قد يجهل البعض منّا معني كلمة "أمنيزيا" ... أؤكد لكم أن ليس لها علاقة بماليزيا أو كيرغيزيا نافياً جازماً بأن ليس لها أي دلالة مكانية... و لعل أحدهم يجتهد فيقسمها إلى شقين أحدهما بلا شك هي كلمة "أمن" بكل ما لها من صدى مرعب لمن تأبط شراً أو اُخذ بجريرة غيره وهم كثر في زمن المزاج السيء... و لا ألوم هذا المجتهد فقد شاعت و راجت هذه الصناعة وسط كل كثيرين ممن تخرجوا و ارتادوا مراتع العطالة رغماً عنهم...و هذه من علامات سقوط الأنظمة القمعية فقد كانت ظاهرة طاغية في أواخر عهد جعفر نميري حينها كان الأخ يشك في أخيه الشقيق و لا يكاد يبوح أمامه ببنت شفة... بعد الانتفاضة كان عدد من انكشف أمر انتمائهم لجهاز الأمن عدد خرافي... و مع ذلك انتفض الشعب و كتب له النصر و الانعتاق و لم تغن الجيوش الأمنية لدكتاتور عنه من السقوط شيئاً... في بداية عهد الانقاذ كان هناك تفوق نوعي في الآلة الأمنية فقد تعددت أجهزة الأمن و كانت تضم فئات منتقاة ولائها مضمون لأسباب مخنلفة منها الأيديولوجي و منها المادي و منها النفسي... اليوم تضاعفت أعداد المنتسبين لهذه الأجهزة و هم اليوم في حالة أشبه بما كان يمر بها جهاز أمن الرئيس الأسبق نميري... حكى لي صديق عن قريب له حوّل لأسرته مبلغ من المال عن طريق أحد تجار العملة... اتصل التاجر بزوجة الرجل لمعرفة موقع البيت و لكنه تأخر رغم زعمه للزوجة أنه قريب من البيت... أصاب المرأة قلق و ظنت أن التاجر قد تم القبض عليه خاصة و أن تلك الأيام كانت تشهد حملات ضد تجار العملة... اتصلت بالتاجر فأخبرها بأنه قريب فقالت له المرأة بحسن نية ظننت أن "بتاعين الأمن قبضوكم" ... اطلق الرجل ضحكة عنترية و هو يرد عليها قائلاً: "نحنا ناس الأمن زاااتهم" ... حينما تضعف الأنظمة الدكتاتورية يصيب أجهزتها الأمنية ما يشبه السرطان تتضخم تضخم قاتل و تنتفخ بلا فعالية...و بعيداً عن الأمن فإن الأمنيزيا مصطلح طبي مشتق من كلمة (mnesis) و معناها ذاكرة و أمنيزيا تعني فقدان الذاكرة ... الأمنيزيا التي نحن بصددها هنا هي أحد الأعراض المزمنة لدى الشعب السوداني تلازمه منذ عقود طويلة و تحول بيننا كسودانيين و بين التطور السياسي و الاستفادة من تجاربنا... و المدهش أن هذه التجارب في معظمها كانت مريرة و أقصد هنا فترات الحكم الشمولي و التي أجهضت أكثر من مرة اشراقات التجارب الديمقراطية و الموءودة غالباً في طور تكوينها... للأسف شعبنا لا يصبر الا على العسكر... فحقب الحكم العسكري امتدت لتشغل الجزء الأكبر من طول فترات الحكم ما بعد الاستقلال لتكون 6 سنوات، 16 سنة و الفترة الحالية أكثر من 28 سنة... يقابل ذلك تجارب ديمقراطية امتدت لسنتين، 5 سنوات، و 4 سنوات... أي ما مجموعه 51 سنة من الحكم العسكري (بإضافة فترة الحكم العسكري الانتقالي بعد انتفاضة 1985) مقابل 11 سنة من فترات الحكم الديمقراطي... المحيّر في الأمر أنه دائماً ما كان هناك ترحيب في بداية استلام العسكر للحكم و هو ما يؤكد حالة الأمنيزيا السودانية... فكيف يعقل أن يثور الشعب على الجنرال عبود ثم يرحّب باستيلاء نميري على الحكم ثم يثور على نميري و يعود و يرحب بنظام الإنقاذ... الزمن دائماً لا يطول قبل أن يدرك الشعب المأزق الذي وقع فيه بتمكين حكم العسكر ثم يبدأ التململ و لكن دون ابداء أي قدر من المقاومة... كما أن هناك ظاهرة غريبة تلي قيام الانتفاضات و أيضاً تشير للأمنيزيا المتأصلة ألا و هي ظاهرة عفا الله عمّا سلف أو كما يقول عندنا المثل (الفات مات)... فمغتصب الحكم يعيث فساداً ثم يزول حكمه دونما حساب أو عقاب... رغم أن الأنظمة العسكرية غالباً ما تراق اثناءها الكثير من الدماء و تتصف بالقمع و التعذيب كأداة متأصلة فيها من أدوات الحكم... نتيجة لهذا تتكرر تجربة اغتصاب الحكم و اجهاض الديمقراطية دونما تفكير في عواقب هذا الأمر طالما أن آخر الأمر "عفا الله عمّا سلف"... و ليس الدعوة هنا للتشفي و الانتقام بل هي دعوة للمحاسبة العادلة و الحكم بالقانون لمن ارتكب أي جريمة مهما كان نوعها تحت غطاء سلطة مغتصبة... فكيف بالله عليكم نعفو عن دعاة لحس الكوع في زمن استغلال السلطة و السطوة لإدخال حاويات المخدرات و تسميم الشباب... هذا على سبيل المثال فالجرائم لا تحصى و لا تعد... و مع ذلك وجب توثيق أكبر كم منها و كفانا هذا القدر من الأمنيزيا.
عزيزي بلة نتمنى الشفاء من حالة الأمنيزيا حال زوال هذا النظام.... يجب أن تطال المحاسبة كل من ارتكب جريمة منذ بداية هذا العهد البغيض... بعضهم تحول للمعارضة من أتباع العرّاب الأكبر حسن الترابي... و لتتقد الذاكرة و تسترجع كل أسماء الجناة... منذ ازهاق روح مجدي أحمد حسين... لئن تدك الكعبة حجراً حجراً أهون على الله من أن يراق دم أمرئ مسلم... و يزعمون أنهم يحكمون بالإسلام...
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
أشرف البنا
بله محمد الفاضل
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست