لنا كأمّة عربية تجربة منسية في الإطاحة الشعبية بالحكم العسكري، ففي عام 1964 أطاح الشعب السوداني عبر مظاهراته بحكم الجنرال إبراهيم عبود وأعاد السلطة للمدنيين، لكن ما لبث الجيش أن كسر الديموقراطية وأخذ كل جنرال يغتصبها .. فهل يمكننا كمواطنين عرب عاديين أن نقرأ ما جرى في تركيا ليلة 15/16 جويلية 2016 بدم بارد؟
هذه القراءة ضرورية لنا؛ فبالإضافة إلى أن تركيا دولة من دول الجوار العربي وتربطنا بها علاقاتٌ تاريخية، مازال رجب طيب أردوغان يحاول استثمارها وقام بزيارة معظم الدول العربية ومنها الجزائر، فتركيا دولة أصبحت لاعبا أساسيا في المنطقة وصانعا ميدانيا لإعادة الشرقنة، وبعض العرب يريد لها هذا الدور في مواجهة إيران وبعضهم يريده لأسباب اقتصادية بحتة وبعضهم لا يريد لتركيا أي دور حفاظا على دوره هو..
وبناءً على ذلك رأينا مواقف عربية متباينة من حركة الانقلاب التي جرت في تركيا تلك الليلة:
في دمشق انطلقت مع اللحظات الأولى للانقلاب رصاصات الفرح تُطلق في الهواء مرفقة بالزغاريد مرحبة بالانقلاب.
وفي مصر أقيمت الأفراح أيضاً ليلة الانقلاب، ورأينا في اليوم التالي عرقلة لمقترح قرار في مجلس الأمن يصف الحكومة التركية بأنها حكومة ديمقراطية منتخبة.
- أما السعودية فقد فعلت ما فعلته معظم دول أوروبا، فأيدت أردوغان بعد أن رأت فشل المحاولة الانقلابية ضده.
وهذا الفشل لم يكن متوقعا أبدا؛ فالجيش الذي قام به هو ثاني أكبر جيش في حلف الناتو وله تاريخ طويل في الانقلابات الناجحة، فكيف له أن يفشل؟
والملاحظ على ما جرى في تلك الليلة أن ردة الفعل كانت أكثر تنظيما ودقة من الفعل نفسه، فليس من المعتاد أن يقوم الجيش التركي الذي يرى نفسه جيشا علمانيا بحتا أن يقوم بانقلاب ورئيس الجمهورية -الذي هو هدف الانقلاب- خارج العاصمة، كما ليس من المعتاد في أي انقلاب أن لا يبدأ باعتقال السياسيين من أعضاء الحكومة على الأقل والسيطرة على الرئاسات الثلاث دفعة واحدة، وأكثر من ذلك فإن المستشار القانوني لرئيس الأركان المتهم بأنه العقل المدبر للانقلاب الذي رأسه قائد سلاح الجو هو شخص محل شبهة من أجهزة أردوغان، بل سبق وأن حوكم ولم تثبت التهمة عليه ووضع تحت الرقابة حتى وهو في منصبه.
يقابل هذا الارتجال في الفعل الانقلابي تنظيمٌ كبير في ردة الفعل، فقد استعمل أردوغان أجهزة التواصل الاجتماعي التي كان يعلن محاربتها حتى تلك اللحظة، وطلب عبر هاتفه النقال من الجماهير الخروج إلى الشارع، فاستجابت له بأسرع من البرق، وكأنها كانت تنتظر، وبنفس اللحظة وجه ضربة قوية إلى القضاء الذي لم يكن على وفاق معه وأوقف قرابة ثلاثة آلاف قاض ومثلهم من العسكريين، مما يوحي بأن أسماءهم كانت مُعدّة سلفا.
أعلن أردوغان على الفور بأن المؤسسة العسكرية ستطهر نفسها بنفسها، واستعمل كف رابعة وهو يتحدث عن شعاره؛ أي أن تطهير الجيش التركي سيكون باتجاه تكوين جيش إسلامي بالضد من الجيش العلماني ، فهل يمكن أن يكون ثاني أكبر جيش في حلف الناتو جيشا إسلاميا؟
وأعلن أردوغان على الفور بأن المؤسسة العسكرية ستطهر نفسها بنفسها، واستعمل كف رابعة، وهو يتحدث عن شعاره؛ أي أن تطهير الجيش التركي سيكون باتجاه تكوين جيش إسلامي بالضد من الجيش العلماني، فهل يمكن أن يكون ثاني أكبر جيش في حلف الناتو جيشا إسلاميا؟ هل ستقبل أوروبا في اللحظة التي تضرب في الريفيرا الفرنسية ضربا موجعا قيل إن صاحبها اعتنق التطرف الإسلامي قبيل أسابيع، هل ستقبل أن يكون على حدودها جيش كامل من المسلمين؟ هل أخطأ أم تعجّل أردوغان في هذا الإعلان؟ أم أنه قاله في وقته المحدد لينهي أسطورة جيش كان يدّعي حماية العلمانية ولا يعترف بالديمقراطية وجعلهما منذ 1926 في خطين متوازيين لايلتقيان؟ وهل يعني هذا أن حلف الناتو رفع الغطاء عن هذا الجيش فتحرك أردوغان؟ أم أنه رفعه عن أردوغان فتحرك الجيش؟
لقد جاءت حركة الانقلاب في ظروف برهن فيها السلطان العثماني عن قدرته على الانقلاب على نفسه وتغيير سياسته من النقيض إلى النقيض؛ إذ تقارب فجأة مع روسيا المناهضة للغرب بدرجة كبيرة ومع إسرائيل المتماهية مع الغرب حتى النخاع، بل جرت تكهنات من أنه قد يغير مواقفه من سوريا ومصر.
لا أعتقد أن إمكانياتنا المتواضعة كمحللين إعلاميين عرب تجعلنا قادرين على تقديم أفكار تمكِّن المواطن العربي من قراءة ما جرى في اسطمبول بدم بارد، فهي إمكانيات مبنية على انفعالات ساذجة - كما حدث للإعلام المصري الذي راح يتشفى قبل أن يرى النتيجة- لأن أعلامنا كجزء من اللوجستيك السياسي هو تابع لساسة عرب ليس لهم مكانة في السياسة الدولية ولا يعرفون ما يجري في كواليسها، سواء ما يخص بلدانهم أو بلدان غيرهم، وأردوغان نفسه سحب البساط من تحتهم عدة مرات حتى في قضية فلسطين التي كادت تصبح قضيه وليس قضيتهم، أما قضية الدين وقضية التنمية فحدث ولا حرج.
ولانعدام معرفة الحكام والساسة العرب بالخطوة التالية التي يمكن أن يتخذها أردوغان بعد أن جعل يوم 15 جويلية عيدا رسميا للديمقراطية ساحبا البساط من 14 جويلية الفرنسي الذي تلاشت قيمه في نيس وقبلها في باريس، فما هي خطوته التالية نحو الإقليم؟
ماذا لو أعلن عن تأسيس جامعة الشرق الأوسط بدلا من الجامعة تضم تركيا وإيران وإسرائيل، من الذي سيقف في وجهه؟ هل هو أحمد أبو الغيط أم العبادي؟
وماذا لو أعلن عن تأسيس جامعة الشعوب الناطقة بالتركية أو العثمانية؟ هل سيقف في وجهه الاتحاد
الأوروبي أم أمريكا...؟
إنه يبدو في هذه اللحظات كنابليون لن يوقفه إلا جنرال الثلج،
لكن المناخ العالمي الطبيعي والسياسي قد تغير،
فالثابت الوحيد في هذا الكون هو تخلف حكامنا وسياسيينا العرب، فهم وحدهم الذين يصمدون وبكل قوة في مواقعهم والدنيا حولهم تتحرك بقوة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة