نجيب سرور يبكي فرج الله الحلو و نحن نبكي كليهما و اخرون

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-03-2024, 02:34 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة د.امجد فريد(Amjed)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
10-26-2006, 06:39 AM

Amjed
<aAmjed
تاريخ التسجيل: 11-04-2002
مجموع المشاركات: 4430

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
نجيب سرور يبكي فرج الله الحلو و نحن نبكي كليهما و اخرون

    فرج الله الحلو

    بمناسبة الذكرى الخامسة والأربعين لاستشهاده

    د. مفيــد مسـُّـوح

    أبو ظبي – 27 ابريل 2004



    تحيــاتي عبد الله.. لك عندي مفـاجـأة

    أهــــلا ً بصديقي العزيز.. الحمد لله على سلامتك.. هـات مـا عندك

    وبطريقة تشبه التسلل تمشينـا إلى المكان الذي اعتدنـا أنـا وعبد الله وآخرون من الأصدقاء المقربين الانزواء به لتبادل الأحاديث، بعيداً عن المتطفلين من الأولاد ذوي التربية السطحية، وهو أبعد واحدة من قناطر كنيسة الضيعة القديمة.. وأدرك عبد الله على الفور أن المفاجـأة من النوع الذي يحب.. مادة ٌ للقـراءة !!

    كانت الشمس ترسل آخر أشعتهـا الصفراء قبيل غروب ذاك اليوم التمـوزي الدافيء والذي عادت في ساعات مسائه لذَّّة ُ ما تبقى من برد الليالي الربيعية المعتاد في بداية صيف القرى الجبلية..

    الضوء الواصل إلى القنطرة المتجهة إلى الغرب كان كـافياً لتمكيننا من قراءة ما جلبتـه معي من مدينة بانيـاس مقصوصاً من جريدة لبنانية اعتاد الأهل قراءتها باستمرار..

    تبادلنـا أولاً أحاديثنا التقليدية للاطمئنان عن الأحوال الصحية والدراسية وعن الأهل والأصدقاء بعد انقطاع لفترة تسعة أشهر كما هي الحال كـل َّ عام. كـانت أجوبة عبد الله مقتضبة وسريعة وكانت أسئلته لي قصيرة جداً لأنـه كان متلهفـا ً لرؤية ما بيدي دون أن يخفف ذلك من حالة الفرح باللقـاء والبهجة وتعالي القهقهات..

    ولم أُطـِلْ انتظارَه.. فتحت الورقة التي أخذتها للتو من الحقيبة المملوءة بمـا اخترته من كتب ومجلات أحملهـا مؤونة ً لأيام الصيف الطويلة في قريتي (حبنمرة) التي تبعد حوالي ستين كيلومتراً من بانياس، حيث كنت أعيش مع جزء من عائلتي بينما كان كبارنا في دمشق.

    كنت قد وصلت مع عائلتي إلى الضيعة قبل ساعة واحدة قضيتها بمتعة كبيرة في البيت مع جـدَّي وآخرين.. ولكنني كنت متلهفـاً للذهاب إلى الساحة المتاخمة للكنيسة حيث يلتقي عادة الشباب والفتيان بعيداً عن ساحة الضيعة التقليدية، الملتقى اليومي للشـَّيب..

    يـالله خلصني.. هات لشوف شو معك..

    مهـلاً يا صاحبي سنقرأ معـاً.. ولكننـا بحاجة أولا ً إلى فاصل من الصمت.. فالموقف حزين وما لدي يثير ولا يـُبهـج..

    حسنـاً مـا هذا ؟

    إنهـا قصيدة رائعـة لشاعر مصري اسمـه نجيب سرور عن الشهيد فرج الله الحلـو..

