|
Re: يا تلـــودي لماضيـــك تعـــودي (Re: حسن إبراهيم حسين)
|
أدبيات من تلوديالغايب :كان الموسم درت , وللدرت طقوس متنوعة وممتعة لسكان مدينة تلودى من النوبة . ومدينة تلودي حاضرة جبال النوبة بجنوب كردفان تمثل نموذجا حيا للتلاقح الثقافي والأثني بين النوبة والعرب والدينكا ( دينكا نبقاية). "الغايب " هو إسمه, قمحي اللون يميل الي الصفرة من عرب المراحيل الذين حكمت عليهم الظروف بولوج المدينة لكسب العيش . كان وسطهم كما شجرة الطلح بين غابة من سنط . يزمجر ويهز ضراعه عاريا إلا من سروال يغطي سوئته . كنا وقتها نتشبث بالطفولة وهي تهرول بنا نحو الرجولة , نجمع القصب الحلو (العقيق) من النجاض قبل الطليق. ونقطف أصفر التبش نتذوق حموضته . شجرة الكوك دوحة كبيرة علي سفح الجبل هي المسرح, إذ تلتقي عندها قبائل النوبة من( تسومي ) رجالا ونساء , شيبا وشبابا , النساء علي أرجلهم حجول من الفضة تصدر أصواتا , والرجال كشاكيش من سعف شجر الدليب . كلهم عراة إلا ما يغطي السوءة ليس قلة حيلة في الرداء وإنما هي الطقوس . النساء يحملن المريسة في أوان من خزف (كنتوش) وأخري من القرع المر(بخاس) . إنه موسم الكرم الفياض الذي هيأ للغايب فرصة أن ينهل من معين المريسة بلا هواده . ولكن هيهات , الرجال يحملون سياط من شجر الخروب , مملولة نصف إستواء علي لهب قصب الدرت لتزداد قوة , تتعالي الزغاريد من النساء لتختلط بزمجرة الرجال التي تنم عن القوة والرجولة . الغايب يزمجر ليؤكد إنصهاره الطوعي في فرحهم , فرحبوا به بمسحة إعجاب ورضا إنتصارا لطقوسهم. يترص الجميع حول دائرة , في وسطها يتكأ أحدهم علي عكاز علي رأسه قرنان ( كنجار) ويرفع كلتا يديه حتى نري سواد إبطيه , ويخرج من بين الجمع آخر يحمل سوط الخروب الممشوق ويهزه حول رأسه بسرعة, تخلق دائرة ذات مركز واحد كأجنحة الهليكوبتر ليستقر السوط حول خصر الفارس المتكأ علي الكنجار , وهو ثابت , تخاله صنما لا يهتز ,غير آبه بقطرات الدم التي تنزف من الأخدود الذي شقه السوط في بدنه . تزداد الزغاريد عند كل ضربة صوط .جاء دور الغايب وهو يزمجر وقرأت في عينيه شئ من خوف , تسرب الي دواخلي شفقة عليه , وخوفا من فضيحة البقاري . ولكن يبدو أنه كان في أحسن حالا مما أنا عليه إذ فعلت المريسة به ما فعلت . ولكن .. أنا له بمقاومة ضربة الصوت المدوي . التي طار لها عقله كما طارت (السكره) . فتح الغايب فمه ليطلق زمجرة الرجولة ولكنها عنوة تخرج صرخة هي أقرب للبكاء , كانت تلكم أول ضربة صوت . فتذكرت حينها أغنية وهي قديمة ولكني أحدث منها. " الصوت الصوت يا جنا الصوت أحرى من الموت يا جنا " . جلس الغايب علي الأرض يضربها بكلتا يديه يستجمع قواه ويلملم ما تبقي له من فحولة يلقط حراب الديك .برز من بين الجمع شيخا من شيوخ النوبة فمسح علي خصر الغايب وحول بطنه بشئ من رماد الصهب وهو أبيض , فإذا بي أراه أصفرا لاختلاطه بقطرات الدموع الحمراء المنهمرة من خصر الغايب . ثم ربت الشيخ علي كتف الغايب لإعفائه لضربة الثانية , الغايب حمد الله , علي السلامة وجسمه ينتفض . ومد بصره لقرعة المريسة في يد زوجة الرجل الذي مشق الغايب ومسكها بيد مرتجفة , فطفق يشرب ويشرب ولكن نفس الشيخ كفه عنها فأخذه خارج الحلبة.بقيت صورة الغايب في مخيلتي , فلم يمحها صيف ذلك العام حتي جاء الرشاش , فالتقي الغايب هذه المره يحمل العجايب . ثعبان من يختبأ بين العشب اليابس الذي تحمعه أمطار الرشاش عند قعور الشجر ونسميه (أم نوامة ) , فهو ثعبان قصير وعريض بطئ الحركة ولكنه ساما . الغايب يحمل الثعبان بين يديه مطمئنا. وهو في طريقه لسوق المدينة , إستوقفته . كيف تجرئ علي حمله وهو سام ؟ , قال لي أنني قد أكلت بعض جذور الشجر التي تقاوم سم الثعابين بل تعافني الثعابين . ولكن وكأن الله أراد أن يبرهن كذب الغايب الذي أزاح يده عن عنق الثعبان ليبرهن لي ما ذهب إليه , مما أتاح لأم نوابة فرصة لتلدغه علي يده لدغة , حررتها من يد الغايب الذي مسك يده وهو يصرخ وكنت وقتها أمتطي دراجة فردفته مسرعا نحو المستشفي لإسعافه , إذ تم حقنه بمصل هو ترياق سموم الثعابين . فمكث الغايب يومين بالمستشفي . وحينما تعافي , طلب مني أن اصحبه للمعراقي , الذى وصف له ترياق السموم لا ليعتب عليه وإنما ليخرج له أسنان الثعبان التي يتوهم أنها لا زالت بيده , فتعجبت لذلك وأخذته للمعراقي فوضع علي يد الغايب مضغة من أوراق الشجرة ثم أزالها وأخرج أسنان الثعبان من بين تلك المضغة .أدركت حينها أن ذلك هو الدجل , فتلك السنينات ربما كانت موجودة بين المضغة قبل وضعها علي أثر لدغة الثعبان .إنتهت قصة الغايب أبو عجايب . وإلي القاء .
(عدل بواسطة حسن إبراهيم حسين on 03-25-2016, 11:24 AM)
| |
|
|
|
|