة. وليس عند الإرهابيين تأويل سائغ. وبالتالي فإن التكييف الفقهي لجريمة الإرهاب أقرب الى مسألة الإرعاب الذي يعتبر شكلاً من اشكال الحرابة. وقد يقوم الخارج في حالة الإرهاب بمجرد الإرعاب، أو القتل والسرقة أيضاً. ونرى عدم اشتراط البعد عن العمران كشرط للإرهاب، وخاصة في حالة ضعف سلطة الإمام الحاكم، لصعوبة توفير الأمن وإغاثة المستعين. وعليه فإن طبيعة الفعل الجرمي الذي يمارسه القائم بالإرهاب، تحدد عقوبته. غير أن الإرهاب (الإرعاب) في الوقت نفسه يختلف عن الحرابة. وبالتالي فأن السلطة الإسلامية مدعوة الى التكييف الفقهي لجريمة الإرهاب على أساس كونها من جرائم التعزيز، وبالتالي إيجاد الحكم القانوني لها، علماً أن اتخاذ عقوبة شديدة من جرائم الإرهاب في الوقت الحاضر في المجتمعات الإسلامية، أمر يحفظ هيبة الإسلام، وكرامة المسلمين.
                  

02-08-2006, 09:28 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: التوظيف السياسي للفكر الديني (Re: Sabri Elshareef)

    إشكالية الأنا والآخر في القضية الطائفية


    ثمة اشكاليات متنوعة في أسس وماهية الهوية الطائفية وأبعادها ومجالها التداولي، سواء على الصعيد الداخلي للطائفة والحديث عن وحدة مزعومة فيها، أو على الصعيد الخارجي فيما يخص علاقة الهوية الطائفية كشكل من أشكال الهويات الثقافية والخصوصيات المحلية بغيرها من هويات ثقافية اخرىمن جهة، وعلاقتها بالهوية الوطنية العامة من جهة أخرى، والتي تفترض أن تكون مبنية على أسس المواطنة وحقوق وواجبات المواطن الفرد بغض النظر عن انتماءاته القومية والطائفية والعرقية.
    وفي حالة التخلخل وعدم التوازن بين الهوية الوطنية والهويات المحلية، نتيجة عوامل عديدة منها فقدان الإنتماء لروح المواطنة وعدم الحصول على الحماية من الدولة التي يفترض أن تحمي القيم المعياريية للكينونة الوطنية العامة بصفتها منظمِة للفسحة الجماعية والمجال الحيوي المشترك بين مجمل الهويات والخصوصيات المحلية، يكون انتماء الفرد في مثل هذه الحالة للهوية المحلية سعباً منه لإيجاد الحماية المطلوبة بديلاً عن الإنتماء للهوية الوطنية. ويحدث مثل هذا الأمر عندما تكون سياسة الدولة مبنية على القسر والإلغاء والقمع.
    لقد خلقت سياسات الديكتاتورية الحاكمة منذ عقود حالةً من الإحساس الجماعي داخل طوائف ومجموعات عرقية وقومية ودينية، بكونها مستهدفة من قبل طائفة أخرى. وينجم عن الأمر احساس بالغبن والمظلومية. في حين ان جوهر هذه السياسات نابعة أساساً من تفرد طغمة أو مجموعة بالحكم، تمارس القمع والتنكيل باسم القومية السائدة والطائفة المعينة، دون أن تكون بالأساس مخولةً من قبل تلك الطائفة والقومية. والأكثر من هذا تخلق تلك الطغمة الحاكمة من انتمائها لتلك الطائفة أو القومية سياجاً واقياُ لتبرير سياساتها للمضي قدماُ في اقتراف الجرائم، وسلاحها الأساسي اذكاء النعرات الطائفية والمذهبية والقومية.
    إن هذه السياسات التي تخلق لدى الآخر شعوراً بالغبن والمظلومية، يجري التعبير عنها أو الرد عليها بالحديث عن الوحدة الطائفية الموهومة والتقوقع داخل الهوية المحلية الطائفية عبر منطق التماثل والمطابقة والثبات والحفاظ على الجوهر الحقيقي والصفاء المرجعي للطائفة والمذهب.
    وتخلق هذه الحالة أيضاً نوعاً من الشك والريبة تجاه الآخر والهويات المحلية الأخرى ضمن معسكر خصوم الديكتاتورية، وخاصة في بلد مثل العراق حيث يشمل هذا المعسكر طيفاً واسعاً، يعكس الى حد ما التنوع القومي والطائفي والديني والمذهبي الموجود تاريخياً في العراق. ومثل هذا الشك والريبة في التعامل مع الآخر عوامل معرقلة في توحيد الصف الوطني في النضالمن أجل الديمقراطية وترسيخها.
    يجرى في كثير من الأحوال الخلط بين الوجود الطائفي وبين الوحدة الطائفية. وأزعم ان الوجود الطائفي لا يعني بالتالي وحدة الهوية الطائفية بمنطق التناسخ والمماثلة والتطابق. فالحديث عن وجود مثل هذه الوحدة الطائفية يعني الغاء المفهوم العلائقي والتعددي والتركيبي للهوية. ويعني أيضاً عدم النظر إلى الهوية بلغة التنوع والصيرورة والتحول والمغايرة، وكأن الأمور تجري وفق منطق ثابت وجامد.
    وعليه أرى إن الإلتباسات الناجمة عن سياسات الديكتاتورية أساساً، لاتكون محصورة في إطار الخلاف او التنوع في الهوية بين المسلم والمسيحي وبين العربي والكردي وبين السني والشيعي وبين الكردي والتركماني. فالمشكلة غير محدودة بالتعدد الثقافي أو اللغوي، بل هناك اشكاليات داخل كل قومية وكل طائفة وأساساً بين أحزابها المتنازعة على النفوذ والسلطة، عبر ادعاء كل حزب منها كونها المرجع الحقيقي الممثل للنقاء والصفاء المذهبي والطائفي، وفي احتكار التعبير عن فكر الطائفة أوالدين المعني، أو الذود عن مقومات الأمن القومي لتلك القومية. والسلاح الأساسي في كل هذه الأمور هو امتلاك الحقيقة المطلقة في تفسير التاريخ وتفسير النصوص واعتبار الذات قيماً على تلك الأمور.
    في حين ان القيم والنصوص الدينية والتعامل مع ما أضفي عليه الإنسان صفة القدسية تاريخياً، أمورٌ ذات طابع معرفي ومشاع للجميع، ولا يمكن بالتالي احتكارها من قبل فئة معينة داخل طائفة محددة تدعي امتلاك الحقيقة المطلقة لتفسير النص ولتفسير المصلحة الطائفية أو المصلحة القومية.
    إنطلاقاً من هذه النقطة، علينا أن نقوض أساساً القواعد التي تبنى عليها فتاوي تكفير الأفراد والجهات السياسية، بذريعة الإختلاف السياسي أو الفكري، أو بذريعة الإساءة إلى المؤسسات الدينية، أو تحت ستار التعبير عن الصفاء الحقيقي لفكر الطائفة. والبديل هنا هو حق كل فرد وكل مجموعة ذات خصوصيات ثقافية وكل جهة سياسية في التعبير عن إيمانه على طريقته وحسب معتقداته وقناعاته، ضمن احترام قواعد وأسس الحوار الديمقراطي العقلاني، وفي هذه النقطة تكمن جوهر حرية الإعتقاد.
    ان المفهوم الإنغلاقي في التعامل مع الهوية الطائفية يكون عاملاً للتفجير والإصطدام لا مع الطوائف والهويات المحلية الأخرى، بل في داخل الطائفة الواحدة أوالقومية الواحدة. وعلى هذا الأساس يمكننا تفسير وتوقع الصراعات الدموية داخل الطائفة الواحدة والقومية الواحدة بين أحزابها السياسية والتي تدعي كل واحدة منها تمثيلها الحقيقي لمصالح المجموعة، أو تطرح نقسها كمرجعية دينية وفكرية فيها.
    ففي البلدان التي تشهد صراعات طائفية أو تعاني من مشاكل ناجمة عن الخصوصيات المحلية، تتشظى الأمور لتصل الى حد الإقتتال بين أحزاب الطائفة الواحدة كالقتال الدموي الذي حصل بين حزب الله ومنظمة أمل داخل المعسكر الشيعي اللبناني، وبين القوات اللبنانية والكتائب وحزب الأحرار في المعسكر المسيحي الماروني. وكذلك الأقتتال الدموي بين الديمقراطي الكردستاني والإتحاد الوطني في معسكر الحركة التحررية الكردية في العراق.
    إذن فالمشكلة تكمن في الداخل أيضاً، في داخل القومية الواحدة والطائفة الواحدة كما في الخارج أيضاً مع الهويات الثقافية الأخرى، دون أن ننسى في كل الحالات مسؤولية السلطة الحاكمة في خلق أرضية للإستبداد في إطار الوطن ككل.
    والإشكاليات الناجمة عن العلاقة مع الآخر على الصعيد الخارجي، لا يمكن تفسيرها بشكل سطحي وعلى أساس تقسيم البلد إلى طوائف ومجموعات اجتماعية وعرقية متناحرة ومتناقضة المصالح. ونكون بالتالي أمام خيارين، إما التناحر والإصطدام بين الطوائف والمجموعات الإجتماعية ذات الخصوصيات المحلية، وإما التقسيم الطائفي للسلطة بين تلك المجموعات والتي لا توفر على صعيد المستقبل الأمن الوطني والحماية للمواطن الفرد.
    ان العلاقة مع الآخر في العراق ملتبسة ومعقدة وضرورية في الوقت نفسه. فالفرد بحاجة دوماً إلى الآخر من أجل التواصل والتداول ولا يمكن تحقيق ذلك دون العلاقة والتعامل مع الآخر. ومن الصعوبة أن يكون هناك وعياً حقيقياً بالذات دون أن يكون هناك وعياً بالآخر في طروحاته وهمومه ونظرته للظواهر الإجتماعية، وما نواجهه سوياً من مصير مشترك.
    من هنا تأتي ضرورة الحوار المبني على قبول الآخر بوصفه شبيهاً ومشتركاً معنا في أمور معينة، ومختلفاً في الوقت نفسه في أمور أخرى،وضمن آلية الحق في اختلاف وجهات النظر والمساواة في الحقوق في الوقت نفسه.
    إن ثنائية الأنا والآخر تتطلب الفصل بين الفكر واحتكار الحقيقة, فيجب أن تفهم الحقائق في ضوء نسبيتها واعادة خلقها وانتاجها وتجديدها واغناءها المستمر. في حين تنتج عن القراءة الأحادية المبينية على منطق التطابق والمماثلة والإستنساخ نفي الآخر ومنع اشراكه في اقرار القضايا المصيرية، وبالتتابع لا يمكن سوى توقع المزيد من القمع والإستئصال. وفي هذه النقطة الجوهرية تكمن جوهرالديكتاتورية الحاكمة وحقيقة أزمتها الخانقة.
    إن إحدى الإشكاليات الأساسية المطروحة في ساحة المعارضة العراقية في الوقت الحاضر، هي إشكالية الهويات المحلية {الهويات الطائفية والمذهبية والدينية} وعلاقة تلك الهويات بالهوية الوطنية العراقية.
    وتتجدد الأسئلة حول هذه الإشكاليات مع طرح الأسئلة حول مستقبل الوحدة الوطنية العراقية بفعل المؤثرات الداخلية والخارجية، ومستجدات القضية العراقية. ولذا نرى انشغال السياسيين ورجال الدين والمرجعيات الدينية وقادة الأحزاب الدينية والطوائف المختلفة والمثقفين من دعاة العلمانية والمجتمع المدني بطرح ومناقشة المشاريع المختلفة التي تخص مستقبل الوطن. كما نجد انحياز البعض والولاء للهوية الطائفية باطارها الإنغلاقي عبر التفكير في الحصول على ضمانات ومكاسب لطائفة معينة، وتغليف تلك المطالب بشعارات تحديثية معاصرة تنبذ الطائفية من حيث الشكل، في حين تقوم بتكريسها في الجوهر. وبالتالي ستخلق مثل تلك المشاريع مستقبلاً أفخاخاً طائفية وقنابل موقوتة وتكون استمراراً ـ بشكل آخر ـ للأفخاخ التي وضعتها الديكتاتورية بسبب سياساتها الطائفية.
    ويبدو ان البعض من رجال الدين والمرجعيات الفقهية والمثقفين والسياسيين ممن يعتبرون أنفسهم حماةً للهويات والخصوصيات المذهبية والطائفية، وفي إطار ولائهم الأساسي لتلك الخصوصية، يكَرِّسون الأنقسامات والخلاقات، وتصبح الساحة الثقافية آنئذِ ميداناً للإصطدامات ولآليات رفض الآخر وتكفيره.
    وفي مثل هذه الحالة لا يمكن سوى توقع انتاج هوية مغلقة مولدة للتعصب والإنغلاق على الذات. وتتحول علاقة الفرد بهويته الطائقية إلى سجن فكري مسيًّج بالفتاوي وفرمانات التكفير.
    وتخطئة هذه الوجهة لا يعني القفز على الخصوصيات الطائفية وعدم مراعاة التنوع الطائفي والمذهبي والقومي والديني الموجود في العراق، أو معالجة القضية الطائفية عبر الغاء الوجود أو الكينونة الطائفية أو الخصوصية المحلية. لكن المسارات المطروحة تجعلنا أمام منعطف تاريخي ولا بُدَّ أن نختار بين طريقين.
    فأمامنا حل طائفي للقضية الطائفية في العراق. وأمامنا أيضاًَ حل ديمقراطي للقضية الطائفية.
    والحل الديمقراطي لا يعني إلغاء الخصوصية الطائفية، بل البحث عبر الحوار عن حلول وسط تداولي وطني مبني على الشراكة والمسؤولية الجماعية، وبما يؤمن فسحة كبيرة اسمها الوطن الموحد للتعايش السلمي والسلام الإجتماعي المدني والتفاعل الخلاق ضمن أسس الحوار الديمقراطي العقلاني.
    ومن مستلزمات الحل الديمقراطي النظر الى مفهوم الهوية ببعدها الإتفتاحي والتعددي والعلائفي وبلغة التنوع والمغايرة والصيرورة.
    أما الحل الطائفي فإنه يُكَرِّس الخلاف والفرقة. وتكون اقتسام الكعكة دستورياً بديلاً عن فكرة الشراكة والمسؤولية الجماعية دستورياً. والوحدة الوطنية المبنية على حلول طائفية ـ إن تحققت ـ ستكون وحدةً ملغومةً قابلةً للتفجير ولا تصمد أمام الهزَّات.
    إن الحل الديمقراطي الذي يضمن الخصوصية الطائفية لمجموعة معينة على قدر المساواة والتكافؤ مع خصوصيات الآخرين، بإمكانه إنشاء مؤسسات إتحادية ناجحة وفعالة، ومن خلال ممارسة الفرد هويته كمغايرة وتواصل مع الآخر. ولن تكون الوحدة آنئذ تجميعاً كمياً لطوائف وخصوصيات ثقافيتة متباينة، بل إطاراً لتفاعل أفراد ومجموعات فاعلة تمارس خصوصياتها وقادرة على إدارة خلافاتها بشكل عقلاني تواصلي.
                  

02-08-2006, 09:29 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: التوظيف السياسي للفكر الديني (Re: Sabri Elshareef)

    الخلفية التاريخية لمفهوم مشروعية السلطة
    في الإسلام
    لابد لنا في هذا المضمار أن نتناول التجربة التاريخية الإسلامية في مجال قضية الخلافة، والعلاقة بين هذه التجربة التاريخية والنصوص الفقهية التأسيسية التي تعتبر موضوع التأويل في هذه المسألة.
    لقد انبثقت مشكلة الخلافة في المجتمع الإسلامي بوفاة الرسول الذي لم يترك للمسلمين نظرية للحكم. ومن هنا انقسم الصحابة الى فريقين: فريق المهاجرين أي المكيين، وفريق الأنصار أي أهل المدينة. وصار كل فريق يريد أن يكون له أمر الخلافة بعد النبي. وبموازاة هذا الإنقسام لم يكن فريق الأنصار متحدين في موقفهم، بسبب آثار العلاقة السابقة للإسلام بين الأوس والخزرج. كما ان المهاجرين كانوا منقسمين بين بني هاشم الذي ينتمي اليهم النبي، وصهره وابن عمه علي بن أبي طالب من جانب، وبني عبد شمس وتيم وأمية وغيرهم، الذين ينتمي اليهم سائر المهاجرين ومنهم أبو بكر وعمر بن الخطاب من جانب آخر.
    بدأ الصراع على الخلافة في سقيفة بني ساعدة، دون تأسيسات فقهية وقبل نشوء المذاهب الفقهية أو الاعتقادية، أو مذاهب علم الكلام أساساً. وكانت الدوافع السياسية والاجتماعية في الصراع على هذا المنصب غير مخفية. كما لم تحسم من خلال التسويغات الدينية، على الرغم من ورودها في بعض حجج المتصارعين على السلطة. واتخذ الصراع شكله الديني وقالبه الفقهي بعد مرور سنين عديدة، وبعد تطور الدولة الإسلامية، التي أصبحت امبراطورية مترامية الأطراف. وذلك لأن الفكر الديني أصبح بمثابة الوعاء الذي استوعب وجسُّد الصراعات الكامنة في المجتمع.
    تحدث كل من الطبري، وابن أبي الحديد كل حسب رأيه عن أحداث السقيفة. ومن خلال نقل كل واحد منهما لتلك الأحداث، نستبعد الطابع الديني للخلافات والآراء المطروحة في السقيفة، حول الأحقية بالخلافة. ولسرد تلك الحادثة برواية الطرفين (الطبري، وابن أبي الحديد) أهمية كبيرة، بسبب اختلاف ميول الطرفين من الناحية السياسية. وهذا يعكس الجانب السياسي الدنيوي في مسألة الصراع على الخلافة.
    وقد نقل الطبري هذا الصراع الجنيني على الخلافة في سقيفة بني ساعدة، كالتالي:
    " اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة ليبايعوا سعد بن عبادة، فبلغ ذلك أبا بكر فأتاهم ومعه عمر وأبو عبيدة بن الجراح، فقال ما هذا فقالوا منا أمير ومنكم أمير، فقال أبو بكر منا الأمراء ومنكم الوزراء. ثم قال أبو بكر إني قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين عمر أو أبا عبيدة. إن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه قوم فقالوا أمينا، فقال لأبعثن معكم أمينا حق أمين فبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح. وأنا أرضى لكم أبا عبيدة، فقام عمر فقال أيكم تطيب نفسه أن يخلف قدمين قدمهما النبي صلى الله عليه وسلم، فبايعه عمر وبايعه الناس، فقالت الأنصار أو بعض الأنصار لا نبايع إلا عليا".[4]
    أما حول الخلاف بين بني هاشم وبين غيرهم من قريش فيذكر الطبري ""حدثنا ابن حميد قال حدثنا جرير عن مغيرة عن زياد بن كليب قال أتى عمر بيت علي وفيه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين فقال والله لأحرقن عليكم أو لتخرجن إلى البيعة فخرج عليه الزبير مصلتاً السيف، فعثر، فسقط السيف من يده، فوثبوا عليه، فأخذوه"[5]
    ويذكر الطبري حديث عمر بن الخطاب أثناء توليه الخلافة بعد وفاة أبي بكر حول ما جرى قبل ذهابه الى السفيقة كالتالي:
    " إنه بلغني أن قائلا منكم يقول لو قد مات أمير المؤمنين بايعت فلانا. فلا يغرن امرءاً أن يقول: إن بيعة أبي بكر كانت فلتة. فقد كانت كذلك، غير أن الله وقى شرها. وليس منكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر! وإنه كان من خبرنا حين توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن عليا والزبير ومن معهما تخلفوا عنا في بيت فاطمة. وتخلفت عنا الأنصار بأسرها، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر، فقلت لأبي بكر انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار. فانطلقنا نؤمهم، فلقينا رجلان صالحان قد شهدا بدرا. فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ فقلنا نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار. قالا: فارجعوا فاقضوا أمركم بينكم، فقلنا والله لنأتينهم".[6]
    وفي السقيفة بدأت النقاشات والسجالات بين الأنصار وزعيمهم سعد بن عبادة من جهة ، وبين المهاجرين الذين تحدث عنهم أبو بكر الصديق، وعاونه في ذلك عمر بن الخطاب.
    يذكر الطبري نقلاً عن خطبة عمر بن الخطاب تلك النقاشات الحامية، حيث قال "فأتيناهم ( ويقصد هو وأبو بكر)، وهم مجتمعون (أي الأنصار) في سقيفة بني ساعدة. قال وإذا بين أظهرهم رجل مزمل. قال قلت من هذا قالوا سعد بن عبادة فقلت ما شأنه قالوا: وجع. فقام رجل منهم فحمد الله وقال: أما بعد فنحن الأنصار وكتيبة الإسلام. وأنتم يا معشر قريش رهط رآه وقد دفت إلينا من قومكم دافة".[7]
    بيّن عمر بن الخطاب في خطبته، كما ينقلها لنا الطبري، التنسيق وتبادل الأدوار بينه وبين أبي بكر الصديق، في مواجهة الطلب الذي أبداه الأنصار وزعيمهم سعد بن عبادة. ويذكر في هذا الصدد دور السجايا والسمات الشخصية لأبي بكر الصديق وكونه أكثر حلماً منه.
    وبهذا الصدد يذكر الطبري نقلاً عن خطبة عمر بن الخطاب أثناء خلافته ما فعلوه لمواجهة مطالب الأنصار. قال ( والحديث لعمر بن الخطاب): فلما رأيتهم يريدون أن يختزلونا من أصلنا، ويغصبونا الأمر. وقد كنت زورت في نفسي مقالة أقدمها بين يدي أبي بكر. وقد كنت أداري منه بعض الحد. وكان هو أوقر مني وأحلم. فلما أردت أن أتكلم قال فكرهت أن أعصيه. فقام فحمد الله وأثنى عليه فما ترك شيئا كنت زورت في نفسي أن أتكلم به لو تكلمت إلا قد جاء به أو بأحسن منه. وقال أما بعد يا معشر الأنصار فإنكم لا تذكرون منكم فضلا إلا وأنتم له أهل. وإن العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش. وهم أوسط العرب دارا ونسبا. ولكن قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، فبايعوا أيهما شئتم، فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح. وإني والله ما كرهت من كلامه هذه الكلمة إن كنت لأقدم فتضرب عنقي فيما لا يقربني إلى إثم أحب إلي من أن أؤمر على قوم فيهم أبو بكر. فلما قضى أبو بكر كلامه، قام منهم رجل، فقال: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب. منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش. قال فارتفعت الأصوات، وكثر اللغط. فلما أشفقت الاختلاف، قلت لأبي بكر ابسط يدك أبايعك، فبسط يده، فبايعته، وبايعه المهاجرون، وبايعه الأنصار .... قال قائلهم قتلتم سعد بن عبادة فقلت قتل الله سعدا وإنا والله ما وجدنا أمرا هو أقوى من مبايعة أبي بكر. خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة، فإما أن نتابعهم على ما نرضى أو نخالفهم فيكون فساد".[8]
    ويذكر ابن أبي الحديد حادثة السقيفة في شرح (نهج البلاغة)، ويتحدث عن طبيعة الصراع بين الأنصار والمهاجرين على منصب الخلافة وكيفية حسمه، وتأثير الخلافات القديمة بين الأوس والخزرج على تخلي الخزرج عن سعد بن عبادة واصطفافهم الى جانب المهاجرين. كما أن هناك إشارة الى المخاطر المترافقة بعملية إختيار أبي بكر وإحتمال حدوث الفتنة، بشكل واضح في النص الوارد في شرح نهج البلاغة.
    وحول استعدادات الأنصار وتحركاتهم بعد وفاة النبي، ورد في شرح (نهج البلاغة): ان المهاجرين والأنصار "ترادوا الكلام بينهم، فقالوا: إن أبت مهاجرة قريش فقالوا: نحن المهاجرون، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأولون؛ ونحن عشيرته وأولياؤه، فعلام تنازعوننا هذا الأمر من بعده! فقالت طائفة منهم: إذاً نقول: منا أمير ومنكم أمير، لن نرضى بدون هذا منهم أبداً، لنا في الإيواء والنصرة ما لهم في الهجرة، ولنا في كتاب الله ما لهم، فليسوا يعدون شيئاً إلا ونعد مثله، وليس من رأينا الاستئثار عليهم، فمنا أمير ومنهم أمير؛ فقال سعد بن عبادة: هذا أول الوهن!".[9]
    أكد أبو بكر في حديثه في السقيفة على كون المهاجرين يمثلون عشيرة الرسول، وأول الملبين لدعوته. كما تحدث عن دور قريش في أوساط العرب وتأثيره على القبائل الأخرى. ويخلو حديث الصديق من الإستشهاد بأية آية قرآنية أو حديث نبوي لتثبيت وبرهان أحقية فريش بالخلافة. علماً أنه لم يتحدث عن أحقيته، بل أحقية قبيلته.
    ونستطيع ان نثبت هذا الإستنتاج من خلال رواية ابن أبي الحديد في (شرح نهج البلاغة)، وهي رواية لا تختلف عمّا أورده الطبري في تاريخه.يقول ابن أبي الحديد أن أبا بكر قال: "إن الله جل ثناؤه بعث محمداً بالهدى ودين الحق، فدعا إلى الإسلام، فأخذ الله بقلوبنا ونواصينا إلى ما دعانا إليه، وكنا - معاشر المسلمين المهاجرين- أول الناس إسلاماً، والناس لنا في ذلك تبع. ونحن عشيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأوسط العرب أنساباً، ليس من قبائل العرب إلا ولقريش فيها ولادة. وأنتم أنصار الله، وأنتم نصرتم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أنتم وزراء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإخواننا في كتاب الله وشركاؤنا في الدين. وفيما كنا فيه من خير، فأنتم أحب الناس إلينا، وأكرمهم علينا، وأحق الناس بالرضا بقضاء الله، والتسليم لما ساق الله إلى إخوانكم من المهاجرين، وأحق الناس ألا تحسدوهم، فأنتم المؤثرون على أنفسهم حين الخصاصة، وأحق الناس ألا يكون انتقاص هذا الدين واختلاطه على أيديكم، وأنا أدعوكم إلى أبي عبيدة وعمر؛ فكلاهما قد رضيت لهذا الأمر، وكلاهما أراه له أهلاً".[10]
    لم يكن أبو بكر وحده في دعوته لكي تكون الخلافة في قريش. وكان يعلم أن أبا عبيدة الجراح وعمر بن الخطاب يؤيدانه في هذا المسعى. ويمثل كل منهما مركزاً من مراكز القوى في العوائل والأفخاذ التي تتكون منها قريش. وقد أثرت دعوته في تليين موقف بعض الأنصار واستعدادهم للتوافق وتقاسم السلطة. وفي هذه اللحظة من الصراعات برز دور عمر وأبي عبيدة، ليكملا ما بدأه أبو بكر الصديق. وهذا ما نلمسه في حديثهما، المذكور عند الطبري وعند ابن أبي الحديد.
    قال عمر وأبو عبيدة: "ما ينبغي لأحد من الناس أن يكون فوقك، أنت صاحب الغار، ثاني اثنين، وأمرك رسول الله بالصلاة، فأنت أحق الناس بهذا الأمر.
    وتكررت الدعوات بالتقاسم في السلطة بين المهاجرين والأنصار. ووصل النزاع الى حد حصول احتمال التصادم بين المهاجرين والأنصار، غير أن المهاجرين كانوا قد حسموا أمرهم في أن تكون الخلافة لهم. وضمن السجال الدائر والدعوة الى تقاسم السلطة، "قام الحباب بن المنذر بن الجموح، فقال: يا معشر الأنصار؛ املكوا عليكم أيديكم، إنما الناس في فيّكم وظلكم، ولن يجترئ مجترئ على خلافكم، ولا يصدر الناس إلا عن أمركم، أنتم أهل الإيواء والنصرة، وإليكم كانت الهجرة، وأنتم أصحاب الدار والإيمان؛ والله ما عُبِّدَ الله علانية إلا عندكم وفي بلادكم، ولا جُمعت الصلاة إلا في مساجدكم، ولا عُرف الإيمان إلا من أسيافكم، فاملكوا عليكم أمركم، فإن أبى هؤلاء فمنا أمير ومنهم أمير".[11]
    غير أن هذا المقترح المطروح للتوافق عبر التشارك بين الطرفين في السلطة، لم يكن مقبولاً من جانب المهاجرين. ولذا نجد عمر بن الخطاب يقول: "هيهات! لا يجتمع سيفان في غمد. إن العرب لا ترضى أن تؤمركم ونبيها من غيركم. وليس تمتنع العرب أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم، وأولو الأمر منهم. لنا بذلك الحجة الظاهرة على من خالفنا، والسلطان المبين على من نازعنا، من ذا يخاصمنا في سلطان محمد وميراثه، ونحن أولياؤه وعشيرته، إلا مدل بباطل، أو متجانف لإثم، أو متورط في هلكة! فقام الحباب، وقال: يا معشر الأنصار، لا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه، فيذهبوا بنصيبكم من الأمر، فإن أبوا عليكم ما أعطيتموهم فأجلوهم عن بلادكم، وتولوا هذا الأمر عليهم، فأنتم أولى الناس بهذا الأمر، إنه دان لهذا الأمر بأسيافكم من لم يكن يدين له. أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب، إن شئتم لنعيدنها جذعة، والله لا يرد أحد علي ما أقول إلا حطمت أنفه بالسيف".[12]
    غير أن معسكر الأنصار لم يكن موحدأ. فآثار الصراعات الدائرة بين الأوس والخزرج، لم تزل باقية في نفوس البعض منهم. وكان للأوس وزعيمهم سعد بن عبادة فقط الفرصة لتولي السلطة في حالة حسم النزاع والنقاش لصالح الأنصار. ولم يكن هذا الأمر يروق للخزرج.
    يشير العديد من المؤرخين الى هذه الحالة، والى موقف بشير بن سعد الخزرجي، قائلين: "لما رأى بشير بن سعد الخزرجي ما اجتمعت عليه الأنصار من تأمير سعد بن عبادة ـ وكان حاسداً له، وكان من سادة الخزرج ـ قام فقال: أيها الأنصار، إنا وإن كنا ذوي سابقة، فإنا لم نرد بجهادنا وإسلامنا إلا رضا ربنا وطاعة نبينا، ولا ينبغي لنا أن نستطيل بذلك على الناس، ولا نبتغي به عوضاً من الدنيا، إن محمداً صلى الله عليه وسلم رجل من قريش؛ وقومه أحق بميراث أمره، وايم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر؛ فاتقوا الله ولا تنازعوهم ولا تخالفوهم.
    فقام أبو بكر، وقال: هذا عمر وأبو عبيدة، بايعوا أيهما شئتم؛ فقالا: والله لا نتولى هذا الأمر عليك؛ وأنت أفضل المهاجرين، وثاني اثنين، وخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصلاة؛ والصلاة أفضل الدين. أبسط يدك نبايعك. فلما بسط يده، وذهبا يبايعانه، سبقهما بشير بن سعد، فبايعه، فناداه الحباب بن المنذر: يا بشير، عقك عقاق؛ والله ما اضطرك إلى هذا الأمر إلا الحسد لابن عمك.
    ولما رأت الأوس أن رئيساً من رؤساء الخزرج قد بايع، قام أسيد بن حضير- وهو رئيس الأوس- فبايع حسداً لسعد أيضاً، ومنافسة له أن يلي الأمر، فبايعت الأوس كلها لما بايع أسيد، وحمل سعد بن عبادة وهو مريض، فأدخل إلى منزله، فامتنع من البيعة في ذلك اليوم وفيما بعده، وأراد عمر أن يكرهه عليها، فأشير عليه ألا يفعل، وأنه لا يبايع حتى يقتل، وأنه لا يقتل حتى يقتل أهله، ولا يقتل أهله حتى يقتل الخزرج؛ وإن حوربت الخزرج كانت الأوس معها". [13]
    إن الحوار الذي جرى بين الأنصار والمهاجرين لا يعكس المنظور الديني في مسألة حسم قضية الخلافة التي أثيرت في السقيفة. ولا نجد في حوار الفرقاء في السقيفة ما يشير في حديث أي منهم الى آيات من القرآن، أو نصوص من الحديث النبوي. وجرى الحديث حول اختيار ومبايعة الزعيم أو الأمير ضمن القيم العشائرية والموروث القبلي السائد، في وقت لم تكن لهذه القبائل تجربة سابقة في ميدان تأسيس الدولة، واختيار رئيس لها. فالمهاجرون رأوا بأن لهم الحق في الخلافة لأنه بدون تضحياتهم، ومن ضمنها هجرتهم لم يكن الإسلام يصل الى ما وصل إليه في الجزيرة العربية. وقالوا وكان المعبر عنهم بشكل واضح أبو بكر الصديق: بأن العرب لن تقبل إلاّ أن يكون هذا الأمر في قريش. وهكذا نرى إن الحديث قد جرى حول التقاليد العربية الراسخة وإمكانية القبول العربي، وفي هذه النقطة يبرز دور "هذا الحي من قريش" كما جاء في قول الخليفة الأول. وقد وصف الخليفة الثاني بأن ما جرى كان فلتةً أو فتنةً وقى الله شرها، كما برز العامل القبلي بشكل واضح في إنحياز الخزرج الى المهاجرين، بسبب خلافهم القديم مع الأوس. ولم يتكرر ما جرى في السقيفة لاختيار الخلفاء الراشدين الثلاثة الآخرين، حيث تختلف طريقة وصول كل منهم للخلافة عن الآخر.
    أما الجانب الآخر من الصراع في معسكر المهاجرين فيتجلى في الخلاف بين بني هاشم الذي ينتمي اليهم النبي، وصهره وابن عمه علي بن أبي طالب من جانب، وبني عبد شمس وتيم وأمية وغيرهم، الذين ينتمي اليهم سائر المهاجرين ومنهم أبو بكر وعمر بن الخطاب من جانب آخر.
    ينقل لنا ابن أبي الحديد في ( شرح نهج البلاغة ) هذا الجانب من الصراع بعد اجتماع بني هاشم إلى بيت علي بن أبي طالب، ومعهم الزبير، وكان يعد نفسه رجلاً من بني هاشم. واجتماع بني أمية إلى عثمان بن عفان، واجتماع بني زهرة إلى سعد وعبد الرحمن، ودعوة عمر بن الخطاب، وأبي عبيدة بن الجراح للطرفين الأخيرين لمبايعة أبي بكر، بعد حسم الصراع الأولي في السقيفة لصالح أبي بكر الصديق. فقام عثمان ومن معه، وقام سعد وعبد الرحمن ومن معهما، فبايعوا أبا بكر.
    وفي هذا الصدد يقول ابن أبي الحديد : "ذهب عمر ومعه عصابة إلى بيت فاطمة، منهم أسيد بن حضير وسلمة بن أسلم؛ فقال لهم: انطلقوا فبايعوا، فأبوا عليه؛ وخرج إليهم الزبير بسيفه، فقال عمر: عليكم الكلب، فوثب عليه سلمة بن أسلم، فأخذ السيف من يده فضرب به الجدار، ثم انطلقوا به وبعلي ومعهما بنو هاشم، وعلي يقول: أنا عبد الله وأخو رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حتى انتهوا له إلى أبي بكر، فقيل له: بايع، فقال: أنا أحق بهذا الأمر منكم، لا أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي، أخذتم هذا الأمر من الأنصار، واحتججتم عليهم بالقرابة من رسول الله، فأعطوكم المقادة، وسلموا إليكم الإمارة، وأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار. فأنصفونا إن كنتم تخافون الله من أنفسكم، واعرفوا لنا من الأمر مثل ما عرفت الأنصار لكم، وإلا فبوءوا بالظلم وأنتم تعلمون".[14]
    غير أن عمر بن الخطاب الذي قاد الدعوة لمبايعة أبي بكر، وكسب المعركة في السقيفة، وأحرز عليه موافقة بني أمية وبني زهرة، فضلاً على كونه من بني تيم، كان يريد فرض الأمر على بني هاشم أيضاً. ولهذا كان يلح حسب ما يشير اليه المؤرخون على علي بالبيعة لأبي بكر.
    وقد جرى اختيار الخليفة الثاني عن طريق الوصية، بعد تشاور أبي بكر الصديق مع بعض الصحابة، فرادى، ومنهم عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وسعيد بن زيد وأسيد بن حضير، حسب روايات واردة في كتب السيرة وتاريخ الخلفاء. وبالتالي نجد أن الخليفة الأول قد أوصى بالخلافة الى عمر بن الخطاب حسب وجهة نظره واجتهاده، دون ان يشير الى نص ديني وآية قرآنية لتثبيت موقفه في صحة تلك الوصية، واستحقاق الخليفة الثاني للمنصب من منظور ديني. وهذا منا نجده في وصيته التالية:
    " بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجاً منها، وعند أول عهده بالآخرة داخلاً فيها، حيث يؤمن الكافر، ويوقن الفاجر، ويصدق الكاذب، إني استخلفت عليكم بعدي عمر بن الخطاب، فاسمعوا له وأطيعوا، وإني لم آلُ الله ورسوله ودينه ونفسي وإياكم خيراً، فإن عَدَلَ فذلك ظني به وعلمي فيه، وإن بَدًل فلكل امرئ ما اكتسب، والخير أردت، ولا أعلم بالغيب..".[15]
    كما جرى اختيار عثمان بن عفان عن طريق لجنة شكلها عمر بن الخطاب وراعى فيها الاعتبارات القبلية. وجرى اختيار الخليفة الرابع بعد الأحداث التي نجمت عن قتل الخليفة الثالث.
    يذكر ابن أبي الحديد دور وتأثير الإعتبارات القبلية في إختيار الخليفة الثالث، ويبدو أن ما يطرحه أمر منطقي إرتباطاً بواقع الجزيرة العربية والتركيبة الإجتماعية السائدة فيها. ويمكن القول وحسب الرواية أدناه بأن العامل القبلي كان حاسماً في حسم تلك القضية.
    يقول إبن أبي الحديد:
    "لما دفن عمر، جمعهم أبو طلحة، ووقف على باب البيت بالسيف في خمسين من الأنصار، حاملي سيوفهم، ثم تكلم القوم وتنازعوا، فأول ما عمل طلحة أنه أشهدهم على نفسه أنه قد وهب حقه من الشورى لعثمان. وذلك لعلمه أن الناس لا يعدلون به علياً وعثمان، وأن الخلافة لا تخلص له وهذان موجودان، فأراد تقوية أمر عثمان وإضعاف جانب علي عليه السلام، بهبة أمر لا انتفاع له به، ولا تمكن له منه.
    فقال الزبير في معارضته: وأنا أشهدكم على نفسي أني قد وهبت حقي من الشورى لعلي، وإنما فعل ذلك لأنه لما رأى علياً قد ضعف وانخذل بهبة طلحة حقه لعثمان، ودخلت حمية النسب، لأنه ابن عمة أمير المؤمنين عليه السلام، وهي صفية بنت عبد المطلب، وأبو طالب خاله. وإنما مال طلحة إلى عثمان لانحرافه عن علي عليه السلام، باعتبار أنه تيمي، وابن عم أبي بكر الصديق، وقد كان حصل في نفوس بني هاشم من تيم حنق شديد لأجل الخلافة، وكذلك صار في صدور تيم على بني هاشم، وهذا أمر مركون في طبيعة البشر، وخصوصاً طينة العرب وطباعها، والتجربة إلى الآن تحقق ذلك، فبقي من الستة أربعة.
    فقال سعد بن أبي وقاص: وأنا قد وهبت حقي من الشورى لابن عمي عبد الرحمن - وذلك لأنهما من بني زهرة، ولعلم سعد، أن الأمر لا يتم له - فلما لم يبق إلا الثلاثة. قال عبد الرحمن لعلي وعثمان: أيكما يخرج نفسه عن الخلافة، ويكون إليه الاختيار في الاثنين الباقيين؟ فلم يتكلم منهما أحد، فقال عبد الرحمن: أشهدكم أنني قد أخرجت نفسي من الخلافة على أن أختار أحدهما، فأمسكا. فبدأ بعلي عليه السلام، وقال له: أبايعك على كتاب الله، وسنة رسول الله، وسيرة الشيخين: أبي بكر وعمر. فقال: بل على كتاب الله وسنة رسوله واجتهاد رأيي. فعدل عنه إلى عثمان، فعرض ذلك عليه، فقال: نعم، فعاد إلى علي عليه السلام، فأعاد قوله؛ فعل ذلك عبد الرحمن ثلاثاً، فلما رأى أن علياً غير راجع عما قاله، وأن عثمان ينعم له بالإجابة، صفق على يد عثمان، وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فيقال: إن علياً عليه السلام قال له: والله ما فعلتها إلا لأنك رجوت منه ما رجا صاحبكما من صاحبه، دق الله بينكما عطر منشم".[16]
    هذه اللوحة التاريخية للأحداث ـ رغم الإقتباسات المطولة التي أراها ضرورية ـ تعتبر تجربة تاريخية ساهمت فيما بعد وبأثر رجعي في بلورة وصياغة نصوص فقهية تتمتع بأشكال من القدسية في مجتمعاتنا في الوقت الحاضر.
    وتستبعد هذه القراءة وجود نظرية خاصة بالخلافة في القرآن والسنة النبوية، أو الإعتماد على نظرية الشورى كأساس لأختيار الحاكم. وعلاوةً على ذلك لا نجد في النصوص الأصولية (القرآن والسنة) ما يشير بشكل صريح الى كون الشورى مبدءأً تشريعياً صريحاُ لاختيار الخليفة. كما أن نص الآية 28 من سورة الشورى {وأمرهم شورى بينهم} جاء في سياق الحديث عن سلوك المؤمنين وأخلاقيتهم، ويخلو من الدلالة على كونه نصاً خاصاً بنظام الحكم.
    لم يقم النبي بعملية توعية، أو الدعوة إلى نظام الشورى، كما لم يبين حدوده وتفاصيله ، ولم يعطه طابعا دينيا مقدسا. فقد تكون المجتمع الاسلامي الأول من مجموعة من العشائر ، لم تكن قد عاشت - قبل الاسلام - وضعا سياسيا على أساس الشورى، وإنما كانت تعيش، في الغالب، وضع زعامات قبلية وعشائرية تتحكم فيها القوة والثروة وعامل الوراثة إلى حد كبير.
    وبهذا الصدد كتب محمد باقر الصدر وهو من المراجع الشيعية المعاصرة في العراق قائلاً:
    "...نستطيع بسهولة أن ندرك أن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يمارس عملية التوعية على نظام الشورى، وتفاصيله التشريعية، ومفاهيمه الفكرية، لأن هذه العملية لو كانت قد أنجزت، لكان من الطبيعي أن تنعكس وتتجسد في الاحاديث المأثورة عن النبي (صلى الله عليه وآله)، وفي ذهنية الامة، أو على الاقل في ذهنية الجيل الطليعي منها ، الذي يضم المهاجرين والانصار بوصفه هو المكلف بتطبيق نظام الشورى مع أننا لانجد في الاحاديث عن النبي (صلى الله عليه وآله) أي صورة تشريعية محددة لنظام الشورى".[17]
    على الرغم من أن الأفكار والآراء المتعلقة بالسلطة ومشروعيتها، وكيفية تداولها، لم تكن متبلورة ومتجذرة حسب رأينا، بشكل تكوِّن نواتات لإتجاهات واضحة تؤسس مستقبلاً لنظرية الخلافة أو الإمامة، وإنما تداولت القضية في سياق القيم والتقاليد القبلية السائدة، إلاّ أن المرجع الشيعي العراقي المعاصر محمد باقر الصدر يرى في ذلك الصراع القبلي تأسيساً لإتجاهين رئيسيين في موضوع السلطة.
    وبهذا الصدد يذكر محمد باقر الصدر أن في ذهنية الأمة أو في " ذهنية الجيل الطليعي منها فلا نجد فيها أي ملامح أو انعكاسات محددة لتوعية من ذلك القبيل.. وهذا الجيل كان يحتوى على اتجاهين، أحدهما الاتجاه الذي يتزعمه أهل البيت، والآخر الاتجاه الذي تمثله السقيفة والخلافة التي قامت فعلا بعد وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله ). فأما الاتجاه الاول : فمن الواضح أنه كان يؤمن بالوصاية والامامة ، ويؤكد على القرابة، ولم ينعكس منه الايمان بفكرة الشورى. وأما الاتجاه الثاني : فكل الأرقام والشواهد في حياته وتطبيقه العملي تدل بصورة لا تقبل الشك على أنه لم يكن يؤمن بالشورى، ولم يبن ممارساته الفعلية على أساسها ، والشئ نفسه نجده في سائر قطاعات ذلك الجيل الذي عاصر وفاة الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) من المسلمين وتلاحظ بهذا الصدد للتأكد من ذلك ، أن أبا بكر - حينما اشتدت به العلة - عهد الى عمر بن الخطاب ، فأمر عثمان أن يكتب عهده ، وكتب " بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد به أبو بكر خليفة رسول الله ، الى المؤمنين والمسلمين : سلام عليكم فإني أحمد الله اليكم . أما بعد : فإني قد استعملت عليكم عمر بن الخطاب ، فاسمعوا وأطيعوا ". ودخل عبد الرحمن بن عوف فقال : كيف أصبحت يا خليفة رسول الله ؟ فقال : أصبحت موليا ، وقد زدتموني علي ما بي ، إذ رأيتموني استعملت رجلا منكم ، فكلكم قد أصبح ورما انفه ، وكل يطلبها لنفسه ".[18]
    يستنتج الصدر من وصية الخليفة الأول، أن الخليفة لم يكن يفكر بعقلية نظام الشورى. وكان يرى أن من حقه تعين من يستخلفه من هذا الاستخلاف، "وأن هذا التعيين يفرض على المسلمين الطاعة ، ولهذا أمرهم بالسمع والطاعة ، فليس هو مجرد ترشيح أو تنبيه ، بل هو إلزام ونصب . ونلاحظ أيضا أن عمر رأى هو الآخر، أيضا، أن من حقه فرض الخليفة على المسلمين، ففرضه في نطاق ستة أشخاص، و أوكل أمر التعيين إلى الستة أنفسهم دون أن يجعل لسائر المسلمين أي دور حقيقي في الانتخاب، وهذا يعني أيضاَ ، أن عقلية نظام الشورى لم تتمثل في طريقة الاستخلاف التي انتهجها عمر ، كما لم تتمثل ، من قبل ، في الطريقة التي سلكها الخليفة الاول . وقد قال عمر ـ حين طلب منه الناس الاستخلاف ـ : " لو أدركني احد رجلين فجعلت هذا الامر إليه لوثقت به : سالم مولى أبي حذيفة، وأبي عبيدة بن الجراح ، ولو كان سالم حيا ما جعلتها شورى".[19]
    لقد جاء مبدأ الشورى عاماً ومطلقاً وغير محدد لطريقة اختيار الإمام أو الخليفة أو طابع نظام الحكم. ولانجد حتى في كتابات الداعين لهذا المفهوم ما يشير الى كون الإسلام قد حقق طريقةً لتحقيق الشورى.
    خلال الفترة من خلافة الخليفة الأول وحتى مقتل الخليفة الثالث على يد منتفضين على حكمه، لا نجد في ذلك الدور الفقهي الى ما يشير الى جريمة البغي "الخروج عن طاعة الإمام الحق مغالبةً بتأويل". فالتوازنات القبلية السائدة استطاعت أن تخفف وطأة النزاعات الكامنة التي لم تصل الى استخدام القوة من قبل المتصارعين على الحكم. إلاّ أن الأمر سرعان ما انفجر مع أحداث ما يسمى "أحداث الفتنة".
    على أثر الإنقسام الجديد حول مفهوم الخلافة وأحقية كل طرف بذلك بدأت النواتات الأساسية لما سميّ مؤخراً بنظرية الخلافة في مذاهب السنة، ونظرية الإمامة في مذاهب الشيعة.
    وعلى حد قول الشهرستاني فإن " أعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة، إذ ما سُلَّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سلَّ على الإمامة في كل مكان".[20]
    وارتباطاً بالصراع المسلح على السلطة، الذي وجد كل طرف شرعيته في ايجاد الحجج الفقهية والشرعية لأحقيته بالسلطة، وتزامناً مع استخدام القوة في تلك الصراعات، تبلور مفهوم البغي وأركانه وبشكل تجاوز نص الآية من سورة الحجرات. ووجد الفقهاء في الأدوار الفقهية الأخرى فيما جرى من أحداث، خلال هذه الفترة، أساساً لبلورة وصياغة تصوراتهم وفهمهم للبغي وأركانه وللآثار المترتبة عليه. واستخدموا الى حد معين القياس الفقهي في الموقف من الآثار والحالات الجديدة، في ظل واقع جديد في البلدان الإسلامية، حيث صار الحديث فيها عن وجود فعلي لأكثر من خليفة في الأمصار الإسلامية، وسيطرة المنتفضين على سلطة الخلافة لسنوات عديدة. مما أدى الى آثار اقتصادية واجتماعية، ونتائج متباينة في فقه المعاملات، بين الناس الخاضعين لسلطة المناطق الخارجة عن سلطة الخلافة المركزية.
    إن مفهوم الإمام الحق مفهوم متغير حسب المذاهب الفقهية والعقائدية التي تطورت بعد احداث الفتنة الأولى. ولا بد من استعراض هذا المفهوم لدى المدارس الفقهية والاعتقادية الأساسية، لأن البغي يترتب أساساً على هذا الأمر. وفي هذا المجال نجد أن الفقهاء المسلمين، في القرون الاسلامية المختلفة، ميَّزوا بين عدة مصطلحات تتعلق بمفهوم شرعية السلطة أو الحكم، ومنها الخلافة أو الإمامة الكبرى، والامارة والسلطة والحكم.
    وعلى ضوء التجربة التاريخية الإسلامية، سمّي من يخلف الرّسول في إجراء الأحكام الشّرعيّة ورئاسة المسلمين في أمور الدّين والدّنيا خليفةً ، ويسمّى المنصب خلافةً وإمامةً .
    أمّا مصطلح الخلافة في الاصطلاح الشّرعيّ فإنه يرادف الإمامة ، وقد عرّفها ابن خلدونٍ بقوله : "هي حمل الكافّة على مقتضى النّظر الشّرعيّ ، في مصالحهم الأخرويّة ، والدّنيويّة الرّاجعة إليها" ، ثمّ فسّر هذا التّعريف بقوله : "فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشّرع في حراسة الدّين والدّنيا".[21]
    وتداول الفقهاء مصطلح الإمارة التي تعني لغةً: الولاية، والولاية إمّا أن تكون عامّةً، فهي الخلافة أو الإمامة العظمى، وإمّا أن تكون خاصّةً على ناحيةٍ كأن ينال أمر مصرٍ ونحوه، أو على عملٍ خاصٍّ من شئون الدّولة كإمارة الجيش وإمارة الصّدقات، وتطلق على منصبٍ أمير.[22]
    أما السّلطة فهي: السّيطرة والتّمكّن والقهر والتّحكّم، ومنه السّلطان. وهو من له ولاية التّحكّم والسّيطرة في الدّولة. فإن كانت سلطته قاصرةً على ناحيةٍ خاصّةٍ فليس بخليفةٍ ، وإن كانت عامّةً فهو الخليفة. وقد وجدت في العصور الإسلاميّة المختلفة خلافة بلا سلطةٍ ، كما وقع في أواخر العبّاسيّين، وسلطة بلا خلافةٍ كما كان الحال في عهد المماليك. أما الحكم فهو في اللّغة: القضاء، يقال: حكم له وعليه وحكم بينهما، فالحاكم هو القاضي في عرف اللّغة والشّرع. وقد تعارف النّاس في العصر الحاضر على إطلاقه على من يتولّى السّلطة العامّة.[23]
    يميز ابن خلدون في مقدمته بين المصطلحات الواردة أعلاه بشكل جلي، ويقول: " أن الملك الطبيعي هو حمل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة. والسياسي هو حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار. والخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع الى إعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به".[24]
    يتناول الدواني في كتابه (الفواكه) مصطلح الإمامة قائلاً بأن الإمامة "هي في اللغة مطلق التقدم. وأما في الشرع فتنقسم أربعة أقسام إمامة وحي أي حصلت بسبب الوحي وهي النبوة، وإمامة وراثة أي حصلت بسبب الإرث، لأن العلماء ورثة الأنبياء وهي العلم، وإمامة مصلحة وهي الخلافة العظمى ويقال لها الإمامة الكبرى. وإمامة عبادة وهي صفة حكيمة توجب لموصوفها كونه متبوعا لا تابعا. وكلها تحققت له صلى الله عليه وسلم".[25]
    اعتبر الفقهاء المسلمون ومنهم الماوردي صاحب (الأحكام السلطانية) الإمامة فرض كفاية "فإذا قام بها من هو من أهلها، سقط فرضها على الكفاية وإن لم يقم بها أحد خرج من الناس فريقان : أحدهما أهل الاختيار حتى يختاروا إماما للأمة . والثاني أهل الإمامة حتى ينتصب أحدهم للإمامة ، وليس على من عدا هذين الفريقين من الأمة في تأخير الإمامة حرج ولا مأثم ".[26]
    وتناول الماوردي الشروط الواجب توفرها في أهل الاختيار وهي على حد قوله ثلاثة. أحدها العدالة الجامعة لشروطها. والثاني : العلم الذي يتوصل به إلى معرفة من يستحق الإمامة على الشروط المعتبرة فيها . والثالث : الرأي والحكمة المؤديان إلى اختيار من هو للإمامة أصلح وبتدبير المصالح أقوم وأعرف ".[27]
    كما يورد الماوردي وهو من الشافعية الشروط اللازمة توفرها في من يتنافس على منصب الإمام قائلاّ: وَأَمَّا أَهْلُ الإِمَامَةِ فالشروط المعتبرة فيهم سبعة: أحدها: العدالة على شروطها الجامعة. والثاني: العلم المؤدي إلى الاجتهاد في النوازل والأحكام. والثالث سلامة الحواس من السمع والبصر واللسان ليصح معها مباشرة ما يدرك بها. والرابع : سلامة الأعضاء من نقص يمنع عن استيفاء الحركة وسرعة النهوض. والخامس: الرأي المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح. والسادس: الشجاعة والنجدة المؤدية إلى حماية البيضة وجهاد العدو. والسابع : النسب وهو أن يكون من قريش لورود النص فيه وانعقاد الإجماع عليه، ولا اعتبار بضرار حين شذ فجوزها في جميع الناس ، لأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه احتج يوم السقيفة على الأنصار في دفعهم عن الخلافة لما بايعوا سعد بن عبادة عليها بقول النبي صلى الله عليه وسلم { الأئمة من قريش } فأقلعوا عن التفرد بها ورجعوا عن المشاركة فيها حين قالوا منا أمير ومنكم أمير تسليما لروايته وتصديقا لخبره ورضوا بقوله : نحن الأمراء وأنتم الوزراء ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : { قدموا قريشا ولا تقدموها } . وليس مع هذا النص المسلم شبهة لمنازع فيه ولا قول لمخالف له ".[28]
    ولكن الشروط التي أوردها الماوردي لم تكن محل اتفاق جميع المذاهب الإسلامية، وخاصة الشروط المتعلقة بالعدالة ومفهومها والاجتهاد، والشرط المتعلق بالنسب القريشي.
    فقد ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ العدالة والاجتهاد شرطا صحّةٍ ، فلا يجوز تقليد الفاسق أو المقلّد إلاّ عند فقد العادل والمجتهد .
    وذهب الحنفيّة إلى أنّهما شرطا أولويّةٍ ، فيصحّ تقليد الفاسق والعامّيّ ، ولو عند وجود العدل والمجتهد.
    وحول السّمع والبصر وسلامة اليدين والرّجلين، ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّها شروط انعقادٍ ، فلا تصحّ إمامة الأعمى والأصمّ ومقطوع اليدين والرّجلين ابتداءً ، وينعزل إذا طرأت عليه ، لأنّه غير قادرٍ على القيام بمصالح المسلمين ، ويخرج بها عن أهليّة الإمامة إذا طرأت عليه.
    وذهب بعض الفقهاء إلى أنّه لا يشترط ذلك، فلا يضرّ الإمام عندهم أن يكون في خلقه عيب جسديّ أو مرض منفّر ، كالعمى والصّمم وقطع اليدين والرّجلين والجدع والجذام ، إذ لم يمنع ذلك قرآن ولا سنّة ولا إجماع .
    أما حول النّسب فيشترط عند جمهور الفقهاء أن يكون الإمام قرشيّاً لحديث:«الأئمّة من قريشٍ». وخالف في ذلك بعض العلماء منهم أبو بكرٍ الباقلانيّ ، واحتجّوا بقول عمر :" لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّاً لولّيته "، ولا يشترط أن يكون هاشميّاً ولا علويّاً باتّفاق فقهاء المذاهب الأربعة، لأنّ الثّلاثة الأول من الخلفاء الرّاشدين لم يكونوا من بني هاشمٍ، ولم يطعن أحد من الصّحابة في خلافتهم، فكان ذلك إجماعاً في عصر الصّحابة".[29]
    يربط ابن خلدون في مسألة كون الإمام قرشياً بنظريته المبنية على العصبية. ويرىأن بعض الفقهاء الذين أجازوا أن تكون الإمامة في قريش قد تعاملوا مع الأمر الواقع بعد تدهور سلطة الخلافة في أواخر الدولة العباسية.
    ومن هذا المنطلق يفسر ابن خلدون رأي القاضي أبو بكر الباقلاني المتوفي في بغداد سنة 403 هـ حول نفيه اشتراط القرشية لمنصب الخلافة. يقول ابن خلدون: أن الباقلاني "لما أدرك عليه عصبية قريش من التلاشي والإضمحلال واستبداد ملوك العجم على الخلفاء، فأسقط شرط القرشية، وإن كان موافقاً لرأي الخوارج، لما رأى عليه حال الخلفاء لعهده. وبقي الجمهور على القول باشتراطها وصحة الإمامة للقرشي، ولو كان عاجزاً عن القيام بأمور المسلمين. ورُدَّ عليهم سقوط شرط الكفاية التي يقوى بها على أمره، لأنه إذا ذهبت الشوكة بذهاب العصبية فقد ذهبت الكفاية، وإذا وقع الإخلال بشرط الكفاية تطرق ذلك أيضاً الى العلم والدين، وسقط إعتبار شروط هذا المنصب وهو خلاف الإجماع".[30]
    كما نجد مسألة التعامل مع الأمر الواقع واضحاً عند الماوردي وبحثه في "إمارة الاستيلاء"، والذي يعتبر شكلاً من أشكال إضفاء الشرعية على ما موجود في الواقع بعكس رغبة الخليفة، بل وتجاوزاً على صلاحياته.
    يقول الماوردي: " وأما إمارة الاستيلاء، التي تعقد عن اضطرار، فهي أن يستولي الأمير بالقوة على بلاد يقلده الخليفة أمارتها، ويفوض إليه تدبيرها وسياستها، فيكون الأمير باستيلائه مستبداً بالسياسة والتدبير، والخليفة بإذنه منفذاً لأحكام الدين، ليخرج من الفساد إلى الصحة ومن الحظر إلى الإباحة. وهذا وإن خرج عن عرف التقليد المطلق في شروطه وأحكامه فيه من حفظ القوانين الشرعية وحراسة الأحكام الدينية ما لا يجوز أن يترك مختلاً مدخولاً ولا فاسداً معلولاً، فجاز فيه مع الاستيلاء والاضطرار ما امتنع في تقليد الاستكفاء والاختيار لوقوع الفرق بين شروط المكنة والعجز".[31]
    وإذا كانت حادثة السقيفة تمثل تأسيس البنية أو اللبنة الأولى من مفهوم الخلافة (الإمامة الكبرى)، فإن معركة صفين بين الخليفة الراشدي علي بن أبي طالب ووالي الشام معاوية بن أبي سفيان، الذي أعلن نفسه هو الآخر خليفةً للمسلمين، تمثل أحداثاً ومواقف عديدة تعتبر أساساً وبنيةً للتأسيس الفقهي اللاحق إضافة الى الآراء التي طرحت أثناء الحادثة.
    فعلى أثر هذه الحادثة نشأ الخوارج وتطورت فرقهم بعد ذلك. وأعلن الخارجون الأوائل على علي بن أبي طالب، والذين سموا بـ "المُحَكَّمة الأولى" موقفهم من الإمامة. ويذكر الشهرستاني موقفهم بكونه بدعةً، قائلاً أنهم:
    "جوزوا أن تكون الإمامة في غير قريش، وكل من ينصبونه برأيهم وعاشر الناس على ما مثلوا له من العدل واجتناب الجور كان إماماً، ومن خرج عليه يجب نصب القتال معه، وإن غيّر السيرة وعدل عن الحق، وجب عزله أو قتله. وهم أشد الناس قولاً بالقياس، وجوزوا أن لا يكون في العالم إمام أصلاّ، وإن أحتيج إليه فيجوز أن يكون عبداّ أو حراً أو نبطياً أو قرشياً."[32]
    وتأتي تسميتهم بالمُحَكَّمة بعد رفضهم لنتائج التحكيم بين أبي موسى الأشعري ممثل علي بن أبي طالب، وبين عمرو بن العاص ممثل معاوية. و قالت هذه الفرقة قولتها الشهيرة لعلي بن أبي طالب بعد رفضهم التحكيم:"لم حكمت الرجال، لا حكم إلاّ لله".
    ويرد ابن كثير والطبري أصل هذه التسمية كالتالي:
    "إن عليّاَ بينما هو يخطب يوماً إذ قام إليه رجل من الخوارج فقال: يا علي أشركت في دين الله الرجال ولا حكم إلاّ لله، فتنادوا من كل جانب لا حكم إلاّ لله، لا حكم إلاّ لله. فقال علي: الله أكبر، كلمة حق يراد بها باطل أما أن لكم عندنا ثلاثاً ما صحبتمونا، لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه، ولانمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تبدأونا، ثم رجع إلى مكانه الذي كان فيه خطبته".[33]
    ولم يقف بعض فرق الخوارج عند هذا الحد، فقد تناولت إحدى هذه الفرق وهي (النجدات) نسبة الى نجدة بن عامر الحنفي، مسألة وجوب الإمام بحاجة الناس إليه. ويذكر الشهرستاني في هذا المجال موقف النجدات قائلاّ: " وأجمعت النجدات على أنه لا حاجة للناس إلى إمام قط، وإنما عليهم أن يتناصفوا فيما بينهم، فإن رأوا أن ذلك لا يتم إلا بإمام بحملهم عليه فأقاموه جاز".[34]
    ويشير ابن خلدون الى أن بعض المعتزلة وبعض الخوارج دعوا الى عدم وجوب هذا المنصب بسبب سياسات الحكام المسلمين التعسفية، مشيرا الى أرضية ظهور هذا الرأي في مقدمته فائلاً:
    " والذي حملهم على هذا المذهب إنما هو الفرار عن الملك ومذاهبه من الاستطالة والتغلب والاستمتاع بالدنيا، لما رأوا الشريعة ممتلئةً بذم ذلك، والنعي على أهله، ومرغِّبَةَ في رفضه".[35]
    وفي رأينا إن الأمر عند المعتزلة لا ينحصر في مجرد ردود فعل على تصرفات الحكام، بل ينحو منحىً فكرياً وفلسفياً، ارتباطاً بتطور علم الكلام، وبالاقتران بآرائهم الفلسفية الأخرى ونظرتهم لمفهوم السلطة.
    يوجز الماوردي في (الأحكام السلطانية) التجربة التاريخية الإسلامية لفترة أكثر من قرنين وما شهدته من حوادث جرى القياس عليها في مجال كيفية انعقاد الإمامة. وما يذكره الماوردي يمثل استنتاجات نابعة من تجربة الخلفاء الراشدين والدولة الأموية وفترةً من الدولة العباسية. وبهذا الصدد يقول:
    " والإمامة تنعقد من جهتين: أحداهما باختيار أهل العقد والحل. والثاني بعهد الإمام من قبل: فآما انعقادها باختيار أهل الحل والعقد، فقد اختلف العلماء في عدد من تنعقد به الإمامة منهم على مذاهب شتى، فقالت طائفة لا تنعقد إلا بجمهور أهل العقد والحل من كل بلد ليكون الرضاء به عاماً والتسليم لإمامته إجماعاً، وهذا مذهب مدفوع ببيعة أبي بكر رضي الله عنه على الخلافة باختيار من حضرها ولم ينتظر ببيعته قدوم غائب عنها. وقالت طائفة أخرى: أقل من تنعقد به منهم الإمامة خمسة يجتمعون على عقدها أو يعقدها أحدهم برضا الأربعة استلالا بأمرين: أحدهما أن بيعة أبي بكر رضي الله عنه انعقدت بخمسة اجتمعوا عليها ثم تابعهم الناس فيها، وهم: عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح وأسيد بن حضير وبشر بن سعد وسالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنهم. والثاني أن عمر رضي الله عنه جعل الشورى في ستة ليعقد لأحدهم برضا الخمسة، وهذا قول أكثر الفقهاء والمتكلمين من أهل البصرة. وقال آخرون من علماء الكوفة تنعقد بثلاثة يتولاها أحدهم برضا الاثنين ليكونوا حاكما وشاهدين، كما يصح عقد النكاح بولي وشاهدين. وقالت طائفة أخرى: تنعقد بواحد، لأن العباس قال لعلي رضوان الله عليه أمدد يدك أبايعك فيقول الناس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم بايع ابن عمه فلا يختلف عليك اثنان، ولأنه حكم وحكم واحد نافذ".[36]
    أدخلت تجربة الدولة الأموية طريقة أخرى لنقل السلطة، وهي طريقة ولاية العهد لابن الخليفة المتوفي. وهذه الطريقة في نقل السلطة ليست بعيدة عن الخلفية الثقافية العربية والنزعة القبلية السائدة أو حتى سيطرة عائلة معينة من القبيلة على كرسي السلطة في الدولة. وانتبه الفقهاء الى هذا الواقع الجديد، فظهر التأسيس الفقهي على اساس الأمر الواقع لإمكانية أو مشروعية نقل السلطة بهذه الطريقة، إضافةً الى طريقة أهل الحل والعقد التي مورست بشكل معين ومحدود في تجربة الخلفاء الراشدين في الحكم. ولم يقتصر تأثير ولاية العهد على الفقهاء الذين أعتبروها طريقة مشروعة خطّها معاوية بن أبي سفيان لأول مرة عندما عين إبنه يزيد وليّا للعهد، بل أثرت الفكرة على نظرية الإمامة الشيعية (الجعفرية الإثنى عشرية) المبنية أيضاً على أساس تحديد الإمام عن طريق التوارث العمودي لأبناء الحسين بن علي الذي ثار على يزيد، ونُكِّل به وبأفراد عائلته وصحبه بوحشية.
    وحول ولاية العهد كأسلوب لإنتقال السلطة يشير الفقيه المالكي الدسوقي إلى:
    أن " الإمامة العظمى تثبت بأحد أمور ثلاثة: إما بإيصاء الخليفة الأول لمتأهل لها، وإما بالتغلب على الناس، لأن من اشتدت وطأته بالتغلب وجبت طاعته، ولا يراعى في هذا شروط الإمامة إذ المدار على درء المفاسد وارتكاب أخف الضررين، وأما بيعة أهل الحل والعقد. وهم من اجتمع فيهم ثلاثة أمور: العلم بشروط الإمام والعدالة والرأي. وشروط الإمام الحرية والعدالة والفطانة وكونه قريشيا وكونه نجدة وكفاية في المعضلات".[37]
    أجمل الفقهاء المسلمون من المذاهب السنية بشكل عام في عهود متأخرة، خلاصة تجربة الخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين في مسألة نقل السلطة. وقد تأثروا بالأمر الواقع الذي طرحته الحياة ، لذا إعتبروا التغلب والقهر طريقةً لنقل السلطة. علماً أن المتغلب والمنتصر، في حالة إفتراض فشله، لا يمكن إلاّ أن يعتبر باغياً من قبل السلطة الإسلامية التي لم يستطع إزاحتها. وهذا ما يجعل مفهوم البغي وإستحقاقاته مناطاً بنتائج الصراعات على السلطة، فليس من قوة باستطاعتها محاسبة الباغي المنتصر والمتغلب على الحاكم العادل، وما على عامة المسلمين إلاّ تقبُّل الأمر الواقع بحجة "درء المفسدة، ووقوع الضرر" في حالة الخروج على المتغلب.
    وخلاصة الأمر في تجربة نقل السلطة يشير الفقهاء المسلمون إلى شرعية تثبيت الإمامة بأربعة طرق:
    1 ـ باختيار أهل الحل والعقد من العلماء والفقهاء وأرباب الحل والعقد. وذلك اعتماداً على ما جرى عند بيعة أبي بكر في السقيفة.
    2 ـ اختيار الإمام السابق لمن يليه، اعتماداً على سنة أبي بكر في إختياره عمر بن الخطاب. وتطور الأمر إلى اختيار الخليفة ابنه كما هو الأمر في مسألة ولاية معاوية لابنه يزيد. وقد سار الخلفاء الأمويون والعباسيون على هذه السنة.
    3 ـ أن يجعل الإمام السابق الأمر شورى في جماعة معينة يختارون الإمام الجديد من بينهم (طريقة اختيار الخليفة الراشدي الثالث عثمان بن عفان).
    4 ـ بالتغلب والقهر عن طريق إستخدام القوة والتغلب على الإمام السابق مهما كانت مشروعيته.
    يشير عبد القادر عودة في مؤلفه "التشريع الجنائي الإسلامي، مقارناً بالقانون الوضعي" إلى هذه الحالة قائلاً:
    " يظهر المتغلب على الناس ويقهرهم حتى يذعنوا له ويدعونه إماماً، فتثبت إمامته وتجب طاعته على الرعية. ومثل ذلك ما حدث من عبد الملك بن مروان حين خرج على ابن الزبير فقتله، واستولى على البلاد وأهلها، حتى بايعوه طوعاً وكرهاً ودعوه إماماً. وإذا ثبتت الإمامة بإحدى هذه الطرق كان الخروج على الإمام بغياً. أما إذا لم تكن الإمامة ثابتة بإحدى هذه الطرق فلا يعتبر الخارج باغياً ولا الخروج بغياً".[38]
    أن الطريقة الرابعة هي الطريقة التي وصل بها معظم حكام الدول العربية الإسلامية إلى السلطة، وهي بالتالي طريقة تضفي المشروعية الفقهية على الإنقلابات العسكرية التي حصلت في معظم الدول العربية الإسلامية في القرن الميلادي الماضي، دون إرادة عامة المسلمين ومواطني تلك الدول. ولا تزال آثار هذه الطريقة وتفاعلاتها السلبية شاخصة أمام أنظار عامة المسلمين.
    إن التجربة التاريخية الإسلامية تطرح لنا واقعاً مفاده أن مسألة أختيار السلطة كانت خاضعةً لمعيار مصلحة النخبة المسيطرة تحت عنوان مصلحة الجماعة. ومصلحة الجماعة في هذا المضمار ليس مفهوماً مجرداً، بل كان خاضعاً لإعتبارات سياسية واجتماعية وتوازنات قبلية. وبتطور وتوسع الدولة الإسلامية والتصادم الحاصل نتيجة الصراعات، التي لم تعد بنية الجزيرة العربية قادرة على استيعابها أو التوافق بشأنها، أصبح معيار القوة أساساً لنظرية الحكم. ونجد إشارة الفقهاء الى هذا المفهوم في القرن الرابع الهجري، ولكن بصياغات تحمل معها الأثر الرجعي.
    إذا نظرنا الى الصراع المحتدم حول قضية الخلافة بمختلف جوانبها وأطرافها، نرى أن هذا الصراع تمحور أساساً في نطاق مفهوم الحق الديني كشكل خارجي للصراع المحكوم أساساً بقيم المجتمع العربي السائدة في الجزيرة العربية والمحكومة بالتوافقات بين المكونات الإجتماعية القبلية بعد تشكيل نواتات الدولة والإتفاق على جعل الأمر في قريش من جهة، ويين أحقية هذا الجزء أو هذا القسم من قريش على أساس القرابة الوراثية من النبي من جهة أخرى. وأصبحت مهمة كل طرف في الصراع تطويع النص الديني لكي يتلاءم مع متطلبات الأحقية الشرعية بالسلطة.
    وفي ظل أجواء هذه الصراعات نشأت اللبنات الأساسية لنظرية الإمامة الشيعية، عبر نشوء محور جديد للصراع يرتبط بتحديد المفهوم الإسلامي للخلافة واعتبارها حقاً إلهياً محضاً، على أساس اعتبار الخليفة إماماً للمسلمين ويكون اختياره بواسطة الوحي المنزل على النبي، وبالتالي يصبح واجباً على النبي تبليغ المسلمين باختياره. وعلى المسلمين الخضوع لهذا الاختيار كجزء من الإيمان بالعقيدة الإسلامية.
    ولم تأت هذه الصياغات الفكرية والنظرية بعد وفاة النبي مباشرةَ، بل أن هذه المفاهيم بدأت بالتبلور والتطور الجنيني ابتداءً من وفاة النبي، واتخذت أشكالها المتعددة ارتباطاً بالمتغيرات في أوضاع المجتمع العربي الإسلامي، والصراع على السلطة، الذي اتخذ طابعاً دموياً منذ مقتل الخليفة الثالث، وتفاقمت بعد التخلي عن أشكال الشورى والتوافقات، لمصلحة ولاية العهد، والحكم الوراثي، بعد نشوء الدولة الأموية، وتولي يزيد بن معاوية منصب الخلافة، وسحق الحسين بن علي عام 61 هـ.
    وعليه يمكن القول أن نظرية الإمامة الشيعية شهدت تطورات وتغيرات، لا بسبب صراعها مع نظرية الخلافة، وفكرة الشورى وتنوعاتها، أو فكرة ولاية العهد فحسب، بل أن هذه النظرية شهدت تغيرات بسبب الصراعات الداخلية، حول مشروعية تمثيل الشيعة، والأحقية بالإمامة ضمن هذا البيت.
    ونجد هذه الحقيقة بعد وفاة الأمام الرابع الناجي من مذبحة كربلاء عام 61 هـ، علي بن الحسين الملقب بزين العابدين، حيث افترقت الشيعة على ثلاث فرق: الأمامية اتباع الأمام محمد الباقر بن زين العابدين، والزيدية أتباع زيد بن علي بن زين العابدين، والكيسانية وهم أتباع محمد بن الحنفية، وهو ابن علي بن أبي طالب مباشرة ونسب الى أمه الحنفية.
    ومن جانب آخر أثرت بوادر تشكيل علم الكلام، وتعدد مدارسه على النظرية الشيعية في الإمامة، إرتباطاً بمسألة مسؤولية الفعل الإنساني وعلاقته بالفعل الإلهي.
    تستند نظرية الإمامة الشيعية على عدة أركان وهي: عصمة الإمام، وضرورة النص عليه من الله كطريق لمعرفته. ثم بحصر الإمامة في علي بن أبي طالب والحسن والحسين وذرية الحسين. وهكذا جرى تحديد مفهوم أهل البيت ضمن هذا النطاق فقط.
    يشير المؤرخ الإمامي سعد بن عبدالله القمي الأشعري في كتابه (المقالات والفرق) الى أن : "علي بن أبي طالب إمام ومفروض الطاعة من الله ورسوله بعد رسول الله (ص) .... وانه استحق الإمامة ومقام النبي، لعصمته وطهارة مولده وسبقه وعلمه وشجاعته وجهاده وسخائه وزهده وعدالته في رعيته. وان النبي (ص) نص عليه وأشار اليه باسمه ونسبه وعينه، وقلد الأمة إمامته، وأقامه ونصبه لهم علماً، وعقد عليهم أمرة المؤمنين، وجعله وصيه وخليفته ووزيره في مواطن كثيرة، وأعلمهم ان منزلته منه منزلة هارون من موسى، الا انه لا نبي بعده واذ جعله نظير نفسه في حياته، وإنه أولى بهم بعده...".[39]
    استندت نظرية الإمامة على النص الديني المقدس لأثبات أحقية علي بالخلافة واعتمدت على حديث النبي في غدير خم، الذي يدعو فيه النبي الى موالاة علي. وحدث الجدال بعد قرن من الحديث حول المعنى الجلي والمعنى الخفي لنص الحديث.
    تروي كتب الشيعة والسنة (حديث الغدير) أو (حديث الموالاة) بصيغ متعددة، مع المحافظة على مضمونه. ومضمون الحديث أن النبي بعد عودته من حجته الأخيرة، وقف في مكان من الطريق يدعى غدير خم، وكان معه جمع من الصحابة، فقام فيهم خطيباً، وقال في جملة ما قال:" ألست أولى منكم بأنفسكم؟" فأجابوا: اللهم نعم. وحينئذ أخذ بيد علي. ثم قال: "اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه. اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه. وانصر من نصره، واخذل من خذله". فقام الصحابة يهنئون علياً، وبينهم عمر بن الخطاب. وقال له عمر:" بخ بخ لك يا علي، فقد أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة".[40]
    وقد حدث الاختلاف بين الطرفين في فهم معنى المولى الذي فسره الشيعة بمعنى الولاية أي الحكم والسلطان، أو الإمامة. وهذا ما ورد على سبيل المثال في قول الشيخ المفيد في كتاب (الإفصاح في إمامة علي بن أبي طالب)، أن "الرسول أعطى للإمام علي في غدير خم حقيقة الولاية وكشف به عن ممثلته له في فرض الطاعة، والأمر لهم والنهي والتدبير والسياسة والرياسة".[41]
    إلاّ أن السيد المرتضى في كتابه (الشافي في الإمامة) يقول: "أن أهم حديث نبوي حول النص بالإمامة وهو حديث غدير خم، هو نص خفي وليس بنص جلي، إذا حذفنا منه الزيادات المضافة".[42]
    في حين يفسر أهل السنة معنى الولاء بمعنى الحب والمودة. وبهذا المعنى يفقد الحديث دلالته في النص على الإمامة.
    يذكر ابن أبي الحديد خلاف الشيعة في قضية الأحقية بالإمامة داخل البيت الشيعي إرتباطاً بمسألة النسب.
    ويذكر في ( شرح نهج البلاغة ):
    "قد اختلف الناس في اشتراط النسب في الإمامة، فقال قوم من قدماء أصحابنا: إن النسب ليس بشرط فيها أصلاً، وإنها تصلح في القرشي وغير القرشي إذا كان فاضلاً مستجمعاً للشرائط المعتبرة، واجتمعت الكلمة عليه، وهو قول الخوارج. وقال أكثرأصحابنا وأكثر الناس: إن النسب شرط فيها، وإنها لا تصلح إلا في العرب خاصة، ومن العرب إلا قريش خاصة. وقال أكثرأصحابنا: معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم:
    "الأئمة من قريش" إن القرشية لشرط إذا وجد في قريش من يصلح للإمامة، فإن لم يكن فيها من يصلح، فليست القرشية شرطاً فيها.
    وقال بعض أصحابنا: معنى الخبرأنه لا تخلو قريش أبداً ممن يصلح للإمامة، فأوجبوا بهذا الخبر وجود من يصلح من قريش لها في كل عصر وزمان".[43]
    وإذا كان الأمر في البداية ينصب في التأكيد على أحقية قريش بالخلافة، وبعده أحقية بني هاشم من قريش بهذه المهمة، أصبح تداول الأمر في أحفية هذا البطن أو ذاك من بني هاشم بتلك السلطة.
    فعلى سبيل المثال، قال معظم الزيدية: "إنها في الفاطميين خاصة من الطالبيين، لا تصلح في غير البطنين، ولا تصح إلا بشرط أن يقوم بها ويدعو اليها فاضل زاهد عالم عادل شجاع سائس. وبعض الزيدية يجيز الإمامة في غير الفاطميين من ولد علي رضي الله عنه، وهو من أقوالهم الشاذة.
    وأما الراوندية فإنهم خصصوها بالعباس رحمه الله وولده من بين بطون قريش كلها. وهذا القول هو الذي ظهر في أيام المنصور والمهدي. وأما الإمامية فإنهم جعلوها ساريةً في ولد الحسين رضي الله عنه في أشخاص مخصوصين، ولا تصلح عندهم لغيرهم.
    وجعلها الكيسانية في محمد بن الحنفية وولده، ومنهم من نقلها منه الى ولد غيره".[44]
    وفي رأينا أن الإشكالية الأساسية في مجال مشروعية السلطة في مختلف المذاهب الإسلامية شيعية كانت أو سنية، مغاليةَ كانت أو معتدلة، تكمن في وجود التناقض بين الممارسة الفعلية الناجمة عن التجربة التاريخية الإسلامية، المتأثرة بالتوازنات السياسية والاجتماعية السائدة، والنتائج العملية لتلك الصراعات من جهة، وبين نظرية المعرفة الإسلامية المبنية على الإيمان الديني والعودة الى المصدر الإلهي، والبحث عن مشروعية السلطة ضمن هذه النظرية. وفي المحصلة النهائية جرت المحاولات ضمن هذا النطاق من أجل تكييف النص الديني أو التفسير الفقهي مع النتائج العملية للصراعات على السلطة من قبل المنتصرين، أو لضرورات السعي من أجل الحصول على السلطة من قبل المعارضين. وهذا ما جعل مشروعية السلطة ومفهوم الإمام الحق موضع تساؤل طوال التاريخ الإسلامي.
                  

02-08-2006, 09:30 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: التوظيف السياسي للفكر الديني (Re: Sabri Elshareef)

    اسم الكتاب/ التوظيف السياسي للفكر الديني
    المؤلف/ هادي محمود
    الناشر/ طريق الشعب
    مطبعة دار الرواد المزدهرة ـ بغداد

    (*) تفسير وبيان مع أسباب النزول للسيوطي ـ إعداد د. محمد حسن الحمصي.
    (*) تفسير وبيان مع أسباب النزول للسيوطي ـ إعداد د. محمد حسن الحمصي، ص337.
    (**) الواحدي النيسابوري ـ أسباب النزول، ص177.
    [1] ابن قدامة المُغني ج 8 ص 364
    [2] ابن تيمية الفتاوى ج15 ص 174
    [3] ابن رشد بداية المجتهد ونهاية المقتصد ج1 ص 313
    [4] الطبري تاريخ الطبري ج2 ص 233
    [5] الطبري تاريخ الطبري ج 2 ص 233
    [6] الطبري تاريخ الطبري ج2 ص 234
    [7] المصدر السابق نفس الصفحة
    [8] المصدر السابق ج 2 ص 235
    [9] المصدر السايق نفس الصفحة.
    [10] المصدر نفسه ج 6 ص 528
    [11] المصدر السابق نفس الصفحة
    [12] المصدر السابق نفس الصفحة
    [13] ابن أبي الحديد شرح نهج البلاغة ج6 ص 527،528
    [14] المصدر السابق ج6 ص 528
    [15] جلال الدين عبد الرحمن السيوطي تاريخ الخلفاء ص 82
    [16] ابن ابي الحديد شرح نهج البلاغة ج6 ص 48
    [17] محمد باقر الصدر نشأة الشيعة والتشيع ص 35
    [18] المصدر السابق نفس الصفحة
    [19] محمد باقر الصدر نشأة التشيع والشيعة ص 36، يذكر السيوطي في تاريخ الخلفاء حديث أبي بكر عن ثقته ب سالم وأبي عبيدة ص 136
    [20] الشهرستاني الملل والنحل ج1 ص 13
    [21] عبد الرحمن بن محمد ابن خلدون مقدمة ابن خلدون ص 178 تحقيق درويش الجويدي
    [22] الموسوعة الفقهية ج6 ص 190
    [23] المصدر السابق نفس الصفحة
    [24] عبد الرحمن بن محمد ابن خلدون مقدمة ابن خلدون ص 178 تحقيق درويش الجويدي
    [25] النفراوي الفواكه الدواني ج1 ص252
    [26] الماوردي الأحكام السلطانية ص 16
    [27] المصدر السابق نفس الصفحة
    [28] المصدر السايق نفس الصفحة
    [29] الموسوعة الفقهية الكويتية ج8 ص 192
    [30] عبد الرحمن بن محمد ابن خلدون مقدمة ابن خلدون تحقيق درويش الجويدي ص 183
    [31] الماوردي الأحكام السلطانية والولايات الدينية ص 56
    [32] الشهرستاني الملل والنحل ج1 ص 108
    [33] ابن كثير البداية والنهاية ص181 ج7 ، الطبري تاريخ الطبري ص 41 ج6
    [34] الشهرستاني الملل والنحل ج1 ص 119
    [35] عبد الرحمن بن محمد ابن خلدون مقدمة ابن خلدون ص 183 تحقيق درويش الجويدي
    [36] الماوردي الأحكام السلطانية والولايات الدينية ص 16
    [37] الدسوقي حاشية الدسوقي ج4 ص 298 تحقيق محمد عليش
    [38] عبد القادر عودة التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي ج2 ص677
    [39] الأشعري المقالات والفرق ص 17
    [40] الشيخ المفيد المسائل الجارودية ص 6
    [41] الشيخ المفيد المسائل الجارودية ص 6
    [42] السيد المرتضى الشافي في الإمامة ج2 ص128
    [43] ابن أبي الحديد شرح نهج البلاغة ج6 ص 240
    [44] ابن أبي الحديد شرح نهج البلاغة ج6 ص 94
                  

02-08-2006, 09:50 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: التوظيف السياسي للفكر الديني (Re: Sabri Elshareef)

    يستند دعاة التطرف الديني ضمن بعض القوى والتنظيمات السياسية الإسلامية إلى بعض النصوص والآيات التي تدعو إلى استخدام العنف والقوة ضد الخصوم، وهم يبنون فهمهم على إحلال هذه الآيات الواردة في سورة التوبة محل آيات الجدل والدعوة إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، في حين يعتبر دعاة التسامح الإسلامي، أن هذه الآيات استثناء وليست القاعدة.
    تقول آية الجزية (الآية 29 من سورة التوبة):
    [قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله وباليوم الآخر ولا يُحرّمون ما حرَّم الله ورسولُه ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون].
    وتقول آية السيف (الآية 5 من سورة التوبة):
    [فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم].
                  

02-08-2006, 10:41 PM

Elmoiz Abunura
<aElmoiz Abunura
تاريخ التسجيل: 04-30-2005
مجموع المشاركات: 6008

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: التوظيف السياسي للفكر الديني (Re: Sabri Elshareef)

    My young brother Sabri

    I run short of words to express my gratitude for addressing this important issue
    Regards and keep on touch
    Abu Ghassan

    (عدل بواسطة Elmoiz Abunura on 02-08-2006, 11:06 PM)

                  

02-08-2006, 10:59 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: التوظيف السياسي للفكر الديني (Re: Sabri Elshareef)

    تشكر يا ابو غسان جاييكم زيارة قريب في مقرك الجديد سلام لكل من معك
                  

05-05-2006, 04:51 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: التوظيف السياسي للفكر الديني (Re: Sabri Elshareef)

    up up
                  

05-05-2006, 04:53 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: التوظيف السياسي للفكر الديني (Re: Sabri Elshareef)

    لقد انبثقت مشكلة الخلافة في المجتمع الإسلامي بوفاة الرسول الذي لم يترك للمسلمين نظرية للحكم. ومن هنا انقسم الصحابة الى فريقين: فريق المهاجرين أي المكيين، وفريق الأنصار أي أهل المدينة. وصار كل فريق يريد أن يكون له أمر الخلافة بعد النبي. وبموازاة هذا الإنقسام لم يكن فريق الأنصار متحدين في موقفهم، بسبب آثار العلاقة السابقة للإسلام بين الأوس والخزرج. كما ان المهاجرين كانوا منقسمين بين بني هاشم الذي ينتمي اليهم النبي، وصهره وابن عمه علي بن أبي طالب من جانب، وبني عبد شمس وتيم وأمية وغيرهم، الذين ينتمي اليهم سائر المهاجرين ومنهم أبو بكر وعمر بن الخطاب من جانب آخر.


    ( 1 )
                  

05-05-2006, 04:55 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: التوظيف السياسي للفكر الديني (Re: Sabri Elshareef)

    بدأ الصراع على الخلافة في سقيفة بني ساعدة، دون تأسيسات فقهية وقبل نشوء المذاهب الفقهية أو الاعتقادية، أو مذاهب علم الكلام أساساً. وكانت الدوافع السياسية والاجتماعية في الصراع على هذا المنصب غير مخفية. كما لم تحسم من خلال التسويغات الدينية، على الرغم من ورودها في بعض حجج المتصارعين على السلطة. واتخذ الصراع شكله الديني وقالبه الفقهي بعد مرور سنين عديدة، وبعد تطور الدولة الإسلامية، التي أصبحت امبراطورية مترامية الأطراف. وذلك لأن الفكر الديني أصبح بمثابة الوعاء الذي استوعب وجسُّد الصراعات الكامنة في المجتمع.
    تحدث كل من الطبري، وابن أبي الحديد كل حسب رأيه عن أحداث السقيفة. ومن خلال نقل كل واحد منهما لتلك الأحداث، نستبعد الطابع الديني للخلافات والآراء المطروحة في السقيفة، حول الأحقية بالخلافة. ولسرد تلك الحادثة برواية الطرفين (الطبري، وابن أبي الحديد) أهمية كبيرة، بسبب اختلاف ميول الطرفين من الناحية السياسية. وهذا يعكس الجانب السياسي الدنيوي في مسألة الصراع على الخلافة.
    وقد نقل الطبري هذا الصراع الجنيني على الخلافة في سقيفة بني ساعدة، كالتالي:
    " اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة ليبايعوا سعد بن عبادة، فبلغ ذلك أبا بكر فأتاهم ومعه عمر وأبو عبيدة بن الجراح، فقال ما هذا فقالوا منا أمير ومنكم أمير، فقال أبو بكر منا الأمراء ومنكم الوزراء. ثم قال أبو بكر إني قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين عمر أو أبا عبيدة. إن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه قوم فقالوا أمينا، فقال لأبعثن معكم أمينا حق أمين فبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح. وأنا أرضى لكم أبا عبيدة، فقام عمر فقال أيكم تطيب نفسه أن يخلف قدمين قدمهما النبي صلى الله عليه وسلم، فبايعه عمر وبايعه الناس، فقالت الأنصار أو بعض الأنصار لا نبايع إلا عليا".[4]


    ( 2 )
                  

05-05-2006, 04:57 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: التوظيف السياسي للفكر الديني (Re: Sabri Elshareef)

    أما حول الخلاف بين بني هاشم وبين غيرهم من قريش فيذكر الطبري ""حدثنا ابن حميد قال حدثنا جرير عن مغيرة عن زياد بن كليب قال أتى عمر بيت علي وفيه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين فقال والله لأحرقن عليكم أو لتخرجن إلى البيعة فخرج عليه الزبير مصلتاً السيف، فعثر، فسقط السيف من يده، فوثبوا عليه، فأخذوه"[5]
    ويذكر الطبري حديث عمر بن الخطاب أثناء توليه الخلافة بعد وفاة أبي بكر حول ما جرى قبل ذهابه الى السفيقة كالتالي:
    " إنه بلغني أن قائلا منكم يقول لو قد مات أمير المؤمنين بايعت فلانا. فلا يغرن امرءاً أن يقول: إن بيعة أبي بكر كانت فلتة. فقد كانت كذلك، غير أن الله وقى شرها. وليس منكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر! وإنه كان من خبرنا حين توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن عليا والزبير ومن معهما تخلفوا عنا في بيت فاطمة. وتخلفت عنا الأنصار بأسرها، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر، فقلت لأبي بكر انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار. فانطلقنا نؤمهم، فلقينا رجلان صالحان قد شهدا بدرا. فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ فقلنا نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار. قالا: فارجعوا فاقضوا أمركم بينكم، فقلنا والله لنأتينهم".[6]
    وفي السقيفة بدأت النقاشات والسجالات بين الأنصار وزعيمهم سعد بن عبادة من جهة ، وبين المهاجرين الذين تحدث عنهم أبو بكر الصديق، وعاونه في ذلك عمر بن الخطاب.
    يذكر الطبري نقلاً عن خطبة عمر بن الخطاب تلك النقاشات الحامية، حيث قال "فأتيناهم ( ويقصد هو وأبو بكر)، وهم مجتمعون (أي الأنصار) في سقيفة بني ساعدة. قال وإذا بين أظهرهم رجل مزمل. قال قلت من هذا قالوا سعد بن عبادة فقلت ما شأنه قالوا: وجع. فقام رجل منهم فحمد الله وقال: أما بعد فنحن الأنصار وكتيبة الإسلام. وأنتم يا معشر قريش رهط رآه وقد دفت إلينا من قومكم دافة".[7]
    بيّن عمر بن الخطاب في خطبته، كما ينقلها لنا الطبري، التنسيق وتبادل الأدوار بينه وبين أبي بكر الصديق، في مواجهة الطلب الذي أبداه الأنصار وزعيمهم سعد بن عبادة. ويذكر في هذا الصدد دور السجايا والسمات الشخصية لأبي بكر الصديق وكونه أكثر حلماً منه.
    وبهذا الصدد يذكر الطبري نقلاً عن خطبة عمر بن الخطاب أثناء خلافته ما فعلوه لمواجهة مطالب الأنصار. قال ( والحديث لعمر بن الخطاب): فلما رأيتهم يريدون أن يختزلونا من أصلنا، ويغصبونا الأمر. وقد كنت زورت في نفسي مقالة أقدمها بين يدي أبي بكر. وقد كنت أداري منه بعض الحد. وكان هو أوقر مني وأحلم. فلما أردت أن أتكلم قال فكرهت أن أعصيه. فقام فحمد الله وأثنى عليه فما ترك شيئا كنت زورت في نفسي أن أتكلم به لو تكلمت إلا قد جاء به أو بأحسن منه. وقال أما بعد يا معشر الأنصار فإنكم لا تذكرون منكم فضلا إلا وأنتم له أهل. وإن العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش. وهم أوسط العرب دارا ونسبا. ولكن قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، فبايعوا أيهما شئتم، فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح. وإني والله ما كرهت من كلامه هذه الكلمة إن كنت لأقدم فتضرب عنقي فيما لا يقربني إلى إثم أحب إلي من أن أؤمر على قوم فيهم أبو بكر. فلما قضى أبو بكر كلامه، قام منهم رجل، فقال: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب. منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش. قال فارتفعت الأصوات، وكثر اللغط. فلما أشفقت الاختلاف، قلت لأبي بكر ابسط يدك أبايعك، فبسط يده، فبايعته، وبايعه المهاجرون، وبايعه الأنصار .... قال قائلهم قتلتم سعد بن عبادة فقلت قتل الله سعدا وإنا والله ما وجدنا أمرا هو أقوى من مبايعة أبي بكر. خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة، فإما أن نتابعهم على ما نرضى أو نخالفهم فيكون فساد".[8]
    ويذكر ابن أبي الحديد حادثة السقيفة في شرح (نهج البلاغة)، ويتحدث عن طبيعة الصراع بين الأنصار والمهاجرين على منصب الخلافة وكيفية حسمه، وتأثير الخلافات القديمة بين الأوس والخزرج على تخلي الخزرج عن سعد بن عبادة واصطفافهم الى جانب المهاجرين. كما أن هناك إشارة الى المخاطر المترافقة بعملية إختيار أبي بكر وإحتمال حدوث الفتنة، بشكل واضح في النص الوارد في شرح نهج البلاغة.
    وحول استعدادات الأنصار وتحركاتهم بعد وفاة النبي، ورد في شرح (نهج البلاغة): ان المهاجرين والأنصار "ترادوا الكلام بينهم، فقالوا: إن أبت مهاجرة قريش فقالوا: نحن المهاجرون، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأولون؛ ونحن عشيرته وأولياؤه، فعلام تنازعوننا هذا الأمر من بعده! فقالت طائفة منهم: إذاً نقول: منا أمير ومنكم أمير، لن نرضى بدون هذا منهم أبداً، لنا في الإيواء والنصرة ما لهم في الهجرة، ولنا في كتاب الله ما لهم، فليسوا يعدون شيئاً إلا ونعد مثله، وليس من رأينا الاستئثار عليهم، فمنا أمير ومنهم أمير؛ فقال سعد بن عبادة: هذا أول الوهن!".[9]
    أكد أبو بكر في حديثه في السقيفة على كون المهاجرين يمثلون عشيرة الرسول، وأول الملبين لدعوته. كما تحدث عن دور قريش في أوساط العرب وتأثيره على القبائل الأخرى. ويخلو حديث الصديق من الإستشهاد بأية آية قرآنية أو حديث نبوي لتثبيت وبرهان أحقية فريش بالخلافة. علماً أنه لم يتحدث عن أحقيته، بل أحقية قبيلته.


    ( 3 )
                  

05-05-2006, 04:59 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: التوظيف السياسي للفكر الديني (Re: Sabri Elshareef)

    ونستطيع ان نثبت هذا الإستنتاج من خلال رواية ابن أبي الحديد في (شرح نهج البلاغة)، وهي رواية لا تختلف عمّا أورده الطبري في تاريخه.يقول ابن أبي الحديد أن أبا بكر قال: "إن الله جل ثناؤه بعث محمداً بالهدى ودين الحق، فدعا إلى الإسلام، فأخذ الله بقلوبنا ونواصينا إلى ما دعانا إليه، وكنا - معاشر المسلمين المهاجرين- أول الناس إسلاماً، والناس لنا في ذلك تبع. ونحن عشيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأوسط العرب أنساباً، ليس من قبائل العرب إلا ولقريش فيها ولادة. وأنتم أنصار الله، وأنتم نصرتم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أنتم وزراء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإخواننا في كتاب الله وشركاؤنا في الدين. وفيما كنا فيه من خير، فأنتم أحب الناس إلينا، وأكرمهم علينا، وأحق الناس بالرضا بقضاء الله، والتسليم لما ساق الله إلى إخوانكم من المهاجرين، وأحق الناس ألا تحسدوهم، فأنتم المؤثرون على أنفسهم حين الخصاصة، وأحق الناس ألا يكون انتقاص هذا الدين واختلاطه على أيديكم، وأنا أدعوكم إلى أبي عبيدة وعمر؛ فكلاهما قد رضيت لهذا الأمر، وكلاهما أراه له أهلاً".[10]
    لم يكن أبو بكر وحده في دعوته لكي تكون الخلافة في قريش. وكان يعلم أن أبا عبيدة الجراح وعمر بن الخطاب يؤيدانه في هذا المسعى. ويمثل كل منهما مركزاً من مراكز القوى في العوائل والأفخاذ التي تتكون منها قريش. وقد أثرت دعوته في تليين موقف بعض الأنصار واستعدادهم للتوافق وتقاسم السلطة. وفي هذه اللحظة من الصراعات برز دور عمر وأبي عبيدة، ليكملا ما بدأه أبو بكر الصديق. وهذا ما نلمسه في حديثهما، المذكور عند الطبري وعند ابن أبي الحديد.
    قال عمر وأبو عبيدة: "ما ينبغي لأحد من الناس أن يكون فوقك، أنت صاحب الغار، ثاني اثنين، وأمرك رسول الله بالصلاة، فأنت أحق الناس بهذا الأمر.


    ( 4 )
                  

05-05-2006, 05:00 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: التوظيف السياسي للفكر الديني (Re: Sabri Elshareef)

    وتكررت الدعوات بالتقاسم في السلطة بين المهاجرين والأنصار. ووصل النزاع الى حد حصول احتمال التصادم بين المهاجرين والأنصار، غير أن المهاجرين كانوا قد حسموا أمرهم في أن تكون الخلافة لهم. وضمن السجال الدائر والدعوة الى تقاسم السلطة، "قام الحباب بن المنذر بن الجموح، فقال: يا معشر الأنصار؛ املكوا عليكم أيديكم، إنما الناس في فيّكم وظلكم، ولن يجترئ مجترئ على خلافكم، ولا يصدر الناس إلا عن أمركم، أنتم أهل الإيواء والنصرة، وإليكم كانت الهجرة، وأنتم أصحاب الدار والإيمان؛ والله ما عُبِّدَ الله علانية إلا عندكم وفي بلادكم، ولا جُمعت الصلاة إلا في مساجدكم، ولا عُرف الإيمان إلا من أسيافكم، فاملكوا عليكم أمركم، فإن أبى هؤلاء فمنا أمير ومنهم أمير".[11]
    غير أن هذا المقترح المطروح للتوافق عبر التشارك بين الطرفين في السلطة، لم يكن مقبولاً من جانب المهاجرين. ولذا نجد عمر بن الخطاب يقول: "هيهات! لا يجتمع سيفان في غمد. إن العرب لا ترضى أن تؤمركم ونبيها من غيركم. وليس تمتنع العرب أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم، وأولو الأمر منهم. لنا بذلك الحجة الظاهرة على من خالفنا، والسلطان المبين على من نازعنا، من ذا يخاصمنا في سلطان محمد وميراثه، ونحن أولياؤه وعشيرته، إلا مدل بباطل، أو متجانف لإثم، أو متورط في هلكة! فقام الحباب، وقال: يا معشر الأنصار، لا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه، فيذهبوا بنصيبكم من الأمر، فإن أبوا عليكم ما أعطيتموهم فأجلوهم عن بلادكم، وتولوا هذا الأمر عليهم، فأنتم أولى الناس بهذا الأمر، إنه دان لهذا الأمر بأسيافكم من لم يكن يدين له. أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب، إن شئتم لنعيدنها جذعة، والله لا يرد أحد علي ما أقول إلا حطمت أنفه بالسيف".[12]


    ( 5 )
                  

05-05-2006, 05:03 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: التوظيف السياسي للفكر الديني (Re: Sabri Elshareef)

    غير أن معسكر الأنصار لم يكن موحدأ. فآثار الصراعات الدائرة بين الأوس والخزرج، لم تزل باقية في نفوس البعض منهم. وكان للأوس وزعيمهم سعد بن عبادة فقط الفرصة لتولي السلطة في حالة حسم النزاع والنقاش لصالح الأنصار. ولم يكن هذا الأمر يروق للخزرج.
    يشير العديد من المؤرخين الى هذه الحالة، والى موقف بشير بن سعد الخزرجي، قائلين: "لما رأى بشير بن سعد الخزرجي ما اجتمعت عليه الأنصار من تأمير سعد بن عبادة ـ وكان حاسداً له، وكان من سادة الخزرج ـ قام فقال: أيها الأنصار، إنا وإن كنا ذوي سابقة، فإنا لم نرد بجهادنا وإسلامنا إلا رضا ربنا وطاعة نبينا، ولا ينبغي لنا أن نستطيل بذلك على الناس، ولا نبتغي به عوضاً من الدنيا، إن محمداً صلى الله عليه وسلم رجل من قريش؛ وقومه أحق بميراث أمره، وايم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر؛ فاتقوا الله ولا تنازعوهم ولا تخالفوهم.
    فقام أبو بكر، وقال: هذا عمر وأبو عبيدة، بايعوا أيهما شئتم؛ فقالا: والله لا نتولى هذا الأمر عليك؛ وأنت أفضل المهاجرين، وثاني اثنين، وخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصلاة؛ والصلاة أفضل الدين. أبسط يدك نبايعك. فلما بسط يده، وذهبا يبايعانه، سبقهما بشير بن سعد، فبايعه، فناداه الحباب بن المنذر: يا بشير، عقك عقاق؛ والله ما اضطرك إلى هذا الأمر إلا الحسد لابن عمك.
    ولما رأت الأوس أن رئيساً من رؤساء الخزرج قد بايع، قام أسيد بن حضير- وهو رئيس الأوس- فبايع حسداً لسعد أيضاً، ومنافسة له أن يلي الأمر، فبايعت الأوس كلها لما بايع أسيد، وحمل سعد بن عبادة وهو مريض، فأدخل إلى منزله، فامتنع من البيعة في ذلك اليوم وفيما بعده، وأراد عمر أن يكرهه عليها، فأشير عليه ألا يفعل، وأنه لا يبايع حتى يقتل، وأنه لا يقتل حتى يقتل أهله، ولا يقتل أهله حتى يقتل الخزرج؛ وإن حوربت الخزرج كانت الأوس معها". [13]

    ( 6 )
                  

05-05-2006, 05:05 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: التوظيف السياسي للفكر الديني (Re: Sabri Elshareef)

    أما الجانب الآخر من الصراع في معسكر المهاجرين فيتجلى في الخلاف بين بني هاشم الذي ينتمي اليهم النبي، وصهره وابن عمه علي بن أبي طالب من جانب، وبني عبد شمس وتيم وأمية وغيرهم، الذين ينتمي اليهم سائر المهاجرين ومنهم أبو بكر وعمر بن الخطاب من جانب آخر.
    ينقل لنا ابن أبي الحديد في ( شرح نهج البلاغة ) هذا الجانب من الصراع بعد اجتماع بني هاشم إلى بيت علي بن أبي طالب، ومعهم الزبير، وكان يعد نفسه رجلاً من بني هاشم. واجتماع بني أمية إلى عثمان بن عفان، واجتماع بني زهرة إلى سعد وعبد الرحمن، ودعوة عمر بن الخطاب، وأبي عبيدة بن الجراح للطرفين الأخيرين لمبايعة أبي بكر، بعد حسم الصراع الأولي في السقيفة لصالح أبي بكر الصديق. فقام عثمان ومن معه، وقام سعد وعبد الرحمن ومن معهما، فبايعوا أبا بكر.


    ( 7)
                  

05-05-2006, 05:08 PM

الجيلى أحمد
<aالجيلى أحمد
تاريخ التسجيل: 03-27-2006
مجموع المشاركات: 3236

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: التوظيف السياسي للفكر الديني (Re: Sabri Elshareef)

    سلامات وتحايا

    Sabri Elshareef

    شكرآ على هذه الإنارة,
    لك التحية لفتح نوافذ الوعى فى عتمة الهوس
    والتطرف القمئ..

    دم بخير
                  

05-05-2006, 05:08 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: التوظيف السياسي للفكر الديني (Re: Sabri Elshareef)

    وفي هذا الصدد يقول ابن أبي الحديد : "ذهب عمر ومعه عصابة إلى بيت فاطمة، منهم أسيد بن حضير وسلمة بن أسلم؛ فقال لهم: انطلقوا فبايعوا، فأبوا عليه؛ وخرج إليهم الزبير بسيفه، فقال عمر: عليكم الكلب، فوثب عليه سلمة بن أسلم، فأخذ السيف من يده فضرب به الجدار، ثم انطلقوا به وبعلي ومعهما بنو هاشم، وعلي يقول: أنا عبد الله وأخو رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حتى انتهوا له إلى أبي بكر، فقيل له: بايع، فقال: أنا أحق بهذا الأمر منكم، لا أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي، أخذتم هذا الأمر من الأنصار، واحتججتم عليهم بالقرابة من رسول الله، فأعطوكم المقادة، وسلموا إليكم الإمارة، وأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار. فأنصفونا إن كنتم تخافون الله من أنفسكم، واعرفوا لنا من الأمر مثل ما عرفت الأنصار لكم، وإلا فبوءوا بالظلم وأنتم تعلمون".[14]
    غير أن عمر بن الخطاب الذي قاد الدعوة لمبايعة أبي بكر، وكسب المعركة في السقيفة، وأحرز عليه موافقة بني أمية وبني زهرة، فضلاً على كونه من بني تيم، كان يريد فرض الأمر على بني هاشم أيضاً. ولهذا كان يلح حسب ما يشير اليه المؤرخون على علي بالبيعة لأبي بكر.
    وقد جرى اختيار الخليفة الثاني عن طريق الوصية، بعد تشاور أبي بكر الصديق مع بعض الصحابة، فرادى، ومنهم عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وسعيد بن زيد وأسيد بن حضير، حسب روايات واردة في كتب السيرة وتاريخ الخلفاء. وبالتالي نجد أن الخليفة الأول قد أوصى بالخلافة الى عمر بن الخطاب حسب وجهة نظره واجتهاده، دون ان يشير الى نص ديني وآية قرآنية لتثبيت موقفه في صحة تلك الوصية، واستحقاق الخليفة الثاني للمنصب من منظور ديني. وهذا منا نجده في وصيته التالية:
    " بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجاً منها، وعند أول عهده بالآخرة داخلاً فيها، حيث يؤمن الكافر، ويوقن الفاجر، ويصدق الكاذب، إني استخلفت عليكم بعدي عمر بن الخطاب، فاسمعوا له وأطيعوا، وإني لم آلُ الله ورسوله ودينه ونفسي وإياكم خيراً، فإن عَدَلَ فذلك ظني به وعلمي فيه، وإن بَدًل فلكل امرئ ما اكتسب، والخير أردت، ولا أعلم بالغيب..".[15]
    كما جرى اختيار عثمان بن عفان عن طريق لجنة شكلها عمر بن الخطاب وراعى فيها الاعتبارات القبلية. وجرى اختيار الخليفة الرابع بعد الأحداث التي نجمت عن قتل الخليفة الثالث.
    يذكر ابن أبي الحديد دور وتأثير الإعتبارات القبلية في إختيار الخليفة الثالث، ويبدو أن ما يطرحه أمر منطقي إرتباطاً بواقع الجزيرة العربية والتركيبة الإجتماعية السائدة فيها. ويمكن القول وحسب الرواية أدناه بأن العامل القبلي كان حاسماً في حسم تلك القضية.


    ( 8 )
                  

05-05-2006, 05:10 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: التوظيف السياسي للفكر الديني (Re: Sabri Elshareef)

    لما دفن عمر، جمعهم أبو طلحة، ووقف على باب البيت بالسيف في خمسين من الأنصار، حاملي سيوفهم، ثم تكلم القوم وتنازعوا، فأول ما عمل طلحة أنه أشهدهم على نفسه أنه قد وهب حقه من الشورى لعثمان. وذلك لعلمه أن الناس لا يعدلون به علياً وعثمان، وأن الخلافة لا تخلص له وهذان موجودان، فأراد تقوية أمر عثمان وإضعاف جانب علي عليه السلام، بهبة أمر لا انتفاع له به، ولا تمكن له منه.
    فقال الزبير في معارضته: وأنا أشهدكم على نفسي أني قد وهبت حقي من الشورى لعلي، وإنما فعل ذلك لأنه لما رأى علياً قد ضعف وانخذل بهبة طلحة حقه لعثمان، ودخلت حمية النسب، لأنه ابن عمة أمير المؤمنين عليه السلام، وهي صفية بنت عبد المطلب، وأبو طالب خاله. وإنما مال طلحة إلى عثمان لانحرافه عن علي عليه السلام، باعتبار أنه تيمي، وابن عم أبي بكر الصديق، وقد كان حصل في نفوس بني هاشم من تيم حنق شديد لأجل الخلافة، وكذلك صار في صدور تيم على بني هاشم، وهذا أمر مركون في طبيعة البشر، وخصوصاً طينة العرب وطباعها، والتجربة إلى الآن تحقق ذلك، فبقي من الستة أربعة.
    فقال سعد بن أبي وقاص: وأنا قد وهبت حقي من الشورى لابن عمي عبد الرحمن - وذلك لأنهما من بني زهرة، ولعلم سعد، أن الأمر لا يتم له - فلما لم يبق إلا الثلاثة. قال عبد الرحمن لعلي وعثمان: أيكما يخرج نفسه عن الخلافة، ويكون إليه الاختيار في الاثنين الباقيين؟ فلم يتكلم منهما أحد، فقال عبد الرحمن: أشهدكم أنني قد أخرجت نفسي من الخلافة على أن أختار أحدهما، فأمسكا. فبدأ بعلي عليه السلام، وقال له: أبايعك على كتاب الله، وسنة رسول الله، وسيرة الشيخين: أبي بكر وعمر. فقال: بل على كتاب الله وسنة رسوله واجتهاد رأيي. فعدل عنه إلى عثمان، فعرض ذلك عليه، فقال: نعم، فعاد إلى علي عليه السلام، فأعاد قوله؛ فعل ذلك عبد الرحمن ثلاثاً، فلما رأى أن علياً غير راجع عما قاله، وأن عثمان ينعم له بالإجابة، صفق على يد عثمان، وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فيقال: إن علياً عليه السلام قال له: والله ما فعلتها إلا لأنك رجوت منه ما رجا صاحبكما من صاحبه، دق الله بينكما عطر منشم".[16]


    ( 9 )
                  

05-05-2006, 05:12 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: التوظيف السياسي للفكر الديني (Re: Sabri Elshareef)

    هذه اللوحة التاريخية للأحداث ـ رغم الإقتباسات المطولة التي أراها ضرورية ـ تعتبر تجربة تاريخية ساهمت فيما بعد وبأثر رجعي في بلورة وصياغة نصوص فقهية تتمتع بأشكال من القدسية في مجتمعاتنا في الوقت الحاضر.
    وتستبعد هذه القراءة وجود نظرية خاصة بالخلافة في القرآن والسنة النبوية، أو الإعتماد على نظرية الشورى كأساس لأختيار الحاكم. وعلاوةً على ذلك لا نجد في النصوص الأصولية (القرآن والسنة) ما يشير بشكل صريح الى كون الشورى مبدءأً تشريعياً صريحاُ لاختيار الخليفة. كما أن نص الآية 28 من سورة الشورى {وأمرهم شورى بينهم} جاء في سياق الحديث عن سلوك المؤمنين وأخلاقيتهم، ويخلو من الدلالة على كونه نصاً خاصاً بنظام الحكم.
    لم يقم النبي بعملية توعية، أو الدعوة إلى نظام الشورى، كما لم يبين حدوده وتفاصيله ، ولم يعطه طابعا دينيا مقدسا. فقد تكون المجتمع الاسلامي الأول من مجموعة من العشائر ، لم تكن قد عاشت - قبل الاسلام - وضعا سياسيا على أساس الشورى، وإنما كانت تعيش، في الغالب، وضع زعامات قبلية وعشائرية تتحكم فيها القوة والثروة وعامل الوراثة إلى حد كبير.



    ( 10 )
                  

05-05-2006, 05:15 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: التوظيف السياسي للفكر الديني (Re: Sabri Elshareef)

    وبهذا الصدد كتب محمد باقر الصدر وهو من المراجع الشيعية المعاصرة في العراق قائلاً:
    "...نستطيع بسهولة أن ندرك أن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يمارس عملية التوعية على نظام الشورى، وتفاصيله التشريعية، ومفاهيمه الفكرية، لأن هذه العملية لو كانت قد أنجزت، لكان من الطبيعي أن تنعكس وتتجسد في الاحاديث المأثورة عن النبي (صلى الله عليه وآله)، وفي ذهنية الامة، أو على الاقل في ذهنية الجيل الطليعي منها ، الذي يضم المهاجرين والانصار بوصفه هو المكلف بتطبيق نظام الشورى مع أننا لانجد في الاحاديث عن النبي (صلى الله عليه وآله) أي صورة تشريعية محددة لنظام الشورى".[17]
    على الرغم من أن الأفكار والآراء المتعلقة بالسلطة ومشروعيتها، وكيفية تداولها، لم تكن متبلورة ومتجذرة حسب رأينا، بشكل تكوِّن نواتات لإتجاهات واضحة تؤسس مستقبلاً لنظرية الخلافة أو الإمامة، وإنما تداولت القضية في سياق القيم والتقاليد القبلية السائدة، إلاّ أن المرجع الشيعي العراقي المعاصر محمد باقر الصدر يرى في ذلك الصراع القبلي تأسيساً لإتجاهين رئيسيين في موضوع السلطة.
    وبهذا الصدد يذكر محمد باقر الصدر أن في ذهنية الأمة أو في " ذهنية الجيل الطليعي منها فلا نجد فيها أي ملامح أو انعكاسات محددة لتوعية من ذلك القبيل.. وهذا الجيل كان يحتوى على اتجاهين، أحدهما الاتجاه الذي يتزعمه أهل البيت، والآخر الاتجاه الذي تمثله السقيفة والخلافة التي قامت فعلا بعد وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله ). فأما الاتجاه الاول : فمن الواضح أنه كان يؤمن بالوصاية والامامة ، ويؤكد على القرابة، ولم ينعكس منه الايمان بفكرة الشورى. وأما الاتجاه الثاني : فكل الأرقام والشواهد في حياته وتطبيقه العملي تدل بصورة لا تقبل الشك على أنه لم يكن يؤمن بالشورى، ولم يبن ممارساته الفعلية على أساسها ، والشئ نفسه نجده في سائر قطاعات ذلك الجيل الذي عاصر وفاة الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) من المسلمين وتلاحظ بهذا الصدد للتأكد من ذلك ، أن أبا بكر - حينما اشتدت به العلة - عهد الى عمر بن الخطاب ، فأمر عثمان أن يكتب عهده ، وكتب " بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد به أبو بكر خليفة رسول الله ، الى المؤمنين والمسلمين : سلام عليكم فإني أحمد الله اليكم . أما بعد : فإني قد استعملت عليكم عمر بن الخطاب ، فاسمعوا وأطيعوا ". ودخل عبد الرحمن بن عوف فقال : كيف أصبحت يا خليفة رسول الله ؟ فقال : أصبحت موليا ، وقد زدتموني علي ما بي ، إذ رأيتموني استعملت رجلا منكم ، فكلكم قد أصبح ورما انفه ، وكل يطلبها لنفسه ".[18]
    يستنتج الصدر من وصية الخليفة الأول، أن الخليفة لم يكن يفكر بعقلية نظام الشورى. وكان يرى أن من حقه تعين من يستخلفه من هذا الاستخلاف، "وأن هذا التعيين يفرض على المسلمين الطاعة ، ولهذا أمرهم بالسمع والطاعة ، فليس هو مجرد ترشيح أو تنبيه ، بل هو إلزام ونصب . ونلاحظ أيضا أن عمر رأى هو الآخر، أيضا، أن من حقه فرض الخليفة على المسلمين، ففرضه في نطاق ستة أشخاص، و أوكل أمر التعيين إلى الستة أنفسهم دون أن يجعل لسائر المسلمين أي دور حقيقي في الانتخاب، وهذا يعني أيضاَ ، أن عقلية نظام الشورى لم تتمثل في طريقة الاستخلاف التي انتهجها عمر ، كما لم تتمثل ، من قبل ، في الطريقة التي سلكها الخليفة الاول . وقد قال عمر ـ حين طلب منه الناس الاستخلاف ـ : " لو أدركني احد رجلين فجعلت هذا الامر إليه لوثقت به : سالم مولى أبي حذيفة، وأبي عبيدة بن الجراح ، ولو كان سالم حيا ما جعلتها شورى".[19]
    لقد جاء مبدأ الشورى عاماً ومطلقاً وغير محدد لطريقة اختيار الإمام أو الخليفة أو طابع نظام الحكم. ولانجد حتى في كتابات الداعين لهذا المفهوم ما يشير الى كون الإسلام قد حقق طريقةً لتحقيق الشورى.



    ( 11 )
                  

05-05-2006, 05:17 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: التوظيف السياسي للفكر الديني (Re: Sabri Elshareef)

    خلال الفترة من خلافة الخليفة الأول وحتى مقتل الخليفة الثالث على يد منتفضين على حكمه، لا نجد في ذلك الدور الفقهي الى ما يشير الى جريمة البغي "الخروج عن طاعة الإمام الحق مغالبةً بتأويل". فالتوازنات القبلية السائدة استطاعت أن تخفف وطأة النزاعات الكامنة التي لم تصل الى استخدام القوة من قبل المتصارعين على الحكم. إلاّ أن الأمر سرعان ما انفجر مع أحداث ما يسمى "أحداث الفتنة".
    على أثر الإنقسام الجديد حول مفهوم الخلافة وأحقية كل طرف بذلك بدأت النواتات الأساسية لما سميّ مؤخراً بنظرية الخلافة في مذاهب السنة، ونظرية الإمامة في مذاهب الشيعة.
    وعلى حد قول الشهرستاني فإن " أعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة، إذ ما سُلَّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سلَّ على الإمامة في كل مكان".[20]
    وارتباطاً بالصراع المسلح على السلطة، الذي وجد كل طرف شرعيته في ايجاد الحجج الفقهية والشرعية لأحقيته بالسلطة، وتزامناً مع استخدام القوة في تلك الصراعات، تبلور مفهوم البغي وأركانه وبشكل تجاوز نص الآية من سورة الحجرات. ووجد الفقهاء في الأدوار الفقهية الأخرى فيما جرى من أحداث، خلال هذه الفترة، أساساً لبلورة وصياغة تصوراتهم وفهمهم للبغي وأركانه وللآثار المترتبة عليه. واستخدموا الى حد معين القياس الفقهي في الموقف من الآثار والحالات الجديدة، في ظل واقع جديد في البلدان الإسلامية، حيث صار الحديث فيها عن وجود فعلي لأكثر من خليفة في الأمصار الإسلامية، وسيطرة المنتفضين على سلطة الخلافة لسنوات عديدة. مما أدى الى آثار اقتصادية واجتماعية، ونتائج متباينة في فقه المعاملات، بين الناس الخاضعين لسلطة المناطق الخارجة عن سلطة الخلافة المركزية.
    إن مفهوم الإمام الحق مفهوم متغير حسب المذاهب الفقهية والعقائدية التي تطورت بعد احداث الفتنة الأولى. ولا بد من استعراض هذا المفهوم لدى المدارس الفقهية والاعتقادية الأساسية، لأن البغي يترتب أساساً على هذا الأمر. وفي هذا المجال نجد أن الفقهاء المسلمين، في القرون الاسلامية المختلفة، ميَّزوا بين عدة مصطلحات تتعلق بمفهوم شرعية السلطة أو الحكم، ومنها الخلافة أو الإمامة الكبرى، والامارة والسلطة والحكم.
    وعلى ضوء التجربة التاريخية الإسلامية، سمّي من يخلف الرّسول في إجراء الأحكام الشّرعيّة ورئاسة المسلمين في أمور الدّين والدّنيا خليفةً ، ويسمّى المنصب خلافةً وإمامةً .



    ( 12 )
                  

05-05-2006, 05:18 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: التوظيف السياسي للفكر الديني (Re: Sabri Elshareef)

    أمّا مصطلح الخلافة في الاصطلاح الشّرعيّ فإنه يرادف الإمامة ، وقد عرّفها ابن خلدونٍ بقوله : "هي حمل الكافّة على مقتضى النّظر الشّرعيّ ، في مصالحهم الأخرويّة ، والدّنيويّة الرّاجعة إليها" ، ثمّ فسّر هذا التّعريف بقوله : "فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشّرع في حراسة الدّين والدّنيا".[21]
    وتداول الفقهاء مصطلح الإمارة التي تعني لغةً: الولاية، والولاية إمّا أن تكون عامّةً، فهي الخلافة أو الإمامة العظمى، وإمّا أن تكون خاصّةً على ناحيةٍ كأن ينال أمر مصرٍ ونحوه، أو على عملٍ خاصٍّ من شئون الدّولة كإمارة الجيش وإمارة الصّدقات، وتطلق على منصبٍ أمير.[22]
    أما السّلطة فهي: السّيطرة والتّمكّن والقهر والتّحكّم، ومنه السّلطان. وهو من له ولاية التّحكّم والسّيطرة في الدّولة. فإن كانت سلطته قاصرةً على ناحيةٍ خاصّةٍ فليس بخليفةٍ ، وإن كانت عامّةً فهو الخليفة. وقد وجدت في العصور الإسلاميّة المختلفة خلافة بلا سلطةٍ ، كما وقع في أواخر العبّاسيّين، وسلطة بلا خلافةٍ كما كان الحال في عهد المماليك. أما الحكم فهو في اللّغة: القضاء، يقال: حكم له وعليه وحكم بينهما، فالحاكم هو القاضي في عرف اللّغة والشّرع. وقد تعارف النّاس في العصر الحاضر على إطلاقه على من يتولّى السّلطة العامّة.[23]
    يميز ابن خلدون في مقدمته بين المصطلحات الواردة أعلاه بشكل جلي، ويقول: " أن الملك الطبيعي هو حمل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة. والسياسي هو حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار. والخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع الى إعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به".[24]


    ( 13 )
                  

05-05-2006, 05:23 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: التوظيف السياسي للفكر الديني (Re: Sabri Elshareef)

    يتناول الدواني في كتابه (الفواكه) مصطلح الإمامة قائلاً بأن الإمامة "هي في اللغة مطلق التقدم. وأما في الشرع فتنقسم أربعة أقسام إمامة وحي أي حصلت بسبب الوحي وهي النبوة، وإمامة وراثة أي حصلت بسبب الإرث، لأن العلماء ورثة الأنبياء وهي العلم، وإمامة مصلحة وهي الخلافة العظمى ويقال لها الإمامة الكبرى. وإمامة عبادة وهي صفة حكيمة توجب لموصوفها كونه متبوعا لا تابعا. وكلها تحققت له صلى الله عليه وسلم".[25]
    اعتبر الفقهاء المسلمون ومنهم الماوردي صاحب (الأحكام السلطانية) الإمامة فرض كفاية "فإذا قام بها من هو من أهلها، سقط فرضها على الكفاية وإن لم يقم بها أحد خرج من الناس فريقان : أحدهما أهل الاختيار حتى يختاروا إماما للأمة . والثاني أهل الإمامة حتى ينتصب أحدهم للإمامة ، وليس على من عدا هذين الفريقين من الأمة في تأخير الإمامة حرج ولا مأثم ".[26]
    وتناول الماوردي الشروط الواجب توفرها في أهل الاختيار وهي على حد قوله ثلاثة. أحدها العدالة الجامعة لشروطها. والثاني : العلم الذي يتوصل به إلى معرفة من يستحق الإمامة على الشروط المعتبرة فيها . والثالث : الرأي والحكمة المؤديان إلى اختيار من هو للإمامة أصلح وبتدبير المصالح أقوم وأعرف ".[27]
    كما يورد الماوردي وهو من الشافعية الشروط اللازمة توفرها في من يتنافس على منصب الإمام قائلاّ: وَأَمَّا أَهْلُ الإِمَامَةِ فالشروط المعتبرة فيهم سبعة: أحدها: العدالة على شروطها الجامعة. والثاني: العلم المؤدي إلى الاجتهاد في النوازل والأحكام. والثالث سلامة الحواس من السمع والبصر واللسان ليصح معها مباشرة ما يدرك بها. والرابع : سلامة الأعضاء من نقص يمنع عن استيفاء الحركة وسرعة النهوض. والخامس: الرأي المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح. والسادس: الشجاعة والنجدة المؤدية إلى حماية البيضة وجهاد العدو. والسابع : النسب وهو أن يكون من قريش لورود النص فيه وانعقاد الإجماع عليه، ولا اعتبار بضرار حين شذ فجوزها في جميع الناس ، لأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه احتج يوم السقيفة على الأنصار في دفعهم عن الخلافة لما بايعوا سعد بن عبادة عليها بقول النبي صلى الله عليه وسلم { الأئمة من قريش } فأقلعوا عن التفرد بها ورجعوا عن المشاركة فيها حين قالوا منا أمير ومنكم أمير تسليما لروايته وتصديقا لخبره ورضوا بقوله : نحن الأمراء وأنتم الوزراء ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : { قدموا قريشا ولا تقدموها } . وليس مع هذا النص المسلم شبهة لمنازع فيه ولا قول لمخالف له ".[28]
    ولكن الشروط التي أوردها الماوردي لم تكن محل اتفاق جميع المذاهب الإسلامية، وخاصة الشروط المتعلقة بالعدالة ومفهومها والاجتهاد، والشرط المتعلق بالنسب القريشي.


    ( 14 )
                  

05-05-2006, 05:24 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: التوظيف السياسي للفكر الديني (Re: Sabri Elshareef)

    فقد ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ العدالة والاجتهاد شرطا صحّةٍ ، فلا يجوز تقليد الفاسق أو المقلّد إلاّ عند فقد العادل والمجتهد .
    وذهب الحنفيّة إلى أنّهما شرطا أولويّةٍ ، فيصحّ تقليد الفاسق والعامّيّ ، ولو عند وجود العدل والمجتهد.
    وحول السّمع والبصر وسلامة اليدين والرّجلين، ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّها شروط انعقادٍ ، فلا تصحّ إمامة الأعمى والأصمّ ومقطوع اليدين والرّجلين ابتداءً ، وينعزل إذا طرأت عليه ، لأنّه غير قادرٍ على القيام بمصالح المسلمين ، ويخرج بها عن أهليّة الإمامة إذا طرأت عليه.
    وذهب بعض الفقهاء إلى أنّه لا يشترط ذلك، فلا يضرّ الإمام عندهم أن يكون في خلقه عيب جسديّ أو مرض منفّر ، كالعمى والصّمم وقطع اليدين والرّجلين والجدع والجذام ، إذ لم يمنع ذلك قرآن ولا سنّة ولا إجماع .
    أما حول النّسب فيشترط عند جمهور الفقهاء أن يكون الإمام قرشيّاً لحديث:«الأئمّة من قريشٍ». وخالف في ذلك بعض العلماء منهم أبو بكرٍ الباقلانيّ ، واحتجّوا بقول عمر :" لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّاً لولّيته "، ولا يشترط أن يكون هاشميّاً ولا علويّاً باتّفاق فقهاء المذاهب الأربعة، لأنّ الثّلاثة الأول من الخلفاء الرّاشدين لم يكونوا من بني هاشمٍ، ولم يطعن أحد من الصّحابة في خلافتهم، فكان ذلك إجماعاً في عصر الصّحابة".[29]


    15
                  

05-05-2006, 05:26 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: التوظيف السياسي للفكر الديني (Re: Sabri Elshareef)

    يربط ابن خلدون في مسألة كون الإمام قرشياً بنظريته المبنية على العصبية. ويرىأن بعض الفقهاء الذين أجازوا أن تكون الإمامة في قريش قد تعاملوا مع الأمر الواقع بعد تدهور سلطة الخلافة في أواخر الدولة العباسية.
    ومن هذا المنطلق يفسر ابن خلدون رأي القاضي أبو بكر الباقلاني المتوفي في بغداد سنة 403 هـ حول نفيه اشتراط القرشية لمنصب الخلافة. يقول ابن خلدون: أن الباقلاني "لما أدرك عليه عصبية قريش من التلاشي والإضمحلال واستبداد ملوك العجم على الخلفاء، فأسقط شرط القرشية، وإن كان موافقاً لرأي الخوارج، لما رأى عليه حال الخلفاء لعهده. وبقي الجمهور على القول باشتراطها وصحة الإمامة للقرشي، ولو كان عاجزاً عن القيام بأمور المسلمين. ورُدَّ عليهم سقوط شرط الكفاية التي يقوى بها على أمره، لأنه إذا ذهبت الشوكة بذهاب العصبية فقد ذهبت الكفاية، وإذا وقع الإخلال بشرط الكفاية تطرق ذلك أيضاً الى العلم والدين، وسقط إعتبار شروط هذا المنصب وهو خلاف الإجماع".[30]
    كما نجد مسألة التعامل مع الأمر الواقع واضحاً عند الماوردي وبحثه في "إمارة الاستيلاء"، والذي يعتبر شكلاً من أشكال إضفاء الشرعية على ما موجود في الواقع بعكس رغبة الخليفة، بل وتجاوزاً على صلاحياته.
    يقول الماوردي: " وأما إمارة الاستيلاء، التي تعقد عن اضطرار، فهي أن يستولي الأمير بالقوة على بلاد يقلده الخليفة أمارتها، ويفوض إليه تدبيرها وسياستها، فيكون الأمير باستيلائه مستبداً بالسياسة والتدبير، والخليفة بإذنه منفذاً لأحكام الدين، ليخرج من الفساد إلى الصحة ومن الحظر إلى الإباحة. وهذا وإن خرج عن عرف التقليد المطلق في شروطه وأحكامه فيه من حفظ القوانين الشرعية وحراسة الأحكام الدينية ما لا يجوز أن يترك مختلاً مدخولاً ولا فاسداً معلولاً، فجاز فيه مع الاستيلاء والاضطرار ما امتنع في تقليد الاستكفاء والاختيار لوقوع الفرق بين شروط المكنة والعجز".[31]
    وإذا كانت حادثة السقيفة تمثل تأسيس البنية أو اللبنة الأولى من مفهوم الخلافة (الإمامة الكبرى)، فإن معركة صفين بين الخليفة الراشدي علي بن أبي طالب ووالي الشام معاوية بن أبي سفيان، الذي أعلن نفسه هو الآخر خليفةً للمسلمين، تمثل أحداثاً ومواقف عديدة تعتبر أساساً وبنيةً للتأسيس الفقهي اللاحق إضافة الى الآراء التي طرحت أثناء الحادثة.
    فعلى أثر هذه الحادثة نشأ الخوارج وتطورت فرقهم بعد ذلك. وأعلن الخارجون الأوائل على علي بن أبي طالب، والذين سموا بـ "المُحَكَّمة الأولى" موقفهم من الإمامة. ويذكر الشهرستاني موقفهم بكونه بدعةً، قائلاً أنهم:
    "جوزوا أن تكون الإمامة في غير قريش، وكل من ينصبونه برأيهم وعاشر الناس على ما مثلوا له من العدل واجتناب الجور كان إماماً، ومن خرج عليه يجب نصب القتال معه، وإن غيّر السيرة وعدل عن الحق، وجب عزله أو قتله. وهم أشد الناس قولاً بالقياس، وجوزوا أن لا يكون في العالم إمام أصلاّ، وإن أحتيج إليه فيجوز أن يكون عبداّ أو حراً أو نبطياً أو قرشياً."[32]
    وتأتي تسميتهم بالمُحَكَّمة بعد رفضهم لنتائج التحكيم بين أبي موسى الأشعري ممثل علي بن أبي طالب، وبين عمرو بن العاص ممثل معاوية. و قالت هذه الفرقة قولتها الشهيرة لعلي بن أبي طالب بعد رفضهم التحكيم:"لم حكمت الرجال، لا حكم إلاّ لله".
    ويرد ابن كثير والطبري أصل هذه التسمية كالتالي:
    "إن عليّاَ بينما هو يخطب يوماً إذ قام إليه رجل من الخوارج فقال: يا علي أشركت في دين الله الرجال ولا حكم إلاّ لله، فتنادوا من كل جانب لا حكم إلاّ لله، لا حكم إلاّ لله. فقال علي: الله أكبر، كلمة حق يراد بها باطل أما أن لكم عندنا ثلاثاً ما صحبتمونا، لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه، ولانمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تبدأونا، ثم رجع إلى مكانه الذي كان فيه خطبته".[33]
    ولم يقف بعض فرق الخوارج عند هذا الحد، فقد تناولت إحدى هذه الفرق وهي (النجدات) نسبة الى نجدة بن عامر الحنفي، مسألة وجوب الإمام بحاجة الناس إليه. ويذكر الشهرستاني في هذا المجال موقف النجدات قائلاّ: " وأجمعت النجدات على أنه لا حاجة للناس إلى إمام قط، وإنما عليهم أن يتناصفوا فيما بينهم، فإن رأوا أن ذلك لا يتم إلا بإمام بحملهم عليه فأقاموه جاز".[34]
    ويشير ابن خلدون الى أن بعض المعتزلة وبعض الخوارج دعوا الى عدم وجوب هذا المنصب بسبب سياسات الحكام المسلمين التعسفية، مشيرا الى أرضية ظهور هذا الرأي في مقدمته فائلاً:
    " والذي حملهم على هذا المذهب إنما هو الفرار عن الملك ومذاهبه من الاستطالة والتغلب والاستمتاع بالدنيا، لما رأوا الشريعة ممتلئةً بذم ذلك، والنعي على أهله، ومرغِّبَةَ في رفضه".[35]
    وفي رأينا إن الأمر عند المعتزلة لا ينحصر في مجرد ردود فعل على تصرفات الحكام، بل ينحو منحىً فكرياً وفلسفياً، ارتباطاً بتطور علم الكلام، وبالاقتران بآرائهم الفلسفية الأخرى ونظرتهم لمفهوم السلطة.
    يوجز الماوردي في (الأحكام السلطانية) التجربة التاريخية الإسلامية لفترة أكثر من قرنين وما شهدته من حوادث جرى القياس عليها في مجال كيفية انعقاد الإمامة. وما يذكره الماوردي يمثل استنتاجات نابعة من تجربة الخلفاء الراشدين والدولة الأموية وفترةً من الدولة العباسية. وبهذا الصدد يقول:
    " والإمامة تنعقد من جهتين: أحداهما باختيار أهل العقد والحل. والثاني بعهد الإمام من قبل: فآما انعقادها باختيار أهل الحل والعقد، فقد اختلف العلماء في عدد من تنعقد به الإمامة منهم على مذاهب شتى، فقالت طائفة لا تنعقد إلا بجمهور أهل العقد والحل من كل بلد ليكون الرضاء به عاماً والتسليم لإمامته إجماعاً، وهذا مذهب مدفوع ببيعة أبي بكر رضي الله عنه على الخلافة باختيار من حضرها ولم ينتظر ببيعته قدوم غائب عنها. وقالت طائفة أخرى: أقل من تنعقد به منهم الإمامة خمسة يجتمعون على عقدها أو يعقدها أحدهم برضا الأربعة استلالا بأمرين: أحدهما أن بيعة أبي بكر رضي الله عنه انعقدت بخمسة اجتمعوا عليها ثم تابعهم الناس فيها، وهم: عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح وأسيد بن حضير وبشر بن سعد وسالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنهم. والثاني أن عمر رضي الله عنه جعل الشورى في ستة ليعقد لأحدهم برضا الخمسة، وهذا قول أكثر الفقهاء والمتكلمين من أهل البصرة. وقال آخرون من علماء الكوفة تنعقد بثلاثة يتولاها أحدهم برضا الاثنين ليكونوا حاكما وشاهدين، كما يصح عقد النكاح بولي وشاهدين. وقالت طائفة أخرى: تنعقد بواحد، لأن العباس قال لعلي رضوان الله عليه أمدد يدك أبايعك فيقول الناس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم بايع ابن عمه فلا يختلف عليك اثنان، ولأنه حكم وحكم واحد نافذ".[36]


    ( 15 )
                  

05-05-2006, 05:29 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: التوظيف السياسي للفكر الديني (Re: Sabri Elshareef)

    أدخلت تجربة الدولة الأموية طريقة أخرى لنقل السلطة، وهي طريقة ولاية العهد لابن الخليفة المتوفي. وهذه الطريقة في نقل السلطة ليست بعيدة عن الخلفية الثقافية العربية والنزعة القبلية السائدة أو حتى سيطرة عائلة معينة من القبيلة على كرسي السلطة في الدولة. وانتبه الفقهاء الى هذا الواقع الجديد، فظهر التأسيس الفقهي على اساس الأمر الواقع لإمكانية أو مشروعية نقل السلطة بهذه الطريقة، إضافةً الى طريقة أهل الحل والعقد التي مورست بشكل معين ومحدود في تجربة الخلفاء الراشدين في الحكم. ولم يقتصر تأثير ولاية العهد على الفقهاء الذين أعتبروها طريقة مشروعة خطّها معاوية بن أبي سفيان لأول مرة عندما عين إبنه يزيد وليّا للعهد، بل أثرت الفكرة على نظرية الإمامة الشيعية (الجعفرية الإثنى عشرية) المبنية أيضاً على أساس تحديد الإمام عن طريق التوارث العمودي لأبناء الحسين بن علي الذي ثار على يزيد، ونُكِّل به وبأفراد عائلته وصحبه بوحشية.
    وحول ولاية العهد كأسلوب لإنتقال السلطة يشير الفقيه المالكي الدسوقي إلى:
    أن " الإمامة العظمى تثبت بأحد أمور ثلاثة: إما بإيصاء الخليفة الأول لمتأهل لها، وإما بالتغلب على الناس، لأن من اشتدت وطأته بالتغلب وجبت طاعته، ولا يراعى في هذا شروط الإمامة إذ المدار على درء المفاسد وارتكاب أخف الضررين، وأما بيعة أهل الحل والعقد. وهم من اجتمع فيهم ثلاثة أمور: العلم بشروط الإمام والعدالة والرأي. وشروط الإمام الحرية والعدالة والفطانة وكونه قريشيا وكونه نجدة وكفاية في المعضلات".[37]
    أجمل الفقهاء المسلمون من المذاهب السنية بشكل عام في عهود متأخرة، خلاصة تجربة الخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين في مسألة نقل السلطة. وقد تأثروا بالأمر الواقع الذي طرحته الحياة ، لذا إعتبروا التغلب والقهر طريقةً لنقل السلطة. علماً أن المتغلب والمنتصر، في حالة إفتراض فشله، لا يمكن إلاّ أن يعتبر باغياً من قبل السلطة الإسلامية التي لم يستطع إزاحتها. وهذا ما يجعل مفهوم البغي وإستحقاقاته مناطاً بنتائج الصراعات على السلطة، فليس من قوة باستطاعتها محاسبة الباغي المنتصر والمتغلب على الحاكم العادل، وما على عامة المسلمين إلاّ تقبُّل الأمر الواقع بحجة "درء المفسدة، ووقوع الضرر" في حالة الخروج على المتغلب.


    ( 16 )
                  

05-05-2006, 05:31 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: التوظيف السياسي للفكر الديني (Re: Sabri Elshareef)

    وخلاصة الأمر في تجربة نقل السلطة يشير الفقهاء المسلمون إلى شرعية تثبيت الإمامة بأربعة طرق:
    1 ـ باختيار أهل الحل والعقد من العلماء والفقهاء وأرباب الحل والعقد. وذلك اعتماداً على ما جرى عند بيعة أبي بكر في السقيفة.
    2 ـ اختيار الإمام السابق لمن يليه، اعتماداً على سنة أبي بكر في إختياره عمر بن الخطاب. وتطور الأمر إلى اختيار الخليفة ابنه كما هو الأمر في مسألة ولاية معاوية لابنه يزيد. وقد سار الخلفاء الأمويون والعباسيون على هذه السنة.
    3 ـ أن يجعل الإمام السابق الأمر شورى في جماعة معينة يختارون الإمام الجديد من بينهم (طريقة اختيار الخليفة الراشدي الثالث عثمان بن عفان).
    4 ـ بالتغلب والقهر عن طريق إستخدام القوة والتغلب على الإمام السابق مهما كانت مشروعيته.




    17
                  

05-05-2006, 05:32 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: التوظيف السياسي للفكر الديني (Re: Sabri Elshareef)

    يشير عبد القادر عودة في مؤلفه "التشريع الجنائي الإسلامي، مقارناً بالقانون الوضعي" إلى هذه الحالة قائلاً:
    " يظهر المتغلب على الناس ويقهرهم حتى يذعنوا له ويدعونه إماماً، فتثبت إمامته وتجب طاعته على الرعية. ومثل ذلك ما حدث من عبد الملك بن مروان حين خرج على ابن الزبير فقتله، واستولى على البلاد وأهلها، حتى بايعوه طوعاً وكرهاً ودعوه إماماً. وإذا ثبتت الإمامة بإحدى هذه الطرق كان الخروج على الإمام بغياً. أما إذا لم تكن الإمامة ثابتة بإحدى هذه الطرق فلا يعتبر الخارج باغياً ولا الخروج بغياً".[38]
    أن الطريقة الرابعة هي الطريقة التي وصل بها معظم حكام الدول العربية الإسلامية إلى السلطة، وهي بالتالي طريقة تضفي المشروعية الفقهية على الإنقلابات العسكرية التي حصلت في معظم الدول العربية الإسلامية في القرن الميلادي الماضي، دون إرادة عامة المسلمين ومواطني تلك الدول. ولا تزال آثار هذه الطريقة وتفاعلاتها السلبية شاخصة أمام أنظار عامة المسلمين.
    إن التجربة التاريخية الإسلامية تطرح لنا واقعاً مفاده أن مسألة أختيار السلطة كانت خاضعةً لمعيار مصلحة النخبة المسيطرة تحت عنوان مصلحة الجماعة. ومصلحة الجماعة في هذا المضمار ليس مفهوماً مجرداً، بل كان خاضعاً لإعتبارات سياسية واجتماعية وتوازنات قبلية. وبتطور وتوسع الدولة الإسلامية والتصادم الحاصل نتيجة الصراعات، التي لم تعد بنية الجزيرة العربية قادرة على استيعابها أو التوافق بشأنها، أصبح معيار القوة أساساً لنظرية الحكم. ونجد إشارة الفقهاء الى هذا المفهوم في القرن الرابع الهجري، ولكن بصياغات تحمل معها الأثر الرجعي.
    إذا نظرنا الى الصراع المحتدم حول قضية الخلافة بمختلف جوانبها وأطرافها، نرى أن هذا الصراع تمحور أساساً في نطاق مفهوم الحق الديني كشكل خارجي للصراع المحكوم أساساً بقيم المجتمع العربي السائدة في الجزيرة العربية والمحكومة بالتوافقات بين المكونات الإجتماعية القبلية بعد تشكيل نواتات الدولة والإتفاق على جعل الأمر في قريش من جهة، ويين أحقية هذا الجزء أو هذا القسم من قريش على أساس القرابة الوراثية من النبي من جهة أخرى. وأصبحت مهمة كل طرف في الصراع تطويع النص الديني لكي يتلاءم مع متطلبات الأحقية الشرعية بالسلطة.
    وفي ظل أجواء هذه الصراعات نشأت اللبنات الأساسية لنظرية الإمامة الشيعية، عبر نشوء محور جديد للصراع يرتبط بتحديد المفهوم الإسلامي للخلافة واعتبارها حقاً إلهياً محضاً، على أساس اعتبار الخليفة إماماً للمسلمين ويكون اختياره بواسطة الوحي المنزل على النبي، وبالتالي يصبح واجباً على النبي تبليغ المسلمين باختياره. وعلى المسلمين الخضوع لهذا الاختيار كجزء من الإيمان بالعقيدة الإسلامية.
    ولم تأت هذه الصياغات الفكرية والنظرية بعد وفاة النبي مباشرةَ، بل أن هذه المفاهيم بدأت بالتبلور والتطور الجنيني ابتداءً من وفاة النبي، واتخذت أشكالها المتعددة ارتباطاً بالمتغيرات في أوضاع المجتمع العربي الإسلامي، والصراع على السلطة، الذي اتخذ طابعاً دموياً منذ مقتل الخليفة الثالث، وتفاقمت بعد التخلي عن أشكال الشورى والتوافقات، لمصلحة ولاية العهد، والحكم الوراثي، بعد نشوء الدولة الأموية، وتولي يزيد بن معاوية منصب الخلافة، وسحق الحسين بن علي عام 61 هـ.
    وعليه يمكن القول أن نظرية الإمامة الشيعية شهدت تطورات وتغيرات، لا بسبب صراعها مع نظرية الخلافة، وفكرة الشورى وتنوعاتها، أو فكرة ولاية العهد فحسب، بل أن هذه النظرية شهدت تغيرات بسبب الصراعات الداخلية، حول مشروعية تمثيل الشيعة، والأحقية بالإمامة ضمن هذا البيت.
    ونجد هذه الحقيقة بعد وفاة الأمام الرابع الناجي من مذبحة كربلاء عام 61 هـ، علي بن الحسين الملقب بزين العابدين، حيث افترقت الشيعة على ثلاث فرق: الأمامية اتباع الأمام محمد الباقر بن زين العابدين، والزيدية أتباع زيد بن علي بن زين العابدين، والكيسانية وهم أتباع محمد بن الحنفية، وهو ابن علي بن أبي طالب مباشرة ونسب الى أمه الحنفية.
    ومن جانب آخر أثرت بوادر تشكيل علم الكلام، وتعدد مدارسه على النظرية الشيعية في الإمامة، إرتباطاً بمسألة مسؤولية الفعل الإنساني وعلاقته بالفعل الإلهي.
    تستند نظرية الإمامة الشيعية على عدة أركان وهي: عصمة الإمام، وضرورة النص عليه من الله كطريق لمعرفته. ثم بحصر الإمامة في علي بن أبي طالب والحسن والحسين وذرية الحسين. وهكذا جرى تحديد مفهوم أهل البيت ضمن هذا النطاق فقط.
    يشير المؤرخ الإمامي سعد بن عبدالله القمي الأشعري في كتابه (المقالات والفرق) الى أن : "علي بن أبي طالب إمام ومفروض الطاعة من الله ورسوله بعد رسول الله (ص) .... وانه استحق الإمامة ومقام النبي، لعصمته وطهارة مولده وسبقه وعلمه وشجاعته وجهاده وسخائه وزهده وعدالته في رعيته. وان النبي (ص) نص عليه وأشار اليه باسمه ونسبه وعينه، وقلد الأمة إمامته، وأقامه ونصبه لهم علماً، وعقد عليهم أمرة المؤمنين، وجعله وصيه وخليفته ووزيره في مواطن كثيرة، وأعلمهم ان منزلته منه منزلة هارون من موسى، الا انه لا نبي بعده واذ جعله نظير نفسه في حياته، وإنه أولى بهم بعده...".[39]
    استندت نظرية الإمامة على النص الديني المقدس لأثبات أحقية علي بالخلافة واعتمدت على حديث النبي في غدير خم، الذي يدعو فيه النبي الى موالاة علي. وحدث الجدال بعد قرن من الحديث حول المعنى الجلي والمعنى الخفي لنص الحديث.
    تروي كتب الشيعة والسنة (حديث الغدير) أو (حديث الموالاة) بصيغ متعددة، مع المحافظة على مضمونه. ومضمون الحديث أن النبي بعد عودته من حجته الأخيرة، وقف في مكان من الطريق يدعى غدير خم، وكان معه جمع من الصحابة، فقام فيهم خطيباً، وقال في جملة ما قال:" ألست أولى منكم بأنفسكم؟" فأجابوا: اللهم نعم. وحينئذ أخذ بيد علي. ثم قال: "اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه. اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه. وانصر من نصره، واخذل من خذله". فقام الصحابة يهنئون علياً، وبينهم عمر بن الخطاب. وقال له عمر:" بخ بخ لك يا علي، فقد أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة".[40]
    وقد حدث الاختلاف بين الطرفين في فهم معنى المولى الذي فسره الشيعة بمعنى الولاية أي الحكم والسلطان، أو الإمامة. وهذا ما ورد على سبيل المثال في قول الشيخ المفيد في كتاب (الإفصاح في إمامة علي بن أبي طالب)، أن "الرسول أعطى للإمام علي في غدير خم حقيقة الولاية وكشف به عن ممثلته له في فرض الطاعة، والأمر لهم والنهي والتدبير والسياسة والرياسة".[41]
    إلاّ أن السيد المرتضى في كتابه (الشافي في الإمامة) يقول: "أن أهم حديث نبوي حول النص بالإمامة وهو حديث غدير خم، هو نص خفي وليس بنص جلي، إذا حذفنا منه الزيادات المضافة".[42]
    في حين يفسر أهل السنة معنى الولاء بمعنى الحب والمودة. وبهذا المعنى يفقد الحديث دلالته في النص على الإمامة.
    يذكر ابن أبي الحديد خلاف الشيعة في قضية الأحقية بالإمامة داخل البيت الشيعي إرتباطاً بمسألة النسب.
    ويذكر في ( شرح نهج البلاغة ):
    "قد اختلف الناس في اشتراط النسب في الإمامة، فقال قوم من قدماء أصحابنا: إن النسب ليس بشرط فيها أصلاً، وإنها تصلح في القرشي وغير القرشي إذا كان فاضلاً مستجمعاً للشرائط المعتبرة، واجتمعت الكلمة عليه، وهو قول الخوارج. وقال أكثرأصحابنا وأكثر الناس: إن النسب شرط فيها، وإنها لا تصلح إلا في العرب خاصة، ومن العرب إلا قريش خاصة. وقال أكثرأصحابنا: معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم:
    "الأئمة من قريش" إن القرشية لشرط إذا وجد في قريش من يصلح للإمامة، فإن لم يكن فيها من يصلح، فليست القرشية شرطاً فيها.
    وقال بعض أصحابنا: معنى الخبرأنه لا تخلو قريش أبداً ممن يصلح للإمامة، فأوجبوا بهذا الخبر وجود من يصلح من قريش لها في كل عصر وزمان".[43]


    ( 18 )
                  

05-05-2006, 05:33 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: التوظيف السياسي للفكر الديني (Re: Sabri Elshareef)

    وإذا كان الأمر في البداية ينصب في التأكيد على أحقية قريش بالخلافة، وبعده أحقية بني هاشم من قريش بهذه المهمة، أصبح تداول الأمر في أحفية هذا البطن أو ذاك من بني هاشم بتلك السلطة.
    فعلى سبيل المثال، قال معظم الزيدية: "إنها في الفاطميين خاصة من الطالبيين، لا تصلح في غير البطنين، ولا تصح إلا بشرط أن يقوم بها ويدعو اليها فاضل زاهد عالم عادل شجاع سائس. وبعض الزيدية يجيز الإمامة في غير الفاطميين من ولد علي رضي الله عنه، وهو من أقوالهم الشاذة.
    وأما الراوندية فإنهم خصصوها بالعباس رحمه الله وولده من بين بطون قريش كلها. وهذا القول هو الذي ظهر في أيام المنصور والمهدي. وأما الإمامية فإنهم جعلوها ساريةً في ولد الحسين رضي الله عنه في أشخاص مخصوصين، ولا تصلح عندهم لغيرهم.
    وجعلها الكيسانية في محمد بن الحنفية وولده، ومنهم من نقلها منه الى ولد غيره".[44]
    وفي رأينا أن الإشكالية الأساسية في مجال مشروعية السلطة في مختلف المذاهب الإسلامية شيعية كانت أو سنية، مغاليةَ كانت أو معتدلة، تكمن في وجود التناقض بين الممارسة الفعلية الناجمة عن التجربة التاريخية الإسلامية، المتأثرة بالتوازنات السياسية والاجتماعية السائدة، والنتائج العملية لتلك الصراعات من جهة، وبين نظرية المعرفة الإسلامية المبنية على الإيمان الديني والعودة الى المصدر الإلهي، والبحث عن مشروعية السلطة ضمن هذه النظرية. وفي المحصلة النهائية جرت المحاولات ضمن هذا النطاق من أجل تكييف النص الديني أو التفسير الفقهي مع النتائج العملية للصراعات على السلطة من قبل المنتصرين، أو لضرورات السعي من أجل الحصول على السلطة من قبل المعارضين. وهذا ما جعل مشروعية السلطة ومفهوم الإمام الحق موضع تساؤل طوال التاريخ الإسلامي.





    ( 19 )
                  

05-05-2006, 05:41 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: التوظيف السياسي للفكر الديني (Re: Sabri Elshareef)

    شكرا الجيلي احمد وليكن همنااسقاط الهوس الديني بالفكر والحوار اس

    مشاكلنا اتت من الغلاة والمتعصبين الذين طوعوا النص ليس لقضايا العصر

    وانما لخدمة مصلحتهم الضيقة انظر معي للوحة العصر تجد جميع

    الاحن والمحن خلفها كهنوت الفهم الرديكالي للاديان ولنستفيد من

    منظمات المجتمع المدني وننهض بالانسان الي اعلي القمم ديدننا

    الحرية والاخاء والسلام نربو بانفسنا من فقه التيك اوي

    لك الامنيات والاشواق
                  

05-06-2006, 10:49 AM

الجيلى أحمد
<aالجيلى أحمد
تاريخ التسجيل: 03-27-2006
مجموع المشاركات: 3236

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: التوظيف السياسي للفكر الديني (Re: Sabri Elshareef)

    عاليآ..

    مذيدآ من الضوء,

    مذيدآ من المعرفة..
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de