|
ثقافة الخوف
|
تقديم: لم تول الدراسات الأنتروبولوجية الكثير من الاهتمام لظاهرة الخوف، كظاهرة اجتماعية ومجتمعية تستدعي طرح الأسئلة حول الآليات التي من خلالها يتم إنتاج هذا الخوف، هل يتعلق الأمر بمحدد بيولوجي فطري؟ أم أنه معطى اجتماعي وثقافي؟ وفي جميع الحالات، ما هي الآليات المتحكمة في إنتاج الخوف؟ هل هذه الآليات فردية سيكولوجية أم أنها إنتاج اجتماعي مرتبط بثقافة المجتمعات؟ وهل يمكن للأفراد تكسير هاجس الخوف من أجل العيش في مجتمع يضمن الأمن النفسي والاجتماعي؟ • الخوف كخاصية ثقافية: حاول ستروس C.L. Strauss أن يبحث في الحدود بين المكون الغريزي البيولوجي والثقافي المكتسب للسلوك الإنساني ونقط التقاطع والاختلاف بينهما وذلك عبر التفكير في أداة منهجية من خلالها يمكننا أن نميز الثقافي عن الطبيعي. هذه الأداة سماها “القاعدة”، في إشارة منه إلى ما هو ثقافي يميز جماعة اجتماعية معينة، أو ما يوحد الناس، وفي نفس الوقت يميزهم كجماعة ذات نمط ثقافي يعطي لتلك الجماعة خصوصياتها السوسيوثقافية. أي أن كل ما يرتبط بضوابط ومعايير ومحددات فهو يدخل حتما في مجال الثقافة، وأن كل ما يشترك فيه الأفراد مع باقي الكائنات ويأخذ بعدا كونيا عاما فهو يدخل في مجال الطبيعة وما هو غريزي.
هناك إذن علاقة “تمفصل” كما يقول ليفي ستروس بين الغريزي البيولوجي والثقافي المكتسب، والخوف سواء كان سلوكا أو إحساسا أو حالة نفسية، تنطبق عليه هذه العلاقة إذ من الصعب رسم الحدود بينهما. “فأحيانا يستدعي المثير الفيزيائي ـ البيولوجي والمثير النفسي ـ الاجتماعي ردود أفعال من نمط واحد”. أي أن الخوف قد يكون رد فعل عن مثير بيولوجي كما يمكن أن يكون رد فعل عن مثير اجتماعي، ويمكن في هذه الحالة أن نتساءل كما فعل ستروس، أين ينتهي الجانب البيولوجي ويبدأ البعد الثقافي حينما يتعلق الأمر بالخوف؟
انطلاقا مما سبق يجب أن نميز بين معنيين لمفهوم الخوف، بالرغم من وجود عنصر الترابط بينهما، يتعلق الأول بالخوف كمعطى نفسي ذاتي يأخذ طابعا بيولوجيا، أي كإحساس أو انفعال طبيعي غريزي مرتبط بذات الفرد. فحينما يحس الفرد بأن حياته مهددة، كأن يسقط من علو شاهق مثلا، ينتابه إحساس بالخوف نظرا لغريزة حب البقاء التي يتمتع بها كل كائن وهو قاسم مشترك بين جميع الكائنات.
إن الخوف من وجهة نظر نفسية يشمل خصائص انفعالية يعبر عن إحساس مثله مثل باقي الإحساسات الأخرى كالفرح والسعادة والغضب والحب. لكن ما يميز الخوف - كمعطى نفسي - عن هذه الإحساسات والانفعالات كونه الإحساس الأقل ارتباطا بالمواقف الاجتماعية، إنه يرتد إلى وضعيات ومواقف تمثل التهديد والخطر والرعب...، كما يجب في نفس الوقت أن نميز بين الخوف كرعب وحالة مرضية وبين الخوف المعتاد الذي يرتبط بالحذر من الوقوع في خطر يهدد الفرد.
أما المستوى الثاني فيرتبط بالخوف ك“بنية ثقافية” ترتبط بتنشئة اجتماعية للأفراد في فضاء وجو قائم على الإرهاب النفسي وعلى سُلَّم قاس وصارم من النواهي والمحرمات تُبعد عنه أي إمكانية للتفكير في الأسباب التي وضعت ذلك السّلم. في هذا الإطار يجب البحث في الشروط المنتجة لثقافة الخوف بما هي ثقافة تولد الخوف وتنتجه وتعيد إنتاجه بأشكال مختلفة. فالثقافة التي تكون سائدة في المجتمع وتحاول أن تجعل الفرد مسلوبا من أية إمكانية في الإحساس بالأمن، تربي الأفراد على الخوف من أبسط الأشياء. وتحاول بذلك أن تخلق شروطا تتميز بالمراقبة الدقيقة للأفراد تنتج عليها حالة من الفوبيا الجماعية التي تجعل من العلاقات الاجتماعية علاقات محددة بالخوف ومؤسسة عليه.
إذن فالخوف حينما يتجاوز بعده البيولوجي ويصبح بنية نفسية فردية وظاهرة اجتماعية وجماعية عامة، في هذه الحالة يتحول إلى حالة مرضية، تستدعي البحث عن أسبابها دوافعها ثم النتائج المترتبة عنها. إنه يتولّد عن واقع اجتماعي وشروط اجتماعية يسودها الإرهاب فيتحول إلى سلوك يومي ونمط ثقافي لا يعي الفرد خطورته ولا إمكانية التحرر منه.
|
|
|
|
|
|
|
|
|