ليس هناك منتوج واضح للحوار الوطني حتى هذه اللحظة إلا من تصريح هنا وهناك . يبدو المشهد كله منقسما بين متحاورين ومتفرجين، كل فريق ( يعوس عوسو ) بوادٍ لا علاقة له بالآخر . قلت من قبل أن هناك طبقة سياسية ، يتنافس أفرادها وجماعاتها ، يتقاتلون ، يصطرعون ، ويدينون بعضهم بعضا . هؤلاء كلهم يعملون على تأجيج الأوضاع المائلة ، بعضهم لعدم قدرته لتقديم ما هو أفضل ، وبعضهم يسعى لكشف الآخر وتعريته . وكلهم يدّعون أنهم يمثلون المواطن ويعملون من أجل الوطن ، وكل واحد منهم يدّعي أنه الحق االأبلج وما عداه الباطل اللجلج . هناك من يرى المشهد رائعا وجميلا ومبشرا بمستقبل لا مثيل له ، فلا يواجه شظف العيش ، ولا عنت السلطة ، ولا يحس نقص الخدمات ، وهؤلاء – لا شك - ينتمون إلى الطبقة السياسية ، لكنهم ينكرون ذلك ، ويدّعون أنّ قدراتهم الخارقة هي التي أتاحت لهم ما هم فيه . المواطن العادي - خارج الطبقة السياسية – تضيق أمامه الهوامش التي تسمح بها الطبقة السياسية ، فينزوي ، ينزج ، يتشرد ، أو يهجر البلاد كلها، أو يموت . ضيق العيش يسد الأفق كله، فلا يجد المواطن فرجة لينظر من خلالها بعيدا ، فيظل مكبلا بما يسد رمقه ورمق أسرته ، وتتوقف الطموحات ، وتتضمحل الأحلام ، ويتوقف كل ما يدفع للتطوير ، فلا إبداع ، وبالتالي لا إنتاج ولا عمل . هناك مشكلة في إمدادات الكهرباء ، الماء ، دقيق الخبز، الطاقة ، ومعاناة طويلة في العلاج والتعليم ، ومشكلات معقدة في البيئة ، والمنتوج الثقافي ، وتربية النشء . وهناك حاجة ضاغطة وملحة لمكافحة الفقر والجهل . وانتظار طويل لبناء المجتمع الحديث المعافى من كل مظاهر التخلف والتبطل وضعف سبل كسب العيش . والحوار الوطني يأتي بعد ست وعشرين عاما ، ويسير متمهلا كأنه يستهدف مجتمعا غير المجتمع السوداني ، وواقعا غير الواقع السوداني . وهناك من لم يلحق بالحوار بعد ، والذين انطلقوا في الحوار ينتظرون لحاق الغائبين ، وهم المتمترسون خلف شروطهم ، يسندهم من يسندهم من المحلي والدولي . وهناك من يرى أن الاقتلاع من الجذور هو الحل ، أي اقتلاع السلطة الحاكمة، وأنّ الحوار ليس إلا ذرا للرماد في العيون. لكن هل السلطة الحاكمة – بكل ما كرهناه منها – هل يمثل زوالها حلا لمشاكلنا ؟ أم أنّ الطبقة السياسية كلها هي التي يجب أن تذهب ؟ ولتقريب الفهم نضرب مثلا بأحزابنا الكبيرة والصراعات داخلها ، وانشقاقاتها ، وميولها التوريثية ، وضعفها ، وأخيرا انفضاض الجماهير عنها . فهل ، إن ذهب أؤلئك ، سنجد الحل عند هؤلاء ؟ كثير من الناس ينتظر نهاية الحوار ، وينتظر مخرجاته ، لكن لكل واحد منهم سببه لهذا الانتظار . بعضهم يرى أن تكلفة الحوار طالت وتمددت وهي مقتطعة مما يدفعه المواطن. وبعضهم يرى أن الحوار لن يغير شيئا وبالتالي فهو مضيعة للوقت والمال . وبعضهم ينتظر النهاية ليمد لسانه شامتا ، وليقول بصوت عال ، هذا ما تحاورتم عليه ، فلم تحصدوا إلا الريح . وبعضهم يقول أن الحوار كان جزرة تتبعها عصا . وبعضهم سيطلق الأناشيد الوطنية ويطرب ويقول بأعلى صوته ليس في الإمكان أبدع مما كان . ومثلي مثل غيري أنتظر نهايات الحوار ، وآمل أن تكون نهااياته سعيدة تعود على المواطن والوطن بخير . لكنى أرى أن تحكم الطبقة السياسية – من خلال الحوار – على نفسها بالزوال . ولا أتحدث عن زوال حسي أو قسري أو عزل أفراد ، إنما اقصد زوال ضيق الفهم ، وضيق المقاصد . أتحدث عن إساءة فهم الاقتسام والتقاسم وحصره في المناصب ، والكراسي ، والمسميات ، واللهاث من أجل المخصصات . أتحدث عن إنهاء المميزات التي تغري بإشغال المنصب نفسه ، فلا عربات متعددة ، ولا مساكن فارهة ، ولا رواتب أعلى من بقية الناس . أتحدث عن سيادة العدالة في توزيع السلطة بلا استغلال للنفوذ ، ولا تحويل الناس قسرا وظلما إلى ضحايا . أتحدث عن ضرورة إعادة توزيع الثروة وعدالتها بين الأقاليم ، والفئات المنتجة ، والمساواة الكاملة في الأجور للأعمال المتساوية . أتحدث عن تساوينا كلنا أمام القانون ، وتساوي واجباتنا الوطنية ، وضرورة إشراك الناس كلهم في بناء الوطن وبمفهوم الوطنية الملزم وليس الهلامي . وبهذا تكون الطبقة السياسية قد حلت نفسها ، وتخلت عن أنانيتها ، وفوقيتها ، وانخرطت في المجتمع لتشارك في البناء دونما تعالي ودونما انتظار لاستحقاق غير مستحق . ولتعلم الطبقة السياسية كلها أن الانسان لايكون منتجا ولا مبدعا ولا مشاركا إلا إذا حصل على كل الحريات المستحقة له كبشر مكرم من الله ، ينتمي لوطن انتماء مساويا لكل أفراد مجتمعه ، وأن اي نظام يمنع الحرية عن الناس هو نظام ظالم لشعبه ومدمر لوطنه وكابح لتطوره . فليست هناك وصاية لأحد على أحد ـ وليس هناك تفويض افتراضي يدعيه مواطن على آخر ، أو يدعيه حزب عن فئة من الناس .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة