طنين.. طنين.. صوته يعلو، يكثر، يتكثف ليملأ سمائنا بطائرات الموت الرهيبة، تحوم حول القرية مريم تحمل طفلا.. تركض تبرز فجأة طائرة مخترقة الظلام نسمع صوتها ولا نراها، أضاءت علينا مصابيح مبهرة ثم ألقت أطنان من المتفجرات.. صرخة مكتومة .. صافرة طائر النحس ملأت سمائنا عويلا، لماذا قتلوك يا مريومة؟ ماكان أبوك أمرؤ سوء ولم يقتل طوال حياته انسانا وماكانت أمك الحجة مستورة ..سوى رسولة للسرور، أسطورة أفراح القرية و بهجتها و زغاريدها التي عبأت الفرح في فروع التبلدي عل القادمين يعافون ماعون الحزن الجاثم على الأنحاء منذ أن عرفت طائرات الانتنوف وا لسوخوي وغيرها طريق سمائنا، كانت تسقيهم من كاسات الفرح الذي برعت في صنعه العذب الزلال، لست أدري يا مريومة متى غرقت في حبك تماما ربما في طفولتي التي عشناها سويا، نلعب في راكوبة الضيوف ونهرب حين يطردنا أبونا هارون، رحلت مريومة حبيبتي دون سابق إنذار، رحلت خلف صافرات المروحيات المرعب، إحترقت في المدى الأسود وتفحمت جثتها وهي تحمل طفل أختها، كأنك تعافين أن تدفني في هذه الأرض الملعونة وأخترت أن تصبحي رمادا تزروه الرياح مثل كثير من الأشياء الجميلة في بلادي، فضلت أن تبقي ملء المدى الواسع المنبسط على قبر ضيق في أرض ليس بها سوى الموت والخراب، رحلت حبيبتي يا أيها الناس، رحلت يا من تتحدثون عن العالم الحر وعن الأنسنة وتملأون الفضاءات قولا وتثرثرون دون فعل، قتل أبي و حبيبتي بقذيفة من طائرة مجنونة قطعت الآف الكيلومترات لتقتلنا، قتلت صاحبة أجمل عيون في هذا العالم القبيح المتقيح، رحلت وتطايرت أشلاؤها على الأفق البعيد وتركتني أحمل أبي جثة هامدة وأركض به تجاه الكهوف لعلي أجد بصيص أمل في النجاة من هذا الجحيم الذي أطبق علينا.. لست أدري كم مشيت بعد أن دفنت أبي بين تلك الصخور الجبلية، مازلت أذكر حديثه لي عن أمي التي ماتت في أثناء ولادتها لي، ولدت أنا والحزن في يوم واحد ومن يومها ظللنا نسير مترافقين قاطعين للفرح أي طريق يمكن أن يصلني من خلاله، الله يارب العباد..!! سرت حتى احسست بثقل قدمي ولكن بذوغ ضوء الفجر حفزني أكثر لمواصلة المسير، ولكني تذكرت نصيحة قديمة لحادي ركب قبيلتنا في هجرتنا الأولى حين جاء أرضنا الجنجويد، وقتها أشار علينا بالإختباء نهاراً والمسير ليلاً عل ذلك يصعب على الطائرات قصفنا باللهب القاتل، أغمضت عيني بشدة محاولة مني لمسح تلك المشاهد المأساوية من ذاكرتي ولكن دون جدوى .. صرت أراهم بوضوح أكثر .. إسحاق قضى بعد أن أصابت قذيفة رأسه فتطاير مخه ليرش حوائط راكوبة الزعيم، لم يكن مخه سوى عصير ملون لزج كثيف ظل معلقا على جدران الراكوبة كمخلوط مخاطي عبثي للأصباغ و عم بشير رأيته يزحف بعد أن فصلت قذيفة نصفه الأسفل من الوسط فلم يبق له سوى صدره وبطنه التي تتدلى أحشاؤها خارجا، كان مشهده بشعا بدا لي كدودة نبتت من تلك التربة الملعونة والمخاط يختلط بالدم وأمعاؤه والطين، ام سلمى والعافية وام خريف تفحمن مثل مريووومة.. النار في كل مكان والكل يركض في اتجاه الجبل والطائرات تترصد التجمعات وتلقى بالحمم.. جسدي مثخن بالجراح والأرض تميد من تحتي وتزل قدمي وأسقط ويتسلل دخان أسود يغطي كل عالمي و ... لا شئ لست أدري كم لبثت، أظنه يوما أو بعض يوم .. ، كنت أرقد على سرير مفروش ونظيف في مكان هادئ، نظرت الى سماء الغرفة التي بدت ناصعة البياض و شعرت بألم في قدمي وأكتافي ورأسي مازال به الطنين، تأملت الأجهزة الموصلة بجسدي بشاشاتها ذات الارقام الإلكترونية والرسوم المتقطعة،و.. أين أنا؟
05-18-2016, 08:21 AM
مني عمسيب مني عمسيب
تاريخ التسجيل: 08-22-2012
مجموع المشاركات: 15691
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
حسن العمدة
مني عمسيب
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست