|
Re: الأستاذ صالح فرح يكتب عن إنسان من زمن جميل (Re: الأمين عبد الرحمن عيسى)
|
كُتاب السير يعنون بمن يكونون في مقدمة المجموع ، ويقل اهتمامهم بمن يكون في غيرالمقدمة ، مع أن هؤلاء قد لا يقل تأثيرهم و أثرهم عن من في المقدمة . لكن لأن السرج لا يسع إثنين - كما يجري المثل- ما كان لمن لم يكن في المقدمة إلا أن يكون رديفا . وحين تكون الجماعة في مجملها مكونة من مجموعات صغيرة فإن لكل مجموعة منها لا بد ممن يكون في المقدمة ، دوره ودور مجموعته لا يقل أهمية عن ما يُنتظر من المجموعة ككل . من يريد او قدر له ان يكون له دور يؤديه، فلن يثنيه عن أداء دوره أن يكون في غير المقدمة. صدقي باشا رئيس وزراء مصرالسابق، عائد من لندن بعد مفاوضات بشأن السودان وذلك في منتصف أربعينات القرن الماضي أعلن لمستقبليه في المطار أنه جاءهم بالسيادة على السودان . تصريحه أثار موجة غليان سياسي اجتاح البلاد، فهرع محررو الصحف الأجنبية إلى السودان يستطلعون الأخبار. محررصحيفة الديلي تلغراف البريطانية سأل السيد عبد الرحمن المهدي إن قامت الثورةفي السودان من جديد ، فهل سيقودها كما قادها أبوه؟ فأجابه السيد عبد الرحمن بأنه سوف يؤدي دوره سواء في المقدمة او المؤخرة . إن من يهمه الإنجاز لا يزدهيه الموقع او المكان، وكذلك كان عبد الرحمن احمد عيسى .
| |
|
|
|
|
|
|
Re: الأستاذ صالح فرح يكتب عن إنسان من زمن جميل (Re: الأمين عبد الرحمن عيسى)
|
عبد الرحمن احمد عيسى - عليه رحمة الله - لم يكن في اول الصف بالنسبة لعائلة المعلمين في السودان، ولكنه في أي موقع كان في تنظيم المجموعة ، له دور. من في المقدمة يحتاج لدور عبد الرحمن احمد عيسى. عبد الرحمن أحمد عيسى كان رجلا من الذين يتم دورالرجال بهم، و" الراجل بالرجال " كما يجري المثل. كان رجلا في حرصه على دوره لا يعبأ أن يكون في المقدمة أو المؤخرة أو بين ذلك ، ولأنه كان معنيا بالإنجاز لم يكن ليعبأ أين يكون مكانه في الصف . سمعت به أول عهدي بالدراسة في المرحلة الوسطى . كان ذلك في أوليات أربعينات القرن الماضي، كانت المدينة الأبيض بغرب السودان. في المدرسة الوسطى كانت بداياتنا مع تعلم اللغة الإنجليزية . كان بيننا كبار لهم زوجات و أبناء . خطط الإرتقاء بالإدارة الأهلية أدخلتهم في سلك التعليم بدون النظر لاعتبارات السن المقررة للقبول في المرحلة الدراسية المعنية. إلى جانب هؤلاء كان بيننا كبار في السن ، المرحلة التعليمية التي يلتحقونبها الان، غيابها في مناطقهم برر قبولهم.أولئك وهؤلاء كانوا يجدون صعوبة في حفظ الكلمات الإنجليزية. بين هؤلاء وبين آخرين في الفصل كان هنالك من يجد صعوبة في نطق بعض الكلمات أونطق بعض الحروف نطقا سليما. قبل التعليم الحديث عرف الناس الخلوة . فيها يحفظ الطلاب القرآن الكريم ويتعلمون القراءة ومبادئ الحساب . معلم الخلوة ـ ويعرف بـ "الفكي"، إليه يزف الوالد ولده بعبارة " ليك اللحم ولي العضم " – رخصة لأن يشتد الفكي على الطالب في سبيل تعليمه ، الفلقة كانت العقاب الذي ينتظرمن كان اجباره ضروريا للتعلم . مع التعليم الحديث استغني عن الفلقة وبقيت فلسفة الإجبار على التعلم قائمة. لذلك كان الصفع وكانت كف الأستاذ في حركتها لأن تصفع أسرع من قدرة التلميذ لأن يزيح رأسه لتفادي الصفعة . وكانت لبعض المدرسين قدرة المواظبة على الصفع كيف ما كان عدد المنتفعين من " بركة " الصفع. في ما قيل لنا عبد الرحمن أحمد عيسى كان أحد هؤلاء الأساتذة. يوم التحقنا بمدرسة الأبيض الوسطى كان قد غادرها منقولا إلى مدرسة أخرى . ولكننا لم نعدم من بين من بقي من أساتذة المدرسة من يخلف عبد الرحمن أحمد عيسى في ذلك النشاط. فإذا شكا بعضنا مما يجده من صفع أستاذ اللغة هنأه من سبقه إلى التجربة لأنه محظوظ ، فقد غادر عبد الرحمن احمد عيسى قبل أن تلتحق أنت بالمدرسة .
| |
|
|
|
|
|
|
Re: الأستاذ صالح فرح يكتب عن إنسان من زمن جميل (Re: الأمين عبد الرحمن عيسى)
|
وتمر السنون المتتابعة وإذا بي مع عبد الرحمن أحمد عيسى ، ليس كطالب موعود بصفعاته إن أخطأ ، ولكن كنفر في كتيبة يقودها هو. كنت قد تركت حنتوب وقررت أن أذهب في إجازة عن الدراسة وتلفت أبحث عن عمل أكسب منه دريهمات قبل ان أواصل الدراسة بالجامعة . العمل بالتدريس كان اختياري ، وسعيت لمدارس الأحفاد أبحث عن عمل فيها . الأحفاد كانت اختياري لأنها في مدينة أعيش فيها وفي موقع لا يبعد عن دار سكناي كثيرا. ولكن الأحفاد رأت أن ترشحني لمدرسة القولد الأهلية الوسطى. لم أكن قد سمعت بمدرسة القولد الأهلية الوسطى من قبل ، وإن كنت قد عرفت عن القولد في دروس كسب العيش في السودان في مرحلة الدراسة الأولية. وهكذا ضاع اختيارمدينة أم درمان واستبدلتها بالقولد، وفيها اقترب مكان إقامتي من مكان عملي بأكثر مما كان عليه الحال لو عملت بالأحفاد. أنا الآن في القولد، مدرستها الاهلية الوسطى تغذي المنطقة الممتدة بين بربر وحلفا . مدرسة أقامها الأهالي بتبرعاتهم وقبلت وزارة المعارف ( كما كانت تسمى وقتئذ)أن تعيرهم أستاذا يتولى وظيفة الناظر فيها ويرعى نشأتها.ونثرت الوزارة كنانتها فلم تجد غير عبد الرحمن أحمد عيسى لترميهم به وترميه بهم ، وكان رجل المهمة . مدرسة القولد تجاورها منازل المدرسين وتحيط بهم جميعا ومن الجهات الأربع صحراء مترامية، غير أنه في احد الجهات يقطع تراميها جريان النيل في مسيرته شمالا وعلى ضفته مزارع وعلى اطرافها سكن القائمين عليها من الاهالي . المدرسة قريبة من العمران وهي بعيدة منه في نفس الوقت، بعيدة بحيث لا ينشغل الطلاب بغير المدرسة والكتاب وهي قريبة من العمران بحيث لا تتعذر خدمتهم . القولد ، كان بين طلابها مثيل بمن زاملت في مرحلة الدراسة الوسطى، الندرة في التعليم الأوسط في المنطقة أملت التجاوز عن سن القبول للمدرسة، ولذلك كان بين الطلاب من لا أكبره كثيرا. والقولد بالنسبة إلي كانت امتدادا لحنتوب التي غادرتها منذ بضعة شهور.... كل من في المدرسة داخلي، والمدرسون والطلبة في صعيد واحد. المدرسون - من كان متزوجا فهو في رعاية أهله وتدبيرهم، ومن كان غير متزوج فقد كان مع من في شاكلته في"ميس" يتبادلون رعاية حلة الطبيخ بين الحصص ـ من لم يكن مشغولا بالتدريس في فصل فهو موكول به أمر حلة الطبيخ .والطبيخ عمل هواة لا تسيغه إلا مع الجوع ، والجوع – ولله الحمد - كان ينجي الناس منه غداء كل القبيل على مائدة واحدة ، فيطعم العزابة من طعام المتزوجين ويبقى ما جهد العزابة في إعداده طعاما لمن يجمع الأواني . ولأن هذه شراكة غير منصفة فقد توزع العزابة يميسون مع المتزوجين . لقد كانت حياة مليئة بدفءالإلفة و المودة.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: الأستاذ صالح فرح يكتب عن إنسان من زمن جميل (Re: الأمين عبد الرحمن عيسى)
|
لعبد الرحمن أحمد عيسى إبن نابه أسماه فاروق ، عمل في سلك الوظيفة بوزارة الخارجية حتى رقى أعلى درجاته وهو في سن مبكرة ، فلما جاء من عندهم الإنتماء قبل الكفاءة ،غادر. أصدر كتابا بعنوان " السودان وسنوات التيه" تكرم مشكورا وأهداني نسخة منه. الكتاب صفحاته تقارب 800 . عدد الصفحات ربما هال البعض فأبعدهم ، ولكنه للقارئ النهم ونسة ممتعة تسلمك الصفحة للصفحة الأخرى في يسر وانت لا تجد في ما تقرأ ما تضيق به نفسك او يرهق عقلك . لكن في عنوان الكتاب ما يدعوك للوقوف عنده . التيه ، ولسنوات ، والسودان! التيه لمعنيين : الخيلاء والضياع ، أنت لا تدري أي المعنيين أراد الكاتب لنفسه ، وأيهما أراد فإنك لا تجده في ما تقرأ . أما الربط بين التيه والسودان فلربما كان فيه وصف لحاضره وأعوذ بالله ان تكون فيه نبوءة بمستقبله. التيه لبني إسرائيل كان خروجا من الضلال إلى الضياع، ترى، هل هنالك ربط بين السودان والتيه كما كان عند بني إسرائيل ـ ضلال في حاضره وضياع في مستقبله ؟! ومهما يكن دعوانا : ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا وارحمنا واغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم . إن أردت صورا من عبد الرحمن أحمد عيسى رجل المجتمع ورب الأسرة والوالد فـ " السودان وسنوات التيه" يقدم لك صورا من كل ذلك ، صورا لم يقصد إليها الكاتب ، ولكنك تجدها منثورة في ما يكتب . الأمر الذي يزيد إعجابك بالرجل وتقديرك له ، فلقد كان إنسانا من الزمن الجميل.
صالح فرح أبوظبي – أكتوبر 2017
| |
|
|
|
|
|
|
|