قرية بورتبيل ...الماضي...الحاضر...المستقبل ( قصة قرية من السودان)

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-17-2024, 11:32 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف للعام 2016-2017م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
05-26-2016, 12:11 PM

Omer Mustafa
<aOmer Mustafa
تاريخ التسجيل: 03-14-2008
مجموع المشاركات: 1582

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: قرية بورتبيل ...الماضي...الحاضر...المستقبل ( (Re: Omer Mustafa)

    Quote: شخصيات عظيمة من قرية بورتبيل
    (في حضرة مولانا، العارف بالله، سيدنا الإمام / محمد فضل الله حمد أحمد (١) (٢).
    بقلم الفقير إلى ربه / صبحي محمد بابكر بورتبيل
    الراحل المقيم فينا العالم النحرير، الإمام جدي الشيخ الورع / مولانا محمد فضل الله حمد أحمد ، من الشخصيات التي ما برحت تطرح أسئلة في حياتي و حياة كثير من الناس، غيبه الموت أو لم يغيبه، ترك هذا الرجل إرثاً من القيم الإنسانية النبيلة التي لا تقدر بثمن، رجل تصالح مع ذاته قبل أن يتصالح مع الناس، و عاش بفضل هذه الثمرة الناضجة سلاماً مع الخلق و الخالق. عشق كتاب الله و وعلوم اللغة العربية و الفقه الإسلامي منذ نعومة أظافره، شغفها حباً، فبادلته العلوم عشقاً و حباً و شغفاً.
    لا مراء في أني لست مؤهلاً و لا أدعي أني أمتلك القدرة على أن أزيح ستار الضباب الكثيف الذي يغطي الذاكرة الجماعية لبورتبيل حين استدعائها سيرة عالم في مقام مولانا و سيدنا الشيخ محمد فضل الله حمد، قدس الله سره، فثمة سنوات ضوئية لا تحصى و لا تعد تفصل بين وجودنا في الثرى و مقامه في الثريا. إنها محاولة غريق في بحر الزمن السرمدي يتشبث بحبال الهواء الأبدي، تتأرجح عندي أمواج من المسوغات و تقف أمامي بكثافة و تتزاحم، أصابت ذهني بالذهول و شتت كل بوارق أمل في الحضور. صور عديدة و إقاعات تنوخ في وجداني و أخرى تتبخر صوب حدسي، و ألوان تنسدل و أخرى تتداعى و تتبدد.
    تعلمت من سادتي السمانية، و هو بالطبع ديدن كل أهل التصوف عموماً، أنّ زيارة الأولياء و العلماء تتطلب أن يكون الزائر طاهراً و على وضوء، و أن ينوي الزيارة بقلبه قبل الشروع فيها، و أن يتأدب و يتحلى بالتواضع و الخشية و الانكسار لله، لأنه داخل لحضرة الله، يقول سيدي العارف بالله الشيخ قريب الله نفعنا الله ببركته:
    اضرب عن الناس و ادخل حضرة اللهِ
    و الله و الله لن تلقَ سوى اللهِ
    لذا ينبغي عليَّ أن أتأدب، فهأنذا أحج إلى ذكراك سيدي، بعدما اغتسلت روحي بنور الجمعة و ارتدى عقلي إحرام الخشوع، حاسر الرأس هيبة من مقامك، مستشف من كل شيء جمالاً و من حضورك
    ألف معنى و معنى بحساب نجمك الذي هيهات أن ترصده عينا روحي هيهات !
    مددٌ مددٌ مددٌ يا رجال الله مدد !
    بِسْم الله مجراها و مرساها، يا قلبي اخلع النعل و اخفضِ الطرف و اخشع و لحضرته أقول : السلام عليكم و رحمة الله و بركاته!
    أتيتك يا سيدي ، ولو قدرتُ على الإتيان جئتـُكم سعياً على الوجه أو مشياً على الرأس.
    يقول سادتنا أهل التصوف:
    (بداية المعرفة هي أن تدري بأنك لا تدري) !
    و إني أجزم بأني لا أدري كيف أكتب عن ذكرى رجل عجزت عن رصد فضائله روزنامة الأيام و ألسن المادحين !؟
    أخرج الدارمي في السنن وابن عبد البر في العلم وأحمد في الزهد عن الحسن البصري قال
    كانوا يقولون موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار
    وقيل موت عالم هو موت أمة بحالها.
    و قال الكاتب الفرانكوفوني الموسوعي المالي الشهير ، الشيخ أحمدادو همباتيبا:
    ( أذا مات شيخ في أفريقيا، احترقت مكتبة بأكملها).
    حدثني والدي، طيب الله ثراه و أحسن إليه، حديثاً مستفيضاً عن مولانا محمد فضل الله: عن قرابته معه، عن أصوله و حسبه و نسبه، عن ذكائه الحاد، عن علمه و ورعه، عن سبب قدومه من مدني إلى بورتبيل و عن زواجه الأول في مدني ثم زواجه الأخير و استقراره في بورتبيل و لعلي ما برحت أذكر ما قاله لي أبي من أحاديث و أعيها كما أعي فاتحة الكتاب و استحضر اسمي.
    ذكر لي والدي بأن مولانا - أو كما يناديه دوماً خالي - محمد فضل الله حمد أحمد (العامري) من جهة أبيه و (البطحاني) من جهة أمه، كان زميلاً في الخلوة لشقيق والدة أبي محمد بابكر قسم الله، (جدي عبد الله الفكي أحمد عبد الرحمن السعادة، والد عمتي المرحومة ثريا، عطر الله ثراها (أم أولاد عباس الطيب) حفظهم و حفظه الله.
    ذكر والدي نقلاً عن خاله ( جدي عبد الله ود الفكي أحمد) أن مولانا محمد فضل الله كان يسمع الدرس من شيخه و يخرج ليلعب و يركض مع الأطفال، ليأتِ في صبيحة الغد مسمعاً الدرس، لوحده دون سواه، بذاكرة تصويرية حادة أقوى من ذاكرة الفيل.
    و لعلي سقت هذا المثال آنف الذكر لأَنِّي أعتبره نصاً يشرح و يفسر ذكاء هذا العالم الضليع الذي ولد على ما يبدو سنة ثماني و تسعمائة و ألف في بيت علم و بركة و زهد، والده فضل الله حمد أحمد الذي يعود نسبه إلى قبيلة العوامرة.
    و والدته البطحانية حليمة بنت زهراء بنت عدلان ود حمد.
    و زهراء هي شقيقة لآمنة بنت عدلان (والدة عمي الصديق علي الني)،
    و عدلان ود حمد البطحاني هذا هو شقيق (لجدتي طيبة بنت حمد)،
    و طيبة هذه أم (فاطمة) التي أنجبت والدي محمد بابكر قسم الله، كما أنجبت (زينب) أم (نفيسة) أم (نادر عباس غناوة) و (عبد الله ود الفكي أحمد) الذي ذكرته آنفاً والد عمتي المرحومة (الثريا) أم أولاد (عباس الطيب).
    و لا أخفيكم بأني ذكرت علاقة جدي مولانا محمد فضل الله بأبي ريثما أشير للحب الجارف الذي كان يكنه أبي لمولانا محمد فضل الله، دون أن أنسى و لن أنسَ الدموع الهواطل التي زرفها جدي العالم الراحل المقيم / محمد فضل الله حينما سمع بخبر وفاة والدي، و شهد لنا بذلك مراراً ولده الحبيب / أحمد التيجاني كما شهدناه و شاهدناه نحن.
    جاء أبي من أقصى مدينة الأبيض، و هو يسعى متسائلاً لماذا لا يخصص أهل القرية راتباً شهرياً لخاله الإمام الراتب هذا طالما
    خصص كل وقته للناس، يصلي بهم الصلوات الخمسة و الجمعة و العيدين و الكسوف و الخسوف و الجنازة و يقدم فوق ذلك كله الدروس و النصح و الإرشاد لأهل القرية علمائها و عوامها؛ نساء و رجالاً و أطفالاً ؟
    رحل أبي لكن هذا السؤال لم يرحل و ظل عالقاً لم يجد إجابة حتى هذه اللحظة. أهل القرية الذين مردوا على طرح الأسئلة باستمرار و لم يلتفتوا لما وراء الإجابات التي تمثل هي أيضاً تساؤلات: لماذا تأخر الإمام ؟ لماذا لم يحضر الشيخ عبد الله ود عامر للآذان في صلاة الظهر ؟ لماذا يسهو كثيراً إمام المسجد هذه الأيام ؟
    الإمامة عمل صعب و قاسي، لكنه أشد صعوبة إذا تعلق الأمر بمسجد عابق بخلافات أهل الريف الذين لا يضعون فواصلاً بيت الخاص و العام، يتهجمون للزيارة وقت القيلولة و الحيلولة و العيلولة، يطرحون أسئلتهم للإمام حتى في سجوده أو أثناء خطبة الجمعة و العيدين، يفرضون على الإمام أن يكون حكماً و شاهداً و كاتب عدل و مؤذناً و مأذوناً و أستاذاً يوجهون إليه فيضاً من أسئلة دون حواجز في ميدان العلوم، تارة دينية و تارة طبية و طوراً سياسية و حيناً عدمية أو لاشيئية.
    إمام أهل الريف إمام معصوم في حساباتهم من الخطأ، فإن أخطأ، يا وَيْل له، إنه ليس بإمام، ينتقدونه يلومونه يعاتبونه، يهمزونه، يلمزونه، يخاصمونه، يكذبونه، يسعون لضربه، يتمنون أحياناً موته، و فوق ذلك ينتظرونه للصلاة و الخطبة و الفتوى و الضحكة، و يحاسبونه حساباً عسيراً إذا غضب أو قح أثناء خطبته.
    ما أجملك يا سيدي محمد ود فضل الله ما أصبرك ما أشجعك ما أحسنك ! لم تَكُ إماماً تصلي بالناس، بل كنت دليلاً ساطعاً قاطعاً يفسر عذابات الأنبياء و الأولياء و كل آلِ الله، و يقيني يقيناً لا ريب فيه أنك كنت ولياً من أولياء الله ! جهلناك فلم نعرف قدرك و أضعناك فلم نستفد من حياتك ! كم و كم تشاجرنا و تخاصمنا في بيت الله قبل الصلاة و في الصلاة و بعدها، كنت رزيناً سهلاً جميلاً حكيماً صامتاً صمت الحكماء، تنظر لنا بنور عيون استضاءت بنور القيام و الصيام و القرآن دون أن تلعن أو تسب أو تغضب !
    تزوج جدي مولانا محمد فضل الله لأول مرة و سكن في حي المدنيين القابع في مدينة ود مدني، مع زوجته (بنت المنا) التي مكث معها ثمانية عشر عاماً لم يرزقه الله بذرية منها، و لما أذن قدر الله له بإنجاب ذرية له لكن مع غيرها، نشب خلاف بينه و بين زوجته هذه بسبب رغبة جدي مولانا محمد فضل الله بأن تأتي معه زوجته إلى بورتبيل، بورتبيل القرية التي سطعت في ربوعها يومئذٍ جذوة العلم التي أوقدها العالم ذائع الصيت (الشيخ البشير)، وأزمعت على تشييد مسجدها العتيق و عزمت على إكماله، قرر مولانا و هو التلميذ الألمع بين أقرانه رجال بورتبيل السبعة الراسخين في العلم الذين سطع نجمهم و ذاعت سيرتهم، قرر أن يتفرغ للتحصيل من جانب بصحبة شيخه البشير و للمساهمة في إعمار بيت الله من جانب آخر، لذلك وجد نفسه مضطراً لفسخ زواجه، فطلق بنت المنا بعدما أحس بإصرارها على عدم استبدال المدينة بالقرية.
    نحن أمام ظاهرة أخرى من الصدق بعدما أوردنا الظاهرة الأحمدية (حاج أحمد ود قسم الله) الذي كما أشرنا سابقاً بأنه طلق باسم حبه للمصطفى عليه أفضل الصلاة و التسليم، هذه الظاهرة الفضلية (ود فضل الله) التي تجسد حب هذا الرجل الورع للعلم و لصدقه مع نفسه و صدقه مع الله، طلق أيضاً في الله.
    إنهم رجال الله حياتهم لله، حبهم لله و في الله زواجهم أمام الله و في الله و كذلك طلاقهم لله و كل حركاتهم و سكناتهم لله و في الله، إنهم دوزنوا و رسموا كل حياتهم تماشياً مع نسق وتر حبهم لله ! يستخيرون الله
    حتى في شعث نعالهم، إنهم الرجال الجبال:
    مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} سورة الأحزاب:23-24
    (في حضرة مولانا، العارف بالله، سيدنا الإمام / محمد فضل الله حمد) (٢)
    لا غرو أن الوحي انقطع عن أهل الأرض، بيد أن فيوضات الله و تجلياته لعباده لم تنقطع و لن تتوقف، هكذا تتدفق الرحمات غيداقاً فغيداقاً، ألوان طيف من آلاء الله تتعاظم كثافة بمشيئة الرحمن و تصغر لطافة بقدرة الرحيم ليصيب بها كافة مخلوقاته كل فرد مقدار احتياجاته و قدر استعداده، لا يخلو جرم في الكون إلا يسبح بحمد ربه على جزيل نعمائه و عظيم سلطانه، وفق هذا القانون الذي طالما فلت من تقديرات البشر فلا سلطان إلا لمشيئة الله و قدره النافذ.
    و هكذا فرّ سيدي الشيخ محمد فضل الله إلى الله، و هرب من قدر الله إلى قدر الله، و قال ربي إني بما أنزلت إليَّ من خير فقير ! عرض عليه الرجل الكريم جدنا (علي ود بيلا رحمه الله) الزواج، فزوجه ابنته (خولة) التي تمشي على استحياء !
    اكتمل بناء المسجد بيد أن النهايات السعيدة تعقبها أحياناً خواتم حزينة، حزن أهل القرية لفقدهم (للشيخ البشير) الذي أرسله الله تعالى وريثاً للنبي صلى الله عليه و سلم بسلسلة نورانية متصلة ليغرس بذور العلم و الصلاح. رحل و ترك لنا علماء جهابذة مشهورين مثل مولانا محمد فضل الله و أقرانه الذين درسوا أيضا على يديه نَفَر غفير من أهل القرية لعل كان أكثرهم شهرة هم:
    •جدنا المرحوم الشيخ / محمد محمد أحمد الخالدي .
    •جدنا المرحوم الشيخ / محمد الحسن (أبو معاوية).
    •جدنا الشيخ / الفكي البخيت ود الحسن .
    •جدنا المرحوم الشيخ / الحسن ود نعيم.
    •جدنا المرحوم الشيخ / دراج عبد الفضيل (أبو عّم عِوَض الله).
    جدنا المرحوم الشيخ / الصديق فضل الله (شقيق مولانا محمد فضل الله).
    جدنا الشيخ / فكي حسين الهواري ( أبو إبراهيم و محمد نجيب و أخوانهما).
    و قد عرفوا برجال بورتبيل السبعة الذين شهد لهم بالورع و التقوى و العلم و الذكاء الحاد. منارات و نجوم في وقت كانت الدنيا ظلاماً ضَل سالكه.
    وكانت حلقات العلم تتقيد بالجدية و المثابرة و الاجتهاد إلا أنها لم تخلو من النوادر و الطرائف. و يحكي لي والدي رحمه الله أن جدي بابكر ود قسم الله رحمه الله كان متصفاً بخصلتي الشجاعة و سرعة البديهة التي تتخللها المزاح و الطرافة:
    (نصح جدي بابكر ود قسم الله شيخه البشير بأن يبدأ الدروس بالأدب قبل الفقه حينما رأى كثيراً من أهل القرية يأتون للدرس بنفس الطريقة التي يأتون بها إلى حواشاتهم و بهائمهم. و لما لاحظ جدي اصرار الشيخ في مزاولة دروس الفقه، و لم يتقيد بنصيحته، عمد على اخفاء (حقة تمباك) أحد أجدادنا !
    استمر الشيخ البشير في تقديم درسه، بحث الرجل (حقته) فلم يجدها في جيبه. غمز إليه جدي بابكر ليعلمه خلسة بالإشارة بأن ما تبحث عنه، يمكنك، لا ضير، أن تطلبه مباشرة من الشيخ نفسه. اقتنع الرجل القروي البسيط بأنه من الممكن أن يوقف الدرس لكي يستعير (حقة) الشيخ العالم (البشير). بينما كان الشيخ يتكلم عن باب في الفقه و يوصي بضرورة التقيد بالكتابة و الإنتباه، قاطعه هذا الرجل مبدياً رغبته في الحديث. أوقف الشيخ الدرس ظناً منه بأن هذا الرجل متابعاً الدرس و لا يريد إلا طرح سؤال مهم، فأذن له بالحديث. قال له يا سيدنا:
    (كدي أديني - حقتك -أن نسف ما عرفت حقتي مشت وين ! )
    هنا تبسم جدي بابكر ضاحكاً و ساخراً و مع إحساسه بالنصر، أردف قائلاً للشيخ:
    (يا سيدنا أنا ما قلت ليك الناس دي محتاجين يبدو بالأدب ما بالفقه... و واصل ضحكته) !
    لعمري لا دين لمن لا أدب له و لا علم لمن لا أدب له، السلوك هو قوام الدين، أسّه و ساسه المتين؛ من هنا وهناك تكشفت لمولانا محمد فضل الله منذ نعومة أظافره أنّ العلم علمان ِ، علم ظاهري و هو العلم الشرعي، و علم باطني لا تكتسبه إلا بمنهج الطريق من شيخ واصل متصل بالله.
    لله درُّك عالماً ملأ الدنيا و شغل الناس ! حدثني والدي و أنا صغير عن فضله:
    (لا أعلم رجلاً بين النهرين - أي بين النيل الأبيض و النيل الأزرق - أعلم من مولانا محمد فضل الله، فهو الرجل الوحيد الذي لا يستعين في خطبه بورقة و لا بكتاب).
    و لعلني لا استطرد عن فضله في هذا المجال إذ لا محل لإقناع مقتنع، ملك قلوب الناس من الشغاف إلى الشغاف، فكان أعلم الناس، و كان أفضل الناس و كان وريثاً لإمامنا مالك بن أنس رضي الله عنه، تدرج في مدارك السالكين حتى غدى لا يفتى و مولانا محمد فضل الله في بورتبيل و كل قرى ريفي المدينة.
    كان أعلم الناس في موطأ الإمام مالك. لقد بلغ مولانا محمد فضل الله قدس الله سره، شأواً بعيد المدى في الفقه المالكي، بعد أن درس المدونة للإمام سحنون، و الرسالة للقيرواني، و الكافي لابن عبد البر، و بداية المجتهد لابن رشد، و إرشاد السالك إلى أشرف المسالك للبغدادي، و مختصر خليل مع كل شروحاته و بلغة السالك للصاوي، و منح الجليل و فتح الرحيم و فتح العلي، دون أن أنسى ضلوعه في علوم اللغة العربية من صرف و نحو و فقه لغة و بلاغة و علم التوحيد و علوم الحديث و علم الفروض و المنطق.
    و كان والدي رحمه الله يقول لي دوماً بأنّ مسجد القرية في عهد (الشيخ البشير) و تلاميذه الأكثر شهرة، و أخص منهم مولانا محمد فضل الله، أحدث نقلة نوعية و طفرة علمية، و قد تبين ذلك جلياً حينما راسلوا الأزهر الشريف في مِصْرَ، يطلبون منه شراء بعض المراجع المتعلقة بالعلوم الإسلامية و العربية. جاء رد الأزهر الشريف يكتنفه التعجب و الدهشة ببلوغ أهل قرية في وسط السودان هذه الدرجة الرفيعة من العلم.
    أراني ما برحتُ أذكر جلسة مولانا محمد فضل الله و نَفَر من المصلين منهم الخال إبراهيم عمر و العم الحاج محمد صالح إغيبش و العم الفكي الزرقاني و غيرهم، يذكرون الله بعد صلاة عصر الجمعة و قبل المغيب، و الظل يتمدد أمام المسجد العتيق و النسيم يعبث بشجيرات المسجد الجميلة حيث تسمع التسبيحات في ساحة الله الرحبة، و تعجز عن جمع السعادة الفائضة من القلوب.
    لست أدري كيف أستطيع وصف سماحة الذكر بالاسم المفرد (الله) و وصف طعم حلاوة الصلاة على الرسول و اندلاق فيوضات اليقين على قلوب ذاكرين عرفوا كيف يكتمون السر و يغمضون عيونهم و قد شاهدوا ما شاهدوا من جمال ليلى، شربوا خمراً من الحب شعشعت في الكأس، إنها حلقة السادة التيجانية التي تتمخض في سيرها من (عين ماضي) في صحراء الجزائر و تزحف كالرمال كلما زحف السادة الشناقيط نحو الشرق، ريح محبة هبت بشائرها بالسيدة رفيعة الشريفية من بلاد شنقيط إلى الحجاز، حملت عطر محبة النبي و أريج التصوف و طيب وداد اسمها الذي تركته بصمة لعملها الصالح و كم يغمرني الحبور حين تذكري أن والدتي حفظها الله اقترن اسمها بهذه السيدة الشريفية، و هكذا اختزل ذكريات جميلة من أبهى صفحات التاريخ التي لن تتكرر. و كيف و لا بد لكل شيء من كيف، كيف تتكرر و قد توقف مدد أهل البيت السادة الشناقيط من قريتنا بعد مشاهدة قوافلهم تحلق في السماء بالطائرات و لم تعد تعبر سفن الصحراء عبر سوداننا الحبيب.
    كانت لسيدي و مولاي محمد فضل الله مساجلات و لقاءات مع شيوخه في الطريقة التيجانية التي ينتمي إليها، عرفوه، فحبوه، فكاشفوه و أيدوه بجنود لم تروها، شرب العلوم الباطنية منهم و زاد معينه و ارتوى الورد بالورد من العلوم الظاهرية، فأصبح من أهل الحقيقة الذين لا ينضب معين شرابهم، العارفين الواصلين الراسخين. و أهل التصوف لا سيما التجانية معروفون بالرسوخ و الضلوع في العلم.
    هنا في بورتبيل، القرية العتيقة التي عانق فيها وقار التاريخ فتنة الجغرافيا و تشتم رائحة القهوة التي تنبعث من بين أزقتها الضيقة، و تنبعث من فتحات نوافذها (الطاقات) المنحنية تواضعاً، كان إمامنا الشيخ ود فضل الله يروح و يغدو من بيته إلى مسجد القرية الذي ما فتئت تغازله أزهار الخريف بين تجاعيد وجهه العتيق الذي قضى فيه ريعان شبابه ثم شاب أيضاً و شاخ فيه.
    أنجب سيدي الإمام محمد فضل الله من البنات أم سلمة، و الزهراء، و عاتقة، و ماريا و أماني و آسيا، كما رزقه الله من الأولاد الأستاذ إبراهيم و الأستاذ الأمين و سيدنا أحمد التيجاني و زين العابدين، حفظهم الله جميعاً و رعاهم و تبارك الله أحسن الخالقين. و لقد علمت من ابنه أحمد التيجاني أنه أطلق على ولده الصبي الصغير اسم محمد ليجمع بركة سيدنا الرسول الكريم و العالم الورع أبيه.
    و أشير أيضاً لأسرته الممتدة من أخيه المرحوم الجد (الصديق فضل الله حمد) والد المرحوم (الباشمهندس محمد صديق) الذي يعتبر هو أيضاً من أعلام بورتبيل، و للمرحوم سيدنا محمد فضل الله شقيقتان هما فاطمة أم (المرحوم عبد الله الباهي) و عائشة والدة زينب التي تزوج منها العم المرحوم (محمد أحمد البشير المشهور بود أحمد نور) و أنجب منها (البرعي) و (عمر) حفظهما الله.
    و إني أنتهز السانحة هذه لأعرب عن جميل تقديري لسيدي محمد الصغير الحفيد الذي ظل متابعاً - من السعودية - ما كتبته عن جده طيب الله ثراه، كما أدعو الله أن يمده جده ببركة العلم و الصلاح. و أدلف إلى ابنه (أحمد التيجاني) لكي أخصه بفيض امتناني و عميق شكري لأنه زودني بباقة من المعلومات و الحقائق عن إمامنا الذي عجزت النساء في قريتنا أن يلدن نظيره.
    تتلمذ على يد الشيخ محمد فضل الله عدد غفير من أهل بورتبيل و خارجها أذكر و أذكر منهم النابغة الذي كان مولانا يشير إليه بالبنان العم بابكر ود الكندو أطال الله في عمره، الذي حفظ القرآن الكريم، و كان عين اهتمام أستاذه لفرط ذكاءه الحاد، و أيضاً المرحوم عمنا (الخير علي محمود) ابن أحد أعلام بورتبيل الراحلين الذين شهروا اسمها عالياً في مدينة سنار و الذي عرف أيضاً بالحكمة و الذكاء و الوقار و الأريحية و العلم و هو الشيخ / علي محمود (والد كلتوم و جد عبد الباقي عثمان)، و درس أيضاً على يده الشيخ / معاوية محمد الحسن و الخال / إبراهيم عمر قسم الله و العم المرحوم النذير الخالدي و العم المرحوم / محمد نور الله و الأستاذ / صالح عمر عبد الوهاب و عمنا محمد عبد الله عيسى و غيرهم من أهلنا في القرية.
    و تقتضي الأمانة العلمية أن أذكر بأني كنت أحضر هذه الدروس و قمت بشراء كراسة بغية تدوين دروس الفقه و اللغة العربية، لكن الدنيا شغلت الناس و لم تبق لهم إلا أيام معدودة من أيام شيخنا العالم النحرير مولانا محمد فضل الله حمد أحمد ظل المصلون ينتظرونه بشغف للصلوات الخمسة و لخطبة الجمعة و العيدين، و أحياناً يشرح باسماً للناس و يُبين لهم بكل تواضع و بساطة مسائل الإئتلاف و مسائل الإختلاف دون أن يتطاول أو يزدري الناس بالرغم من تنطع المتنطعين و سفاهة المتسافهين و غفلة الغافلين و جهل الجاهلين.
    كتبت ما كتبت و في النفس شجون و في القلب محبة لرجل كان إمامنا و شيخنا و عالمنا و والدنا و صديقنا حيث كنت آتيه في بيته عندما أفتقده في المسجد، فأجده مريضاً تعباً، فكان يناديني باسمي و يترحم على روح والدي بقلب رقيق و عين باكية.
    في سنة ثماني و تسعين و تسعمائة و ألف، اشتاقت روحه الطاهرة للقاء الرفيق الأعلى، ففاضت إلى السماء و انطفأت منارة علم قل أن يجود الزمان بمثلها، رحم الله سيدنا الإمام، الورع، السمح، الكريم، العالم، الجليل، أيقونة بورتبيل، جدي و سيدي مولانا محمد فضل الله، إنَّا لله و إنَّا إليه راجعون، اللهم لا تحرمنا أجره و لا تفتنا من بعده، و اجعله و اجعلنا في معية سيدنا رسول الله صلى الله عليه و سلم في جنة الفردوس، آمين !
    sudansudansudansudansudansudansudansudansudansudansudan11.jpg Hosting at Sudaneseonline.com

    (عدل بواسطة Omer Mustafa on 05-26-2016, 12:21 PM)

                  

العنوان الكاتب Date
قرية بورتبيل ...الماضي...الحاضر...المستقبل ( قصة قرية من السودان) Omer Mustafa05-16-16, 01:20 PM
  Re: قرية بورتبيل ...الماضي...الحاضر...المستقبل ( Omer Mustafa05-16-16, 03:14 PM
    Re: قرية بورتبيل ...الماضي...الحاضر...المستقبل ( أحمد الشايقي05-16-16, 04:08 PM
      Re: قرية بورتبيل ...الماضي...الحاضر...المستقبل ( Omer Mustafa05-16-16, 08:53 PM
        Re: قرية بورتبيل ...الماضي...الحاضر...المستقبل ( Omer Mustafa05-16-16, 09:39 PM
  Re: قرية بورتبيل ...الماضي...الحاضر...المستقبل ( معتصم سليمان05-16-16, 09:44 PM
    Re: قرية بورتبيل ...الماضي...الحاضر...المستقبل ( Omer Mustafa05-16-16, 10:59 PM
      Re: قرية بورتبيل ...الماضي...الحاضر...المستقبل ( Omer Mustafa05-16-16, 11:19 PM
    Re: قرية بورتبيل ...الماضي...الحاضر...المستقبل ( Omer Mustafa05-16-16, 11:51 PM
      Re: قرية بورتبيل ...الماضي...الحاضر...المستقبل ( ابو جهينة05-17-16, 07:20 AM
        Re: قرية بورتبيل ...الماضي...الحاضر...المستقبل ( أحمد الشايقي05-17-16, 09:47 AM
          Re: قرية بورتبيل ...الماضي...الحاضر...المستقبل ( Omer Mustafa05-26-16, 01:47 PM
        Re: قرية بورتبيل ...الماضي...الحاضر...المستقبل ( Abutalib Elgorashi05-17-16, 10:17 AM
          Re: قرية بورتبيل ...الماضي...الحاضر...المستقبل ( طه داوود05-17-16, 01:34 PM
            Re: قرية بورتبيل ...الماضي...الحاضر...المستقبل ( Osman Dongos05-17-16, 01:57 PM
              Re: قرية بورتبيل ...الماضي...الحاضر...المستقبل ( خالد حاكم05-17-16, 03:50 PM
              Re: قرية بورتبيل ...الماضي...الحاضر...المستقبل ( Omer Mustafa05-26-16, 02:25 PM
            Re: قرية بورتبيل ...الماضي...الحاضر...المستقبل ( Omer Mustafa05-26-16, 02:17 PM
          Re: قرية بورتبيل ...الماضي...الحاضر...المستقبل ( Omer Mustafa05-26-16, 01:54 PM
        Re: قرية بورتبيل ...الماضي...الحاضر...المستقبل ( Omer Mustafa05-26-16, 11:50 AM
          Re: قرية بورتبيل ...الماضي...الحاضر...المستقبل ( Omer Mustafa05-26-16, 12:10 PM
          Re: قرية بورتبيل ...الماضي...الحاضر...المستقبل ( Omer Mustafa05-26-16, 12:10 PM
          Re: قرية بورتبيل ...الماضي...الحاضر...المستقبل ( Omer Mustafa05-26-16, 12:11 PM
        Re: قرية بورتبيل ...الماضي...الحاضر...المستقبل ( Omer Mustafa05-26-16, 12:30 PM
          Re: قرية بورتبيل ...الماضي...الحاضر...المستقبل ( ابو جهينة05-26-16, 01:57 PM
            Re: قرية بورتبيل ...الماضي...الحاضر...المستقبل ( شمس الدين ساتى05-26-16, 03:11 PM
              Re: قرية بورتبيل ...الماضي...الحاضر...المستقبل ( عبدالرحمن أحمد السعادة05-26-16, 03:34 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de