نحو أفق بعيد! محمد التجاني عمر قش زميلنا العزيز الأستاذ والشاعر، علي الطاهر العباس، رجل من الذين تستطاب صحبتهم، لأنه كحامل المسك: إما أن يُحْذِيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة. وعلي إما أن يسمعك شيئاً من قول ود شوراني أو ود الشلهمة، أو يقرأ عليك شيئاً تلذ له من شعر أبي الطيب المتنبئ أو يذكرك بمقال عن الطيب صالح أو يهبك واحداً من روائع الأدب العربي وثمرات المطابع، ويقول: تفضل هذا الكتاب هدية. يعمل الأستاذ علي الطاهر لدى برنامج الخليج العربي للتنمية، وهو منظمة إقليميه تنموية مانحة، تدير أعمالها من مدينة الرياض بالمملكة العربية السعودية التي تتخذها الإدارة التنفيذية مقراً لها. وقد أنشئ هذا البرنامج، عام 1980م، بمبادرة من صاحب السمو الملكي الأمير طلال بن عبد العزيز، وبدعم وتأييد من قادة دول مجلس التعاون الخليجي. وقد زرت أستاذنا علي الطاهر بمقر عمله قبل فترة وجيزة حظيت خلالها بجولة في مكتبة صاحب السمو الملكي طلال بن عبد العزيز برفقة الصديق عادل سيد، من مصر الشقيقة، وهو القائم على هذه المكتبة العامرة بشتى صنوف الكتب وأنواع المعارف والصور التذكارية النادرة، التي تعد سجلاً حافلاً لأحداث وزعماء ومشاهير الأمة العربية خلال النصف الأخير من القرن المنصرم. كما اكتحلت عيناي، خلال تلك الزيارة، برؤية نسخة من المصحف العثماني المشهور. وكعادته دائماً، أهداني علي الطاهر نسخة من أوراق الطيب صالح، وهو كتاب يضم مقالات كتبها الأديب الراحل عن رفيقي دربه وصاحبيه في شرخ الشباب، أكرم صالح، ومنسى وبعض رحلاته إلى دول العالم عندما كان يعمل في قطر. وهذا الكتاب بكل تأكيد يجسد عبقرية الطيب صالح فيما يتعلق بكتاباته وأعماله غير الروائية. وقد نشرت تلك المقالات بعنوان "نحو أفق بعيد ومنازل العروبة" في "المجلة" وهي مجلة سياسية كانت تصدر أسبوعياً من لندن. وبعد أن بدأت قراءة الكتاب، اتصلت بعلي الطاهر وقلت له: لقد شغلني الطيب صالح، فرد عليْ ضاحكاً وهو يقول: الطيب صالح شغل كل العالم من عرب وعجم أفلا يشغلك أنت؟ وصدق أخي عليٌ فيما قال؛ لأن من يقرأ ذلك الكتاب الفريد لا يشعر بأنه يقرأ كتاباً أو مقالاً بل في واقع الأمر يجد نفسه يجلس وجهاً لوجه مع الراحل الطيب صالح وهو يتحدث بصوته الهادئ الوقور، تارة تجده في نواكشط، العاصمة الموريتانية، يتبادل الحديث مع شعراء شنقيط، وتارة أخرى هو في سلطنة عمان، يحاور أحد باعة السيوف ويتجاذب معه أطراف الحديث حول قول الأستاذ، كما يقول هو عن أبي الطيب المتنبئ:
تُهابُ سُيُوفُ الهِنْدِ وَهْيَ حَدائِدٌ فكَيْفَ إذا كانَتْ نِزارِيّةً عُرْبَا وكان الطيب صالح يصر على هذه الرواية فيرد عليه الشيخ العماني، مصححاً إياه: تُهابُ سُيُوفُ الهِنْدِ وَهْيَ حَدائِبٌ فكَيْفَ إذا كانَتْ نِزارِيّةً عُرْبَا بمعنى أن سيوف الهند لا تقطع إلا من جانب واحد "حدائب" بينما السيوف العربية "النزارية" تقطع من جانبين! وعندما يهم صحب الطيب صالح بالرواح، يقول لهم الشيخ العماني: اذهبوا أنتم ودعوا لي هذا؛ فقد وجدت بضاعتي عنده! بينما يعجب الطيب من فصاحة هذا الرجل الذي لم يكن سوى بائع سيوف! الطيب صالح يجيد الحكي والوصف سيما وإنه حلو الكلام أو كما نقول في لهجتنا السودانية الدارجة "زول ونّاس". والطيب أيضاً وفيٌ لأصدقائه فقد يضيق ذرعاً بمنسي ولكنه لا يلبث أن يشتاق إليه وهو في طريقه إلى طوكيو. هذا الرجل، شخص فطن وواسع الثقافة والاطلاع، فقد حذق الكتابة في مجال الرواية حتى ترجمت كتبه إلى كثير من لغات العالم؛ نظراً لما بها من واقعية وإبداع وقدرة فائقة على السرد والتصوير. والطيب معجب بالمتنبئ حتى إنه لا يترك فرصة للحديث عن شعره إلا اغتنمها كما نجد هنا: صحبتني على الفلاةِ فتاةٌ ... عادةُ اللونِ عندها التبديلُ ستَرتكِ الحِجالُ عنها ولكن ... بك منها من اللمى تقبيلُ نحن أدرى وقد سألنا بنجدٍ ... أطويل طريقنا أم يطولُ وكثير من السؤال اشتياقٌ ... وكثير من رده تعليلُ فهو يريد بالفتاة الشمس لأن طلوعها يتجدد؛ فهي بِكرٌ كل يوم أو لأنّ الدهر لا يؤثر فيها، والشمس تبدل اللون وتحول البياض إلى السواد. يقول أنتِ في كنٍ من الشمس لا يصيبك حرها ولكن بك منها تقبيل لما في شفتك من السواد كأنها قبلتك فأورثتك اللَمَى. وهو يتساءل عن طول الطريق كأنما يريد أن يقول: أطويل هو في الحقيقة أم يطوله الشوق إلى المقصود؟ ويفهم من قوله إنهم كانوا أعلم بمقدار الطريق ولكنهم تسألوا أقصير طريقهم أم يطول؛ تعللا بذكر الطريق إليه؛ لأن الإنسان إذا أحب شيئاً أكثر السؤال عنه. وهذا معنى شرود وتشبيه مقلوب لا يجيد استخدامه إلا أمثال المتنبئ والبحتري والطيب صالح؛ فدأب هؤلاء أن يأتوا بما يروق لهم من الأدب والشعر. و"نحو أفق" بعيد لا تعنى البعد الجغرافي وإنما تحمل القارئ إلى عوالم الطيب صالح ذهنياً.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
محمد التجاني عمر قش
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست