رسائل أنسي الحاج إلى غادة السمان: ترميم الزمن المعطوب

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 03-29-2024, 10:44 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف للعام 2016-2017م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
12-24-2016, 09:08 PM

زهير عثمان حمد
<aزهير عثمان حمد
تاريخ التسجيل: 08-07-2006
مجموع المشاركات: 8273

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
رسائل أنسي الحاج إلى غادة السمان: ترميم الزمن المعطوب

    08:08 PM December, 24 2016

    سودانيز اون لاين
    زهير عثمان حمد-السودان الخرطوم
    مكتبتى
    رابط مختصر


    لطالما كانت غادة السمّان في مخيّلتنا كاتبة الحب. والأنوثة المتفتّحة الواثقة من نفسها. كاتبة وجوديّة أيضاً، مسافرة بين المدن والثقافات. لم تكن يوماً راديكاليّة، على تصادم مع المؤسسة السلطوية الذكوريّة. بل اكتفت بالمناغشة والاستفزاز والغواية، مراعيةً «قواعد الاشتباك» التقليديّة بين الرجل والمرأة.

    وتحت هذا السقف، انتقدت المجتمع الذكوري وتمرّدت عليه وفضحته. تجرأت على المجاهرة بالرغبة، وغازلت «الرجل» وأعلنت «عليه» الحبّ. وبهذا المعنى غادة السمّان كاتبة شعبيّة. يقترن اسمها بالرغبة المتفلتة. غير مهم إذا كان التحرر الجنسي هنا مجرّد اختراع أدبي. الأدب هو المرجع. كل ذلك جعلها في جيلنا مثالاً أعلى وأيقونة. رغم كونها ليست سيمون دو بوفوار، ولا كوليت، ولا أناييس نِن. رغم كونها لم تعلن القطيعة مع السائد!
    لكن الحب، حين يكون من لحم ودم، يبدو لكثيرين صنواً لـ «الفضيحة»، ويبدو الافصاحُ عنه تشهيراً ولوثةَ عار. ما ان نشرت غادة السمّان أخيراً رسائل أنسي الحاج إليها، كما فعلت في الماضي مع غسّان كنفاني (8 طبعات منذ 1992)، حتى تعالى كونشرتو الاستنكار، كأنّها ارتكبت المحظور. علماً أن تاريخ الفنّ كلّه قائم على علاقة ملتبسة بين المستور والمعلَن، الخاص والعام، الحياء والسفور. سمعنا أن نشر الرسائل يندرج ضمن مشروعها النرجسي، لترسيخ صورتها كحوريّة بيروت العصر الذهبي وملهمة مثقفيها ومناضليها. ألم تكن كذلك فعلاً؟ تلك الشابة الموهوبة، الهاربة من مجتمعها الدمشقي المحافظ إلى عاصمة كل الاحتمالات، كان يفوح منها عبق الحريّة والتمرّد وهي تجتاز بيروت على درّاجتها، وتسوسح الرجال في الـ «هورس شو» والـ «دولتشي فيتا». ولا شكّ في أن الرسائل المحمومة التي كتبها لها أنسي الحاج، العام 1963، بخط منمنم على أوراق دفتر مدرسي، أو على قفا برقيات وكالة الأنباء في «النهار»، تؤرّخ لتلك المرحلة. إنّها جزء من ذاكرة بيروت، عاصمة الحداثة العربيّة.
    تلك البيروت، لم يبق منها اليوم إلا حفنة كلمات، أعادتها لنا غادة السمّان بأمانة. بلى، رسائل أنسي هي ملك قرّاء الأدب ونقاده ودارسيه ومؤرخيه. من حقنا أن نقرأها، ونتركها تأخذ مكانها في تاريخنا الاجتماعي والثقافي والسياسي. هنيئاً للمتلصصين أيضاً. «لم أتزوّج بعد. لم تتزوّجي بعد. أرجوك يا غادة أن تأتي إليّ!». هل كانت الرسالة الأخيرة؟ مكتب أنسي الحاج القديم في «الأخبار»، يشهد أنّه عاش عاشقاً حتى آخر أيّامه. لكنّ أجمل قصص الحب تلك التي لا تكتمل. شكراً غادة!

    شاعرات أقلّ شأناً، روائيات تائهات، عشرينيات يلتمسن الكتابة، بركاكة لغوية فجّة، يمتلكنَ رسائل ملتهبة على الفايسبوك ما يبزّ غادة السمّان (1942) وعشاقها بمراحل. أسماء كبيرة في الوسط الأدبي اقتحمت الموقع الأزرق في هدر مشاعر محمومة طلباً للوصال، مقابل نشر ترهّات مجهولات في منابر مرموقة.

    لكن غبار هذه المعارك لم يخرج إلى العلن، فهنَّ لسن مشهورات كي ينشرنَها في الكتب والصحف. المعركة التي دارت رحاها أخيراً حول «رسائل أنسي الحاج إلى غادة السمّان» (دار الطليعة ـ 2016) بدت كما لو أنها نسخة ثانية منقّحة من «رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمّان»، ولكن بضجيج أكبر، و«أدبية أقلّ» بتأثير الميديا السائلة، نظراً لارتباكات أنسي، ووحشية حبر غسان. إذ لا يمتلك الأول شجاعة الثاني في انتهاك المحظور، فعبارة مثل «أنت امرأة حقيقية حتى كعب حذائك» تطيح نديّة العاشق، ومراميه الحسيّة المضمرة، وإن جرّب السلاح الاقتحامي في رسائل لاحقة، مموهاً غرائزه ببلاغته العالية، وحاجته إلى العلاج من مرضٍ عاطفي طارئ باغته في ذروة انشغاله العائلي، أو لنقل إنّ هذه الرسائل السبع، كانت تمرينات نقاهة، وبروفات شعرية على مرحلة ما بعد ديوانه «لن». وتالياً، فإن غادة السمّان وقعت هذه المرّة على «طريدة» مسالمة لا تحتاج إلى أنياب حادة لافتراسها «لغوياً»، بالمقارنة مع الطريدة الأخرى، إذ خرج العاشق من الحلبة في الجولة التاسعة مهزوماً، فيما استمر غسان كنفاني في محاولة اقتحام الأسوار وحفر الخنادق بمعولٍ شرس، مراهناً على كسب المعركة، خصوصاً أنّ المعشوقة كانت تترك بعض الثغرات المفتوحة في خطوط دفاعها لتسلل العاشق، وإلا لما استمرت الرسائل زمناً أطول؟


    جرأتها لن ترقى إلى جرأة مجايلتها فرنسواز ساغان، أو مارغريت دوراس لجهة المكاشفة والاعترافات وتقشير البلاغة

    وقع أنسي في غرام غادة (1963) إثر جلسات يومية في مقاهي الحمرا، لكنه بقي حبّاً سريّاً وعابراً ومحزوناً، إلى أن اقتحم غسان كنفاني المشهد (66/67) بفضائحية أكبر، تبعاً لمحتوى رسائله وصدى رسائلها التي غابت عن الكتاب بذريعة فقدانها. وإلا لكانت صاحبة «عيناك قدري» نوهّت عن مشاعرها هي أولاً، في مقدمة الكتاب، طالما أنّ رسائلها إليه قد ضاعت، كي تستقيم المعادلة قليلاً في تبرير مفردات «معجم التذلل» المبثوثة بين سطور رسائل العاشق. لكن جرأة كاتبتنا لن ترقى إلى جرأة مجايلتها فرنسواز ساغان، صاحبة «مرحباً أيها الحزن» مثلاً، أو مارغريت دوراس في «العاشق» لجهة المكاشفة والاعترافات وتقشير البلاغة. فقط هي مغتبطة بالمتورطين في حبها، سعاة بريد الغرام، من دون أن تكون هي طرفاً آخر، كنوع من العفّة الشرقية في المقام الأول. وإذا بالجرأة التي رافقت كتاباتها مجرد شجاعة بلاغية، ولعب لغوي بالكلمات على غرار معجم نزار قباني، لكن من ضفةٍ مضادة. للحظةٍ ما، ونحن نفحص تواريخ رسائل العاشقين، سنكتشف خلو صندوق بريدها من الرسائل التي تخص عامي 64/ 65 من عاشقٍ متهوّرٍ آخر، ربما كان بدر شاكر السياب أثناء عبوره الخاطف إلى بيروت، من يدري؟ لا نقصد التهكّم هنا، لكننا لن نقع على إجابةٍ شافية تتعلّق بهذا الهوس في نشر رسائل من كاتبوها في غيابهم، وطمأنينتها التامة بأنّ أحداً لن يستل رسالة منها إلى غسان كنفاني تبثه مشاعرها في «فضيحة؟» مقابلة. أما أنّ الأمر برمته محض توثيق أدبي لرسائل كان بالإمكان أن تبقى مجهولة، فلا يعوّل عليه، بصرف النظر عن الحماسة النسوية التي أشعلت الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي في الدفاع عن طهرانية غادة السمّان واتهام كل من استهجن نشر الرسائل بالذكورية الشرقية.
    هناك ما يمكن تفسيره بما يقع خارج الخطاب الأدبي الصرف، ذلك أنّ صمت صاحبة «ختم الذاكرة بالشمع الأحمر» وانحسار الضوء المشع عنها، بالمقارنة مع بريق حضورها في العقود المنصرمة قادها إلى نفض الغبار عن رسائل أنسي الحاج لاستعادة مقعدها الوثير، بعدما ظهرت أصوات نسائية مهمة وجديّة ولافتة احتلت المشهد الأدبي بقوة، فأزاحتها جزئياً عن الساحة، متناسية أن الصبية السمراء الفاتنة في ستينيات القرن المنصرم بالـ «ميني جوب» والموتوسيكل والصوت المغناج، لا يمكن أن تكون هي نفسها «لوغو» القرن الحادي والعشرين، من دون أن نغمط حقها كرائدة في الكتابة النسوية المتمردة. ذلك أن قرّاء/ قارئات اليوم، وجدوا ضالتهم في نصوص أخريات استثمرن قاموساً أكثر عصرية وجاذبية وحسيّة، يتواءم مع تحولات اللحظة الراهنة لجهة الجرأة واقتحام المناطق الشائكة. ربما ما تعيشه غادة السمّان في شيخوختها، يشبه ما عانته سعاد حسني بعد أفول نجمها، فهي لم تقتنع بأنها لم تعد سندريلا الشاشة. كذلك غادة السمّان، فهي لم تعد «سندريلا الأدب»، وما نشرها مثل هذه الرسائل لضحاياها من العشاق، في زمنٍ متأخر على كتابتها، إلا نوع من العلاجات الإسعافية في ترميم الزمن المعطوب.
    أجل هناك ما يهزّ صورة شاعر أليف مثل أنسي الحاج، ليس كذكر مهزوم، بل ككائن هشّ اقتُحمت خصوصيته في حقبة مطوية لم يشر إليها يوماً، ولم يرغب في حياته بتعميمها على الملأ. وتالياً، فإن نشر رسائله بعد رحيله، يقع في باب «كان هذا سهواً» وفقاً لعنوان آخر كتبه، ومن ضفةٍ ثانية، يأتي كتعبير عن نرجسية أنثى كانت مرغوبة في شبابها الحار، بما تتيحه نفحة الحرية التي وسمت بيروت الستينيات، وندرة الأصوات الأدبية الأنثوية المتمردة على الأعراف حينذاك.
    اللافت أن هذه الرسائل تعتني بغادة الأنثى المشتهاة، لا الكاتبة المتمرّدة، وهو ما ينفي الحضور الأدبي أولاً لقيمة هذه الرسائل، وفق بعض المنافحين عن نشرها «أشعر بجوع إلى صدرك، بنهم إلى وجهك ويديك ودفئك وفمك وعنقك، إلى عينيك» يقول. لكن ما العيب في الشيخوخة؟ لماذا تصر غادة السمّان على أن توقف عجلة الزمن عند شبابها الآفل، ولماذا ترفض أن تهدي قراءها اليوم صورة حديثة لها؟ أجل ليس لدينا في الأرشيف سوى صورة بالأبيض والأسود لغادة السمّان العشرينية المثيرة، وأخرى ملوّنة بصحبة كتبها وبومتها الأثيرة. ألم يلتقط لها مصوّر صحافي صورة حديثة؟ طيّب، ألا تتوافر نسخة من صورة حديثة ولو كانت تخصّ جواز سفرها؟ ألم تفكّر محطة فضائية في استضافتها؟ نقول ذلك بأسى عن كاتبة لا يمكن تجاهل إسهامها في المدوّنة الأدبية العربية. أما أن تتحوّل إلى كائن افتراضي بسحنة غامضة، فذلك ما يدعو إلى التساؤل والحيرة والأسف. ربما علينا أن نستعيد اعترافاً قالته سيمون دوبوفوار كإجابة عن سؤال وجه إليها بعد نشر مذكراتها: «ألم تندمي على إخفاء معلومة ما في مذكراتك؟». أجابت: «أجل، كان عليّ أن أذكر تفاصيل علاقة مثليّة عشتها مع إحدى طالباتي في الجامعة!». ليست محاكمة ذكورية لصاحبة «اعتقال لحظة هاربة»، كما سيفسّرها بعضهم على عجل، لكننا نرغب أن نقرأ يوماً «رسائل غادة السمّان إلى...» كي تكتمل الصورة الناقصة لصاحبتها المحتجبة المتوارية، بقدر بسالتها في استثمار رسائل قديمة مصفرّة كتعويض عن وحدة امرأة سبعينية غامضة. لكن مهلاً، ماذا لو كشفنا الغطاء عن رواية لم تنل حظها من الشهرة، كتبها الروائي السوري عبد الكريم ناصيف، وصدرت قبل ثلاث سنوات بعنوان «النمس والأفاعي» (دار التكوين - دمشق)؟ كنت أنوي تجاهلها لظني بأنها تسيء إلى غادة السمّان بوصفها إحدى شخصيات الرواية، ذلك أن شخصية «ميادة» الدمشقية المستهترة في الرواية تحمل ملامح غادة السمّان تماماً، فالروائي يشير صراحة إلى كتابها «أعلنت عليك الحب» بالاسم، وإلى أنها أسست دار نشر باسمها في بيروت، وتزوجت ناشراً معروفاً، قبل أن يصفها بأنّها «ترتدي جلد أفعى»، و«جسدها موقد نار، لذلك تبحث دائماً عن مطفأة»، وهي من علّمت بطل الرواية «النمس» قواعد «النفّري» السبع والأربعين الجنسية وتطبيقها معه ببراعة، بالإضافة إلى «فضائح» أخرى. سيحتج كثيرون- أنا واحد منهم- على تعرية الحياة الشخصية لكاتبة على هذا النحو، بما يتماثل مع احتجاجنا على نشر رسائل عشّاق غادة السمان على حبل غسيل مهترئ تحت بند التوثيق الأدبي وحسب.

    رسائل

    العالمُ الحقير كبيرٌ وشاسع. البَرْد واقفٌ في قلبي. المدينة؟ المدينة لفظة أدبية حلوة إلى حين. أما أنا، فلم يعد يخرق رأسي لفظة واحدة. كأنني شبّيت وراهقتُ وكهلت وهرمت في لحظة واحدة. العالم كلّه تحت حذائي، لكني لا أستطيع أن أقوم من فوقه وأذهب. ماذا تفعلين الآن؟ نمتِ؟ هنيئاً، أتساءل كيف تقدرين؟ أحسدكِ. أحياناً يخيّل إليّ أنني لا أعرفكِ.

    أحياناً أكرهكِ. أحياناً كثيرة أحتقر نفسي لأنني أكلّمك عن نفسي. وأحياناً كثيرة أقول إنني أظلمكِ. وأحياناً كثيرة يتولّاني من جديد أملٌ أعمى بأن تستجيبي إليّ. وأحياناً آخذ هذا الأمل معي إلى الفراش، فجأةً، وقبل أن يفتح عينيه أغفو عليه...
    هل فقد العالم عقله؟ ربّما.
    أنا أيضاً أحب. لكن بشكل آخر. إن جنوني نقيض جنون العالم.
    وسأكون، في العالم المجنون، العاقل الوحيد.
    4-5/12/1963