    والتصقنـا على المقعد الحجري القديم، غيرَ عابئـَـين ببرودته أو خشونة سطحه ولا مكترثـَـين بالمـارة، واضعـَين القـُصاصة بيننـا.. قرأتُ بصوت طفولي متهدِّج وسمعَ بصمت ما لبث أن اعتراه الخشوع بعد بـُرهة ٍ قصيرة:

    القـرن ُ يُــقال ُ العشــرونْ
    والعـام التاسـع ُ والخمسـونْ
    لكنْ لا أذكرُ ما الشـَّهرُ
    لا أذكر حتى ما اليـوم ْ
    والساعة لا أعرف كـم ْ
    فهنــا..
    في جوف الزنزانـــة ْ
    خلفَ الشمس ِ
    يجري توقيتُ الغستابـــو

    سألوني من زمن ٍ ما اسمك ْ
    تيلمـانْ
    أو شــهدي
    أو فوتشيـك
    أو قولوا الحلــو
    ماشئتـم قولـوا أيَّ اسْـــم ِ
    عســَّافٌ اسمي عسـَّـاف ْ..
    جـُنَّ الغستابو وانفجرت ْ
    في وجهي آبـارُ الــَّدمِّْ
    فبصقت ُ دما ً ملءَ الفـمِّ
    فـي وجه الغستابو الجَهم ِ
    وأنا أضحكْ
    ركـْـلـه ْ...‍‍‍‍!
    زعقوا... ما اسمك ْ ؟
    إنســـان ٌ
    أيُّ إنســانْ..
    ابن ُ العمـَّال ْ
    من رأسي حتى قدمـي ْ
    من أغور أغـوار القـلب ِ
    جندي ٌّ في جيش الشـعب ِ
    قربان ٌ من أجل الحـزب ِ
    في مصرَ أنا في سوريا
    في لبنــان ْ
    في العالم في كل مكــان ْ
    أنا وطني كـل ُّ القـارَّات ْ
    أمشي في زحف العمـَّال ْ
    عســَّافٌ اسمي عسـَّـاف ْ..
    انغمسنـا في جو القصيدة..

    الذي كـان يعنينـا حقــا ً هو الشعر.. لم نكن نعرف الشاعر.. ربمـا عرفه غيرنـا في ذلك الحين ولكن أغلب الظن أن قلائـل سمعوا عن نجيب سرور.. ومن المرجح أن معظمهم من لبنـان، المتميزة بحرياتها العامة وخصوصا ً حرية الفكر والتعبير والنشر والتداول بفارق هائل عما كانت عليه الحـال في سوريـا.. أنـا نفسي سـألت أهـلي عندمـا قرأت القصيدة لأول مـرة عن الشـاعر ولم أعرف أكثر من أنه فنان مصري شيوعي ويعيش في موسكو..

    عشنـا صور القصيدة ورحلاتها بحزن عميق هزَّ كياننا ومـلأ عيوننا بالدمع واشرأب الوبر النـاعم على سواعدنـا الطرية.. توقفت عن القراءة عدة مرات بسبب جفاف حلقي أو تقلص عضلات وجهي القريبة من فمي.. ولكن فكرة إلغاء القراءة أو تأجيلهـا لم تكن واردة.. استغرق إكمـال القصيدة من الزمن ما يزيد عن الحـاجة لقراءة قصيدة عادية بنفس الحجم نظراً لبرهات صمت اضطرارية اشتهيت عندهـا جرعة مـاء من "عين مريم" ولم يكن المـاء قريباً..

    وأعـاد الغستابو الكــَّرة ْ
    لا أدري في هذي المـرَّة ْ
    من أيــن الآبارُ الثـَّرَّة ْ
    في جسمي ْ كانت ْ تتدفـَّق ْ
    حاولت ُ كثيرا ً أن أبصـُق ْ
    جاهدت ُ
    ولكن لم أبصـُق ْ
    وتـدور الأرض ُ
    والسقف ُ الصخري ُّ يدور ْ
    وتدور الجـدران ُ تدور ْ
    ويلفُّ الأشياءَ ضبــاب ُ
    وتغيب وجوه ُ الغستـابو
    و أغيب أنا....
    الضوء تخامد تدريجيـا ً وكاد أن يختفي نهائيـا ً مـا جعلني أبذل جهـدا ً أكبر لرؤية مـا تبقى من الكلمـات على ورقة الجريدة الباهتة اللون والمطبوعة بأحرف صغيرة على صفحة واحدة منسقة وفق أعمدة مترادفة دون أي تعليق. الورقة شارفت على الإهتراء لكثرة مـا قـُرئتْ وطويت وفتحت وانتقلت من جيب إلى آخر.. من حسن حظي في ذاك الوقت أنني كنت قد حفظت قسمـا ً من القصيـدة بعد أن قرأتهـا عدة مرات أو سمعت الآخرين في البيت يرددونهـا كي يكبر السخط في نفوسنا على القتـلة أعداء الإنسانية.. وكم كنت متأنيـا ً في مسك الورقة بنعومة خشية ازديـاد اهتراء أطرافهـا أو خطوط ثنيهـا حرصـا ً مني على الالتزام بتعهدي الحفـاظ عليهـا سليمة ً، بالرغم من أنني رأيت أخي الذي يكبرني وقد نسخهـا على دفتر عزيز على قلبه كإضافة قيمة لرموز مقدسـاته..

    كانت القصيدة قد أعيد نشرهـا في ذاك العدد من (الأخبار) صحيفة الحزب الشيوعي اللبناني بمناسبة الذكرى السابعة لاستشهـاد فرج الله الحلو تحت التعذيب الوحشي بأيدي أجهزة أمن عبد الحميد السرَّاج في دمشق في الخامس والعشرين من حزيران 1959 بتهمة قيادة تنظيـم سياسي محظور. والقصيدة التي كتبهـا الشاعر والفنان نجيب سرور تحمل عنوان "فرج الله والغستـابو" تركت أثـرا ً بـالغا ً في نفوس الوطنيين واليساريين في مصر وبلاد الشـام كمـا أنهـا أثارت حفيظة أجهزة الأمن في سوريـا ومصـر.

    لـم نكن في تلك الأيـام، ونحن في الخامسة عشر من العمر، ندرك الأوضاع السياسية وتفاصيلها ولم يتجاوز اهتمامنـا كفتيان من منبت فقير ثوري إبان فترة الوحدة المصرية-السورية وبعدهـا بعدة سنوات سوى تذكر وحشية الجلادين في تعاملهم اللا إنساني مع المعتقلين السياسيين ممن لم ترقْ للسلطة آراؤهم وانتمـاءاتهم ونشـاطاتهم الفكرية والجماهيرية وكانت قضية فرج الله الحلو، الذي طـالما سمعنـا الأحاديث المستفيضة عن أخلاقه العالية ووطنيته الصادقة ومحبته للناس ونضاله من أجل قضاياهم وكذلك عن ثقافته العميقة وموقعه الكبير في أوساط الأدب والسياسة في عدة بلدان عربية، كانت هذه القضية المثـال الصارخ للديكتاتورية والقمع والاستبداد ومصادرة حرية التعبير والتنكيـل بسجناء الرأي وتعذيبهم حتى الموت.

    نجيب الذي يذكر في قصيدته على لسـان فرج الله الحلو، المنـاضل َ والأديب التشيكي يوليوس فوتشيك، صـاحب الرواية الشهيرة (تحت أعـواد المشـانق)، الذي مـات تحت التعذيب الوحشي بأيدي الشرطة النـازية (الغستابو) رافضـا ً الاعتراف أمـامهـم بـأسمـاء رفاقـه أعضـاء خـلايا المقاومة الوطنية وأرنيست تيلمـان المنـاضل الألمـاني الذي استشهد أيضـا ً في سجـون هتلر عـام 1941 يذكـر إلى جـانبهمـا المناضل والكاتب الشيوعي المصري شهدي عطية الشافعي الذي مـات تحت التعذيب في أقبية المخـابرات المصرية أيـام حكـم جمـال عبد النـاصر عـام 1960 عن 48 عـامـا ً.. إنهـا لمقـارنة سليمـة وصحيحة جعلتنـا نقبـل عنـوان القصيدة وتسمية الجـلادين الذين عذبوا شهدي ويعذبون فرج بـأنهم الغستـابو نفسه الذي ارتكب أفظع الجرائم بحق المنـاضلين والشعوب الأوروبية وبحق الإنسانية جمعـاء..

    تنهيدة !! وأكمـلُ:

    القـرن ُ يُــقال ُ العشــرونْ
    والعـام التاسـع ُ والخمسـونْ
    وحدي أنتظــرُ الغستابــو
    وحدي.. وحدي ؟!
    ومئات ٌ من حــولي
    ومئات ٌ من قبــلي
    ومئات من بعــدي
    وألوف ُ ألوف ُ العمـــَّال ْ
    في الخارج لا بل في قلبـي
    ورفـاقي كل ُّ الشرفاء ْ
    في وطني يحضنهم ْ شعبـي
    أأنا وحدي ؟

    كنت أسير ْ
    وســْط َ دمشـق ْ
    والساعة ُ منتصف ُ الليـل ْ
    والبرد رصاص ٌ مسمـوم ْ
    والـريح تنـوح كما بوم ْ
    والشارع خـال ٍ من نسمة ْ
    ودمشق ُ
    تلفـِّحــُها الظــلمة ْ
    والليل ضرير ْ
    لم تبسم ْ حتى نـَجمة ْ
    ويجيءُ نـُباح ُ الغستابــو:
    " يحيــا القائـد ْ
    هايـل الرائـد ْ "
    أذكرُ أذكــر ْ
    يذكر ُمثـلي فوتشيـك ْ
    يذكر تيلمــان ْ
    " يحيـا الفوهرر ْ
    هايــل هتلر ْ "
    أذكر ُ أذكــر ْ
    " يحيا الحسنــي
    والحنـــَّاوي
    والشيشكــلي "
    أضحك ُ ... أضحك ْ
    يضحك ُ كـل ُّ العالـم ْ
    تضحك ُ كـل ُّ دمشق ْ
    يضحك ُ كـلُّ الشرق ْ
    أيـن الفوهرر ْ ؟
    صـِرت ُ أفكـِّر ْ:
    أكبادي.. زوجي.. بيروت ْ
    وأبـــو زعبـل ْ
    أكبادي في كل العالم ْ
    يا بيروت ُ
    من مات َ ومن سوف يموت ُ
    أو يحيا من أجل الشـَّعب ِ

    البرد رصاص ٌ مسمـوم ْ
    والـريح تنـوح كما بوم ْ
    والشارع خـال ٍ من نسمة ْ
    ودمشق ُ تلفـِّحــُها الظــلمة ْ
    والنجمة تهمس للنجمة ْ
    هجمـة ْ... هجمـة ْ
    فـِرِّي قـد هجـم َ الغستابـو
    ضربـوا.. ضربـوا..
    آه ٍ.. لكأني أركب ُ أرجوحة ْ
    تعلو تهبط ْ..... تعلو تهبط ْ
    غابت ْ عنـِّي الرؤيـا
    أسقط ْ... أسقط ْ
    نسمـات الهواء القادمة من الفتحة الطبيعية التي تحد القرية من جهة الغرب تودع الشمس وتـُنبؤنا بليلة باردة تتطلب احتياطات كافية.. الأمهات يحرصن على إبقاء اللحف الثقيلة والحرامات لحماية الأولاد من برد الليل.. ليالي شهر حزيران وحتى أواسط تموز ليست كليالي شهر آب التي يتلذذ فيها الكثيرون بالنوم على السطوح والأماكن المكشوفة بالرغم من أن الليل في آب بارد ولكنه محبب بالمقارنة مع نهاره الحار..

    بدأت أحس بالبرد وأنا في أول يوم من إجازة الصيف بعيدا ً عن شاطىء البحر الدافيء. السماء التي تركتها زرقاء صافية كشرشف أزرق وحيد اللون فوق سماء بانياس أراها مرقعة بغيوم رمادية فوق الضيعة وممتزجة مع أخرى برتقالية فوق بلدة صافيتا والبحر وهي تضم الشمس وداعا ً إلى الغد.. والرياح الخفيفة تغازل الأوراق الفتية النضرة لأشجار التين والتوت والمشمش والتفاح التي تبرز أجزاؤها العليا من خلف أسوار المنازل القريبة على الغصون المتراقصة لربيعها الشاب.

    قصة جريمة اغتيـال فرج الله المختطف، التي لم تتأكد إلا بعد قرابة السنة من استشهاده تحت التعذيب الهمجي، كـانت على كـل لسان في سوريا ولبنان ومصر وغيرهـا.. سمعنـاها من أهـالينا ونحن أطفـال وكـان من الصعب أن تجـد أحدا ً تردد في التنديد العلني بالجريمة البشعة التي أثارت الأهالي في سوريا ولبنان مثلمـا أثارت السياسيين.. وتكرر التذكير بالرواية سنة بعد سنة.. قيل لنـا فيما بعد أن السخط والاستنكار عـمَّ الأوساط الشعبية وحركات التحرر والسلم في العالم وتشكلت لجـان دولية ضمَّت ْ شخصيات ٍ لامعة ً من بلدان أوروبية وآسيوية ومن بلدان عربية وأخرى في أمريكا اللاتينية مـارست ضغوطـاً سياسية على القيادة المصرية، التي كـانت في ذلك الوقت تسيطر على القيادة السورية عبر شخصيات سيئة السيرة وتتميز بقدرات خاصة على القمع والتنكيل بالمواطنين وتكريس الاستبداد.. وقد سجل التاريخ فشل هذا التضامن الدولي بسبب تهرب أجهزة الأمن في سوريا والقيادة المصرية من مسؤوليتها تجاه جريمة نكـراء اهتـزت لهـا مشاعر أحرار العالم..

    وقد أثـار لغز غياب فرج الله وانعدام تسرب أي خبـر من أروقـة أجهزة القمع الناصري في سوريـا قلق َ أهلـه وذويه وقيـادة الحزب وجمـاهيره وكـافة القوى الوطنية.. ولكن هذا القلق لم يـُفقد المناضلين الأمـل بإمكـانية بقـائه حيـا ً في سجون عبد الحميد السـرَّاج.

    عرف فرج الله الحلو دمشق بحاراتها وشخصياتها وأحبها.. قبـْلها عرف حمص التي درَّس في إحدى مدارسها وتعرف إلى أهاليها.. وسافر كثيرا ً إلى بلدات وقرى معظم المحافظات السورية فالتقى كوادر الحزب فيها وعائلاتهم فأحبوه كثيرا ً لما كانت تحمله شخصيته من صفات الإنسان الوديع الودود المتواضع الهاديء المحب للآخرين والناكر للذات أمام إيمانه المطلق بالعمل الجماعي معيارا ً للرقي والتطور.. لقد كان فرج في مرحلة العمل السري منذ قيام الوحدة وتوليه قيادة الحزب في سوريا كما كان في المرحلة العلنية السابقة نموذجا ً للقائد الشيوعي والرفيق المحب لوطنه وشعبه والغيور على الحزب. كان يتمتع بثقافة عالية وإلمام بأسس الفكر الماركسي والتراث الثوري العالمي إضافة إلى اهتمامه بالتاريخ والفلسفة والأدب العربي والعالمي.

    مسـاء القرية في أواخر أيـام الربيع وطيلـة أيـام الصيف يعج ُّ بالمـارة والمتسكعين.. بعد نهـاية السنة الدراسية يتقاطر إلى البلدة الوديعة أبنـاء أهـاليها من المدن التي يعمـل فيها الموظفون والمدرسون وعمال المصانع فتزداد ساحاتها وأزقتها حيوية ً.. حتى أولئك الموظفون الساكنون في المدن القريبة والذين يقتصر ترددهم على الضيعة أيام الخريف والشتاء على عطلات الأعياد يعودون إليها مسـاء كل يوم مع اقتراب مواسم الخضار والفواكه وخاصة العنب والتين وقبلها موسم حصاد القمح يليه موسم سلق الحنطة لتحضير البرغل، المـادة الغذائية الرئيسية لكل بيت في قرى وبلدات المجتمع السوري آنذاك، لهذه المواسم رونقٌ لا تخبو فرحة النـاس به لمـا تعكسه طقوسها من مشـاعر ودٍّ وتحـابٍّ يتحرض الشباب في ظلِّهـا إلى الخطوبة والزواج فتمتليء أيام الضيعة بالأعراس في صيفهـا البهي. من أجمـل صور الاستمتاع البسيط نزهـات فرق من الفتيان والفتيات على طول طريق امتد من "عين مريم"، النبع الذي شربت منه أجيال أكثر من أربعمائة عـام وما نضب ومـا قلت مياهه الطيبة، إلى آخر نقطة مسكونة في القرية عند مـا اتـُّفق على تسميته "أبواب الهوى".. ومن المؤكد أن من أطلق التسمية لأول مرة قصد بهـا "أبواب الهواء" نظرا ً للفتحة بين التلال المحيطة بالمكان والتي مررت الهواء النقي حاملا ً معه رائحة غابات السنديان والكروم وعطر الطيّـون ولكن شباب القرية راق لهم استخدام الألف المقصورة ذريعة لتبرير نزهات المساء اليومية المحببة مشكلين قطـارا ً بشريـا ً أضيف إلى جمـال الطبيعة الساحر..

