|
Re: الأستاذمحمودمحمدطه، قال: المزارع قد ينوم، لكن التيراب ما بينوم (Re: منصوري)
|
الإنسان منقسم
لقد سلفت الإشارة إلى أن الإنسان ، في نشأته ، إنما هو برزخ بين الملائكة الأعلين، والأبالسة الأسفلين.. هو نقطة إلتقاء النور ، والظلام - العقل ، والشهوة - ولقد قررنا إن العقل قد أمر بترويض الشهوة.. وعلى هذا قام التكليف ، وبه ظهر الإنسان ، بعد أن لم يكن.. قال تعالى : ((هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً ؟؟)).. و ((هل)) هنا تعني ((قد)) التحقيقية.. فقد مر على الإنسان دهر دهير كان أثناءه يتقلب في مراحل الحيوانية السفلى.. وهو لم يكن يومئذ ((شيئاً مذكوراً)) لأنه لم يكن مكلفاً ، وإنما كان سائماً.. وقانون السائمة إتباع اللذة ، حيث وجدت ، والفرار من الألم ، حيث أمكن.. وقانون المكلف هو قانون الحرام والحلال ، وقانون النهي والأمر.. وهو ، في جملته ، يعني عمل المأمورات ، وإجتناب المنهيات.. وإن كان في هذا وذاك مشقة على النفس ، وحرمان لها من دواعي جبلتها.. وبدخول هذا القانون - قانون التكليف - إنقسم الإنسان.. وبدأ سيره نحو الإنسانية ، مبتعداً عن الحيوانية.. وكل مشقة يحتملها في هذا الإتجاه ، إنما هي منزلة قرب من إنسانيته ، تمثل ، في حد ذاتها ، منزلة بُعد عن حيوانيته.. وهذا ما أشرنا إليه عندما قلنا : أن السلوك ، إنما هو إرتفاع من النفس السفلى ، إلى النفس العليا.. وهو ما قاله العارف ، حين قال : ((سيرك منك ، وصولك إليك)).. وبالتجافي عن اللذة الحرام العاجلة ، إستجابة لما أوجب الشارع ، وإبتغاء اللذة الحلال الآجلة ، قوي عقل الإنسان ، وقويت إرادته.. قوي عقله لحاجته إلى التمييز بين ما ينبغي و لما لا ينبغي: و قويت إرداته لحاجته إلى السيطرة على دواعي نفسه إلى الإندفاع نحو اللذة الحاضرة ، كما هو العهد بالحيوان.. وبهذا الصنيع إنكبتت رغائب أصبح بها الإنسان منقسم بين عقل كابت ، ورغائب نفس مكبوتة.. وكلمة ((العقل)) هنا تمثل قوة الإدراك ، وقوة السيطرة.. وإنقسام الإنسان لم يبدأ بظهور قانون الحلال والحرام ، كما جاءت به الأديان ، وإنما بدأ بظهور المجتمع.. وقد سبق ظهور المجتمع ظهور الأديان بآمادٍ سحيقة.. وفي الحق ، إن هذا الإنقسام قد أخذ بداياته منذ ظهور الحياة نفسها.. فإن ظهور المادة العضوية ، من المادة غير العضوية ، ذلك الظهور الذي يؤرخ بدء الحياة ، في صورها البسيطة ، إنما هو إنقسام المادة بين كثيف ، ولطيف.. وقد ظل الكثيف يلطف ، واللطيف يزداد لطافة ، حتى بلغا ، في مرحلة الإنسانية ، أن أصبح اللطيف يمثل العقل ، والكثيف يمثل الجسد.. فلكأن الإنقسام أخذ بداياته بظهور الحياة.. بل إن الإنقسام هو مرادف للحياة.. هو هي.. ولكنه تعقد ، وتشعب ، وترسبت طبقاته ، طبقة فوق طبقة ، بظهور المجتمع الإنساني ، وأعرافه ، وعاداته ، وتقاليده.. ثم إزداد تعقيداً ، بظهور الأديان ، في صورها المعقدة.. وبتوكيد فكرة الغيب فيها ، وبالدعوة إلى الإيمان ، وإلى التوحيد.. وقد عالجنا مسألة الكبت كلها بصورة مفصلة في مقدمة الطبعة الرابعة من كتابنا : ((رسالة الصلاة)) ، بما يغنينا هنا عن الإعادة ، فليراجع في موضعه.. والأمر الذي نريد أن نقرره هنا ، وإن كان قد ورد هناك بتفصيلٍ كافٍ ، هو أن الإنقسام قد كان ، في جميع أطواره ، بدافع من الخوف.. فلولا الخوف ما ظهرت الحياة ، في المكان الأول ، ولولاه ما ترقت الحياة بظهور العقل ، في المكان الثاني.. ولكن الحياة ، مع ذلك ، لن تبلغ كمالها إلا إذا تحررت من الخوف تماماً.. فلكأن الخوف صديق في بدايات النشأة ، عدو في أخرياتها.. ولقد رسب هذا الخوف ، في النفس البشرية ، عقداً لا يحصيها الحصر.. وهي تقع على مستويين : المستوى الموروث في عمر الحياة ، والمستوى المكتسب في عمر الفرد.. وهذه العقد بمستوييها هي الحائل الآن بين الإنسان والعلم.. هي الحجاب القائم بين قلب الإنسان ، حيث الحقائق الأزلية ، وعقل الإنسان ، حيث المرآة التي تتطلع لإنعكاسات هذه الحقائق الأزلية عليها.. وعمل كل العبادة إنما هو محاولة تلطيف هذا الحجاب الحائل ، وذلك بحل هذه العقد ، المكتسبة ، والموروثة.. وإلى هذه العقد بمستوييها ، وإلى كونها حُجباً ، وردت الإشارة بقوله ، جل من قائل : ((كلا !! بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون * كلا !! أنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون * ثم أنهم لصالو الجحيم * ثم يقال : هذا الذي كنتم به تكذبون)).. قوله : ((ما كانوا يكسبون..)) ، تشير إلى الحيل التي لا تحصى ، والتي دفعنا إلى إتخاذها الخوف على الحياة ، في المكان الأول ، والخوف على الرزق ، في المكان الثاني.. ثم قال ((كلا !! إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون)).. وهو يعني ((بيومئذ)) بدء النشأة الأخرى ، بتحصيل الأعمال المكتسبة في النشأة الأولى.. ذاك يوم ظهور الحجاب بين الرب ، والعبد الجاهل ، على أكثف صوره.. ولكن ((يومئذ)) هذا ليس غائباً اليوم تماماً ، ولا الحجاب غائباً اليوم تماماً.. ثم قال ((ثم إنهم لصالو الجحيم)).. والحكمة المرادة من تصليتهم الجحيم إنما هي رفع الحجاب الذي عجزوا عن رفعه ، بتحصيل العلم ، في النشأة الأولى.. وهذه التصلية هي جزاء وفاق ، وعدل مطلق.. ومن ههنا ، عرف العارفون أن التصلية بالجحيم ، إنما هي مرحلية ، وليست سرمدية.. هي رحمة ، وليست إنتقاماً.. عن ذلك تعالى الله ، علواً كبيراً.. d
|
|
|
|
|
|