الخلق من تراب

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-07-2024, 09:36 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف للعام 2016-2017م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
01-10-2017, 03:22 PM

عبد الوهاب السناري
<aعبد الوهاب السناري
تاريخ التسجيل: 11-16-2014
مجموع المشاركات: 229

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الخلق من تراب (Re: عبد الوهاب السناري)

    علاقة التراب بأطوار خلق وموت وبعث الإنسان

    إفتتحت الآية 5 من سورة الحج بِحَث من لا يؤمن بالبعث بالتدبر في الخَلْق من تراب:
    يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ (7): سورة الحج (22).

    وعلى الرغم من عدم وجود علاقة واضحة بين الخَلْق من تراب وبين إنبات النبات من الأرض، فقد تطرقت الآية 5 من سورة الحج، وهي إحدى الآيات الأكثر تفصيلاً في أطوار الخَلْق من تراب، إلى إحياء الأرض بعد موتها بسبب هطول الأمطار، وإنباتها لكل زوج بهيج من النبات: "وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ". وتطرقت نفس الآية أيضاً إلى الموت: "وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى"، بينما تطرقت الآيتان التاليتان لها إلى إحياء الموتى: "وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى" وبعث مَنْ في القبور: "وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ". كما أن الآية السابقة للآية 20 من سورة الروم التي تناولت الخَلْق من تراب: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ"، تطرقت إلى إحياء الأرض بعد موتها، والذي يحدث نتيجةً لهطول الأمطار، وشبهته بخروج الناس من القبور يوم البعث: "وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ". كما أن الآية 21 من سورة الروم، والتي وردت بعد تلك التي تناولت الخَلْق من تراب، تطرقت إلى خَلْق الأزواج من أنفسهم: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا".
    يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21): سورة الروم (30).

    أما الآية 11 من سورة فاطر فقد جمعت بين الخَلْق من تراب: "وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ"، وبين جعل الناس أزواجاً: "ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا":
    وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11): سورة فاطر (35).

    وقد جمعت الآيات 67 و 68 من سورة غافر بين الخَلْق من تراب وبين أطوار حياة الإنسان منذ مولده وحتى مماته. كما جمعت الآية 67 من سورة غافر بين الخَلْق من تراب: "هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ"، وبين الوفاة: "وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ"؛ بينما تطرقت الآية التي تليها إلى الحياة والموت: "هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ".:
    هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (68): سورة غافر (40).

    وقد إحتوت جميع نصوص خَلْق الإنسان من تراب على طور أو أكثر من الأطوار التي يمر بها الإنسان بعد مولده وأثناء حياته: "ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ"، "ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ"، "ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا"، "وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ"، "ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ". فما العلاقة إذاً، بين البعث وبين الخَلْق من تراب؟ وكيف يمكننا أن نهتدي إلى الإيمان بالبعث من خلال التأمل في الخَلْق من تراب؟ وما السر وراء العلاقة الوثيقة بين نصوص الخَلْق من تراب، وبين خَلْق الأزواج من أنفسهم، وبين جعل الناس أزواجاً، وبين الأطوار التي يمر بها الإنسان بعد ولادته، وبين الحياة والموت، وبين إنبات النبات وإحياء الأرض بعد موتها بسبب هطول الأمطار؟

    سوف نبدأ بحثنا هذا بالإنبات من الأرض في سعينا لتوضيح أوجه الصلة بين نصوص الخَلْق من تراب وبين هذه الظواهر التي إرتبطت به. ورد في القرآن الكريم أن المولى، عز وجل، أنبت الإنسان من الأرض، وأنه أنبت مريم العذراء نباتاً حسنا:
    فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ (37): سورة آل عمران (3).

    هنالك بعض الملاحظات التي لابد من الوقوف عليها أولاً قبل التعمق في شرح هذه الآية. المعهود في اللغة أن يقال: "أنبتها إنباتاً"، وليس: "أَنبَتَهَا نَبَاتًا"، كما ورد في النص السابق، لأن: "إنبات" هي مصدر: "أنبت"، فَحَلَّ الإسم: "نبات" محل المصدر: "إنبات". الأمر الثاني، المعنى الحرفي لقوله تعالى: "أَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا" أنه أنبتها من الأرض مثل النبات. ولكننا نعلم أن الإنسان لا ينبت من الأرض مباشرةً مثلما ينبت منها النبات، لأن النبات يثبت جزوره في الأرض ويستمد غذاءه منها بواسطة هذه الجزور. الأمر الثالث، على الرغم من عدم ذكر النص صراحةً أن نبات مريم كان من الأرض، إلا أن النبات إقترن في القرآن الكريم بالأرض. ويدعم هذا الرأي أيضاً ما قاله نوح لقومه أن الله تعالى أنبتهم من الأرض نباتا، وأنه سيخرجهم منها إخراجاً:
    وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18): سورة نوح (71).

    لم يجد رواد التفسير تفسيراً منطقياً لوصف القرآن الكريم لإنبات مريم العذراء أو لإنبات الناس من الأرض بالنبات وليس بالإنبات، أو لتشبيه نبات الناس بنبات النباتات من الأرض؛ إلا أنهم برروه من حيث اللغة، ووصفوه بأنه تعبير لطيف. قد لا يختلف إثنان حول إنبات النباتات من الأرض، ولكن قد يتعجب البعض من إنبات الإنسان من الأرض. فالنبات، كما نعلم، يثبت جذوره في الأرض، ويستمد بها غذاءه منها. أما الإنسان، فعلى الرغم من أنه لا يتثبت بالأرض، إلا أنه يستمد أيضاً غذاءه منها بصورة غير مباشرة، بالتغذية على النبات أو على الحيوانات التي تتغذى على هذا النبات. وبذا يحق لنا القول أن الإنسان ينبت من الأرض مثل النبات لكونه يستمد منها غذاءه بصورة غير مباشرة من خلال تغذيته على الحيوان أو النبات الذي يتغذى عليه الحيوان. فعلى الرغم من أن النبات يتغذي بواسطة جزوره، ويتغذي الإنسان بواسطة فمه، إلا أن القاسم المشترك بينهما أن الغذاء المستمد من الأرض يمد جسم كليهما بالمواد التي يحتاجها لكي ينمو ويرمم خلايا جسده الميتة وليتكاثر. ولعل هذا كان السبب وراء وصف القرآن الكريم لنمو جسد مريم في الآية 37 من سورة آل عمران ولوصف نمو جسد الإنسان في الآية 17 من سورة نوح من الأرض بالنبات.

    وقد بين لنا القرآن الكريم في الآية 37 من سورة آل عمران أن نبات مريم العذراء نتج عن الرزق الذي كان يجده عندها زكريا كلما دخل عليها المحراب. فقد تسبب ذلك الرزق، والذي نبت من التراب، في نباتها نباتاً حسناً، لأنها كانت تتغذى عليه. ونقول لمن يظن أن في ورود: "نبات" في الآيتين السالفتين، خرقٌ لقواعد اللغة، أنها وردت بلغة القرآن الكريم، وكان الغرض من ورودها تلقيننا دروساً في علم الأحياء عن أوجه الشبه بين تغذية الحيوان والنبات. وإذا وقفنا على النواحي البلاغية المتضمنة في وصف نمو جسد مريم العذراء أو الإنسان من التراب بالنبات، لتبين لنا أنه تم هنا تشبيه نمو جسد مريم العذراء أو جسد الإنسان من الأرض بإنبات النباتات من الأرض، فحُذِف المشبه به: "النباتات"، ورُمِز إليه بصفةٍ من صفاته: "نبات"، والذي حل محل المصدر: "إنبات"، على سبيل الإستعارة المكنية.

    هذا، وقد أكد القرآن الكريم أيضاً في موضع آخر على خلق الأزواج مما تنبت الأرض في النص التالي الذي يفيض بالعديد من التعابير البلاغية:
    سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36): سورة يس.

    المعلوم أن الأزواج لا تُخْلَق بل تُجْعَل، وأن الأرض تنبت النبات وليس الأزواج الإنسانية، وأن كل زوجين لا يُخْلَقا من جميع أنفس المجموعة التي يعيشان بينها، بل من زوجين بعينيهما من بين هذه الأنفس. لابد إذاً أن تكون التعابير التي وردت في هذه الآية ضرباً من ضروب البلاغة. ولفهم معنى الآية فهماً دقيقاً، لابد من فك رموز هذه التعابير البلاغية أولاً، ولنبدأ ذلك بتحديد هوية الأزواج التي وردتْ فيها. قد لا يخفى على القارئ الكريم أن ورود: "كُلَّهَا" في هذا النص قد يطرح إحتمال أن: "الْأَزْوَاجَ" تشير إلى أزواج جميع الأنواع، وليس فقط إلى أزواج الناس. بيد أن ورود: "وَمِنْ أَنفُسِهِمْ" يؤكد لنا أن الأزواج التي تناولتها الآية تشير فقط إلى الأزواج الإنسانية، لأن القرآن الكريم لم يصف غير الذات الإلهية والإنسان بالنفس في العدد الكبير من المرات (298 مرة) التي تكرر فيها ورود: "نفس" ومشتقاتها فيه. ولعل المقابلة في الآية 11 من سورة الشورى، بين جَعْل الأزواج من أنفس الناس: "جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا"، وبين جَعْل أزواج الأنعام: "وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا"، وردت للتأكيد على أن وصف القرآن الكريم لخَلْق الأزواج من أنفسهم، يقتصر فقط على الناس:
    فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (11): سورة الشورى (42).

    قد لا يخفى على القارئ، أنه يجوز من الناحية اللغوية أن يقال: "وجَعَل من أنفس الأنعام أزواجاً"، بيد أن جَعْل الأزواج من الأنفس، إقتصر في هذه الآية، فقط على الناس، دون الأنعام. وهذا ما يؤكد أن الأزواج المشار إليها في الآية 36 من سورة يس هي أزواج إنسانية. كما أن خَلْق الأزواج ضرب من ضروب البلاغة يشير إلى جَعْل أو تصيير هذه الأزواج. فكما نعلم أن الناس يُخْلَقُون فرادى، وليس أزواجاً:
    وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (94): سورة الأنعام (6).

    فإذا أخذنا بما ورد في الآية السالفة وبما نراه في حياتنا اليومية، من أن الناس يُخْلَقُون فرادى، لتبين لنا أن خَلْق الأزواج: "سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ" في الآية 36 من سورة يس تعبيرٌ بلاغي يشير إلى جَعْل الأفراد أوخَلْقِهم من أزواج إنسانية أخرى. فعلاقة خَلْق كل فرد بالأزواج تتمثل في أن كل فرد يولد نتيجة تناسل زوجين. وعندما يكبر ذلك الفرد، فإنه يتزوج بزوج آخر، لينتج من ذلك التزاوج أطفال يصبحون أزوجاً مستقبلاً وينتجون أفراداً أُخر، ودواليك. وقد تم في الآية 36 من سورة يس حذف: "جَعْل الأزواج"، وأُستدل عليه بصفة من صفاته: "خَلْق الأزواج"، على سبيل الإستعارة المكنية.

    أما التعبير البلاغي التالي الذي سنقف عنده في الآية 36 من سورة يس، والذي ورد أيضاً في الآية 21 من سورة الروم: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا"، فيتمثل في خَلْق الأزواج من أنفسهم: "وَمِنْ أَنفُسِهِمْ". المعنى الحرفي لخَلْق الأزواج من أنفسهم يدل على خَلْق كل زوجين من جميع الأنفس التي ينتمي إليها هذان الزوجان. لكن المعروف أن الزوجين لا يُخلقان من جميع الأنفس التي ينتميان إليها، بل يُخلق كل زوج من هذين الزوجين من زوجين مختلفتين ينتميان إلى المجوعة التي يعيشون وسطها (أرجو مراجعة القسم الأول من الباب الثالث: ما هي النفس الواحدة وزوجها؟). وتم هنا التعبير بالكل (خَلْق الأزواج من جميع الأنفس بين الجماعة التي ينتمون إليها)، ولكن قُصِد منه الجزء (خَلْق كلٍ من الزوجين من زوجين مختلفتين ينتميان إلى مجموعة الأزواج التي يعيشون وسطها)، على سبيل المجاز المرسل المبني على الكلية. فما وجه الصلة إذاً بين الخَلِق من تراب وبين خَلْق الأزواج من أنفسهم؟

    يمكن لمن تأمل في الآيتين 20 و21 من سورة الروم أن يلاحظ التشابه الكبير في سياقهما، إذ بدأت كل منهما بقوله تعالى: "وَمِنْ آيَاتِهِْ"، وهي جملة تكررت في القرآن الكريم لتنبيه القارئ وحثه على التأمل في الإعجاز القرآني الذي يرد قبلها أو بعدها. كما أن المقابلة بين قوله تعالى: "خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ" في الآية 20، وبين قوله تعالى: "خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا" في الآية 21 وردت، ليس فقط لحثنا على التدبر في خَلْقِنا من تراب وفي خَلْق الأزواج من أنفسهم، بل أيضاً للربط في عقولنا بين الخَلْق من تراب وبين خَلْق الأزواج من أنفسهم، خاصة إذا علمنا أن كلاً من هذين التعبيرين ورد من باب المجاز. فلا الناس تُخلق من التراب مباشرةً، ولا الأزواج تُخلق من جميع الأنفس التي تنتمي إليها. كما أن الأزواج، والتي نبتت من تراب، هي المصدر الذي يبدأ منه خَلْق الإنسان من تراب أو في الأرحام. وبالتالي يمكننا وصف الأزواج بالتراب من باب المجاز أيضاً.

    التعبير البلاغي الأخير الذي سنقف عليه في الآية 36 من سورة يس يتمثل في خَلْق الأزواج الإنسانية مما تُنْبِت الأرض. فإذا علمنا أن الأرض لا تُنْبِت إلا النبات، فإن المعنى الحرفي لقوله تعالى: "خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ" أن المولى، جل شأنه، خَلَق جميع الأزواج الإنسانية من النبات الذي ينبت من الأرض. ولا يصح هذا القول إلا إذا كان ضرباً من ضروب المجاز. فالمعلوم أن الأزواج الإنسانية لا تُخْلَق من النبات الذي ينبت من الأرض، بل أنها، كما رأينا من قبل، تنبت نباتاً من التراب نتيجة الغذاء الذي أصله من تراب. ويتمثل المجاز في قوله تعالى: "خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ" في خلق هذه الأزواج من تراب وتغذيتها من التراب الذي يتمثل في النبات أو الحيوان الذي ينبت من التراب. وقد حُذِف النبات في قوله تعالى: "مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ"، وأُستدل عليه بشيء من صفاته: "تُنبِتُ الْأَرْضُ"، على سبيل الإستعارة المكنية. ثم تم بعد ذلك التعبير بالمُسَبب عليه (النبات، والذي تمت الدلالة عليه بجملة: "مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ") بدلاً عن المُتَسبِب (التراب)، على سبيل المجاز المرسل المبني على المسببية. ويمكن للقارئ ملاحظة وجه الشبه بين وصف الآية لخَلْق الأزواج مما تنبت الأرض وبين نبات الناس من الأرض، كما ورد في الأية 37 من سورة آل عمران: "وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا"، وفي الآية 17 من سورة نوح: "وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا". ففي كلا الحالتين يتسبب الغذاء، والذي يتسلسل إلى النبات ثم إلى التراب، في نمو الناس أو نباتهم من الأرض وفي خَلْق الأزواج من النبات الذي تنبته الأرض. فما النبات، في نهاية الأمر، إلا تراب. وما الإنسان الذي خُلِق من تراب وإستمد غذاءه من هذا النبات، إلا تراب، وسيؤل حتماً إلى تراب. وبذا يمكننا تفسير الآية 36 من سورة يس على النحو التالي: "سبحان الذي خلق وأنبت جميع الناس، والذين قد يصبحون يوماً ما أزواجاً، من تراب الأرض، ومن التزاوج بينهم ومما لا يعلمون".

    قبل أن نختم بحثنا عن الظواهر المرتبطة بالخَلْق من تراب، لابد لنا من وقفة قصيرة للبحث في العلاقة بين الخلق من تراب من جهة، وبين الأطوار التي يمر فيها الإنسان في حياته، وبين الموت والبعث من جهة أخرى. ورد في القرآن الكريم أن الإنسان يُبْعث من تراب يوم القيامة:
    وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ (5): سورة الرعد (13).
    أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ (35): سورة المؤمنون (23).
    قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ 82)): سورة المؤمنون (23).
    وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ 67)): سورة النمل (27).
    أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ 16)): سورة الصافات (37).
    أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ 53)): سورة الصافات (37).
    أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3): سورة ق (50).
    وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47): سورة الواقعة (56).

    وقد يذكر القارئ الكريم ما أثرناه من قبل من تطرق الآية 5 من سورة الحج إلى إنبات الأرض لكل زوج بهيج بفعل نزول الأمطار عليها: "وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ". وقد كان الهدف من ذلك هو حثنا لفهم العلاقة بين الخلق من تراب وخروج النبات من الأرض. ولكي تتضح لنا هذه العلاقة فقد شبه القرآن الكريم إنبات النبات من الأرض ببعث الموتى من القبور:
    وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57): سورة الأعراف (7).
    وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9): سورة فاطر (35).
    وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11): سورة الزخرف (43).
    وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ (10) رِزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11): سورة ق (50).

    فقد لا يخفى لكل من تأمل في الآيات السالفة أنها تشير إلى أن الأنسان، الذي خُلِق من تراب ونَبَت جسمه من تراب في جميع أطوار حياته، سوف يؤول إلى تراب بعد موته، وأنه سيبعث من تراب. ولعل في هذا الربط، بين الخَلْق من تراب وبين الحياة والموت، إشارةٌ إلى العوامل التي يتم من خلالها تحول التراب من صورة إلى أخرى. فالتراب الذي خلق منه الإنسان ورد في القرآن الكريم من باب المجاز ليرمز إلى الإنسان في أي طور من أطوار حياته وحتى في مماته وبعثه، وأيضاً إلى النبات والحيوان لكونها جميعاً تنبت من الترية. فإنبات الناس من الأرض بالتغذية يتسبب في إستمرارية هذه الحياة، ويؤدي إلى نمو جسد الأبوين، والذين عندما يصحبان زوجين، ينتج عن تزاوجها خَلْق جديد من تراب. فما الزوجان أو الأبوان إلا تراب في نهاية الأمر. وعندما يموت الإنسان، فإنه يؤول إلى تراب؛ وعندما يُبعث الإنسان، فإنه يُبعث من تراب. بإختصار، فإن دورة خَلْق وحياة وتغذية وتكاثر كل إنسان على مدار حياته، بل ومماته وبعثه، تدور حول التراب.

    المثير في الأمر، أن آيات الخَلْق من تراب إرتبطت فقط رباطاً عضوياً بكل هذه الأمور المتعلقة بالتراب، لأنها وردت في سياق هذه الآيات، دون أن يتم التصريح بالعلاقة التي تربط بينها وبين الخَلْق من بالتراب في أي من هذه النصوص. وقد لا يفطن المرء، في بادئ الأمر، أن ورود مثل هذه الظواهر المرتبطة بالخَلْق من تراب، كان الغرض منه لفت نظر القارئ وحثه على التأمل فيها وإكتشاف علاقتها بالخَلْق من تراب.
                  

العنوان الكاتب Date
الخلق من تراب عبد الوهاب السناري01-10-17, 03:18 PM
  Re: الخلق من تراب عبد الوهاب السناري01-10-17, 03:22 PM
    Re: الخلق من تراب عبد الوهاب السناري01-10-17, 03:24 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de