|
عن المجازر... ورحيل الأصدقاء خلسة/ع.الوهاب الافندي
|
عن المجازر... ورحيل الأصدقاء خلسة 2006/04/29 د. عبدالوهاب الافندي (1) لم أكد أصل إلي الدوحة مطلع الأسبوع الماضي حتي لحقني إلي هناك نبآن فاجعان، بثت أولهما وسائل الإعلام، وجاءني الآخر عبر رسالة هاتفية من صديق ينعي إلي طيب الذكر محمد إسماعيل الأزهري. أما النبأ الأول فكان عن هجوم قوات الشرطة علي جماعة من المواطنين المتأثرين ببناء سد مروي أثناء اعتصام سلمي كانوا يقومون به في منطقة أمري احتجاجاً علي الإجحاف في حقهم، ومقتل ثلاثة منهم وجرح عشرات آخرين وترويع الآلاف. (2) لم نعرف محمد الأزهري ـ رحمه الله وأحسن تقبله ـ سياسياً، بل إن الزمان والمكان باعد بيننا بعد احترافه السياسة ببعض الوقت. ولم نكن نعرفه بصفته ابن الزعيم اسماعيل الأزهري الذي قاد السودان إلي الاستقلال في عام 1956 ثم قضي عام 1970 وهو في سجن الرئيس الأسبق جعفر النميري الذي أطاح بالحكومة الديمقراطية وسجن رموزها. فقد عرفت وإيمان أكثر ما عرفنا محمداً الإنسان المرهف، والفنان والموسيقار حين جمعتنا به وثلة من الأصدقاء سنوات الجامعة، وسعدنا بصحبته زماناً كان بحق من أجمل سنوات العمر عندنا. وقد علقت من تلك الأيام لحظات رائعة منها تلك الليلة التي عزف وغني لنا فيها في معية أصدقاء أعزاء عند الصديقين المغتربين الآن مثلنا، أسامة فرحان وزوجته سمية، في منزلهما الصغير الكبير في حلة حمد بمدينة بحري، فأبدع وأبدعوا، فكانت ليلة أشبه بليالي ألف ليلة وليلة. (3) تذكرت بمجرد سماعي نعي محمد الذي وافاه الأجل بحادث مروري مروع هذا الأسبوع عنوان كتاب رحيل النوار خلسة الذي صدر قبل عامين للدكتور محمد عثمان الجعلي في نعي الأديب والناقد والأكاديمي السوداني د. علي المك، وهو نعي تحول إلي عمل أدبي رائع ودراسة تاريخية ـ أدبية اجتماعية لعلي المك وجيله من المبدعين. وكنت قد أعجبت بالعنوان وحسدت صاحبه عليه بمجرد مطالعاتي لمقاطع منه علي الانترنيت قبل بضع سنوات، ثم سعدت أكثر عندما وقع الكتاب في يدي مؤخراً. (4) كأننا حين نكثر من التحسر علي الرحيل المبكر لرفاق الصبا والشباب ننعي أنفسنا، أو نبكي القدر الذي جعل الساحة الثقافية السودانية (وربما السياسية أيضاً) تعيش باستمرار كارثة النهايات المبكرة والعطاء غير المكتمل. لم يكن علي المك الوحيد الذي رحل وهو في أوج عطائه، فقد سبقه إلي ذلك معاوية محمد نور في الثلاثينات، ومحمد عبدالحي، شاعر شعراء السودان الذي شهدناه في أيام الجامعة وهو في عنفوان عطائه ثم كان آخر عهدي به وهو طريح سرير أحد مستشفيات مانشيستر في منتصف الثمانينات. من لم يختطفه الموت من أهل العطاء الثقافي الواعد اختطفته السياسة في بلد السياسة فيه وباء مثل الفقر وموت القلوب. وقد كان من سوء حظنا أن السياسة اختطفت منا محمد الأزهري قبل أن يختطفه منها الموت. ولكن الشهود شهدوا بأن عطاءه في مجال السياسة كان أيضاً واعداً، وأنه كان علي وشك أن يزين السياسة بنفس روح الإبداع التي زين بها الفن، وروح الوفاء التي زين بها عوالم أصدقائه. (5) إذا كنا كأمة نعاني من كوارث رحيل النوار قبل أن تتحول الزهور ثماراً، فإن الموكلين باجتراح الكوارث بيننا من محترفي السياسة لا يعانون من تقصير مماثل، بل يجودون بعلقمهم وزقومهم بأوفي الكيل. وقد صدق ما وقع في أمري أسوأ مخاوفنا، وتحقق ما كنا نحذر منه، وهو تصديق آخر كنا نود لو جاء تكذيباً لنذرنا. وليس علي الله بعزيز أن يتجاوز عن معاقبتنا بذنوبنا، فيستبقي لنا أهل العطاء الخير، ويكفينا شر من قل ما يأتي علي يديهم من خير وكثر ما فاضت به أيديهم خلاف ذلك. (6) ذكرتني إيمان بعد أن بلغنا نعي محمد ببطاقة تهنئة بعيد ميلادي كنت تلقيتها منه في ليلة من ليالي الأنس كان فيها من بين ثلة من الأصدقاء شرفوني بالمشاركة في الاحتفال بذلك اليوم (أيام كنا لا نزال نتذكر أعياد الميلاد ونتمني أن يتذكرها الناس، عكس ما هو حالنا اليوم). وقد قضينا ليلتنا تلك في أحد ميادين الجامعة ونحن نتجاذب السمر ونتعاطي الشعر والغناء. وقد قرأت علي تلك الثلة بعض قصائدي التي لم ألقها علي جمع قبل ذلك ولا بعده، فقد انقضي ذلك العهد الجميل مسرعاً ورحل عنا قبل أن نرحل عنه. وكان محمد قد ابتدر تهنئته بعبارة: في لحظة تقطر أحلاماً طفولية... . وقد اقتبس أحد الأصدقاء تلك العبارة وبدأ بها نعيه محمداً فكتب يقول: في لحظة تقطر أسيً وتفيض فجيعة . فلم يكن رحيل محمد (ورحيل علي المك وتساقط الأعلام) إلا علامة أخري علي رحيل أكبر: رحيل الجمال والعذوبة والحس المرهف عن عالم يعاني التصحر الثقافي والفكري. وليس مبالغة (عند أصدقائه الكثر) أن يقال فيه ما قال أبوتمام في محمد بن حميد: توفيت الآمال بعد محمد وأصبح في شغل عن السفر السفر
|
|
|
|
|
|