الشعوبيّة- للمؤلف: أحمد فرج الله

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-03-2024, 04:23 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف للعام 2016-2017م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
06-28-2017, 03:08 PM

زهير عثمان حمد
<aزهير عثمان حمد
تاريخ التسجيل: 08-07-2006
مجموع المشاركات: 8273

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الشعوبيّة- للمؤلف: أحمد فرج الله

    02:08 PM June, 28 2017

    سودانيز اون لاين
    زهير عثمان حمد-السودان الخرطوم
    مكتبتى
    رابط مختصر

    الشعوبيّة
    أوّل ما يواجهك في موضوع الشعوبية هي هذه النسبة المخالفة لما سار عليه النحاة، وهم يتعرّضون لبحث النسب في كتب النحو. لماذا الشعوبية وليس الشعبية بالمفرد، والنسبة لا تكون للجمع (الشعوب) إلاّ في حالات ينص عليها النحاة على وجه الحصر، وليس من بينها هذه الحالة.
    هل كانت هذه النسبة مقصودة للدلالة على معنى، لا يمكن أن تدل عليه النسبة إلى المفرد، فتراجع النحو لحساب السياسة وخضع لأحكامها.
    هذا ما أظن، إذ إنّ المقارنة والمفاضلة لم تكن في الأصل بين العرب وبين شعب بذاته، وإنّما كانت بين العرب وبين غيرهم من أُمم وشعوب كثيرة دانت لهم؛ وهذا ما لا يمكن التعبير عنه بلفظ المفرد (شعب) والنسبة إليه (شعبي) وإلاّ أخطأنا المراد.
    ثم إنّ اصطلاح الشعوبية بما يتضمّنه من جمع للشعوب الأخرى، وتسوية لها في صف واحد مقابل العرب، سيعزّز ارتباط هذه الشعوب ببعضها ويوحّدها في مواجهة مَن يعتبرونه عدوّاً لهم جميعاً، ويشعرهم بالقوّة إزاءه ويدعم دعواهم في المطالبة بالتسوية معه، أو فيما يتجاوز التسوية إلى تفضيلهم على العرب. ولن يقف إلى صف العرب عند ذاك شعب من هذه الشعوب، في موضوع قريب من السياسة بعيد عن الدين الذي يجعل من المسلمين عرباً وغير عرب أُمّة واحدة.
    هذا من جانب (الشعوب) الأُخرى، أمّا من جانب العرب فالأمر على العكس، إذ ربما أراد المتعصّبون منهم ألاّ يقصدوا المفاضلة بين العرب وبين شعب من هذه الشعوب فقط وتفضيل العرب عليهم. وإنّما أرادوا المقارنة والمفاضلة بين العرب وبين كل تلك الشعوب وتفضيل العرب عليها، فهي تتساوى كلها بالنسبة للعرب وإن اختلفت فيما بينها علوّاً وانحطاطاً.
    يضاف إلى كل ذلك أنّ النسبة للمفرد (شعبي) لا تخلو من غموض وإبهام. فهل يقصد باللفظ ما يقابل الرسمي أو الحكومي؟ هل يقصد به شعب معيّن ومَن هو، وأي شعب يمكن أن يكون مصداقاً له؟ الفارسي أو الرومي أو الهندي … الخ.
    وهكذا سارت هذه التسمية التي يبدو أنّ المؤلّفين العرب ارتضوها وفضّلوها، كل من رؤية خاصة به، للتعبير عن حركة سياسية ثقافية عرقية، ساهمت إلى حد كبير في إضعاف الروابط بين أبناء الأُمّة الإسلامية الواحدة وأوشكت أن تمزّقها.
    ٧٥
    ولنترك النحو وأقيسته ورجاله إلى التأريخ؛ لنرى كيف ظهرت هذه الحركة وماذا كانت تعني عند ظهورها، ثم كيف تطوّرت بعد ذاك؟ وما هي العوامل التي ساعدت على ظهورها، ثم على تطوّرها حتى هددت في وقتٍ ما وحدة المسلمين، وكادت أن تقضي عليها بما أشعلت من حروب وأزهقت من أرواح وأسالت من دماء وأورثت من كره وحقد وعداء استمر طويلاً.
    حين بعث الله محمّداً بالإسلام بعثه للناس جميعاً وكان العرب (مهاجرون وأنصار) طبعاً أول مَن استجاب للدعوة التي بدأت بهم وقامت بينهم. وهم الذين حملوا الإسلام وتحمّلوا وجاهدوا وقاتلوا لإعلاء كلمته ضد العرب من أعدائه أوّلاً، ثم ضد غير العرب من الأُمم الأُخرى بعد دخول العرب أو غالبيتهم فيه.
    ولم يكن في أيام الرسالة الأُولى مسلمون من غير العرب إلاّ أفراداً لا نكاد نعرف منهم أكثر من ثلاثة هم: سلمان الفارسي، وبلال الحبشي، وصهيب الرومي الذي لم يكن رغم لقبه رومياً، بل عربياً من النمر بن قاسط من ربيعة أصابه سباء في الجاهلية، وقيل نشأ في الروم فغلب عليه اسمهم لطول مكثه فيهم، وهو أحد السابقين إلى الإسلام والذين أُوذوا وعذبوا فيه.
    بقي من الثلاثة اثنان هما سلمان الفارسي وبلال الحبشي، وقد كانا من السابقين إلى الإسلام، أبليا فيه وجاهدا في سبيله.
    أمّا سلمان فكان هو صاحب فكرة الخندق يوم الأحزاب، وبرأيه وحسن تدبيره تجنّب المسلمون ما كان ممكناً أن يحصل لهم لولا الخندق الذي حماهم من كيد المشركين وكسر شوكتهم، وردّهم دون أن يظفروا بشيء غير قتل فارسهم عمرو بن عبد ود.
    وأمّا بلال مؤذّن الرسول فقد تحمّل ما لا يتحمّله إلاّ القلّة من الذين رزقهم الله القوّة والصبر على تحمّل الأذى والاستهانة به.
    وما أظن الذين لم أذكرهم من المسلمين غير العرب إذا كان هناك آخرون لم أذكرهم يتجاوزون في ذلك العهد عدد مَن ذكرتهم منهم.
    وما أظن هؤلاء بمجموعهم، وهم لا يرجعون لجنس واحد، يستطيعون أن يستفزّوا العرب أو يثيروا لديهم شعوراً بالغيرة أو العداء، وهم كما قلت قد دخلوا الإسلام عن عقيدة راسخة وإيمان عميق، استهانوا معهما بكل ألوان التضحية وضروب العذاب التي تعرّضوا لها أيام ضعف الإسلام، وعدم قدرة المسلمين على حمايتهم من جبابرة العرب في ذلك العهد.
    ٧٦
    وتوفّي النبي محمد (ص) وتبعه بعد سنتين أبو بكر ولم يجد شيء ذو بال بالنسبة لهؤلاء، ولم يزدد عددهم كثيراً عمّا كان عليه.
    وجاء عهد عمر وجاءت معه الفتوح، ومع الفتوح المال والغنائم والأسرى والسبي.
    وكثر عدد هؤلاء الأجانب الذين كانوا يعتبرون من جملة الغنائم. وكثر من جهة أُخرى عدد الداخلين في الإسلام من غير هؤلاء بعد الذي رأوا أو سمعوا عن سماحته وعدالته ومساواته بين المسلمين، وعليهم جميعاً أطلق اسم: (الموالي).
    وكان المسلمون الأوائل الذين ذاقوا مرارة الذل والقهر، والذين يعيشون قيم الإسلام كما عرفوها في زمن صاحب الرسالة، يحسنون التعامل مع هؤلاء الموالي الذين لم يشعروا بوطأة الهزيمة قدر شعورهم بسعادة الدخول في الدين الجديد.
    لكن هذا لا يعني أنّ العرب المسلمين جميعاً كانوا يسيرون على نفس الأسلوب في تعاملهم مع الموالي، وتنفيذ ما يأمر به الإسلام من الرفق بهم والعطف عليهم وإعطائهم حقوقهم.
    فإلى جانب أولئك العرب المسلمين، كان هناك نمط ثان من الذين دخلوا الإسلام متأخّرين كرهاً أو طمعاً، ولم يستطيعوا أن يتمثّلوه ولا أن يستبدلوه بما نشؤوا عليه من عادات وتقاليد في جاهليتهم، وهي ليست بعيدة.
    فهؤلاء لم يسيروا مع مواليهم سيرة المسلمين الآخرين، ولم يلتزموا بما فرضه الإسلام لهم من حقوق، ولم تخل نظرتهم إليهم وتعاملهم معهم من استعلاء وترفّع يمثلان الحالة السائدة بين منتصر ومهزوم، أو بالأحرى بين مالك ومملوك.
    ولا بد أن يكون بين الموالي مع مرور الوقت، مَن صدمته هذه المعاملة ومَن كان يرفضها ويتمرّد في داخله عليها، وهو يستعيد ذكرياته عن ماضيه قبل أن يصبح رقّاً ينقله سيّده معه حيث سار، ويبيعه أو يتنازل عنه كلما شاء لمَن شاء.
    لكن ذلك لم يكن القاعدة، وكان الأمل مبسوطاً أمام الموالي في انتهاء حالة قد تكون شاذّة، خصوصاً وأنّ الإسلام كان حتى ذلك العهد قوياً بأصحابه الذين حملوه فتياً، ووجودهم يخفّف من شعور الموالي بالضيق ويمنحهم الأمل بإن يتبدّل وضعهم نحو الأفضل.
    ٧٧
    ومضى عمر حميداً مشكوراً لم يملك ولم يخزن، ولم يضعف فيما تحمّل من أُمور الإسلام والمسلمين عرباً وموالي.
    وجاء عثمان وجاء معه بنو أُميّة. ولم يكن هؤلاء بحق موضع ثقة المسلمين سيّما الأوائل الذين عاصروا الإسلام أيام ضعفه. وهم لا ينسون أنّ بني أمية كانوا من أشد المحاربين له المؤلّبين عليه. لم ينسوا أبا سفيان، ولم ينسوا الحكم بن أبي العاص، ولم ينسوا عقبة بن أبي معيط، ولا أخوتهم من بني عبد شمس: عتبة وشيبة والوليد. ولم يسلم الأمويون باستثناء بضعة نفر إلاّ بعد أن أسلم الناس وقوي الإسلام وأخفقت كل وسائلهم في محاربته وصدّه وصد الناس عنه، وبعدما رأوا أنّ بقاءهم على الامتناع عن الدخول فيه سيضعفهم ويحول بينهم وبين ما يطمحون إليه من سلطان، سيسبقهم إليه مَن سبقهم إلى الإسلام , وازدادت الفتوح وازداد العرب ثراءً وازداد عدد الرقيق من البلاد المفتوحة.
    ولم يكن الأمويون الذين غلبوا على عثمان واستأثروا بالسلطة، مع نزعة قبلية متعالية، يحسنون التعامل مع العرب المسلمين أنفسهم، ويشعرون بالتفوّق والفضل عليهم، فما بالك بغير العرب من هؤلاء الموالي الذين جلبتهم الفتوح قهراً، أو أسلموا قبل أن تجلبهم الفتوح قهراً.
    وهكذا بدأت تسوء أحوال هؤلاء الموالي، ومع ذاك فلم يبد منهم حتى ذلك الوقت ما يشير أو يعبّر عن موقف خاص بهم. فما يزال هناك صحابة أجلاّء يهربون بهمومهم إليهم، وإسلام يلوذون به ويتفيّؤون ظلاله، وأمل يتسع لهم كلما ضاق بهم واقعهم أو ضاقوا به. ولم ينقل عن واحد منهم قول أو فعل طعن فيه بالعرب أو ذمّ حاضراً أو حنّ إلى ماضٍ، أو حاول استبدال دين بدين ممّن سمّوا فيما بعد بالشعوبيين.
    وقامت الثورة على عثمان ولكنّها لم تنته بمقتله. قام بها عرب من قبائل عربية:
    الذين حرّضوا على عثمان وأيّدوا الثورة عرب.
    والذين ساروا من أمصارهم قاصدين المدينة عرب.
    والذين قادوا الثورة عرب.
    والذين حاصروا عثمان وقتلوه عرب.
    ٧٨
    ماذا كان: طلحة، والزبير، وأُم المؤمنين عائشة، وعبد الرحمان بن عوف؟
    ماذا كان: الأشتر، وحكيم بن جبيلة، وعبد الرحمان بن عديس؟
    ماذا كان: محمد بن أبي بكر، ومحمد بن أبي حذيفة، وعمار بن ياسر؟
    والجماهير التي خرجت من الكوفة والبصرة ومصر إلى المدينة تحمل غضبها ومطالبها، هل كانت جماهير الشعوبيين يريدون الكيد للإسلام والثأر من العرب وإعادة مجد فارس؟
    هل كان بين كل الذين ساهموا في الثورة على عثمان، ومن خلاله، الثورة على تسلّط الأمويين وتحكّمهم، ابتداءً وانتهاءً، جماهير وقادة، مَن لم يكن مسلماً عربياً من قبيلة عربية معروفة؟
    ويبقى هذا اليهودي القادم من صنعاء، على رغم كل ما ذكرناه عن الثورة وشخصياتها، دعاة وقادة ومساهمين ومنفّذين، وعلى رغمه هو، قائداً ومحرّكاً لها ومدبّراً لأمرها، والعقل المفكّر والمخطّط والمنفّذ فيها؛ لأنّ عدداً من الذين يقرؤون التأريخ معكوساً وبعين واحدة، يريدون ذلك ولا يرضيهم إلاّ ذلك، ولو جمعت لهم كل الذين ساهموا في الثورة على عثمان وأقسموا أنّهم لا يعرفون ابن سبأ، أو ابن السوداء هذا ولم يسمعوا به؛ لأنّه غير موجود أصلاً، لكذّبوهم وسخروا منهم واتهموهم بالكيد للعرب والإسلام، ولأصرّوا على أنّ ابن سبأ هذا أو ابن السوداء هو القائد لهم، وأنّهم كلهم لم يكونوا إلاّ منفّذين لخطة خبيثة جهلوها ولم يعرفوا عنها شيئاً، وأنّهم كلهم كانوا ضحية خبثه وجهلهم.
    أيمكن أن ألغي عقول كل هؤلاء العرب المسلمين، وفيهم أصحاب الدين والسابقة والفضل والشرف، وألغي عقلي قبلهم، فأقبل أن أجعل منهم مجرّد أتباع مسحورين مخدّرين لا عقل لهم ولا فكر، يسوقهم واحد من اليهود لم يسلم ولم يترك صنعاء إلاّ قريباً؟
    أتراهم سيقبلون مني هذا؟! أُقسم أن لو تقدّم بي العمر أو تأخّر بهم أو ببعضهم لجرّوني أمام القضاء بأكثر من تهمة، ربّما أهونها اتهامهم في عقولهم.
    كيف استطاع هذا اليهودي الذي لم يسلم، كما يقولون إلاّ قريباً قبل سنتين أو ثلاث، أن يكسب كل هذا التأثير والنفوذ وكل هذه العلاقات والثقة بين ملايين المسلمين من المدينة والكوفة والبصرة ومصر. فيكفي أن يأمرها فتطيع ويوجّهها فتمضي ويطلب منها أن تثور وتقتل فتثور وتقتل. لا تسأل ولا تنتظر ولا تراجع. ولو طلب الله منهم ذلك لما نفّذوه بنفس الهمّة والنشاط الذي نفّذوا به أوامر اليهودي ابن السوداء.
    لقد صور هؤلاء (المؤرّخون) العرب المسلمين، مجموعة من الأغبياء أو حتى دون هذا الوصف. لا عقل لهم يرجعون إليه ولا فكر يميّزون به ما هو خطأ ممّا هو صواب. ينقادون لكل أحد، يعرفونه أو لا يعرفونه، مسلم أو غير مسلم، عربي أو مولى. وما أظن الشعوبية تستطيع أن تنزل بالعرب وتحط من قدرهم وتنال منهم، أكثر ممّا نزل وحط ونال الذين يدّعون محاربة الشعوبية: قدماء ومحدثين.
    وكانت هذه الثورة - إذا تركنا حروب ما يسمّى بالردّة - أوّل ثورة عربية إسلامية دفع إليها تسلّط الأمويين وتعسّفهم واستئثارهم، وانتهت بمقتل الخليفة الذي لم يرد أو لم يستطع أن يكف أُسرته ويضرب على أيديهم، ويرضي المسلمين ويشعرهم بالعدل والمساواة كما عرفوها من قبل.
    ٧٩
    ولم أرد أن أطيل الحديث عن هذه الثورة ولا الدخول في تفاصيلها، وإنّما أردت فقط بيان هويتها العربية الإسلامية، وبعدها عن الشعوبية التي يحلو للبعض أن يصفوها بها أو يجعلوها من صنعها.
    وجاء المسلمون بعليٍّ خليفة، ودامت خلافته خمس سنوات، مرّت كلها في حروب متصلة أشعلها عرب مسلمون، لا موال ولا شعوبيون حتى انتهت باغتياله عام ٤٠.
    وباستشهاد علي انتهى عهد الراشدين وعهد الأُسر المختلفة من قريش؛ ليقوم حكم الأُسرة الواحدة الذي يختلف في قيمه وأساليبه وطريقة تعامله مع الناس عمّا سبقه.
    ذلك هو الحكم الأموي الذي بدأ بمعاوية وانتهى بمروان بن محمد عام ١٣٢.
    ولا أريد الحديث عن بني أُميّة في الجاهلية، فهو أمر معروف وليس من شأننا هنا، ولا الحديث عنهم في الإسلام، فهو أمر معروف أيضاً وقد تعرّضت له عند الحديث عن الثورة على عثمان وعلاقتهم بها.
    ولكنّي أريد الحديث عن سياسة الأمويين - وقد صاروا حكّاماً - بقدر ما تتصل هذه السياسة بموضوعنا عن الشعوبية.
    عن هذه الصلة بين الحكم الأموي وبين الشعوبية إذن سأتحدث.
    وهذا يقتضيني أن أتناول سياستهم مع المسلمين عرباً وموالي لأخلص من بعد، إلى موضوع الشعوبية في العصر الأموي.
    لقد قامت سياسة الأمويين على البطش والشدّة في التعامل مع المسلمين والقسوة عليهم وعدم الرفق بهم.
    فهذا زياد بن أبيه يقوم في البصرة خطيباً فيعلن أنّه سيأخذ الحاضر بالغائب والبريء بالمذنب.
    وهذا مسلم بن عقبة المري يبلغ من قتلهم يوم الحَرّة من أهل المدينة في المعركة، أو بعد انتصاره ودخوله المدينة، سبعمائة من وجوه الناس من المهاجرين والأنصار، وعشرة آلاف من غيرهم. ثم لا يكتفي حتى يبيح المدينة لجيشه ثلاثة أيام يفعل فيها ما يشاء.
    وهذا الحجّاج بن يوسف يخطب في الكوفة فيهدّد بأنّه يرى رؤوساً قد حان قطافها وأنّه لصاحبها.
    وهذا عبد الملك بن مروان يقول مخاطباً أهل مكّة: (.. فمَن قال برأسه كذا قلنا له بسيفنا كذا).
    ٨٠
    والى جانب هذه الشدّة في معاملة عموم العرب والمسلمين، كان هناك جانب آخر لا يقل خطورة عنه، لجأ إليه الأمويون ومارسوه طوال أيام حكمهم لتثبيت أركانه، وتفتيت حركات المعارضة ضده. هذا الجانب يتمثل فيما اتجه إليه الأمويون من إحياء العصبية القبلية بعد أن ضعف دورها وكاد أن يتلاشى في الحياة الإسلامية.
    فمع بداية الحكم الأموي بدأت تبرز وتقوى ظاهرة طالما حاربها الإسلام، وحاول أن يحد من تأثيرها في حياة المسلمين إذ لم يكن ممكناً القضاء عليها تماماً. تلك هي العصبية القبلية التي كانت تمثّل خطراً داخلياً في الحياة الإسلامية، وفيما بين المسلمين الذين كانوا من قبائل مختلفة، لم تخلُ جاهليتها من معارك وحروب وفخر وهجاء.
    وقد نجح الإسلام إلى حد كبير أن يحاصر هذه الظاهرة ويخفّف من آثارها ويستبدل بها أُخوّة الإسلام الذي لا تفاضل فيه إلاّ بالتقوى.
    لكن ذلك لم يكن ليريح الأمويين الذين يعرفون أنّ المسلمين، خصوصاً أصحاب الفضل والسابقة منهم، لا يرونهم رضا لهم ولا أهلاً لحكمهم. ما كان الأمويون ليجهلوا شعور المسلمين نحوهم وهو خطر دائم عليهم؛ ولذلك فما إن استتب لهم الأمر حتى فكّروا فيما يدفعون به الخطر عنهم، ولم يكن أمامهم أمضى من العصبية القبلية يشعلونها بين المسلمين، وهم بعد قريبو عهد بالجاهلية، فيشغلونهم بأنفسهم ويبعدونهم عن التفكير بهم وبالحكم.
    وبدأت جاهلية جديدة: يمن وربيعة ومضر لا تقدّم هذه إلا لتؤخّر تلك. وبدأت المنافسة وبدأت الحروب، فبين كلب وقيس حرب، وبين قيس وتغلب حرب، وبين تميم والأزد حرب، كل قبيلة مشغولة بحربها مع الأخرى.
    ومع الحرب بين القبائل وبسببه، بدأت الحرب بين الشعراء، الذين كان كل منهم ينتمي لقبيلة، فيمدح ويفخر ويهجو ما اقتضت مصلحة قبيلته ذلك، ولكنّهم كلهم - مع بعض الاستثناءات التي لا تلغي القاعدة - يمدحون الأمويين الذين يجزلون لهم العطاء بقدر ما يبلغ الشاعر من رضاهم.
    وتراجع أصحاب الفقه أمام أصحاب الشعر، وأصحاب الدين أمام أصحاب اللهو، ولم يعد الفقراء وأصحاب الحاجات من المسلمين يجدون مَن يسأل عنهم ويحفل بأمرهم.
    وأموال المسلمين تنفق في غير مصارفها الشرعية يشترى بها الرجال واللهو. وحلّت دمشق محل مكّة والمدينة والكوفة والبصرة، واستأثرت بالرعاية دونها.
    وولاية العهد التي قد تسند إلى أربعة متتابعين بعد الخليفة، سدّت أمام المسلمين أيّ منفذ أو أمل بانفراج قريب للمحنة التي يعيشونها.
    ثم هناك علي بن أبي طالب الذي لا يستطيع خيار المسلمين، لا الشيعة وحدهم، أن يسمعوا على المنابر لعنه وسبّه ممّن لا يمكن أن يقاس به ديناً وسابقة فضل.
    هذا هو الوضع كما تؤكّده الوقائع، قد يختلف مع هذا الخليفة عنه مع ذاك، ولكنّنا نتحدث عن الحكم الأموي الذي امتد أكثر من تسعين عاماً، لا عن هذا الخليفة أو ذاك من خلفاء الأمويين.
    ٨١
    وأظننا لا نستغرب في مثل هذا الوضع أن تقوم ثورات وثوّار، أصحاب دين انتصاراً لدينهم وغضباً له، أو أصحاب دنيا طلباً للحكم والسلطة باسم الدين وتحت رايته.
    ثار هؤلاء وتبعهم الناس وثاروا معهم وقاتلوا وقتلوا في صفوفهم. لم يُجبروا على ذاك ولم يكرهوا، ولم يدفع لهم ثمن للانضمام إليهم والقتال معهم، إلاّ كرههم للحكم الأموي وبرمهم به، وعدم صبرهم على ظلمه ويأسهم من صلاحه.
    ثار هؤلاء وكلهم عرب من قبائل عربية شهيرة وأُسر عربية أشهر.
    ثاروا طوائف وفرق، وثاروا أفراداً انضم إليهم والتحق بهم هؤلاء المظلومون من العرب المسلمين.
    هل كانوا يثورون لو لم يظلم الحكم ويتعسّف ويجور؟
    وهل كان سيثور معهم أحد وينضم إليهم أحد، لو لم يكن الحكم فاسداً قد ملّه الناس وملّوا ظلمه وتعسّفه وجوره؟
    ثار الخوارج ابتداءً من فروة بن نوفل الأشجعي وحوثرة بن وداع، حتى نافع وقطري وشبيب.
    وثار الشيعة ابتداءً من سليمان بن صرد الخزاعي في عين الوردة، والمختار بن أبي عبيد، حتى زيد بن علي.
    وثار عبد الله بن الزبير وعبد الرحمان بن الأشعث ويزيد بن المهلب.
    فهل رأيت بين هؤلاء مَن لم يكن عربياً ومن أُسرة عربية معروفة؟!
    هل فيهم مَن هو مولى يريد الكيد للعروبة والإسلام وإعادة مجد فارس ودين ماني ومزدك؟!
    أكانت الثورة لهواً ومجلس شراب، فثاروا وتبعهم الناس يتدافعون وراء كأس خمر وسماع مغنٍّ والتمتّع برقص جارية.
    ليس السؤال لم ثاروا، لكن السؤال - لو لم يثوروا - لمَ لمْ يثوروا؟
    ثاروا لأنّه كان لا بد أن يثوروا، وإلاّ جرّدناهم من أفضل صفات الإنسان وأكرمها، حين يظلم فيخضع ويستكين ولا يرفض ولا يتمرّد ولا يثور. وما أظن هذا ممّا يشرّف العرب ويرضي كبرياءهم وإن كان يرضي - كما يبدو - هؤلاء العروبيين الذين يقفون دائماً مع السلطة وينتصرون لها ويدافعون عن جرائمها، وينسون دائماً هذه الجماهير المضطهدة المظلومة ويلومونها ويتهمونها إن توجّعت أو صرخت أو تحرّكت، مع أنّها لا تختلف في عروبتها عن عروبة حكّامهم الظالمين لهم.
    ولقد تساءلت: إن كان عروبيو هذا العهد من الكتّاب والمؤلّفين المدافعين عن بني أُميّة أصرح عروبة، وأشد اعتزازاً بها ودفاعاً عنها من ابن الزبير وابن الأشعث وابن المهلب، لولا هذا الجهل والحمق والغباء الذي يجعل كل ثائر في نظرهم ضد سلطة عربية، شعوبياً أو مخدوعاً بها أو مسخراً منه.
    ٨٢
    هناك كان الفساد، ومن هناك سرى إلينا، ومعه اتهام لكل مَن يحاول إصلاحاً أو يدعو - عند اليأس - إلى ثورة، بأنّه خارج عن الدين أو شعوبي، أو عميل بلغة العصر، يريد هدم الإسلام والعروبة و (قيم) و (تقاليد) الإسلام والعروبة. ويا بؤسها من قيم وتقاليد متخلفة، يراد لها أن تقودنا اليوم، وقد فشلت قبل خمسة عشر قرن. ولم تكن - وما زالت - إلاّ سلاحاً بيد السلطة للقتل والقمع والإرهاب، كلما أحسّت سخطاً، أو خافت تمرّداً أو ثورة للإطاحة بها والتخلّص من ظلمها.
    وأنتقل الآن إلى موقف الموالي في ذلك العصر، وهم أصل الشعوبية موضوع حديثنا.
    ولقد رأينا العرب يثورون بعدما تعرّضوا للظلم وذاقوا مرارته. لم يمنعهم من الثورة أنّ الحكّام عرب مثلهم، وهذا حق مشروع لهم ولغيرهم.
    ولكنّي أحسب أنّ ظلم الأمويين لم يصل العرب إلاّ بعد أن مرّ بالموالي ولم ينل منهم قدر ما نال من الموالي وبالغ في إهانتهم والإساءة إليهم.
    بل إنّ معاوية بن أبي سفيان عزم في وقت ما على أن يقتل شطر الموالي، ويدع الشطر الثاني لإقامة السوق وعمارة الطريق. ولم يثنه عن عزمه على قتلهم إلاّ الأحنف بن قيس سيّد تميم البصرة الذي نهاه عنه ونصحه بعدم إمضائه (١) .
    وليشكر الموالي الحاجة إليهم في إقامة السوق وعمارة الطريق التي صرفت القتل عن شطرهم، وليشكروا هذا السيد النبيل الذي صرف القتل عنهم كلهم. فلولاهما لكان لمعاوية معهم شأن قد لا يقف عند الشطر.
    أترى من ذنب لهؤلاء المسلمين يستحقون به القتل بهذا الشكل؟ لا مَن ارتكب جرماً منهم، بل مَن ارتكب ومَن لم يرتكب، قتلاً على الهوية.
    وبعد معاوية، هل سننسى الحجّاج وغير الحجّاج من جبابرة الأمويين الذين لم يحترموا العرب ولم يكفّوا عنهم، فكيف بهؤلاء الموالي الذين لا عصبية تحميهم ولا قبيلة تمنعهم وتدفع عنهم، وقد قتل أصحاب العصبيات والقبائل.
    ماذا سيكون موقف هؤلاء حين تقوم ثورة ضد الحكم الأموي، وينضم إليها العرب وترفع شعار الدين والعدل والمساواة، حقاً أو رياءً لجمع الناس وحشدهم.
    هل سيقفون مع الأمويين وفي صفّهم، يقاتلون مَن ثار على الظلم الذي هم أول ضحاياه؟
    ما أظنني سأحتاج إلى التفكير والترجيح بين موقفين: أيّهما أدع وأيّهما آخذ.
    وهكذا كان الموالي ينضمّون إلى الثوّار والثورات العربية عند قيامها في مواجهة السلطة. ينضمّون إليها وقد سبقهم للانضمام إليها والالتحاق بها العرب أنفسهم وإلاّ لما قامت. فما كان الموالي بقادرين على أن يقوموا هم بثورة في العصر والظروف التي نتحدث عنها.
    ثار الخوارج وانضمّ إليهم الموالي، وثار المختار وانضمّ إليه الموالي، وثار ابن الأشعث وانضمّ إليه الموالي.
    ____________________
    (١) العقد الفريد لابن عبد ربّه , تحقيق محمد سعيد العريان، نشر دار الفكر ج٣ ص٣٢٦ - ٣٢٧.
    ٨٣
    فهل تحوّلت هذه الثورات إلى ثورات شعوبية أو لخدمة أغراضها أو لتنفيذ مآربها، لمجرّد انضمام عدد من الموالي إليها؟
    لماذا لا تسمّى باسمها الذي تستحق؟ أنّها ثورات عربية قامت بقيادات عربية وجماهير عربية في بيئة عربية. لكنّها ليست بعيدة عن الإسلام والمبادئ السامية التي جاء بها، وما كانت تستطيع أن تكون بعيدة عنها وهي لم تقم إلاّ من أجله. ولو فعلت لتخلّى عنها العرب قبل غيرهم. فما كان هؤلاء يجهلون أنّ حكّامهم الذين يحاربونهم عرب مثلهم. لكنّهم يحاربونهم؛ لأنّهم ظلموا وجاروا واستأثروا، خلافاً لقيم الإسلام ومثله ومبادئه، وفي ذلك ما يبرّر الثورة ضدّهم. فالحديث عن الموالي ومحاولة جعل ثورات العرب من صنعهم، هو إهانة للعرب وازدراء بهم وحط من شأنهم، ورفع من شأن الموالي وإعطاؤهم ما لا فضل لهم فيه.
    وهل كان العرب في ثوراتهم تلك بدعاً من الأُمم والشعوب؟ ألم تثر الأمم قبلهم وبعدهم على حكّامهم حين يتنكّبون طريق الصواب؟ وهل استمر حكم منذ قام وحتى اليوم لم يشهد ثورة أو ثورات قد تنجح وقد تفشل، ولكنّها تبقى رمزاً لحيوية الشعوب واحترامها لذاتها واستعدادها للقيام في وجه كل مَن يحاول المساس أو العبث بحقوقها.
    أراني أطلت المسافة قبل أن أصل إلى مفهوم الشعوبية والأسباب التي دفعت إليه.
    وقد آن لي أن أتناول الشعوبية في جوانبها التي ظهرت من خلالها في الحياة العربية الإسلامية.
    وسأحاول الاختصار جهدي، فقد أطال المتقدمون وأطال المتأخّرون. حتى لو تكلّمت عن الشعوبية دون تحديد لمفهومها لما وجد القارئ صعوبة فيما أقصد إليه.
    كان العرب في الجاهلية وبعدها في الإسلام، وحتى اليوم الذي نعيش في القرن الحادي والعشرين - عدا الفترة التي صاحبت بدايات الإسلام ولم تدم طويلاً - يفخرون بأنسابهم ومآثر أهلهم، بل كانت هذه الأنساب مدار فخرهم، منها يبدؤون وإليها ينتهون. ولو خيّر العربي بين أن يذم ويمدح أهله وبين أن يمدح ويذم أهله، لما تردّد في اختيار الأول.
    فالعربي يفخر على ابن عمّه من نفس قبيلته بمآثر له ولآبائه لا يملكها الثاني ولا يجدها في آبائه.
    وما أظننا نسينا فخر الفرزدق وتعاليه واستطالته على جرير. ولم يكن جرير من قبيلة أُخرى إنّما كان مثل الفرزدق من تميم ولا من فخذ آخر من تميم إنّما من حنظلة فخذ الفرزدق، لكن لم يكن بين آباء جرير مَن يسامي آباء الفرزدق، فليس له غالب ولا صعصعة ولا دارم.
    ٨٤
    وما أظنّنا نسينا شبيب بن البرصاء وأرطاة بن سهية وعقيل بن علفة وكلهم من مرة من ذبيان.
    وإذا خرجنا من نطاق القبيلة الواحدة وما يدور بين أفرادها من فخر ومدح وهجاء إلى علاقات القبيلة بغيرها من القبائل. وجدنا الفخر والمديح - ولا فرق بينهما عندي إلاّ بالنسبة لمَن قيل فيه - أمضى وأبعد وأشد إيلاماً. لا يحده ما يحد الشاعر حين يهجو أحد أفراد قبيلته فلا يتجاوز - بلغة العصر - خطوطاً حمراء قد ينفذ منها خصومه من شعراء القبائل الأخرى في هجاء قبيلته، إذا ادعت ظروف إلى ذلك.
    وقد تجاوزت هذه الظاهرة في العصر الأموي حدود القبائل فيما بينها، واتسعت حتى شملت ما يسمّيه النسّابون بالشعب. فهجا الكميت اليمن كلها بجميع قبائلها من مذحج وكندة وطي و و. وردّ دعبل بهجاء نزار كلها بجميع قبائلها من ربيعة ومضر وما تضم ربيعة ومضر.
    وقبل هذا رأينا الأخطل التغلبي يهجو قبائل قيس فيتناولها قبيلة قبيلة.
    وجاءت الفتوح كما ذكرنا بالموالي، ودخل هؤلاء الحياة العربية وعرفوا لغتهم وألفوا عاداتهم، ونظموا شعرهم، وانتسبوا إليهم حتى صار الواحد منهم يقال له التميمي أو العامري فلا يميّز عن ابن القبيلة إلاّ بعد إضافة بالولاء أو مولى لهم.
    وبين هؤلاء الموالي مَن دخل الإسلام عن عقيدة وإيمان؛ فكان يرى للعرب حقّاً عليه بما ناله على يدهم من خير وهداية بالإسلام ومحمد الذي هو منهم، وفي ذلك ما يعصمه من كره العرب والحقد عليهم.
    وبينهم مَن لم يدخل الإسلام إلاّ خوفاً أو طمعاً ورجاءً.
    وكانت معاملة العرب المسلمين في بدايات الإسلام رقيقة مع الموالي، ليس فيها ما يثيرهم ويحفظهم، وقد شاركوهم الإسلام وأصبحوا بالولاء جزءاً منهم.
    أمّا مَن أسلم خوفاً أو رجاءً دون أن يكون للإسلام تأثير في فكره وسلوكه، فقد كان سلطان الإسلام ما يزال قوياً حينذاك يمنعه من إظهار ما يخفي من كره وحقد للعرب أو الإسلام.
    وانتهى عهد الراشدين، وبدأ الحكم الأموي واختلفت سيرة الحكّام وضعف تأثير الدين في النفوس.
    ٨٥
    وكان العرب وهم يفخرون على بعضهم، مع وحدة اللغة ووحدة الدار، ومع العروبة التي تجمعهم، لا يرون طبعاً لهؤلاء الأجانب ما يرون أو بعض ما يرون لأنفسهم. فهؤلاء رقيق لا يملكون من أمرهم شيئاً، أخذوا قسراً بحد السيف، إن أحسنوا إليهم فذلك فضل منهم، وإن أساؤوا معاملتهم فهم ملك لهم.
    وبدأ العرب أو المتعصّبون منهم يظهرون احتقارهم للموالي وازدراءهم بهم، ويشعرونهم بتعاليهم عليهم، حتى كانوا لا يكنّون الموالي ولا يمشون في الصف معهم، وإن حضروا طعاماً قاموا على رؤوسهم، بل إنّهم ساووا بينهم وبين الكلاب والحمير حين قالوا لا يقطع الصلاة إلاّ ثلاثة: حمار أو كلب أو مولى.
    وكان لا بد لهذا التغيّر في موقف العرب - وهو أمر معتاد لدى الشعوب الغالبة بالنسبة للشعوب المغلوبة - أن يوجد تغيراً مقابلاً لدى الموالي الذين كان أكثرهم من الفرس، لأسباب ربّما عرضنا لها فيما بعد.
    ولن يصعب عليك أن تتصوّر ما يمكن أن يتخذه الموالي من موقف نتيجة إحساسهم بالمهانة، وقد برز بينهم الشاعر والأديب والمفكّر.
    وضعف لدى الجيل الجديد منهم وازع الدين الذي كان يدفع آباءهم إلى حب العرب والاعتراف بفضلهم عليهم.
    ومع ضعف الوازع الديني، وبعد أن هدأت سورة الخوف وذل الهزيمة؛ عاد هذا الجيل من الموالي إلى ماضيهم يستذكرونه ويعودون إليه، أو يعيدهم إليه ما هم فيه من حال جديدة وما يعيشونه من ذل المولى إزاء سيّده، ثم يقارنون بين ماضيهم وبين الحال التي صاروا إليها. ولم يكن ماضيهم بعيداً عنهم في الزمان ولا في المكان، وكانت لهم دولة وسيادة وسلطان.
    وبدأت أصوات هنا وهناك تطالب بالمساواة بين العرب وبين باقي شعوب الأُمّة الإسلامية، فلا فضل لأُمّة على أُمّة، ولا لقوم على قوم إلاّ بالإسلام الذي ساوى بينهم، وهذا القرآن كتاب الله يقول:
    ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) .
    وأكّد هذا، النبي محمد حين قال في خطبته في حجّة الوداع:
    (أيّها الناس أن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتفاخرها بالآباء، ليس لعربي على عجمي فخر إلاّ بالتقوى كُلّكم لآدم وآدم من تراب) وغير هذا ممّا يحمل معنى المساواة بين المسلمين، وأنّه إن كان هناك من امتياز أو تفاضل فلن يكون بالآباء والأحساب، ولكن بالأخلاق وشرف النفس وكرم الفعال. ولم يكن الموالي يجرؤون في ذلك الوقت، على أكثر من طلب المساواة، وهو ليس قليلاً في عصر العصبية القومية والعصبية القبلية.
    ٨٦
    والى هنا والأمر يبدو في حدود المقبول، فليس فيه شطط ولا تجريح بالعرب، ولا حط منهم ولا إنكار لمآثرهم. وربّما كان يشاطرهم فيه بعض أتقياء المسلمين وذوي الدين منهم.
    وهذه الشعوبية التي تذهب إلى العدل والتسوية بين الناس الذين هم كلهم من طينة واحدة وسلالة رجل واحد هو آدم، والتي يبحثها ابن عبد ربّه في العقد تحت عنوان: (قول الشعوبية وهم أهل التسوية) هي إحدى صورتين للشعوبية من حيث المضمون. وهي أولى صورتين من حيث التأريخ. إذ إنّنا سنرى بعد ذاك صورة أُخرى للشعوبية تختلف عن سابقتها كثيراً فلا تقف عند التسوية ولا تكتفي بها.
    لكن ابن عبد ربّه يخلط خلطاً غريباً فيجمع الصورتين - على ما بينهما من فرق كبير - في حديث واحد فلا ندري عن أي منهما يتكلّم، فهو ينتقل من آدم أبي الجميع ومن ( ... إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) كشعار لأهل التسوية والقائلين به، إلى الصورة الثانية للشعوبية القائمة على ذم العرب، والحط منهم وذكر مثالبهم حين يتحدث بلا فاصل بين الاثنين، وتحت نفس العنوان المذكور (قول الشعوبية وهم أهل التسوية) عمّا وصل إليه الشعوبيون في المرحلة الثانية من الطعن على العرب والزراية بهم والتحقير لهم، وهي الصورة الثانية التي ظهرت فيها الشعوبية بعد ذاك.
    ثم يعود إلى رد ابن قتيبة على الشعوبية ورد هؤلاء على ابن قتيبة. ولكنّه يختصر ابن قتيبة اختصاراً شديداً.
    ويبدو أنّ المؤرّخين العرب لم يعيروا اهتماماً للمرحلة التي حصل فيها هذا الانتقال، وكيف بدأت الصورة الثانية بالظهور، وتدرّجت حتى بلغت أشد قسوتها وعنفها وحقدها الذي لا يواريه شيء؛ إذ كان اهتمام المؤرّخين منصبّاً في الأغلب على الذبّ عن العرب وتفنيد الطعون الموجّهة إليهم، وإبراز مآثرهم وتأكيد تفوّقهم على غيرهم من الشعوب الأُخرى.
    على أنّنا نستطيع أن نقدّر أنّ هذه المرحلة برزت كحركة في زمن العباسيين، الذين اعتمدوا في إقامة دولتهم على عناصر فارسية، أو في الأقل على مشاركتهم. ففي هذه المرحلة استطاعت العناصر غير العربية والفارسية على وجه الخصوص، أن تتكلّم وتهاجم وتطعن بحرية لم تكن تجرؤ عليها في المرحلة السابقة خلال حكم بني أُميّة (١) .
    ولكن ما هي أبرز النقاط التي دارت حولها المعركة، والتي تمسّك بها الشعوبيون في ردّهم وهجومهم على العرب ومحاولة سلب مآثرهم أو تحويلها إلى عيوب.
    كان العرب يفخرون بالجاهلية ويفخرون بالإسلام.
    ____________________
    (١) على أنّنا لا نعدم بعض مظاهر ه ذ ه الشعوبية عند عدد من الشعراء الفرس في العصر الأموي، فإسماعيل بن يسار يستنشده هشام بن عبد الملك، وهو خليفة، شعراً - وكان يظن أنّه سينشده مديحاً فيه - فينشده إسماعيل قصيدته الميمية التي منها أبيات تضمّنت مديحاً قوياً للفرس و غمزاً من العرب فيغضب هشام عليه.
    وابنا إسماعيل ه ذ ا: إبراهيم ودعبل - غير دعبل الخزاعي - لكل منهما شعر في مديح الفرس. وك ذ لك يزيد بن ضبّة مولى ثقيف.
    لكن ه ذ ه النزعة الشعوبية بقيت فردية ضعيفة خافتة، لم تستطع أن تتجاوز حدودها تلك، في عصر العصبية العربية وقوّة النفوذ والسلطان العربي.
    ٨٧
    وفي الجاهلية كانوا أحراراً لم يخضعوا لسلطة ولم يستذلّهم حكم ولم يملكهم حاكم، تميّزوا بالكرم والشجاعة والوفاء والغيرة وهي صفات قلّما نجدها عند غيرهم، كما تميّزوا بحدّة العاطفة وصفاء القريحة التي أنتجت شعراً لم يعرف لأُمّة من الأُمم.
    والى جانب ذلك فإنّهم يفخرون بوضوح أنسابهم حتى كان الواحد منهم لا يقف عند تعداد آبائه قبل أن ينتهي إلى الجد الأعلى الذي تحمل القبيلة اسمه، ثم يستمر حتى يتصل بعدنان أو بقحطان.
    ولست أريد أن أناقش هذه القضية من الناحية العلمية، ومقدار ما فيها من صواب وهل يقرّها العلم أم لا، فذلك أمر آخر، لكنّها كانت عند العرب واقعاً لا مجال لمناقشته والشك فيه، وعلى أساسه كانت تقسيماتهم القبلية وقربهم أو بعدهم من بعض وتعصّب بعضهم لبعض.
    أمّا فخرهم بالإسلام فلا يحتاج إلى دليل، فالقرآن نزل بلغتهم العربية، والنبي الذي نزل عليه كان عربياً منهم، والذين تحمّلوا أعباء الإسلام ونهضوا به وهو ضعيف، وجاهدوا وقاتلوا وقتلوا وعُذّبوا وتركوا أوطانهم وهاجروا هم العرب. والذين حملوه إلى الأُمم الأُخرى وقاتلوا وقتلوا عليه حتى أسلمت وتركت ما كانت فيه من دين هم العرب أيضاً.
    وفي كل ذلك ما يمنحهم امتيازاً على الشعوب الأُخرى أن تقر وتعترف به وتخضع له، وقد أصبحوا موالي لهم. أخذوهم أسرى ولو أرادوا قتلهم لقتلوهم. فليس لهم أن يضيقوا بحالهم أو يقيسوا أنفسهم بالغالبين المنتصرين بدينهم وحربهم.
    والحق أنّ العرب لم يكونوا مغالين ولا متزيدين فيما يقولون، ولم يكن فيهم ما يغيظ الآخرين ويحفظهم أو يثير حقدهم، لو بقي ذلك في حدوده ولم يخرج من الاعتزاز إلى التحدّي، ومحاولة سلب الشعوب الأُخرى مزاياهم وإنكارها عليهم، وتذكيرهم دائماً بأنهم دونهم. فهذه الشعوب لها هي أيضاً مزايا وصفات تعتز وتفخر بها كما يفخر العرب، وتدافع عنها وتحرص عليها وعلى التذكير بها كلما دعتهم الحاجة واضطروا إلى التذكير بها.
    ٨٨
    وكان العصر الأموي عصر العصبية، بين العرب أنفسهم: نزار واليمن، وربيعة ومضر، وبكر وتميم. وبين العرب وبين الأجناس الأُخرى خصوصاً الفرس. وهذه الأجناس على اتصال يومي بالعرب، يرونهم ويعاملونهم في الصباح والمساء، في المدينة وفي الشارع وفي السوق.
    وكان الحكم نفسه يدفع إلى هذه العصبية ويشجّع عليها ويذكي نارها، كما ذكرنا.
    وأحسب أنّ وضعاً كهذا لا بد أن ينفجر يوماً ما بشكل ما إذا تهيأت الفرصة.
    وبدأت فكرة المساواة التي تحدثنا عنها، وهي أُولى صور الشعوبية وقال الفرس: إنّهم أصبحوا شركاء للعرب في الإسلام الذي لا يفرّق بين مسلم وآخر إلا بالتقوى، وأنّه قد يفضل العجمي العربي إذا كان الأوّل أتقى لله وأقرب إلى مرضاته.
    وإذا كانت هذه النزعة القائمة على المساواة ترضي ذوي الدين من الطرفين: العرب والموالي، فإنّها لم تكن كذلك بالنسبة لهذا الجيل من شباب العرب ومتعصّبيهم وأصحاب الموالي منهم. يقابلهم على الطرف الآخر جيل جديد من الموالي الذين ابتعدوا عن الدين، وعادوا إلى تراثهم القومي يستلهمونه ويبعثونه حياً، يتسلّحون به لمواجهة ما يفخر به العرب. فيقابلون فخراً بفخر، ومآثر عربية بمآثر فارسية.
    ثم زادوا فلم يكتفوا بهذا ولم يقفوا عنده فتجاوزوه إلى ما كان من فضائل للعرب وبدؤوا بها ينقضونها ويغضّون منها ويحطّون من شأنها، الواحدة بعد الأُخرى ويقارنون بينها وبين ما كان لهم من فضائل لا تقاس بها في نظرهم.
    وكانوا يأخذون أحياناً الحالة الفريدة إذا كانت في غير صالح العرب فيعمّمونها ويجعلونها القاعدة أو الحالة العامّة، على عكس ما إذا كانت في صالح العرب فإنّهم يحاولون أن يقلّلوا من شأنها ويجعلوا منها حالة خاصة. كل ذلك لتأكيد تفوّق الموالي على العرب.
    وهنا تكون الصورة الثانية للشعوبية قد اكتملت، وهي التي ينصرف إليها الذهن الآن عند ذكر الشعوبية.
    وأظن من المناسب أن نذكر بعض ما أورده ابن قتيبة في العقد على لسان العجم وهم يردّون دعوى العرب بتقدّمهم على غيرهم، ويقابلون ذلك بما للعجم من مفاخر لا يمكن إنكارها.
    وأظن من المناسب أيضاً أن نقسّم الحديث هنا إلى قسمين: يتناول الأوّل: الجاهلية وإنكار الشعوبية على العرب فضاءلهم، ومحاولة نقضها والإفاضة في بيان عيوبهم.
    ويتناول الثاني: دعاوى الشعوبية في الإسلام وما يتعلّقون به من ذلك.
    ٨٩
    ولنبدأ كما قلت بالجاهلية: فماذا يقول الشعوبيون فيها ممّا جاء في العقد (... أخبرونا إن قالت لكم العجم هل تقدرون الفخر كله أن يكون ملكاً أو نبوّة فإن زعمتم أنّه ملك، قالت لكم وإنّ لنا ملوك الأرض كلها من: الفراعنة والنماردة والعمالقة والأكاسرة والقياصرة … وإن زعمتم أنّه لا يكون الفخر إلاّ بنبوّة فإنّ منّا الأنبياء والمرسلين قاطبة من لدن آدم ما خلا أربعة: هوداً وصالحاً وإسماعيل ومحمد … ولم تزل الأُمم كلها من الأعاجم في كل شق من الأرض، لها ملوك تجمعها، ومدائن تضمّها، وأحكام تدين بها، وفلسفة تنتجها، وبدائع تفتقها في الأدوات والصناعات، مثل صنعة الديباج ولعب الشطرنج … ومثل فلسفة الروم... والإسطرلاب...
    ولم يكن للعرب ملك يجمع سوادها ويضم قواصيها ويقمع ظالمها وينهى سفيهها، ولا كان لها قط نتيجة في صناعة ولا أثر في فلسفة إلاّ ما كان من الشعر وقد شاركتها فيها العجم).
    ثم ينتقل بعد أن يعدّد مآثر العجم إلى الهجوم المباشر على العرب فيصفهم بأنّهم كـ (الذئاب العادية، والوحوش النافرة، يأكل بعضها بعضاً ويغير بعضها على بعض، فرجالها موثقون في حلق الأسر ونساؤها سبايا مردفات على حقائب الإبل، فإذا أدركهن الصريخ استنقذن بالعشي وقد وطئن كما توطأ الطريق المهيع فخر بذلك شاعر فقال:
    وأوثق عند المردفات عشيّة
    فقيل له ويحك وأي فخر لك أن تلحق بالعشي وقد نكحن وامتهن.
    وقال جرير يعيّر بني دارم يوم رحرحان:
    وبرحرحان غداة كبّل معبد
    نكحت نساؤكم بغير مهورِ
    وقال عنترة لامرأته:
    إنّ الرجال لهم إليكِ وسيلة
    أن يأخذوك تكحّلي وتخضّبي
    وسبى ابن هبولة الغسّاني امرأة الحارث بن عمرو الكندي فلحقه الحارث فقتله وارتجع المرأة وقد كان نال منها…
    وسبت بنو سليم ريحانة أخت عمرو بن معدي كرب.
    وأغار الحوفران بن شريك على بني سعد بن زيد مناة، فاحتمل الزرقاء من بني ربيع ابن الحارث فأعجبته وأعجبها فوقع بها.
    ويعود ابن قتيبة إلى نفس الموضوع تحت عنوان (قول الشعوبية في مناكح العرب):
    (قالت الشعوبية إنّما كانت العرب في الجاهلية ينكح بعضهم نساء بعض في غاراتهم بلا عقد نكاح، ولا استبراء من طمث، فكيف يدري أحدهم مَن أبوه؟!
    ٩٠
    وقد فخر الفرزدق ببني ضبّة حين يبتزّون العيال في حروبهم في سبيّة سبوها من بني عامر بن صعصعة، فقال:
    فظلّت وظلّوا يركبون هبيرها
    وليس لهم الا عواليهم ستر
    والهبير المطمئن من الأرض وإنّما أراد هنا …
    وهكذا ننتهي من حديث ابن قتيبة عمّا توجّهه الشعوبية من طعون إلى العرب في الجاهلية. ولي عليه بعض الملاحظات التي يمكن اختصارها فيما يلي:
    فأوّلاً: إنّ الحديث هنا لا يختص بالعرب والفرس وحدهم ولا يقابل بينهم، وإنّما يتحدث عن جميع الأُمم والشعوب الأُخرى من غير العرب: الفراعنة والأكاسرة والقياصرة و و، ويقابل بينها مجتمعة وبين العرب. فهو في هذا يضيف علماً إلى علم، وفنّاً إلى فن، وفلسفة إلى فلسفة. من كل أُمّة ما اتصفت به وبرعت فيه، ثم يجمع كل ما تحصّل لديه من ذلك ليقابل به العرب ويفاخرهم، وكأنّه يجعل العرب في جانب والعالم كلّه يومذاك في جانب. وليس في هذا أدنى حدود العدل.
    وألاحظ ثانياً: أنّه كان للعرب في الجاهلية دول ذات حضارة، قد لا تكون في مستوى الإمبراطورية الفارسية أو الرومانية، ولكنّها دول على كل حال، وأظن آثارها أو بعضها ما تزال شاخصة في اليمن حتى اليوم.
    على أنّ من مفاخر العرب: أنّهم لم تملكهم دولة ولم يخضعوا لسلطان، وأنّهم استطاعوا بالرغم من ذلك ومن دون هذه الدولة والسلطان، أن يهزموا أقوى إمبراطوريتين على وجه الأرض في ذلك العهد. وهذا ما يحسب للعرب لا عليهم.
    أمّا عن قمع الظالم ونهي السفيه، فلقد كان في النظام القبلي الذي فرض مع الزمن حكمه، وأصبح له ما للقانون أو أكثر ممّا للقانون من حرمة ورعاية، ما يكفل قمع الظالم ونهي السفيه ويردّهما طوعاً أو جبراً عن الظلم والسفه إن أراداهما.
    هذا فضلاً عمّا يحدثنا التاريخ عن بعض الاتفاقات التي تمّت بين عدد من القبائل، وأخذت ما يشبه شكل القانون الجماعي، كحلف الفضول الذي تمّ بين عدد من بطون قريش، وقام على مبادئ أخلاقية عالية: كنصرة الضعيف، وردع القوي، وإنصاف المظلوم وأخذ الحق له ممّن ظلمه، وغير ذلك من مكارم الأخلاق التي تجسّدها القوانين غير المكتوبة وتستند إليها.
    ٩١
    ثالثاً: كما ألاحظ أنّ حديث الأنبياء خصوصاً ما يتعلّق بآدم لا يمكن قبوله في حال من الأحوال من أي طرف ادعاه، فهو أبو البشر، يتساوى فيه العجم وغير العجم من أي جنس ومن أيّة أُمّة أو شعب. فافتخار العجم فيه كافتخار العرب، لا يختلف عنه ولا يزيد عليه إلاّ إذا كان هناك آدم آخر لا ينتمي إليه العرب.
    أمّا حديث النساء والسبي والنكاح وما شابه ذلك من طعون قد حصلت في مناسبة ما أو لسبب ما، فليس العرب ملائكة لا يخضعون لما تخضع له الأمم الأخرى من سنن، وغالب ومغلوب، وحب وكره وثأر، وما تجده شاذاً غريباً عندهم يوجب الذم تجد أكثر منه، وما لا يقارن به عند الأُمم والشعوب الأخرى، ويكفي أنّ الشعوبيين، مع كل بحثهم واجتهادهم في التفتيش عن مثل هذه المطاعن وتطلبها، لم يجدوا أمامهم إلاّ حالات معدودة هي التي ذكروها وتمسّكوا بها في هجومهم على العرب.
    لكن مَن الذي ساعد الشعوبيين في معرفة هذه المطاعن الأخلاقية، على افتراض صحّتها، وأنّها ليست مجرّد هجاء في شعر يكذب فيه الشاعر أو يبالغ على الأقل؟ ومَن الذي دلّهم على هذه الفضائح ومهّد الطريق لإطلاعهم عليها، وشنّ هجومهم على العرب بسببها.
    إنّ الذي ساعد الشعوبيين على ذلك عاملان وجدهما هؤلاء أمامهم؛ فاستغلاهما وأفادا منهما في النيل من العرب، وهدم ما قام عليه فخرهم من الشجاعة وحفظ النسب والغيرة على المرأة وعدم التعرّض لها والاستماتة في الدفاع عنها.
    وأوّل هذين العاملين الشعر العربي نفسه.
    فالشعر في الجاهلية كان مرآتها يعكس حياة العرب فيها من خير وشر، وحرب وسلم وغنى وفقر، وحكمة وعبث وحب وكره، لا يترك صغيرة ولا كبيرة ممّا يسر أو يسوء إلاّ سجّلها وأشار إليها.
    وكانت حياة القبائل - وهذا ليس سراً - حياة لا تخلو من قسوة وشدّة في صحراء تقل فيها المياه ويقل معها الزرع والنبات.
    ٩٢
    ولم تكن القبائل كلها كما يتصوّر البعض رحلاً لا منزل لهم، يجوبون الصحراء ليلاً ونهاراً شتاءاً وصيفاً. لا يحلون في أرض إلاّ ليتركوها إلى أخرى. لقد كان لكل قبيلة أرضها ومساكنها ومياهها. ولو راجعت الشعر العربي وكتب المعاجم لرأيتها تقول: وهو واد لبني فلان، أو منزل لبني فلان، أو عين لبني فلان، أو جبل في أرض بني فلان. وإن كان هذا لا يمنع من الانتجاع إلى منازل أخرى، خصوصاً حين الجدب وانحباس المطر. فكانت بعض القبائل تتحوّل من منازلها إلى منازل قبائل أخرى، وهو ما يسبب أحياناً قتالاً بين تلك القبائل.
    لكن هذا ليس السبب الوحيد للقتال بين القبائل، فحياة البداوة تفرض قيماً معيّنة لا تجدها في الحاضرة وليست دون ما سبق إثارة للقتال وإغراءً به.
    ثم هل بسبب البداوة ثارت الحروب بين الدول المتجاورة وغير المتجاورة في مختلف عصور الإنسانية؟ وهل كان القتال حكراً على العرب دون الأمم والأجناس الأخرى؟
    وإذا كانت القبيلة تحتاج إلى الفارس في معاركها يحمل سيفه ورمحه يقاتل أعداءها ويرد عدوانهم عنها، فإنّها تحتاج وبنفس الدرجة من القوّة، إلى الشاعر يحرّض ويذمر يمدح ويذم ويفخر ويهجو، لا القبائل الأخرى فقط، وإن كان هذا يأتي بالمكان الأوّل، بل حتى مَن ينتمي إلى نفس قبيلة إذا قصّر في واجبه نحوها عند حاجتها إليه.
    والشاعر، وهو يمدح ويذم ويفخر ويهجو، ليس رجل دين يفكّر في آخرته، بل رجل لسان وسلاح قبيلة يقول ما تفرضه عليه المناسبة، وينفث به صدره ويأتي على لسانه في لحظة القول، وقد يصدق فيما يقول وقد لا يتقيّد بحدود الصدق فيزيد أو يبالغ أو يتهم، وقد يرد إلى ذهنه المعنى فلا يتركه أو يختلق واقعة لا أصل لها لكسب المعركة مع شاعر آخر، أو قبيلة أخرى ممّا يراه أوجع لها وأبلغ في أذاها.
    ولهذا فإذا كان (الشعر العربي هو ديوان العرب) صحيحاً من حيث إنّه يصوّر جميع نوازعهم في حبّهم وبغضهم وما يخالج نفوسهم، وهم يعيشون الحرب والسلم والجدب والرخاء والنصر والهزيمة. لكن هذا الديوان يحتاج في رأيي إلى مراجعة، وهي مهمّة صعبة على مَن لا يعرف عميقاً حياة العرب آنذاك.
    ولا أريد بالمراجعة أن نعمد إلى حذف كل ما نعدّه عيوباً ومطاعن ونلغيها تنزيهاً للعرب وتعصّباً لهم، فذلك كذب وتشويه وتزوير لحياتهم وللتأريخ، ليس أكثر منه محاولة تجريدهم من حسناتهم وسلبهم إيّاها.
    وإنّما أريد أن أقول ببساطة: إنّ بعض الشعراء لم يلتزموا الصدق، لا سيّما في الهجاء، فأطلقوا العنان لخيالهم ولسانهم دون وازع من خلق أو دين.
    هنا لا بد من الرجوع إلى الوقائع الأخرى الثابتة لمعرفة صدق الشاعر في القول وتصحيح ما كذب فيه.
    ٩٣
    ولأضرب لذلك مثلاً بجرير وهو يهجو الفرزدق ويعيّره بأُخته جعثن، وهي في نفسها من فضليات النساء، وهي في أُسرتها من جهة الأب والأم، لا يمكن أن يقاس بها من قريب أو من بعيد ابن الخطفى وأُسرته، وقد تعرّض لها جرير واتهمها في شعره.
    هذا الشعر بصدقه حيناً وكذبه حيناً أو أحياناً قدّم للشعوبية سلاحاً ماضياً يقاتلون العرب به، ويردّون دعاواهم وينقضونها عليهم دون أن يتعرّضوا للاتهام بالكذب.
    وجد الشعوبية شعراً عربياً قاله شعراء عرب يهجون عرباً مثلهم، ويتهمونهم بنسائهم وأخواتهم وآبائهم تارة، وبالجبن والبخل واللؤم تارة، فما الذي يمنعهم من اللجوء إلى هذا السلاح يهاجمون به مَن يهاجمهم، ويستصغرهم ويسخر منهم ويحط من قدرهم، ولا يجد لهم في الفخر موطئ قدم؟
    وأظن الشعراء العرب لو علموا بما سيكون من شأن لشعرهم ذاك، وبالحرج الذي سيتعرّض له العرب كلهم؛ إذن لحذفوا الكثير ممّا قالوه أو لم يقولوه أصلاً.
    لكن هذا الشعر في تعرّضه لتلك الوقائع، كان يقتصر في الأغلب على الإشارة إليها ويكتفي بذكرها، فهو بطبيعته لا يستطيع أن يتجاوز إلى التفاصيل ويبعد فيها، فذلك شأن الكتب لا الشعر، والكتّاب لا الشعراء الذين قد يذهب بجمال شعرهم وسحره وروعته دخوله في تفاصيل الحوادث التي يتعرّض لها.
    وهنا وجد الشعوبيون سلاحاً آخر أمضى وأفتك وأقدر على طعن الخصم وتمزيقه، قدّمه لهم العرب أيضاً كما قدموا لهم من قبل سلاح الشعر. هذا السلاح الآخر يتمثّل في كتب المثالب التي بدأها العربي زياد بن أبيه، أو زياد بن أبي سفيان كما أراد معاوية، وهو أوّل مَن ألّف في مثالب العرب كما يتفق المؤلّفون، وفصّل فيها ولم يترك شيئاً ممّا يسئ إليهم أحياءً أو أمواتاً إلاّ ذكره وأتى عليه وأفاض فيه، يساعده في ذلك قربه من الجاهلية وتوفّر المال لديه، يوزعه على مَن يأتيه بخبر أو حادثة فيها طعن على العرب أو مس بشرفهم وكرامتهم.
    ٩٤
    يقول أبو الفرج في الأغاني: (... إنّ أصل المثالب زياد لعنه الله فإنّه لمّا ادعى إلى أبي سفيان وعلم أنّ العرب لا تقر له بذلك مع علمها بنسبه ومع سوء آثاره فيهم؛ عمل كتاب المثالب فألصق بالعرب كلها كل عيب وعار وحق وباطل...) (١) .
    ويقول أبو عبيد البكري في سمط اللآلي: (وكتاب المثالب أصله لزياد بن أبيه فإنّه لمّا ادعى أبا سفيان أباً علم أنّ العرب لا تقر له بذلك، مع علمها بنسبه فعمل كتاب المثالب وألصق بالعرب كل عيب وعار وباطل وأفك وبهت) (٢) .
    ويقول ابن قتيبة: (وقد كان زياد بن أبي سفيان حين كثر طعن الناس عليه وعلى معاوية في استلحاقه؛ عمل كتاباً في المثالب لولده، وقال: مَن عيّركم فقرعوه بمنقصته، ومَن ندّد عليكم فأبدهوه بمثلبته فإنّ الشر بالشر يتّقى والحديد بالحديد يفلح) (٣) .
    ويقول ابن النديم: (أوّل مَن ألّف في المثالب كتاباً زياد بن أبيه، فإنّه لمّا ظفر عليه وعلى نسبه عمل ذلك ودفعه إلى ولده وقال استظهروا به على العرب فإنّهم يكفّون عنكم) (٤) .
    فزياد بن (أبي سفيان) إذن هو أوّل مَن ألّف في مثالب العرب، وكشف فضائحهم، وأظهر عيوبهم فأكّد دعاوى الشعوبية فيما بعد ضد العرب، وأعطاهم السلاح الذي سيقاتلونهم به.
    وإذا كان زياد يريد أن يثأر لنفسه ويشفي غيظه ممّا يرمي به من سمية وعبيد، بالطعن في أنساب العرب وإبراز كل ما يشينهم ويسئ إليهم، فما بال هشام بن عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي العربي، يأمر النضر بن أبي شميل الحميري وخالد بن سلمة المخزومي أن يضعا كتاباً في مثالب العرب.
    فإذا كان الأمير أخو الخليفة يكتب في مثالب العرب في النصف الأوّل من القرن الأوّل الهجري (٥) .
    ____________________
    (١) الأغاني ج٢٠ نسب ابن أبي عيينة وأخباره ص٧٧.
    (٢) سمط الآلي في شرح الآمالي لأبي عبيد البكري، ط لجنة التأليف والترجمة والنشر ١٩٣٦ ص٨٠٧ - ٨٠٨.
    (٣) رسائل البلغاء لمحمد كرد علي - لجنة التأليف والترجمة والنشر - ط ثالثة ص٣٤٦.
    (٤) الفهرست - الفن الأوّل من المقالة الثالثة. طبعة دار المعرفة - بيروت - لبنان ص١٣١.
    (٥) توفّي زياد عام ٥٣.
    ٩٥
    وإذا كان الخليفة نفسه يأمر بوضع كتاب في مثالب العرب في أوائل النصف الأول من القرن الثاني (١) .
    فهل سيقبل (الأمويون) بأن نتهم الخليفة و(أخا) الخليفة بأنّهما كانا أول الشعوبيين، وأول مَن مهّد الطريق للشعوبية ورفع لواءها؟
    ولِمَ سنلوم الآخرين، عرباً أو غير عرب، إذا ما كتبوا هم في مثالب العرب، حتى لو زادوا وبالغوا وأضافوا، وقد سبقهم إلى ذلك أمير وخليفة عربيان مسلمان.
    وهكذا فقد تبعهما يونس بن محمد بن أبي فروة، ووضع كتاباً في مثالب العرب وعيوب الإسلام بزعمه وصار به إلى ملك الروم فأخذ منه مالاً (٢) وأظنّك تعرف أنّ يونس هذا هو والد الربيع بن يونس - عند مَن يصحّح أبوّته له - وجد الفضل بن الربيع اللذين وزرا وحجبا وتوليا أعلى المناصب في زمن المنصور والمهدي والرشيد.
    ثم كتب هشام بن محمد بن السائب الكلبي كتابه في المثالب، وهشام عربي صليبة من كلب غير مغموز في نسب ولا متهم بشعوبية.
    كما كتب كذلك الهيثم بن عدي وهو من طي.
    فأي خطر وأي جديد فيما سيكتبه بعد ذاك أبو عبيدة أو علان الشعوبي، أو غيرهما من غلاة الشعوبية والمتعصّبين منهم ضد العرب، وهم لن يزيدوا ولن يتجاوزوا العرب فيما كتبوه عن العرب قبلهم بأكثر من قرن.
    ____________________
    (١) توفّي هشام بن عبد الملك عام ١٢٥.
    (٢) آمالي المرتضى تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية ج١ ص١٣٢.
    ٩٦
    لقد ساعد العرب في شعرهم وفي كتبهم عن مثالبهم الشعوبية بما لم يكن سهلاً عليهم معرفته والاطلاع عليه. ولو عرفوه واطلعوا عليه عن غير طريق العرب أنفسهم لربّما ردّ عليهم بأنّه من صنعهم ووضعهم، أو لاتهموا على الأقل بالإضافة والتزيد فيه، فقام العرب نيابة عنهم بهذه المهمّة التي لن يتهموا فيها ولن يكذبوا.
    كان الشعر، وأنا هنا أتحدث عن شعر الهجاء بصورة خاصة، أول سلاحين أهداهما العرب للشعوبيين.
    ثم جاءت كتب المثالب فأكملت ما بدأه الشعر من صورة قاتمة للعرب، وأخلاق العرب وقيم العرب، وكل ما قام عليه فخرهم واستند إليه.
    فهل لنا أن نلوم الشعوبيين على استعمال سلاح قدّمناه لهم دون أن يطلبوه ويبحثوا عنه؟! أم الملوم مَن وضع السلاح في أيديهم ثم وقف من بعد ليلعن ويسب ويتهم هؤلاء الذين استعملوا السلاح وقاتلوا به، وهم يخوضون معركة معه.
    وملاحظة أخيرة أود أن أشير إليها قبل أن أختم حديثي عن الشعوبية، هي أنّ هؤلاء الشعوبيين، الزنادقة منهم وغير الزنادقة، قد أصبحوا جزءاً من النظام القائم آنذاك، وارتبطت مصالحهم به واتسع نفوذهم في ظلّه، فلم يثوروا عليه ولم يشاركوا في ثورة ضدّه، مكتفين من شعوبيتهم بالتذكير بماضيهم العريق ومجدهم القديم في مقابل حاضر ومجد لا عراقة ولا قدم لهم. لقد قامت أكثر من ثورة كثورة بابك، وبعدها ثورة المازيار، فلم ينضم إليهما ولا إلى غيرهم، أي من هؤلاء: أسراً أو أفراد. لقد كانت شعوبيتهم شعوبية فكر أو، إن شئت، شعوبية ذكريات تجاوزها المحاربون ولم يكونوا في حاجة إليه.
    وأحسبني انتهيت الآن من هذا الفصل لانتقل إلى بحث العلاقة بين الزندقة والشعوبية، وهو ما يؤلّف الفصل الثاني وهو أيضاً آخر فصول الكتاب.
    ٩٧
    القسم الثالـث:
    العـلاقـة بين الزندقة وبين الشعـوبية
    هل هناك علاقة بين الزندقة وبين الشعوبية وما هو مدى هذه العلاقة إن وجدت؟ فقد تحدّث المؤرّخون كثيراً وربطوا كثيراً بين الاثنين، حتى كأنّك وأنت تتحدث عن إحداهما تتحدث عن الأُخرى.
    أمّا من الناحية النظرية فليس هناك من علاقة بين الزندقة وبين الشعوبية، ولا يجوز الخلط بينهما، فهو خلط بين حركتين منفصلتين في منطلقاتهما الفكرية بل متباعدتين أو متعاديتين. وما أظن أحداً يجهل فرق ما بين الاثنين.
    ما الذي يجمع يحيى بن زياد، أو عبد الكريم بن أبي العوجاء، أو أبا العلاء المعري إلى سهل بن هارون، أو حميد بن البختكان، أو علان الشعوبي؟!
    الزندقة نزعة فكرية فردية تتجه إلى أعلى. تنكر الله أو تشك فيه أو تنكر نبوّة محمد والنبوّات. وهي في إنكارها أو شكّها لا تنكر أو تشك بإله العرب لتعترف بإله الفرس، ولا بنبوّة محمد، لتقر بنبوّة ماني أو مزدك؛ فهي فوق الشعوب والأجناس ومستقلّة عن الشعوب والأجناس.
    إنّها حين تنكر الصانع أو تؤمن بالدهر وترفض الجنّة والنار، تنطلق من فكر عام صحيح أو مريض لا يهم، ولكنّه فكر لا يميّز بين صانع ينكره وصانع يؤمن به، ولا بين جنّة يرفضها وجنّة يطلبها.
    وقبل زنادقة الإسلام والخلط بينهم وبين الشعوبية، كان هناك في الجاهلية زنادقة تحدث المؤرّخون عنهم، وأشرنا إليهم في بداية الكتاب.
    وقبل زنادقة الإسلام وقبل الشعوبية بما يقارب القرنين من الزمان، قال ابن الزبعرى العربي القرشي الجاهلي:
    حياة ثم موت ثم بعث
    حديث خرافـة يـا أم عمـرو
    وقال الآخر وهو أبو بكر بن الأسود من كنانة:
    يخبرنا ابن كبشة أن سنحيـا
    وكيف حياة أصداءٍ وهامِ
    وأيّ إلحاد أو زندقة، حتى في عصر الإلحاد والزندقة فيما بعد، أصرح وأوضح من هذا الإلحاد، يصرخ به غير مجمجم ولا خائف شاعران عربيان عاشا في الجاهلية، قبل أن تعرف الشعوبية والشعوبيون والمعركة مع الأمم والشعوب الأخرى؟!
    فالزندقة لم تنشأ في الإسلام ولم يسبق إليها الزنادقة (المسلمون)، وربّما كان الإغريق أولى أن يعتبروا قادة الفكر (الزندقي) في العالم.
    ٩٨
    لقد عرفها الفكر الإنساني إذن قبل الإسلام بقرون طويلة، فهي ليست مقرونة بزمان معيّن، ولا بشعب معيّن بقدر ارتباطها بالفكر في مرحلة من مراحل نموّه وتطوّره ما دام هناك فكر ينمو ويتطوّر.
    أمّا الشعوبية فهي حركة قومية سياسية ثقافية، أفرزها ظرف معيّن نشأ عن صراع حضاري بين شعب غالب منتصر وشعوب مغلوبة مهزومة، ثم انحصر أو هكذا عرف، في الصراع بين حضارتين متجاورتين، كانت إحداهما في الجاهلية هي صاحبة القوّة والنفوذ والسلطان، فذهبت مع ظهور الإسلام القوّة والنفوذ والسلطان الذي انتقل من الفرس إلى العرب. وكان هذا بالإضافة إلى الأسباب الأخرى التي عرضنا لها ممّا أشعل الصراع ودفع به إلى أبعد غاياته وخلق هذه الحركة التي اصطلح على تسميتها بالشعوبية.
    لكن هاتين الحركتين المستقلتين في الأصل، يفقدان شيئاً من استقلالهما ويقتربان من بعضهما هنا بفعل عدد من العوامل، فإذا بنا أمام هذا الخلط الذي يجعل من الزندقة والشعوبية شيئاً واحداً أو يكاد.
    وأظن قد آن لنا ونحن في نهاية بحثنا أن نشير إلى بعض الملاحظات التي نرجو أن تسهم في توضيح هذه الناحية، ويكفيها على أيّة حال أن تكون خطوة في هذا الطريق.
    فمن هذه الملاحظات:
    أنّ هذه الشعوبية نشأت كحركة ثقافية سياسية تمثّل رد فعل حضاري - إذا جاز التعبير - في وسط الموالي خصوصاً الفرس منهم، وهو أمر طبيعي؛ ذلك أنّ حركة كهذه تطالب في أضعف وجوهها بمساواة العرب بالشعوب الأخرى، وفي أشد وجوهها بتحقير العرب وتفضيل الآخرين عليهم، لا يمكن أن تنبت في بيئة عربية وبين العرب أنفسهم الشعب الغالب صاحب الحكم والسلطان وحامل القرآن والإسلام.
    لكن هذا القول لا يصدق في عمومه. فإذا كانت الشعوبية قد نشأت وهو أمر طبيعي كما ذكرنا، في صفوف الفرس فإنّ الكثير من هؤلاء خصوصاً مَن نشأ منهم على الإسلام، قد بلغ في ورعه وتقواه وتمثّله الإسلام ديناً وسلوكاً حداً بعيداً.
    لقد شارك هؤلاء المسلمون الجدد من الموالي والفرس، العرب المسلمين في قتالهم لرفع راية الإسلام وبسط رقعته، ثم دافعوا عنه وأيّدوه وردّوا على خصومه حتى تجاوزوا في ذلك العرب أنفسهم. مَن منّا يستطيع أن ينسى الحسن البصري وواصل بن عطاء وأبا حنيفة وغيرهم وغيرهم.
    ثم ساروا شوطاً أبعد فكتبوا في العربية وعلومها وأدبها وشعرها وشعرائها، وكأنّهم من أبنائها ومن أبر أبنائها، قاطعين كل صلة لهم بماضيهم بعد ما ذابوا في الدين الجديد واللغة الجديدة والبيئة الجديدة، التي منحتهم بديلاً عن ماضٍ لم يعد له في نفوسهم شيء، إلاّ ما ينقله المترجمون لهم.
    وأمامك أسماء المؤلّفين أمامك أسماء المؤلّفين في مختلف ميادين الفكر في مختلف ميادين الفكر الإسلامي العربي، وقد سمعت الكثير منه، وأظنّك ستدهش إذا علمت أنّ غير العرب منها أكثر من العرب. وأظنّك ستدهش أكثر إذا علمت أنّ الذين تولّوا الدفاع عن العرب ورد مطاعن الشعوبية، هم من هذه الشعوب التي اشتق منها اسم الشعوبية. ويكفيك منهم الجاحظ وابن قتيبة وابن عبد ربّه.
    وأريد أن أقف قليلاً عند أوّلهم الجاحظ الذي ترك كل ما يوجّه إلى العرب من مطاعن، وأمسك بالعصا يقلبها ويقلب معها أسماءها وصفاتها كما يريد، فلا يترك صفة لها ولا شيئاً يتصل بها، أو يصنع منها أو له بالعصا علاقة من قريب أو بعيد إلاّ وأتى عليه تفصيلاً، وخاض فيه وفيما يجده في الطريق إليه مخصّصاً من كتابه البيان والتبيين أكثر من مائة صفحة كاملة للعصا. ولم تكن العصا إلاّ واحداً من المطاعن التي تأتي في آخر السلم ممّا يأخذه الشعوبيون على العرب.
    ٩٩
    وما أحسب الجاحظ كان يريد أن يرد على الشعوبية في إظهار فوائد العصا، ولا أن يبيّن الوجه في اعتماد العرب عليها بقدر ما أراد أن يظهر براعته اللغوية واتساعه في معرفة كل ما يتصل بالعصا لغةً وأدباً شعراً ونثراً جاهليةً وإسلاماً. فهو يريد إظهار فضله لا فضل العصا التي كان يكفيه منها صفحة أو دون (١) .
    ومن هذه الملاحظات أنّ عدداً كبيراً من الزنادقة، بأي معنى فهمت الزندقة وعلى أي وجه أخذته، كانوا عرباً خلّصاً لا شك في أنسابهم ولا في عروبتهم بل من أرفع وأعلى أسرهم. وقد سبقوا إلى الزندقة ابتداءً من أوّل ما عرف هذا الاصطلاح في التأريخ العربي، واستعمل للدلالة على انحراف عن الدين وفروضه بشكل من الأشكال.
    ____________________
    (١) البيان والتبيين، تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون ج٣ ص ٥ - ١٢٤ والغريب أنّ الجاحظ المدافع عن العرب والراد على الشعوبية، كان هو ومعه اثنان من العرب الخلص: ضرار بن عمرو وثمامة بن أشرس، يفضلون النبط على العرب كما ي ذ كر المسعودي في مروج ال ذ هب ج٢ ص٢٦. وما أظن المسعودي متهماً فيما ينسبه لهؤلاء الثلاثة من رؤوس المعتزلة، وهو نفسه من المعتزلة.
    ١٠٠
    وعلى رأس هؤلاء الخليفة الأموي الوليد بن يزيد بن عبد الملك كما سبق، ومروان بن محمد بن الحكم آخر خلفاء بني مروان والملقب بالجعدي نسبة للجعد بن درهم مؤدبه.
    ومن هؤلاء أيضاً - بعد هذا التأريخ - يحيى بن زياد الحارثي من بني الحارث بن كعب من مذجح ابن خال الخليفة السفّاح أول خلفاء بني العباس.
    ومن هؤلاء معن بن زائدة القائد الأمير المعروف، وهو من سادات بني شيبان وخاله عبد الكريم بن أبي العوجاء الزنديق المعروف من بني سدوس من بكر بن وائل.
    ومن هؤلاء روح بن حاتم بن قبيصة بن المهلب.
    ومنهم واليه بن الحباب الأسدي ومطيع بن إياس الكناني.
    ومنهم يعقوب بن الفضل الهاشمي، من أحفاد الحارث بن عبد المطلب بن هاشم وابن لداود بن علي بن عبد الله بن عباس وآدم بن عبد العزيز بن عمر بن العزيز.
    ومن متأخّريهم أبو العلاء المعرّي أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي.
    وما أظن بين هؤلاء وكثيرين آخرين لم أذكرهم، وكلهم عرب صرحاء ومن صفوة الأُسر العربية مَن يمكن أن يتهم بالشعوبية إلاّ في أضعف جوانبها أي جانبها الإنساني الذي يقوم على المساواة، وعدم تفضيل جنس على جنس أو أُمّة على أُمّة. وحتى هذا الجانب الضعيف ما أحسبك ستصادفه عند غير أبي العلاء، وربّما والبة ومطيع ويحيى الذين شغلهم الركض وراء اللهو واللذّة، عن العرب والفرس والمقارنة بينهم، وعن التفكير في غير هذه الحياة العابثة الماجنة لا يبغون لها بديلاً. وقد تكون هذه الحياة أو هذا الأسلوب فيها وراء غمز بعض المؤرّخين في نسب والبة العربي.
    ويقابل هؤلاء بعض الذين عرفوا بالشعوبية، ولم يعرفوا بالزندقة: كآل طاهر بن الحسين، وآل سهل، وربّما أضيف إليهم البرامكة أحياناً.
    ١٠١
    وكيحيى بن علي المنجم المسلم المعتزلي الشعوبي، وسهل بن هارون، وأبي عبيدة، وعلان الشعوبي، وسعيد بن حميد بن البختكان، والخريمي الشاعر: اسحاق بن حسان، الذين أبغضوا العرب وتعصّبوا ضدّهم، وحاولوا تجريدهم من كل مفاخرهم وتفضيل الفرس عليهم (١) .
    وبغض العرب والمغالاة فيه قد يسوق أحياناً إلى ما هو أبعد من مجرّد بغض للعرب، الذي هو في ذاته مرفوض، ليتناول الإسلام نفسه باعتباره إرثاً عربياً نبت وأزهر في صحراء العرب. وربّما كان هذا من بين الأسباب التي أدّت إلى الخلط بين الزندقة والشعوبية.
    ولا أريد أن أسير أكثر في هذا الحديث، وليس معي من الوقائع والأسماء والأدلة غير الظن، الذي لا يغني في حديث أردناه خالصاً للعلم، مجرّداً عن الهوى، بعيداً عن التعّصب.
    وفي الطرف الأقصى من هؤلاء الشعوبيين، تجد من ضمّ الزندقة إلى شعوبيته: كيونس ابن أبي فروة، وحماد الراوية، الذي لي فيه وفيما نحله وأضافته إلى شعراء الجاهلية، رأي يختلف عمّا يذهب إليه الآخرون، فأنا لا أرى فيه شعوبية وما أحسبه كان يقصد إفساد الشعر الجاهلي كوجه من وجوه الشعوبية، بقدر ما أرى فيه ممارسة لتجربة شخصية، وإظهاراً لبراعة ومقدرة على فهم الشعر والإحاطة بظروف الشعراء ومعرفة البيئة العربية؛ فهو لم يخرج على قواعد الشعر العربي ولا على أغراضه التي نظم فيها الجاهليون، وليس في عدد من الأبيات التي قالها محتذياً حذو الشعراء العرب، وسالكاً طريقهم عن معرفة وعلم، ما يفسد الشعر العربي ويعيبه بالكذب والتزوير، خصوصاً مع اتفاق النقّاد العرب السابقين في أنّه كان يعرف مذاهب الشعراء فيضع البيت أو الأبيات ولا يستطيع إلاّ الناقد البصير أن يميّزها.
    فأيّة شعوبية في عدد من الأبيات يسير فيها على طريقة الجاهليين لا يتخطّاهم، يصف ما يصفون ويمدح ما يمدحون ويذم ما يذمّون. ولو تخطّاهم أو خرج على مناهجهم لسهل تمييز شعره وفرزه عمّا أضيف إليه، ولفضح نفسه قبل أن يفضحه النقّاد.
    ____________________
    (١) وألاحظ أنّ ابن الرومي قد أفلت من الاتهام بالشعوبية، مع أنّه لم يكن أقل وضوحاً من غيره في الفخر بآبائه الروم والغمز من العرب، استمع إليه وهو يقول:
    آبائِيَ الرومُ توفيلٌ وتُوفَلِسٌ
    ولم يلدنيَ رِبعيٌّ ولا شَبَثُ
    إنّ حماداً لم يكذب ولم يزوّر فيما تناول من نواحي الحياة الجاهلية، ولكنّه كذب فيمن أضاف إليهم ذلك عندما كان يضيف. ثم إنّه حتى في هذا الذي أضافه، لم يطعن في العرب ولم يسلبهم مزاياهم، ولم يعبهم أو يذمّهم أو ينسب إليهم ما يمكن اعتباره كذلك، ليقال إنّه استخدم قدرته وحذقه في معرفة الشعر العربي لخدمة أغراض شعوبية.
    ١٠٢
    وما أظن ما أضاف، مهما بلغ أو بولغ فيه، يمكن أن يؤثر على صورة الشعر الجاهلي أو يغير في الحكم عليه أو في صدقه. وكل الصعوبة في تمييز شعر حماد متأتية من شدة مشابهته للشعر العربي الجاهلي شكلاً ومضمون.
    ثم كم من الأبيات يستطيع هذا الـ (حماد) أن ينظم وينحل ويضيف، حتى لو تجرد لذلك وحده. والشعر الجاهلي شعر أمة كاملة تمتد من اليمن إلى العراق وخلال فترة تبلغ المئات من السنين.
    قد يكون حماد شعوبياً يكره العرب ويطعن فيهم ويغض منهم، شأن الشعوبيين الآخرين، ولكن في غير هذا فأنا لا أرى شعوبية فيما ينسب إليه من إضافة شعر إلى بعض شعراء الجاهلية ولم يكن هو الوحيد فيه. فهذا يزيد ابن ضبة. يقول أبو الفرج نقلاً عن جماعة من مشايخ الطائفيين وعلمائهم أنه قال ألف قصيدة فاقتسمتها شعراء العرب وانتحلتها فدخلت في أشعاره (١) .
    وهذا خلف الأحمر يقول عنه ابن النديم (وكان - يعني خلفاً - من أمرس الناس لبيت شعر وكان شاعراً بعمل الشعر على لسان العرب وينحله إياهم) فلم يتهمه أحد (٢) .
    وأبو عمرو بن العلاء. ينقل عنه النقاد شيئاً مما يأخذونه على حماد وإن لم يكن بنفس الكثرة، ولم يتهم بشيء مما اتهم به حماد ولا ببعضه. وابن داود بن متمم بن نويرة كان ينظم الشعر وينحله جده متمماً لينفق بعد ما استنفد ما قاله جده (٣) .
    ومن هذه الملاحظات أيضاً - وأظنني بعدت كثيراً عما بدأت - أن عدداً من الشعراء عرباً وغير عرب قد فتنتهم الحياة الجديدة بما تزخر به من فنون اللهو وضروب اللذة وسهولة الاستمتاع بهما وبما تفيض من سحر وجمال وهم المولعون بالسحر والجمال يتصيدونهما ويلهثون وراءهما وقد أتاحتهما هذه الحياة ويسرتها لهم.
    ____________________
    (١) الأغاني ج٧ ترجمة يزيد بن ضبة ص١٠٣.
    (٢) الفهرست لابن النديم - الفن الأوّل من المقالة الثانية.
    (٣) بل إنّ أبا الطيب اللغوي ي ذ كر أنّ أكثر ما يرويه أهل الكوفة من الشعر (مصنوع ومنسوب إلى مَن لم يقله).
    ١٠٣
    فهل سنتهم أهل الكوفة بالشعوبية لنفس السبب الذي اتهمنا من أجله حماداً بها؟!
    وقد يكون أبلغ في الدلالة من هذا، ما يرويه ابن سلام في طبقاته قائلاً: (فلمّا راجعت العرب رواية الشعر وذكر أيامها ومآثرها، استقل بعض العشائر شعر شعرائهم وما ذهب من ذكر وقائعهم. وكان قوم قلّت وقائعهم وأشعارهم فأرادوا أن يلحقوا بمَن له الوقائع والأشعار فقالوا على ألسنة شعرائهم...) طبقات ابن سلام ج١ ص٤٦.
    وكانت الحياة الجديدة بكل فنون لهوها ولذّتها وسحرها وجمالها بعيدة عن حياة العرب قريبة من حياة الفرس، أو هي حياة الفرس قد انتقلت إليهم أو انتقلوا إليها. لم يكن الحاضرون في مجالس اللهو عتبة بن الحارث ولا بسطام بن قيس. ولم يكن الحديث عن داحس والغبراء وشعب جبلة.
    ولم يكن المكان حمى ضرية ولازرود. ولم يكن الورد شيحاً ولا قيصوماً. ولم تكن الجارية ابنة لربيعة بن مكدم ولا عقيل بن علفة. فماذا تريد أن يقول هؤلاء الشعراء عرباً وغير عرب، وما ذا يصفون وهم يجتمعون على شرب وجَوارٍ ورقص وغناء وورد وريحان.
    هل يسوؤك أن يكونوا صادقين مع أنفسهم يصفون ما يجدون، ويحسون دون كذب ولا تزوير، ودون رحلة كاذبة مزوّرة عبر الزمان والمكان إلى برقة تهمه والدخول وحوقل، وهم لم يروها ولم يعرفوها، ولا تثير لديهم ما كانت تثيره لدى الجاهليين حين يقفون مطيّهم عندها، ويستنطقونها ويذرفون الدمع على مَن فارقوا فيها، وهم في ذلك صادقون يصفون أيضاً ما يجدون ويحسّون دون كذب أو تزوير. إنّهم لو فعلوا ذلك لسخروا من أنفسهم ولسخر الناس منهم، ولما كان لشعرهم هذا الخلود الذي يحظى به حتى اليوم ولما زاد على شعر بعض هؤلاء المعاصرين من المدرسة القديمة، وهم يتغزّلون بسعدى ودعد في شعرٍ غث ميت لا يثير عاطفة عند السامع؛ لأنّه لم يصدر عن عاطفة عند القائل.
    قد يكون بين هؤلاء شعوبيون وقد يكون بينهم زنادقة، لكنّ الذي جمع بينهم ليس الشعوبية ولا الزندقة، فلم يكونوا يجتمعون ليسبّوا العرب ويصرفوا شعرهم إلى الطعن عليهم وإظهار معايبهم، ولم يكونوا يجتمعون لتأليف الكتب في إنكار وجود الله أو قول الشعر في التشكيك بنبوّة محمد.
    ما جمعهم ليس هذا ولا ذاك بل المجون واللهو وطلب اللذّة بكل أشكالها، وهو مذهب في الحياة سبقوا إليه حتى من بعض عرب الجاهلية. ماذا كان يفعل امرؤ القيس والأعشى وطرفة، مع اختلاف الزمن والبيئة، غير ما كان يفعله والبة وأبو نواس ومطيع مع اختلاف الزمن والبيئة أيضاً؟
    وما عليك إلاّ أن تبدل الأسماء هنا وهناك، والأماكن هنا وهناك، والملابس والمطاعم هنا وهناك؛ لتعرف إن كان سيبقى من فرق بين الاثنين.
    ١٠٤
    ثم لماذا هؤلاء الشعراء والأمراء وحدهم. لقد كانت مجالس اللهو والخمر والجواري والغلمان منتشرة في كل مكان في ذلك العهد، يشارك فيها مَن نعرف ومَن لا نعرف، وليست حكراً على عصبة المجّان، وكان الأسبق إليها والأقدر عليها هم الخلفاء أُمراء المؤمنين، فهم الذين بدؤوا هذا اللون من الحياة، وهم الذين شجّعوا عليه وأشركوا الشعراء فيه وأغروا به مَن لم يكن يعرفه، وكان أفضل الخمر وأجمل الجواري وأبرع المغنّين من نصيبهم فخزائنهم - بيوت أموال المسلمين - لا تنضب إن كانت خزائن غيرهم معرّضة للنضوب.
    لماذا لا نجد بين زنادقة اللهو والمجون اسماً لواحد من هؤلاء الخلفاء، وهم أولى بالزندقة من كل الذين ذكرت أسماؤهم فيها؟ إلاّ إذا كانوا محصنين لا يجري عليهم ما يجري على مَن دونهم ممّن ليسوا خلفاء ولا أمراء للمؤمنين.
    لقد ظلموا كثيراً؛ ظلمهم معاصروهم باتهامهم بالزندقة مرةً، وبالشعوبية مرةً، وبالاثنتين مرّات.
    وظلمهم الذين كتبوا عنهم بعد قرون، وكانوا أحرى أن ينصفوهم فلم يفعلوا وربّما زاد بعضهم على معاصريهم.
    ظلموهم حين جعلوا منهم زنادقة وهو وصف إن صدق على واحد أو اثنين منهم فإنّه لا يصدق عليهم كلهم.
    أين هي كتب الزندقة التي ألّفوهّ.
    لقد ذكر المؤرّخون ما وضعه الشعوبيون من كتب في مثالب العرب والطعن فيهم وفي مناقب الفرس وتفضيلهم.
    فأين هي كتب الزندقة التي ألّفها: والبة، أو مطيع، أو يحيى، أو حماد، أو عمارة بن حمزة، أو حتى زعيم هذه العصبة وأشهر أفرادها أبو نواس؟ ولو ألّفوا، فما أظنهم كانوا سيؤلّفون في المانوية المحرّمة للذات التي أولعوا بها وعاشوا لها، والتي كانت تمثّل أحد أبرز وجوه الزندقة آنذاك.
    أهناك أكثر من أبيات هجاء قالها بعضهم في بعض، أو اتهم بها بعضهم بعضاً بالزندقة والمانوية هزلاً وعبثاً يعكسان حياتهم ويمثّلانها خير تمثيل. ولو صدقناهم لصدقنا ما قاله الشعراء العرب في هجاء بعضهم، ولأعطينا الشعوبية الحق في بعض ما يتهمون به العرب.
    والآن لا أدري إن كنت قد استطعت ولو إلى حد ما بيان بعض أسباب الخلط في تأريخنا بين الزندقة أو بشكل أدق صورة من صورها وبين الشعوبية.
    لعلّي قد فعلت وإلاّ فلن يضير أولئك (الزنادقة) زيادة واحد من الذين لم يحسنوا النظر إليهم ولا الدفاع عن قضيتهم.
    ١٠٥
    تقييم لحركَتَي: الـزندقة والشعوبية
    وأخيراً فقد آن لنا أن نضع الزندقة والشعوبية كمصطلحين كان لهما شأن، في إطارهما الصحيح بين الحركات الفكرية والسياسية في تأريخنا دون تعصّب لهما أو عليهما بعد أكثر من ألف عام على اختفائهم.
    ولقد رأيت الذين كتبوا عنهما قلّما كتبوا بعمق وحياد. وإذا استثنيت بعضاً منهم: المرحوم أحمد أمين، فأنا لم أجد بين الذين كتبوا من يملك عمق المؤرّخ ولا فهم الأديب ولا حياد العالم وإنّما وضعوا أمامهم الطبري والأغاني، ولا بأس بالنقل عن الجاحظ وابن عبد ربّه، ثم ضمّوا إليهم فان فلوتن فهو اسم غريب قد يوحي للسامع ما لا توحي به أسماء قرأها وسمع عنها.
    ومضوا يكتبون، وكان خيراً لهم ألاّ يكتبوا فقد شوهوا تأريخنا - على كثرة ما شوه - وكانوا - لو عرفوا - شعوبيين أكثر من الشعوبيين الذين يهاجمونهم، حين جعلوا من العرب مجموعة من عديمي الإدراك والتمييز، يساقون إلى حيث يراد بهم ويفعلون ما يُخطّط لهم، دون أن يكون لهم من فكرهم ووعيهم ما يمنعهم من إلحاق الأذى بأنفسهم ويحصنهم ضد أعدائهم الذين يتربّصون بهم.
    وهم في كل ذلك يكثرون الحديث عن خبث عدوّهم وشدّة كيده، وكأنّهم يحاولون الاعتذار عن العرب.
    لقد أرادوا أن تكون لهم كتب في المكتبات يقرؤها القرّاء فكان لهم غباء في المكتبات يواجه القراء، ولو أنصفوا أنفسهم وأنصفونا لاكتفوا بإحالتنا على مَن نقلوا عنهم، فلم يضيفوا إلى أخطاء وقع فيها المؤلّفون قبل ألف عام، أخطاء جديدة بعد ألف عام.
    ولقد تحدثت بالتفصيل عن الظروف التي نشأت فيها الزندقة والشعوبية وعن العلاقة بينهما فلا حاجة للعودة إليها.
    ولكن أريد أن أقرّر هنا: أنّ الشعوبية كانت ستظهر يوماً ما ولم يكن ممكناً منعها، وهي قانون من قوانين التأريخ وسنّة الأمم قبل وبعد.
    لقد كانت هناك أُمّة غالبة معها الإسلام وأمم مغلوبة دخلت فيه كرهاً أو طوعاً، حرباً أو اقتناعاً ورغبة، وكان الفرس أكثر هذه الأمم وأعلاها شأناً في الجاهلية، وهم إحدى إمبراطوريتين كانت لهما السيادة قبل ظهور الإسلام.
    ١٠٦
    ولم يكن الإسلام يفرض على الداخلين فيه أن ينسلخوا عن أجناسهم ويصبحوا أُمّة واحدة بالمفهوم القومي للأُمة كشرط لقبول الإسلام منهم، والقرآن يقول ( وجعلناكم شعوباً وقبائل... ) ويقول: ( ولو شاء الله لجعلكم أُمّة واحدة ) ( ولو شاء ربّك لجعل الناس أُمّة واحدة ) .
    وكان التعامل مع هؤلاء المسلمين الجدد يجري في كثير من الرفق خلال عهد الراشدين، ووجود الكثير من ذوي الدين والفضل والسابقة من الصحابة الذين رافقوا النبي وعاشوا معه وتعلّموا منه.
    وكان هذا التعامل الرفيق الذي لقيه هؤلاء المسلمون، قد ساعدهم على الاندماج في البيئة الإسلامية العربية والابتعاد عن ماضيهم، إذ لم يكن هناك ما يثيرهم ويدفعهم إلى العودة إليه والتفكير فيه.
    شاركوا في فتوح المسلمين وكان لبعضهم دور مذكور فيه، ونافسوا العرب المسلمين في الدين حتى كان بينهم مَن يرجع إليه في أُموره.
    وانتهى عهد الراشدين باغتيال الإمام علي عام ٤٠ للهجرة.
    وقام حكم جديد انحسر فيه الإسلام وقويت العصبية، وقد ساهمت السياسة الأموية في إذكاء العصبية القبلية بين قبائل العرب، والعصبية القومية بين العرب وبين الأُمم الأخرى. والعرب فخورون بطبعهم يتباهون بأنسابهم وقبائلهم وأسرهم حتى على بعضهم. أي عربي يقبل أن يساوي بين تميم وبكر ومذحج وبين باهلة وغني وسلول.
    ولأترك الحديث عن العصبية بين القبائل العربية، على خطورة هذا الموضوع، وأحصره بالعصبية القومية بين العرب وبين الموالي، السبب المباشر لظهور الشعوبية.
    كان جيل جديد قد نشأ بين العرب، وجيل آخر جديد قد نشأ من الموالي، وكان الإسلام - الدين والسلوك والجامع للعرب والموالي - قد ضعف لدى أولئك وهؤلاء.
    وبدأ المتعصّبون من العرب في تحقير الموالي الذين ازداد عددهم، خصوصاً في العراق، وإشعارهم بالاستعلاء عليهم والاستهانة بهم كما سبق أن ذكرنا.
    وسكت الموالي الفرس وتجرّعوا الإهانة ولم يستطيعوا الرد؛ إذ كان الحكم عربياً مستبدّاً طاغياً لا يرحم العرب إذ أحس منهم ما يخشى فكيف بالموالي.
    لكن سكوتهم كان سكوت الخوف لا سكوت الرضا، فعادوا إلى ماضيهم وهو غير بعيد يتسلّحون به في رد الهجوم عندما يستطيعون، وإلى ماضي العرب يتسلّحون به في الهجوم عندما يستطيعون، وليس هناك ماض أو تأريخ يخلو من مطاعن لمَن يبحث عنها ويتطلّبها.
    وكان هجاء العرب لبعضهم أوّل أسلحتهم، ثم جاءت كتب المثالب التي ألّفها العرب ضد العرب وبدأها زياد بن أبيه سلاحاً ماضياً آخر.
    ١٠٧
    وهكذا وجد الفرس بأيديهم سلاحاً عربياً جاهزاً لمهاجمة العرب والنيل منهم، وطعنهم في أكثر ما يعتزّون به من مناقب، وكان العرب كما ترى هم الشعوبيون الأول عن عمد أو غير عمد.
    وضعف سلطان الدولة الأموية في بداية القرن الثاني، ثم سقطت في الثلث الأوّل منه لتقوم الدولة العباسية بمساعدة الفرس ودعمهم وتأييدهم.
    وزال الخوف الذي كان يمنع الفرس من الرد أو إعلانه، فبدأ شعراؤهم وكتّابهم في نظم مفاخرهم والكتابة عنها وكانوا قبلاً لا يتناولونها إلاّ نادراً، ولم أجد المؤلّفين يذكرون غير إسماعيل بن يسار مثلاً للشعوبي المجاهر بشعوبيته، الفخور بها في العصر الأموي، وقد دفع ثمنها غالياً فكان ما يزال محروماً مطروداً كما يصفه أبو الفرج.
    وكان الصدر الأول من الحكم العباسي ساحة صراع لا سياسي فقط بين العرب والفرس، وإنّما كانت الثقافة والأدب شعراً ونثراً ساحة أخرى للصراع بينهم.
    لكن الصراع كان مكشوفاً هذه المرّة لا يستره خوف كما هي الحال في العصر الأموي.
    وبدأ الشعراء وبدأ الكتّاب الفرس ينظمون ويؤلّفون، ولو وقفوا عند ذكر مآثر الفرس وماضيهم وما كان لهم من سلطان وفكر وفن لما أنكر عليهم أحد. ولقيل قوم ظلموا فثأروا لأنفسهم ودفعوا الظلم وردوا الاتهام، ولكنّهم أفادوا من تلك الفترة التي كانت فيها السلطة الجديدة تراعي الفرس وتترضّاهم وتتجنب سخطهم، فجاوزوا الدفاع إلى الهجوم. ونظم بشّار وكتب أبو عبيدة وكتب علان وكتب غيرهم، لا في مآثر الفرس ولكن في مثالب العرب. حاولوا أن يجرّدوهم من كل فضائلهم بل أن يقلبوا فضائلهم عيوباً. وكان من هؤلاء مَن يجد الدعم والحماية في أسر فارسية ذات سلطة ونفوذ آنذاك كآل طاهر وغيرهم.
    وألاحظ أنّ هذه الزندقة والشعوبية الأدبية القائمة على الشعراء والكتّاب والمفاخر والمثالب لم تتجاوز كثيراً حدود العراق، حيث الاحتكاك في ذلك الوقت بين العرب وبين الفرس، وحيث تواجهت لأوّل مرة حضارتان بكل ما تحملان من قيم وعادات وأسلوب في الحياة جديد.
    على أنّ من الأمانة أن أضيف: أنّ هاتين الظاهرتين قد ضعفتا كثيراً مع منتصف القرن الثالث الهجري، بعد أن هدأت النفوس وتراجعت حدة العواطف، وأصبح هذا الأسلوب الجديد في الحياة أسلوباً عراقياً قبله العرب وقبله الفرس، ولم يعد سبباً للنزاع بينهما ولم تعد تسمع للزندقة الأدبية ولا للشعوبية الأدبية صوت.
    ثم حصل تطوّر خطير آخر غيّر من اتجاه الصراع وشغل العرب عن الفرس، وشغل الفرس عن العرب. فقد دخلت الساحة أمم وأقوام أخرى كالترك والديلم والمغاربة، وتحوّل الصراع إلى صراع بين هذه الأمم والأقوام نفسها ومن بينها الفرس. والى صراع بين زعمائها والبارزين فيها، لكنّه صراع على السلطة والنفوذ في ظل حكم ضعيف.
    وتخلّت الشعوبية الأدبية عن مكانها إلى شعوبية سياسية لم يعد العرب والفرس طرفيها، ولا أبو معاذ وأبو عبيدة من قادتها بل شارك فيه، وكان من أطرافها الأمم والأقوام الأخرى، واستبدل فيها ببشّار ومعمر أوزون ونازوك ومؤنس.
    وخلال ذلك شهد العراق، وفي القسم الأوسط والجنوبي منه، حركات قوية لها طبيعة اجتماعية واقتصادية بعيدة عن الشعر والأدب والمفاخر والمثالب: كثورة الزنج، وحركات القرامطة.
    ١٠٨
    هذا في العراق الذي حاولت أن أحصر حديثي عن الزندقة والشعوبية فيه، كما هي في جانبهما الأدبي الذي عرفتا به.
    أمّا في أطراف الدولة العربية الإسلامية فقد قامت في الجانب الشرقي منها دويلات غير عربية: فارسية أو تركية. احتفظت مع فارسيتها أو تركيتها بدينها الإسلامي، فهي فارسية مسلمة أو تركية مسلمة لم تعرف حركة اسمها الشعوبية، كما عرفها العراق في العصر الذي تحدثت عنه؛ لأسباب منها: أنّ تلك الدويلات قامت على أراضيها بعيداً عن مركز الدولة العربية الإسلامية في العراق، وكان بعدها هذا مانعاً للاحتكاك الذي رأيناه بين العرب والفرس في العراق وما ولّده من كره وكره مقابل. ومنها: أنّ تلك الدويلات لم يكن لها ماض يوازي، أو يقارب ما كان للفرس من ماض، عندما كانت الإمبراطورية الفارسية إحدى أقوى إمبراطوريتين في العالم، فهي لا تستطيع أن تقابل العرب بما يستطيع الفرس أن يقابلوا به العرب. ومنها أنّ الدولة العربية الإسلامية كانت قد بلغت درجة من الضعف لا تسمح لها بمواجهة ما يجري في العراق نفسه إلاّ بجهد وصعوبة، ناهيك عن مواجهة دويلات منظمة لها جيوش تستطيع القتال وهي في أراضيها على ألوف الكيلو مترات من بغداد. وإذا كانت ثورتا المقنع وبابك الشعوبيتان قد فشلتا؛ فذلك لأنّهما قامتا والدولة المركزية ما تزال قوية بعد، تملك أن تواجه وأن تنتصر؛ ولأنّ الثورتين قد أسقطتا الإسلام وقامتا على أساس قومي فارسي بعيد عن الإسلام، فحاربهما العرب لفارسيتهم، وحاربهما المسلمون غير العرب لابتعادهما عن الإسلام. بقي أن نلاحظ أنّه حتى في العصر العباسي الذي كان نفوذ الفرس هو المسيطر والطاغي، كان النسب العربي ساحراً جذّاباً يتعلّق به من لا يمنعه وضوح نسبه غير العربي من التعلّق به والانتماء إليه. وهذا ما نراه واضحاً في هجاء بعض الموالي الذين تركوا نسبهم الأصلي واستبدلوا به نسباً عربياً. بل هذا ما نجده في هجاء بعض العرب من المغموزين في نسبهم فأشجع السلمي، يريد شاعر أن يهجوه فلا يجد لذلك منفذاً إلاّ عن طريق نسبه فيقول:
    إنّما أنت من سليم كواو
    ألحقت في الهجاء ظلماً بعمرو
    والهيثم بن عدي الطائي يهجوه أبو نواس، وهو الذي يسخر من تميم وقيس والعرب كلهم فيقول فيه:
    إذا نسبت عدياً في بني ثعل
    فقدّم الدال قبل العين في النسبِ
    وحتى أبو عمرو بن العلاء يغضب بشّار على ابنه خلف فيقول:
    أرفق بعمرو إذا حرّكت نسبته
    فإنّه عربي من قوارير
    والأمثلة على ذلك كثيرة.
    ١٠٩
    وما أظن النسب العربي كان يحظى بكل هذا الاهتمام من جانب المنتسب أو من جانب النافي له، لو لم يكن له شأن وحساب ولو لم يكن موضع اعتزاز وفخر في ذلك الوقت.
    والآن أعود بعد هذه الرحلة الطويلة لأؤكّد ما سبق أن قلته عن الشعوبية في بداية الحديث: من أنّها كانت ستظهر يوماً ما دامت هناك أُمّة غالبة حاكمة وأُمّة وأمم مغلوبة محكومة. فهذا أول أسباب الصراع حتى لو تخلّفت الأسباب الأخرى، ولا بد لهذا الصراع أن ينفجر ثورة عندما تتوفّر ظروف نجاحها، وأحياناً حتى لو لم تتوفّر ظروف نجاحها.
    لقد بقي العرب زهاء سبعة قرون تحت الحكم العثماني المسلم، لكن لا طول المدة ولا إسلام العثمانيين أنسيا العرب عروبتهم ومنعهم من المطالبة الدائمة باستقلالهم الذي حصلوا عليه عبر ثورات ودماء وشهداء.
    وهذا الاتحاد السوفيتي، ما أسرع ما رجعت كل قومية من قومياتها إلى ذاتها تبني دولتها الخاصة بها، بالرغم ممّا كان يربطها خلال سبعين عاماً من نظام اقتصادي وسياسي واحد.
    وحتى يوغوسلافيا، هذا البلد الصغير، لم يسلم من التمزّق وانقسامه إلى دول بعدد القوميات التي كان يتألّف منها.
    وأظنني بعد هذا استغرب ممّن يستغرب حركة الشعوبية وكأنّها حركة خارج التأريخ.
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de