|
أدبيات من تلودي
|
08:05 AM Sep, 21 2015 سودانيز اون لاين حسن إبراهيم حسين- مكتبتى فى سودانيزاونلاين
الغايب :
كان الموسم درت , وللدرت طقوس متنوعة وممتعة لسكان مدينة تلودى من النوبة . ومدينة تلودي حاضرة جبال النوبة بجنوب كردفان تمثل نموذجا حيا للتلاقح الثقافي والأثني بين النوبة والعرب والدينكا ( دينكا نبقاية).
• "الغايب " هو إسمه, قمحي اللون يميل الي الصفرة من عرب المراحيل الذين حكمت عليهم الظروف بولوج المدينة لكسب العيش . كان وسطهم كما شجرة الطلح بين غابة من سنط . يزمجر ويهز ضراعه عاريا إلا من سروال يغطي سوئته . كنا وقتها نتشبث بالطفولة وهي تهرول بنا نحو الرجولة , نجمع القصب الحلو (العقيق) من النجاض قبل الطليق. ونقطف أصفر التبش نتذوق حموضته . شجرة الكوك دوحة كبيرة علي سفح الجبل هي المسرح, إذ تلتقي عندها قبائل النوبة من( تسومي ) رجالا ونساء , شيبا وشبابا
, النساء علي أرجلهم حجول من الفضة تصدر أصواتا , والرجال كشاكيش من سعف شجر الدليب . كلهم عراة إلا ما يغطي السوءة ليس قلة حيلة في الرداء وإنما هي الطقوس . النساء يحملن المريسة في أوان من خزف وأخري من القرع المر(بخاس) . إنه موسم الكرم الفياض الذي هيأ للغايب فرصة أن ينهل من معين المريسة بلا هواده . ولكن هيهات , الرجال يحملون سياط من شجر الخروب , مملولة نصف إستواء علي لهب قصب الدرت لتزداد قوة , تتعالي الزغاريد من النساء لتختلط بزمجرة الرجال التي تنم عن القوة والرجولة . الغايب يزمجر ليؤكد إنصهاره الطوعي في فرحهم , فرحبوا به بمسحة إعجاب ورضا إنتصارا لطقوسهم. يترص الجميع حول دائرة , في وسطها يتكأ أحدهم علي عكاز علي رأسه قرنان ( كنجار) ويرفع كلتا يديه حتى نري سواد إبطيه , ويخرج من بين الجمع آخر يحمل سوط الخروب الممشوق ويهزه حول رأسه بسرعة, تخلق دائرة ذات قطر واحد كأجنحة الهليكوبتر , بلا قنابل ليستقر السوط حول خصر الفارس المتكأ علي الكنجار , وهو ثابت , تخاله صنما لا يهتز ,غير آبه بقطرات الدم التي تنزف من الأخدود الذي شقه السوط في بدنه . تزداد الزغاريد عند كل ضربة صوت . جاء دور الغايب وهو يزمجر وقرأت في عينيه شئ من خوف , تسرب الي دواخلي شفقة عليه , وخوفا من فضيحة البقاري . ولكن يبدو أنه كان في أحسن حالا مما أنا عليه إذ فعلت المريسة به ما فعلت . ولكن .. أنا له بمقاومة ضربة الصوت المدوي . التي طار لها عقله كما طارت (السكره) . فتح الغايب فمه ليطلق زمجرة الرجولة ولكنها عنوة تخرج صرخة هي أقرب للبكاء , كانت تلكم أول ضربة صوت . فتذكرت حينها أغنية وهي قديمة ولكني أحدث منها. " الصوت الصوت يا جنا الصوت أحرى من الموت يا جنا " . جلس الغايب علي الأرض يضربها بكلتا يديه يستجمع قواه ويلملم ما تبقي له من فحولة يلقط يلقط حراب الديك . برز من بين الجمع شيخا من شيوخ النوبة فمسح علي خصر الغايب وحول بطنه بشئ من رماد الصهب وهو أبيض , فإذا بي أراه أصفرا لاختلاطه بقطرات الدموع الحمراء المنهمرة من خصر الغايب . ثم ربت الشيخ علي كتف الغايب لإعفائه عن الضربة الثانية , الغايب حمد الله , علي السلامة وجسمه ينتفض . ومد بصره لقرعة المريسة في يد زوجة الرجل الذي مشق الغايب ومسكها بيد مرتجفة , فطفق يشرب ويشرب ولكن نفس الشيخ كفه عنها فأخذه خارج الحلبة. بقيت صورة الغايب في مخيلتي , فلم يمحها صيف ذلك العام حتي جاء الرشاش , فالتقي الغايب هذه المره يحمل العجايب . ثعبان من يختبأ بين العشب اليابس الذي تحمعه أمطار الرشاش عند قعور الشجر ونسميه (أم نوامة ) , فهو ثعبان قصير وعريض بطئ الحركة ولكنه ساما . الغايب يحمل الثعبان بين يديه مطمئنا. وهو في طريقه لسوق المدينة , إستوقفته . كيف تجرئ علي حمله وهو سام ؟ , قال لي أنني قد أكلت بعض جذور الشجر التي تقاوم سم الثعابين بل تعافني الثعابين . ولكن وكأن الله أراد أن يبرهن كذب الغايب الذي أزاح يده عن عنق الثعبان ليبرهن لي ما ذهب إليه , مما أتاح لأم نوابة فرصة لتلدغه علي يده لدغة , حررتها من يد الغايب الذي مسك يده وهو يصرخ وكنت وقتها أمتطي دراجة فردفته مسرعا نحو المستشفي لإسعافه , إذ تم حقنه بمصل هو ترياق سموم الثعابين . فمكث الغايب يومين بالمستشفي . وحينما تعافي , طلب مني أن اصحبه للمعراقي , الذى وصف له ترياق السموم لا ليعتب عليه وإنما ليخرج له أسنان الثعبان التي يتوهم أنها لا زالت بيده , فتعجبت لذلك وأخذته للمعراقي فوضع علي يد الغايب مضغة من أوراق الشجرة ثم أزالها وأخرج أسنان الثعبان من بين تلك المضغة . أدركت حينها أن ذلك هو الدجل , فتلك السنينات ربما كانت موجودة بين المضغة قبل وضعها علي أثر لدغة الثعبان .
حسن إبراهيم حسين(أبو صباح)
(عدل بواسطة حسن إبراهيم حسين on 09-21-2015, 09:05 AM) (عدل بواسطة حسن إبراهيم حسين on 09-21-2015, 09:06 AM)
|
|
|
|
|
|