    ■ كلكم ضدّي: قرّاء وأدباء. أجانب وأقارب وغرباء. أصدقاء ونساء. لا أحد معي. أكثر امرأة أحببتُها (لا أعرف إلّا عندما أذكرها أنني لا أستطيع أن أبكي!) أكثر امرأة أحببتها كانت أكثر امرأةٍ خسرتُها. هذه في معادَلتي. حسابي ناجحٌ في الفشل. عقلي راجحٌ في الجنون والخراب والموت. لكن لا أعرف في العالم أعظم من شجاعتي.
    إن ما أراه ــ ماذا أقول؟ إنه ما أشمّه وأعيشه وأرافقه، بل إن ما أتنفّسه وأحبل به وأجاريه وأرفضه وأواجهه وألعنه ويقهرني من قذارات هذه الحياة ودناءة النفس البشريّة وخبثها وحقارتها وبرصائيّتها ونفاقها وتمثيلها وأفعوانيتها وبلاهتها وبشاعتها وانخداعها وخداعها وقرفها الرهيب وحبال خسّتها اللامتناهية التركيب والتعقيد والطول والشسوع، إن ما أُعانيه كلّ لحظة، كلّ جزء من اللحظة معاناةً لا توصف من هذا الواقع الذي لم أبلغ يوماً في تصوّراتي إياه ما بلغته في معاركي له خلال سنة، إن ما أعانيه يا أنتِ، أيّتها القابعة كالمارد في علبة الأقزام، يكفي لشلّ أقدر يدٍ وتحطيم أعظم صخرةٍ وخَنْق أغلظ رئتين على الإطلاق. ولا أعرف غير الأعجوبة تفسيراً لبقائي حيّاً. أو لعلّني أعيش فترة وقف التنفيذ. المرحلية المؤقّتة.
    أَنتظر.
    لا المطر ولا الصباح ولا الأصوات. لا الدفء ولا الدخان. أنتظرُ فقط.
    أنتظركِ.

    ■ لا شيء يبرّر عذابي الآن إلا صدقي، إذا سلّمنا أن الصدق لا بد أن يكون دائماً شهيداً.
    أنتِ تعتقدين أن التجارب التي مرت بك تضطرك إلى التزام موقف الحَذَر الشديد والحيطة والتنبُّه والشك والرفض والسخرية الذي التزمتِه معي حتى الآن. أنا أفهم تفكيرك جيداً...
    ولماذا، لماذا يخيّل إلي أنك تعرفين أنني صادق، ولكنك ترفضين أن تنساقي مع هذه المعرفة؟ ولماذا لماذا لماذا قلتِ لي ذلك المساء أننا لن نلتقي أبداً ولن نفترق أبداً؟ هل تدركين معنى هذا الجزم؟ هل تدركين مدى تأثيره عليّ لو تيقنتُ نهائياً أنه صحيح؟ ألا تعلمين أنني... ألا تعلمين أنكِ، بهذا الحكم الذي يعني أننا كالخطّين المتوازيين كل منا بجانب الآخر وليس لواحد منا أن يصبّ في الآخر - إنك بهذا الحكم تصدرين بحقي حكم الإعدام؟ ألا تعلمين أنني شحنتُ كل قواي من أجل هذا اللقاء؟ وأن عدم تحقّقه سيقتلني؟ أم أنك واثقة من أنه لن يتم؟ لا يا غادة! لستِ واثقة. كنتِ تتكلمين بمعاني الماضي وأنا لستُ ماضيك. إنني أرد ماضيك على أعقابه. أنا لستُ مثل أحد. لا شيء أفعله مثلما يفعلونه. لا أحد يحب مثلي. لا أحد يحب بقوة ما أحب، بجمال ما أحب، بروعة حبّي وعظمته ونقائه. لم يعد غيري من يحب في العالم. كل ما في هذا العصر من رجال، آلات وجلود وأشباه بهائم. وقد يعرفون كل شيء، إلا الحب. وقد يفهمون كل شيء، إلا المرأة. وقد يميتهم ويحييهم أي شيء إلا الحب وامرأة. لستُ مثل أحد. إنني آتٍ من حيث لا وقت إلا للحب، وها أنا أعيش عصري باحتقاره وضربه على نافوخه، فهو عصرُ المعلّبات والخدع الرهيبة، إنه عصرُ زوال الحب. أعيشه؟ بل أعلّقه على الحائط. إنه نملة شاسعة أدوسها كل لحظة لأقطع منها جزءاً. إنني أجملُ وأفضلُ وأعلى من عصري. إن عصري هو عاري. إنه عاهتي ولحمي الميت، وأنا أخجل به وأكرهه وأفلّت عليه أفكاري القاتلة. وأكثر ما يقتل هذا العصر السافل أنني أعرف كيف أحب، وأنني أحب، وأنني لا أكف عن الحب، وأنني لن أكف عن الحب. إنني أعظم مجرم معاصر. صدقيني. ولا أعرف كيف سيكون أو هل سيكون العصر المقبل؟ غير أنني لا أرى سبباً واحداً للتفاؤل. والواقع أن ذلك لا يهمني. إنني أحب لا نكايةً بالعصر وإنما لأنني عاجز عن العكس. إنني أتحمل حبي.

    ■ هل ممّا ينتقص من كرامة الإنسان أن يكون بحاجة إلى إنسان آخر؟ ربما لا وربما نعم. لكن المشكلة ليست في الجواب لا أو نعم. فسواء كان الجواب لا أو نعم، يبقى المحتاج محتاجاً. هذه هي المشكلة. لكن لا بأس.
    (...)
    لو تعلمين إلى أي درجة أنت مسؤولة عن مصيري الآن لارتجفتِ من الرعب. لقد اخترتكِ. وأنتِ مسؤولة عني شئتِ أم أبيتِ. لقد وضعتُ لعنتي الحرّة عليك.
    هل يجب أن أعتذر إليكِ عن هذا الاختيار؟ لا أعتقد. في النهاية، لن تعرفي أجمل من حبّي. قد لا أكون واثقاً من شيء ثقتي بهذا الشيء. لا يمكن أن تعرفي أجمل من حبّي.
    وأنتِ؟ هل أظل أتحدث إليكِ دون حوار؟
    لا. لا. لا يمكن أن يكون العالم قد أقفر إلى هذا الحدّ من الحنان. لا يمكن أن يكون العالم قد خلا هكذا دُفعةً واحدةً من الحبّ.
    يمكن؟
    فليخلُ. فليخلُ الحبّ من الأرض وليذهب العالم إلى الجحيم. سأبقى وحدي أطبع حبّي على الحجارة. سأحبّ وحدي الموت والأشباح. وسأحبّ النهار أيضاً. وسأحب انقراض نفسي العاشقة في هذا العالم الحقير. وسأحبكِ. ولن أقول شيئاً غير هذا.
    3-4/12/1963

    ■ أنتظر.
    أنتظرُ أن ينفرج فمُك، أيتها المحجوبة، عمّا أعرف أنه يُحرق أحشائك حيث يختبئ كالحب وكالكراهية معاً. كِلا شيء ثقيل باهظ ككل شيء. أنتظر أن تجيئي إليّ وقد سقطت أوراق الخريف عن باب شفتيكِ، ناضجةً كالنار، يانعةً أنتِ أيضاً بتفاهة هذه العالم وحقارته ونبل أوهامه المبدّدة.
    أنتظر أن تجيئيني أنتِ أيضاً، وتقولي لي: أنا أيضاً لم أتزوّج بعد... وأن تفني فيّ.
    أنتظرُ أن تخرجي من بين أعدائي، أن تغادري منطقة الحياد، أن تتركي أرض الحذر والماضي وتصبّي فيّ كنهر أصبح يرفض، بكراهية وحب، أن يظلّ محقوناً. أصبح يريد، بكلّ ما فيه من كراهية وحب، أن لا يستسلم لخطر الجفاف والركود والعقم.
    نعم أنتظر. ويبدو لي أنني طويلاً انتظرت. وأنني لم أعد أقوى على الانتظار.
    وبعد الانتظار، ينتظرني شيء واحد هو الشيء الوحيد الذي يعقب الأمل الأخير. وحين أقول ذلك أقوله بكل هدوء، بمنتهى الاحتقار له، بكل بساطة وخنوع. ينتظرني، إذا لم تمدّي لي خشبة الإنقاذ، الهاوية.
    الهاوية؟
    كل ما أتمناه أن تتخذَ شكل الموت. لكنني أخشى كثيراً ــ وتأكّدي أن ذلك يرعبني ــ أخشى أن تتخذ الهاوية شكل الجنون لا الموت. إنّ هذا أسوأ ما يمكن أن يحلّ بي. آه! كم أفضّل الموت! كم أشتهيه وأستسهله! كم أتمنى لو تكون لي الشجاعة الكافية لأنتحر! لكنني اختبرت هذه الشجاعة مراراً كثيرة حتى الآن ولم أنجح. تُرى، أأنجح تحت تأثير الهرب من الجنون؟ أم يكون الجنون، بالذات، هو الوسيلة الفضلى للهرب من كل شيء؟

    * مختارات من «رسائل أنسي الحاج إلى غادة السمّان» (دار الطليعة)
                  

العنوان الكاتب Date
رسائل أنسي الحاج إلى غادة السمان: ترميم الزمن المعطوب زهير عثمان حمد12-24-16, 09:08 PM
  Re: رسائل أنسي الحاج إلى غادة السمان: ترميم ال Ahmed Khalil12-24-16, 09:27 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de