الخلق من تراب

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-08-2024, 02:31 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف للعام 2016-2017م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
01-10-2017, 03:24 PM

عبد الوهاب السناري
<aعبد الوهاب السناري
تاريخ التسجيل: 11-16-2014
مجموع المشاركات: 229

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الخلق من تراب (Re: عبد الوهاب السناري)

    خلق عيسى وآدم، عليهما السلام

    يتمثل أقوى الدلائل في أن التراب الذي خُلِق منه آدم هو نفس التراب الذي خُلِق منه بقية الناس في قوله تعالى:
    إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُون (59): سورة آل عمران (3).

    تُمثل هذه الآية النص الوحيد الذي تطرق إلى خَلْق آدم من تراب، بيد أنها لم تخض في تفاصيل ذلك الخلق. ولكن خلص المفسرون أن الآية ترسم لنا صورةً عن معجزة خَلْق آدم من تراب، أي من دون أُمٍ وأب، وتقارنها بمعجزة خَلْق عيسى من دون أب. ولكن لم يشر هذا النص من قريب أو بعيد لأيٍ من هاتين المعجزتين، بل ورد فيه أن خلق عيسى من تراب شبيه بخلق آدم من تراب. وبينما لم يُفصل لنا القرآن الكريم عن خَلْق آدم من تراب، فقد رسم لنا صورةً واضحة المعالم عن خَلْق عيسى بن مريم من تراب. فلما بشرتْ الملائكة مريم العذراء بغلام إسمه المسيح عيسى، تعجبت ووجلت لأنها لم تمارس البغاء ولم يمسسها بشر من قبل:
    وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا (21): سورة مريم (19).
    إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (47): سورة آل عمران (3).

    وذكر لنا القرآن الكريم أن خَلْق عيسى المسيح بدأ بنفخ الله تعالى من روحه في فرج أمه مريم العذراء:
    وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ (91): سورة الأنبياء (21).
    وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12): سورة التحريم (66).

    ثم بعد ذلك النَفْخ حملت مريم العذراء:
    فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا (23): (33): سورة مريم (19).

    وتشير جميع الدلائل القرآنية أنه كان حملاً عاديا، وأنه بدأَ بالنطفة التي تكونت من تخصيب بويضة مريم العذراء بنفخ المولى، جل شأنه، لروحه في فرجها، مروراً بالعلقة، وإنتهى بمولد عيسى، عليه السلام. ولعل أكبر دليل على ذلك أن مريم مرت بالمخاض الذي تمر به كل أنثى تضع وضوعاً طبيعياً. كما أنها ولدت ولادةً طبيعية، أقر بها عيسى المسيح بنفسه:
    وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15): سورة مريم (19).
    وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33): سورة مريم (19).

    فإذا إستهدينا بوصف القرآن الكريم لخَلْق عيسى، عليه السلام، لتبين لنا أنه خُلِق في الأرحام، وأن أطوار الخلق من تراب، بَدْأُ من النطفة ثم العلقة، وإنتهاءً بالمخاض ثم الولادة، تنطبق تماماً على خَلْقِه. ولتبين لنا أن الفرق الوحيد بين خَلْق عيسى وبين خَلْق بقية الناس، إذا إستثنينا خَلْق آدم في هذه المرحلة، أن عيسى خُلِق من أُمٍ فقط، بينما خُلِق بقية الناس من أَبٍ وأُم.

    يطلق علماء البلاغة على التشبيه الذي تضمنته الآية 59 من سورة آل عمران إسم التشبيه التمثيلي، وهو الذي يتم فيه تشبيه صورة بصورة أخرى، ويكون وجه الشبه فيه صورةً منتزعةً من أشياء عدة. وهو أبلغ أنواع التشبيه وأكثرها شحذاً للذهن وإثارةً للخيال. وإذا بحثنا في القرآن الكريم عن الآيات التي ضرب الله، عز وجل، فيها الأمثال، على النحو الذي ورد في الآية 59 من سورة آل عمران، وذلك حين يسبق قوله تعالى: "مَثَلَ" المشبه، ويسبق قوله تعالى: "كَمَثَلِ" المشبه به، لتبينت لنا ثلاث حقائق مهمة عن هذه الآيات. أولها، أن نوع التشبيه فيها جميعاً هو تشبيه تمثيلي، وثانيها، أن الصورة التي تضمنها ذلك التشبيه رُسِمت بمنتهى الجمال لتقريب وتوضيح المعنى إلى أذهاننا. أما ثالث هذه الحقائق فيكمن في وجود جُمَلة مضافة إلى التشبيه في آخر كل من هذه الآيات. فعلى الرغم من أن هذه الجملة المضافة لا تعد ركناً من أركان التشبيه (المشبه والمشبه به ووجه الشبه)، إلا أنها تساعد في تقريب الشبه بين صورتي التشبيه التمثيلي. كما أن حذفها قد لا يخل كثيراً بالصورة التي رسمها وجه الشبه. وفي إعتقادى، أن الغرض الرئيس منها التُأطِير لقاعدةٍ عامة في هذه الآيات بالذات، يمكن أن نستعين بها على التأكد من القصد الذي من أجله ضرب الله تعالى ذلك المثل، خاصة في الآية 59 من سورة آل عمران.

    فإذا وقفنا عند التشبيه التمثيلي في الآيات التالية، والتي شبه المولى، عز وجل، فيها هيئة الذين إشتروا الضلالة بالهدى، بهيئة الذي إستوقد ناراً فأعماه الله، لتبين لنا مدى جمال الصورة البلاغية التي تضمنها المشبه به: "مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ"، إذ يمكن لأي فنان بارع أو أي مصور فوتغرافي أو أي سينمائي، أن يرسم منها لوحةً أو أن يخرج منها فِلماً غايةً في الإبداع. ولتبين لنا أيضاً أن فهمنا للمثل كان من الممكن أن يكتمل بدون ورود الجملة المضافة إلى التشبيه والتي وردت في آخر الآية، وهي قوله تعالى: "وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ":
    أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ (16) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ (17): سورة البقرة (2).

    ويمكننا أيضاً تخيل مدى جمال الصورة البلاغية التي تضمنها المشبه به في الآية التالية: "كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء". وكما هو الحال في الآيات السابقة، فإن حذف: "صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ" لا يخل بالصورة التي أبرزها لنا التشبيه:
    وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ (171): سورة البقرة (2).

    وإذا تمعنا في جميع الآيات التالية، لتبين لنا مدى جمال الصورة البلاغية التي تضمنها المشبه به، ولعثرنا على الجمل الإضافية التي كان من الممكن أن يفهم التشبيه بدونها، ولكن على الرغم من ذلك، فقد وردت هذه الجمل في جميع الآيات التالية:
    مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261): سورة البقرة (2).
    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265): سورة البقرة (2).
    إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئًا وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِـذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَـكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117): سورة آل عمران (3).
    وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176): سورة الأعراف (7).
    مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41): سورة العنكبوت (29).
    مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5): سورة الجمعة (62).

    ولنعد مرةً أخرى للوقوف عند الآية 59 من سورة آل عمران، لمقارنة الصورة البلاغية التي رُسِمت فيها عن المشبه: "إِنَّ مَثَلَ عِيسَى"، بالصورة المرسومة عن المشبه به: "كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ"، ولندرس مدى تأثير الجملة المضافة: "ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُون" في توضيح وجه الشبه بين الصورتين. فأول ما يمكن ملاحظته عدم وجود تشابه بين الصورة التي رسمتها روايات الحديث عن خَلْق آدم من تراب من غير أُمٍ وأب، وبين الصورة التي رُسمت في القرآن الكريم عن خَلْق عيسى من تراب من غير أب. فخَلْق وتصوير عيسى تم في الأرحام، بينما كان تصوير آدم، كما وصفه رواد التفسير، في خارج الرحم.

    ومما يزيد الأمر حرجاً، أن الجملة المضافة في آخر الآية: ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُون"، والتي يفترض منها تقريب الصورتين المشبهتين إلى أذهاننا، لم تزد المعنى إلا تعقيداً ولم تزد الصورة إلا غموضاً. لم يقتصر هذا التعقيد على النواحى البلاغية فحسب، بل تعداه إلى معنى الآية، والذي أشار إليه الرازي بقوله: "في الآية إشكال، وهو أنه تعالى قال: "خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُون"، فهذا يقتضي أن يكون خَلْق آدم متقدماً على قول الله له: "كُن"، وذلك غير جائز". فما العبرة في أن يقول المولى، جل شأنه، لعيسى: "كن" قبل أن يخلقه:
    قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (47): سورة آل عمران (3).

    لكنه قال لآدم: "كُن" بعدما خلقه، على الرغم من أن الآية 59 تضرب مثلاً بين خَلْق كل من عيسى وآدم، عليهما السلام، من تراب، على الرغم من أن: "كُن" تستبق دوماً حدوث أي أمرٍ أو شيء أراد المولى، جل شأنه، حدوثه:
    بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (117): سورة البقرة (2).
    وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73): سورة الأنعام (6).
    إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (40): سورة النحل (16).
    مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (35): سورة مريم (19).
    إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82): سورة يس (36).
    هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (68): سورة غافر (40).

    فلماذا يكون في: "كُن"، في الآية 59 من سورة آل عمران، خرق لهذه القاعدة، إلا إذا حدث ذلك نتيجة لسوء فهمنا للآية الكريمة؟ فلا يمكن تفسير إستباق: "كُن" لخلق آدم تفسيراً منطقياً إلا إذا أخذنا بالرأي القائل أن التراب يرمز إلى الأبوين، (والذين هم في حقيقة الأمر تراب)، وأن آدم خُلِق من أبوين. وعليه، يمكننا تفسير الآية على أساس أن التراب يرمز إلى الأبوين وأن آدم خُلِق من أبوين، كما يلي: أنه عندما أراد المولى، جل شأنه، أن يخلق آدم، قال له: "كُن"، فحدث نتيجة ذلك إتصال جنسي بين التراب (الأب) والتراب (الأم)، فأدى ذلك إلى حمل والدته، ونتج عن ذلك الحمل خَلْقُ آدم في الأرحام، بدأً من النطفة. وبذا تتقدم: "كُن" على خَلْق آدم، ولا يكون في خَلْق آدم خرق لقاعدة: "كُن فَيَكُون". وهذا ما يؤدي إلى إتساق الصورة التي رسمتها لنا الآية الكريمة عن خَلْق آدم مع تلك التي رسمتها لنا عن خَلْق عيسى لأن كليهما قد خُلِق في الأرحام.

    بناءً على ما سبق يمكننا القول أن التراب يمثل الأبوين في حالة خَلْق آدم، ويمثل مريم العذراء في حالة خَلْق عيسى؛ وأنَّ: "كُن" تمثل إصدار الأمر من العلي القدير بخَلْق كلٍ من آدم وعيسى من تراب؛ بينما تمثل: "فَيَكُون" خَلْق كلٍ من آدم وعيسى في الأرحام. لا يتسق هذا التفسير فقط مع قاعدة: "كُن فَيَكُون"، بل يتسبب في إبراز وجه الشبه في التشبيه التمثيلي الذي تضمنته الآية الكريمة عن خَلْق عيسى وخَلْق آدم في الأرحام، ويُبْرِز أيضاً الدور الذي تلعبه الجمله المضافة: "ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُون" في تقارب وجه الشبه بين صورتي خَلْق عيسى (الصورة المشبهة) وخَلْق آدم (الصورة المشبه بها)، أسوةً بمثيلاتها من الآيات التي إشتملت على مثل هذا التشبيه التمثيلي. بل ويجعل هذا التفسير سياق الآية متسقاً مع جميع النصوص التي تصف الخَلْق من تراب، والذي أكدت جميعها أنه بدأ بطور التراب (الأبوين)، ومن ثم إنتقلتْ إلى وصف بعض، أو جميع أطوار الخَلْق في الأرحام.

    فإذا وقفنا على الآيات التي تصف خَلْق الإنسان من تراب، لتبين لنا أن قوله تعالى: "خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ" في الآية 59 من سورة آل عمران يطابق قوله تعالى: "خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ" في الآية 5 من سورة الحج، وقوله تعالى: "خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ" في الآية 20 من سورة الروم، وقوله تعالى: "خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ" في الآية 11 من سورة فاطر وفي الآية 67 من سورة غافر، وقوله تعالى: "خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ" في الآية 37 من سورة الكهف. كما أن الأطوار التي يشير إليها قوله تعالى: "ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ" في الآية 5 من سورة الحج، وقوله تعالى: "ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ" في الآية 11 من سورة فاطر، والآية 37 من سورة الكهف، وقوله تعالى: "ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ" في الآية 67 من سورة غافر، فتمثل بعض الأطوار التي يتضمنها قوله تعالى: "فَيَكُونُ" في الآية 59 من سورة آل عمران، لأن: "كُن" تمثل إصدار الأمر بخَلْق الإنسان، بينما تمثل: "فَيَكُونُ" أطوار خَلْق الإنسان في الأرحام.

    وإذا أسلمنا أن آدم هو الإنسان الوحيد الذي خُلِق من تراب أو من طين، وليس من أبوين، فلماذا لم يَسْتَثني المولى، عز وجل، خَلْق آدم، وهو أول إنسان خُلِق، أو خَلْق حواء التي قيل أنها خُلِقت من ضلع آدم، من النصوص التالية، والتي تؤكد أن كل إنسان، بما في ذلك آدم وحواء وعيسى، خُلِق من نطفة:
    خَلَقَ الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ (4): سورة النحل (16).
    أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ (77): سورة يس (36).
    إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2): سورة الإنسان (76).
    أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38): سورة القيامة (75).
    قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19): سورة عبس (80).
    ولماذا لم يَسْتَثني المولى، عز وجل، خَلْق آدم وحواء من النص التالي، والذي يؤكد أن الإنسان خُلِق من علق:
    خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2): سورة العلق (96).

    إن في عدم ورود مثل هذا الإستثناء، تأكيدٌ على أن المولى، عز وجل، خَلَق آدم وحواء في الأرحام من نطفة ومن علقة، أسوةً بخَلْق جميع الناس. فقد تكررت مفردة: "إنسان" 67 مرة في معرض الحديث عن الجنس الإنساني ككل أو للإشارة إلى جميع الناس كأفراد. بيد أن المفسرين قالوا أنها تشير، مرةً إلى آدم، ومرةً إلى بنيه، ومرةً أخرى إلى الأثنين معاً، في الآيات التي تتناول موضوع خَلْق الإنسان من تراب ومن طين.

    وقد يتساءل القارئ عن السر وراء وصف القرآن الكريم للأبوين بالتراب، بدلاً من التصريح بهم. والإجابة هي أن وصف الأبوين بالتراب يساوي بين خَلْق عيسى وبين خَلْق بقية الناس. فإذا أُستعيض عن التراب بالأبوين لوردت نصوص الخلق من تراب على هذا النحو: "خلقناكم من أبوبين" بدلاً عن: قوله تعالى: "خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ". وإن حدث ذلك كان لابد أن يُسْتَثنى خَلْق عيسى من ذلك: " خلقناكم من أبوبين إلا عيسى فقد خُلِق من أٌم". ولكن، فإن قوله تعالى: "خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ" يتضمن خلق جميع الناس، بما فيهم عيسى، عليه السلام. ولعل هذا يفسر السر وراء مقارنة خَلْق عيسى بخَلْق آدم، عليهما السلام، في الآية 59 من سورة آل عمران. فلعل المولى، جل شأنه، أراد أن يؤكد لنا، من خلال هذه الآية، أنه، على الرغم من أن عيسى خُلِق من دون أب، إلا أن خَلْقُه يتساوى مع خَلْق آدم الذي خُلِق من أبٍ وامٍ. ولولا وصف القرآن الكريم للأبوين بالتراب لما إستقام تفسير قوله تعالى:
    مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28): سورة لقمان (31).

    فلكي يتسق خَلْق عيسى مع النص السابق، كان لابد أن يرد في القرآن الكريم ما يساوي بين خَلْقه وبين خَلْق بقية الناس، على الرغم من أن خَلْق عيسى حدث بدون أب، وإلا لتم إستثناء خَلْق عيسى من الآية السالفة. أما إذا ورد في القرآن الكريم أن عيسى خُلِق من تراب، أسوةً بخَلْق جميع الناس، لجاز لنا القول أن خَلْق الناس جميعاً يتم كخَلْق النفس الواحدة، أي بنفس الشاكلة. وبالمثل لو أن آدم خُلِق من التربة، ولو أن حواء خُلِقت من ضلع آدم، لما ورد في القرآن الكريم أن خَلْق الناس جميعاً تم على نفس الشاكلة التي يتم بها خَلْق أي نفس من هذه الأنفس، ولتم إستثناء خَلْقَهما في الآية السالفة. فلكي يتم التوفيق بين نصوص الخَلْق من تراب وبين الآية 28 من سورة لقمان، لابد أن يكون خَلْق جميع الناس تم كخَلْق نفسٍ واحدة، مثلما يتم بعثهم كبعث نفسٍ واحدة. فجميع الناس، بما في ذلك آدم وعيسى، خُلِقوا من تراب، وسيُبْعَث جميع الناس، بما في ذلك آدم وعيسى، من تراب.
                  

العنوان الكاتب Date
الخلق من تراب عبد الوهاب السناري01-10-17, 03:18 PM
  Re: الخلق من تراب عبد الوهاب السناري01-10-17, 03:22 PM
    Re: الخلق من تراب عبد الوهاب السناري01-10-17, 03:24 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de