الإذلال بالجلد، بالقانون وبغيره .. بقلم: سلمى التجاني 21 مارس، 2018 السودان اليوم
( 1 )
لاحظت المعلمة أثناء تبديل الأطفال ملابسهم، إستعداداً لحصة الرياضة بإحدى مدارس المملكة المتحدة ، أن هناك علامات على جسد إحدى الطفلات من أصولٍ سودانية ، أخذتها بعد نهاية الحصة ، وبعد أن طمأنتها ، قالت الطفلة أن أمها تعاقبها بالضرب . ولأن الأم تعلم أن الضرب في بريطانيا ، للصغار والكبار مجرَّم ، كانت تحرص على أن يكون في أماكن يصعب رؤيتها . إنتهت الحادثة بأن احضرت الطالبة سلاح الجريمة ( كان مفراكة ) بعد أن أخفته داخل ملابسها ، فأُرسِلَت الأم للمحكمة حيث أُجبِرت على الإعتذار لطفلتها وتعهدت كتابياً بعدم تكرارها ، وإلا فإن القانون يقضي بنزع الطفل من والديه وإرساله للعيش في مكانٍ تُحترم فيه كرامته . فبريطانيا ، كشأن الدول الغربية ، جرَّمت الجلد كعقوبة واختفى من قوانينها منذ سبعينات القرن الماضي .
في حادثة أرتالا بوسط دارفور ، الأسبوع الماضي ، وكما ظهر بالفيديو المتداول بالوسائط الإعلامية ، فقد تم جلد رجال القرية ، بلا محاكمة ، وبطريقةٍ مهينة وبها هدر للكرامة الإنسانية ، وترسيخٌ لإذلال المواطن وتجريده من كل حقوقه التي يكفلها له الدستور الإنتقالي وما فسرته من قوانين . حدث ذلك أثناء حملاتٍ لجمع السلاح بالمنطقة بواسطة قوات حكومية . أعاد فيديو أرتالا للأذهان الحديث عن الجلد كعوقبة ، وكيف وجد طريقه لقوانين العقوبات السودانية ، حتى وصلنا اليوم لمرحلة أن يمارس بلا قانون ولا وازعٍ من عاقبة .
( 2 )
( الإسلام لا يقضي بالمسارعة في العقوبة وإنما العمل على إزالتها بإزالة أسبابها )
المفكر الإسلامي راشد الغنوشي معلقاً على عقوبة الجلد
بالنظر للجلد في قوانين العقوبات السودانية ، فقد كان حاضراً في أول قانون ( 1889 ) ، والذي تلاه في العام ( 1925 ) ، ليغيب عن نصوص قانون عقوبات ما بعد الإستقلال الصادر في سنة (1974) ، فأصبح عقوبة بديلة يتم توقيعها على سبيل الجواز .
في كل هذه التشريعات انحصرت عقوبة الجلد على الرجال ، حتى جاءت قوانين سبتمبر في العام 1983م لتعيد العمل بهذه العقوبة للرجال والنساء محددةً أداته بالسوط وعدد الجلدات من 25 - 100 جلدة . ثم أصبح هذا القانون أساساً للقانون الجنائي السوداني للعام 1991م الذي تعدت فيه هذه العقوبة جرائم الحدود الشرعية الثلاث ، فأصبح يوقع الجلد على أكثر من ثلاثين جريمة ، ليصير أسوأ قانون للعقوبات يمر على السودان منذ القرن التاسع عشر . إذ قرر فيه المشرع ، أنه وفي القرن العشرين ( لحظة صدور القانون ) وفي عالمٍ تجاوزت فيه أغلب دول العالم المتحضر عقوبة الجلد ، رأى أن هذا الشعب لا يصلح أن يعيش إلا والسياط على ظهره .
لم تكتفِ الحكومة ، في القانون الجنائي للعام 1991م بإذلال الناس
عبر توقيع عقوبة الجلد في المواد من ( 151_ 156 ) الواردة في باب جرائم العرض والآداب العامة والسمعة ، ولم تشبع شهوتها في الحط من كرامة الإنسان السوداني بمعاقبته بالجلد وفق نصوص فضفاضة تُترك فيها التقديرات لمزاج شرطي النظام العام ووكيل النيابة والقاضي ، لكنها وقبل ثلاثة أعوامٍ سلَّطت سيف المادة 67 من القانون ( جريمة الشغب ) لتعاقب بالجلد على الفعل السياسي. فاعتبرت أن أي تجمهر من خمسة أشخاص فأكثر مخلاً بالسلام العام ، ويعاقب عليه بالسجن أو الغرامة أو الجلد عشرين جلدة ، ليتجاوز القاضي ، في المعتاد ، الخيارين الأولين فيحكم بالجلد ، كما حدث في العام 2015 عندما تمت معاقبة أعضاء بحزب سياسي بالجلد ، لعقدهم مخاطبة جماهيرية في أحد الأسواق . ومن هنا قفز القانون الجنائي ليطبق قبضته على النشاط السياسي السلمي وينزل عليه أكر العقوبات إهانةً للإنسان .
( 3 )
في العام 1997 صنَّفت مفوضية الأمم المتحدة العقوبات الجسدية كعقوبات قاسية وغير إنسانية ومهينة وترقى لأن تكون تعذيب ، وبذا أعتبرت عقوبة الجلد تتعارض مع إتفاقية مناهضة التعذيب ( السودان لا زال يمانع في المصادقة عليها ) ، وقبل عامين طالبت لجنة تابعة للأمم المتحدة المملكة العربية السعودية بوقف العقوبات الجسدية كالبتر والجلد .
وهنا يأتي تساؤل : هل عدم مصادقة السودان على اتفاقية مناهضة التعذيب ، يعطيه الحق في السباحة عكس تيار قوانين حقوق الإنسان العالمية ؟ هل نعيش في جزيرة معزولة يحكمها نظام يتمرد على المؤسسات الدولية وقوانينها ليعيث تعذيباً وهدراً لكرامة المواطنين ؟ هل يقف المجتمع الدولي متفرجاً على قوانين لا إنسانية تطبقها حكومة مارقة ؟
هذا فيما يتعلق بالقانون ، أما بخصوص إذلال الناس ( زندية) كما حدث مؤخراً في أرتالا ، فهي ممارسةٌ بدأت هناك ، وكما عودنا النظام في جس النبض ، لن تتوقف ، سنرى الرجال والنساء يمددون على بطونهم في الأرض في الخرطوم ومدني وعطبرة وغيرها ، وسيجلدون في الساحات دون أسباب أو مخالفة لقانون ، ثم يهرولون مخلفين وراءهم إنسانيتهم وكرامتهم .
يقول ارنستو تشي جيفارا ( إذا فُرِضت على الإنسان ظروف غير إنسانية ولم يتمرد ، فسيفقد إنسانيته شيئاً فشيئا ) .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة