|
Re: على جمر الانتماء (Re: عليش الريدة)
|
وعندما جاءنا خبر وفاته قبل أربعة أيام, سافرنا إلى القرية وعند وصولنا كان السرادق منصوبا, فتوجهنا إليه لتقبل وتقديم العزاء ,ثم دلفت بعد ذلك إلى جدتي , وعلى غير عادات قريتنا, كانت النساء يبكين في صمت ,لأن جدتي منعت النياحة والبكاء الفاحش, ورأيت عليها جلالة مهيبة بحزنها المرتسم على وجهها , وبثوب حدادها الأبيض, وبعد أن عزيتها عدت إلى سرادق الرجال مرة أخرى .. وعندما كنت في طريقي مع أسرتي للعزاء , كنت أظن أني أوفيت بقسم الغضب الذي أقسمته في العام السابق, وهو ألا أدخل إلى القرية أبدا طالما جدي موجود فيها ,لكني اكتشفت بعد وصولي أني كنت محنثا, فرغم أنه مات إلا أنه ما زال حاضرا في القرية.. لقد رأيته في عفو ماء الوضوء عندما يبل شفاه التراب العطشى, وفي لمعة هلال المئذنة عند ما ينزل عليه القمر.. وسمعت صوته في شهقة المجداف وهو يلاطم النيل ليدفع بالمركب للأمام , وفي خرير الشاي عندما يصب في الأكواب ... وشممت رائحته في خلاصة عجين الكسرة الخمّار, وفي روث البقرة الطازج..إن القرية لا تستطيع أن تقوم من دون جدي, إلا إذا قام البالون من دون هواء. وبعد أن أمضينا ثلاثة أيام, قرر أبي أن يرسلنا إلى المدينة, فودعنا جدتي وذهبنا نحو العربة, لكنها استبقتني وقالت هامسة: تعال معي.وأدخلتني إلى غرفتها , كان قلبي يدوي بعنف, ورجلاي ترتجفان.. قالت :ترك لك جدك شيئا . وأخرجت ساعة جدي, التي كانت أكثر أملاكه عنده احتراما، ومدتها لي قائلة : هي أوسع من ذراعك, لذلك ضعها في جيبك حتى تصل إلى المدينة.وضمتني مودعة, فتشبثت بها بقوة, وحاولت أن تفلتني , لكني كنت كالغريق الذي يوشك أن يغوص بمنقذه.. وبكيت مثلما تهبط الطائرة التي تعطلت كوابحها في الجو.. وحاولت أن تفلتني بقوة أشد, كانت تتمتم بأشياء عن الرب الكريم عز وجل, وعن النبي الحليم عليه الصلاة والسلام , وعن الجنة التي حُرّم عليها الحيرة والأحزان, لكني لم أفلتها..فاستسلمت أخيرا, وروينا الصحارى الظمأى بوابل الدمع الفجيع. وأنا أختم مذكراتي لهذا اليوم بسؤال بديهي: هل أحفظ ساعة جدي إلى أن تصبح في مقاس ذراعي ثم ارتديها, أم أعدلها لتنا سبني الآن؟ أعتقد أني سألجأ للخيار الثانى, وذلك لأمر بديهى أيضا,و هو أن ذراعي لن تملأ فراغ سوار ساعة جدي ولو عشت أضعاف عمره. تمــــــــــــــــــــــــــــــت
|
|
|
|
|
|