    حتى سيدات البيوت وكبيرات السن تشجعن مسـاءً للتوافد إلى العين لملء جرارهن.. كن َّ يمشين مثنى ً أو ثـلاث، والجرار الملأى بالماء البارد على أكتافهن، يتحادثن طوال الطريق وأجسـامهن تتمايل بحركة إيقاعية دلعـا ً يغطي التحايل ضمانا ً للحفاظ على التوازن المطلوب للوصول إلى البيت بمـاء الشرب النقي الطيب..

    عطشت يا عبد الله.. وأنـا مشتاق لميـّة العين.. لم أشرب في البيت إلا كأسـا ً منها..

    وبقفزة واحدة وعدة خطوات ودون الكثير من الكـلام خـُلقت في يد عبد الله طـاسة نحاسية بحجم الكفين المتكورتين:

    بقي أن نستوقف إحدى المــّلايات..

    بعد ثوان ٍ كانت طاسة الماء بيدي.. شربتها كـلها.. تمنيت أن أشربهـا على مهـل ٍ لتحقيق أكبر قدر من الاستمتاع ولكنني لم أكن بعد قد قرأت أكثر من نصف القصيدة فغببت الماء اللذيذ دفعة واحدة واندلق بعضه على صدري.. ضحك عبد الله مني لأنني لا أتقن الشرب من الطاسة.. كـان باردا ً أثار فيَّ رعشة ً.. الطقس يميل إلى البرودة والضوء إلى أفول..

    لا أعرف إن كنـا سنكمل القراءة .. مـا رأيك ؟

    رأيـي أن نذهب إلى البيت.. هناك سنشعل السـِراج ونكمل القراءة وسنشرب المـاء والشاي أيضـا ً وسأطعمك حصـرمـا ً من كرمنـا.

    لم أتردد في الموافقـة على اقتراح عبد الله، صديقي الأول الطيب الودود الذي كنت أكن له ولأهله كل محبة واحترام.. كان بيته بسيطـا ً للغاية وكنت أشعر في ترحاب أهله وتعابيرهم الصادقة دفئا ً لا أجده في بيوت أخرى.. كان الجو في بيت العم أبي جبور مـلائمـا ً جدَّا ً لإكمـال قراءة القصيدة..

    لم يفسح عبد الله المجـال لإضاعة الوقت بالترحيب بي والاطمئنان عن الأهل.. جلسنـا على المقعد الخشبي المغطي بطرَّاحة محشوة بالقماش العتيق وساندَين ظهرَينـا إلى الخلف حيث وُضع مسندان محشوان بالقش المضغوط.. كنـا قصيري القامة وكان المقعد عريضـا ً وكأنه مصنوع للعمالقة فقط مما ترك أرجلنـا متدليـة وبعيدة عن الأرض المفروشة بالتراب المرصوص والمغطـاة بحصيرة سميكة.

    استأنفت القراءة على ضوء خافت تراجعت معه سرعتي وازداد تلعثمي، مستعيدا ً أحاسيس التعايش مع فرج الله وهو يتعرض لأبشع أشكـال التعذيب بينمـا عادت لعبد الله حالة الخشوع المترافقة مع حقد على الجـلادين وكراهية لرؤسائهم:

    القـرن ُ يُــقال ُ العشــرونْ
    والعـام التاسـع ُ والخمسـونْ
    مطروح ٌ مشلول ُ الجسـم ِ
    أتلــوَّى فـي بـِركة دم ِّ
    بعظامي شيء ٌ
    بعــُروقـي
    بكيانـي يجري كالســُّم ِّ
    نادوني باسـْمي فـرج الله !!
    لكنـي أحيـا متنكــِّر ْ في عسـَّاف ْ ؟!
    عرفــوا اسمي ؟ ‍‍‍‍‍!
    ممـَّن ْ عرفــوه ؟
    هابيـل ُ يطعنـُه أخـوه !!
    مـِن قابيل ْ ؟ مـِن قابيـل ْ ؟
    كم ْ غيري في سجن المـزَّة ؟
    كم ْ هابيل ْ ؟ كم هابيل ْ ؟
    قلبي يتخطى الأسوار ْ
    ويغافـِل ُ كل َّ الحرِّاس ْ
    ليعانق َ كل َّ الشـُّرفاء ْ
    في حـِضن ِ دمشق ْ..
    < كيف ْ حالك ْ ياجــار ْ
    لو تعـرف ْ شـو صار ْ >
    هل عرفوا أنـِّي في المـز َّة ْ
    في قـَعر ِ الجـُب ّْ ؟
    هل كشفوا خنجر َ قابيـــل َ
    في ظـَهر الحـِزب ْ ؟
    ترقرق الدمع في عيوننا.. وأضفنـا إلى حقدنـا على المخابرات والجلادين حقدا ً على الخونة والأنانيين والمستسلمين الذين فضلوا لأنفسهم الأمن والسلامة ولو على حساب حياة رفاقهم وحريتهم.. كنـا قد سمعنـا من أشخاص أكبر سنـَّا ً أن أحد أعضاء القيادة ممن ائـْتـُمنوا على الكثير من أسرارهـا، كـان على علم بموعد قدوم فرج الله الحلو من بيروت إلى دمشق في مهمة حزبية خاصـة.. وقد تبين بأن هذا الشخص، ويدعى رفيق رضـا، هو الخائن والمتخاذل الذي أعطى المعلومات التي أوصلت رجال المخابرات بقيادة عبد الحميد السـرَّاج (مفرزة سامي جمعة وعبد الوهاب الخطيب) إلى فرج الله فاعتقلوه فور وصوله إلى البيت السري في دمشق واقتادوه إلى أحد أقبيتهم القذرة المعروفة في (حي الطلياني).

    رائحة الزبل تفوح.. تحملها النسائم التي تأتيني من الباب ومن الشباك الصغير المطل على أرض الدار.. زريبة البقرة قريبة جدا ً وقد عادت بها أم جبور من الكرم مرورا ً بالعين في الطرف الشرقي لملء ما تبقى من فراغ في معدتها بالماء.. هذه عادة كل أهل الضيعة.. من غير المعقول تأمين الماء للدواب في المنزل، كل الدواب تشرب وهي في طريق العودة، حتى تلك القادمة من الغرب ولو طال بها المسير. لم أكن أكره تلك الرائحة.. كانت الفتيات لا يطقـْنها أما الفتيان فكانوا أقل تحسسا ً.. الزبل هو روث البقر فقط ويمثل بالنسبة لأهل الضيعة مادة ذات قيمة يجب عدم إهمالها وهم لذلك يحتفظون بوسائل لالتقاطها من الطريق أو أماكن وقوف البقر وجمعها ومعالجتها بالدعك والمزج بفتات قصب القمح لصنع مادة تسمى (الجـلَّة) تستخدم كوقود.. رائحته الخاصة تميز قرى وادي النصارى وجبال العلويين.. عندما يصبح المزيج جاهزا ً لا بد من تجفيفه لطرد الماء الزائد مما يتطلب تعريضه لشمس النهار ويتم ذلك بلصق أقراصه التي تـُدور ُ كالرغيف السميك على الجدران ذات الحجارة المتنافرة السوداء المتراكبة بدون ملاط فوق بعضها البعض ضمانا ً لالتصاقها.

    أهل الضيعة سعداء وفخورون بحياتهم البسيطة طالما أنهم ليسوا بعيدين عن الحضارة والسياسة والعلم.. القرى هذه ترفد المدن السورية باستمرار بآلاف المحامين والمدرسين والضباط والأطباء وأساتذة الجامعات ورجال السياسة والأدباء والشعراء وكثيرون منهم سافروا أو أوفدوا على حساب الحكومة للتحصيل العلمي في بلدان أوروبية وأثبتوا جدارة ومهارة، وكانت تحظى بالقليل القليل من الاهتمام وتأمين متطلبات الحياة العصرية وتتميز هذه القرى بانخفاض نسبة الأمية بالمقارنة مع مناطق أخرى وباقي المحافظات.

    أغلب الظن أن نجيب سـرور، الذي كـان في بداية مرحلة جديدة في حياته الدراسية في موسكو، ترافقت حملات تنديده المستمر والعلني بالسياسة المصرية المعادية للشيوعيين في مصر وسوريا بحرص على تتبع أخبار المناضلين الملاحقين أو المعتقلين في سجون البلدين.. فكان يتلقف الأخبار المتسربة عن فرج الله في دمشق وعن شهدي عطية في مصر.. ولكن شحَّ المعلومـات وصعوبة نقلها واختلاط المؤكد منها بذاك المبني على التقدير والتخمين وغياب الحقيقة في دمشق التي نـُشرت تصريحات المسؤولين فيها على مستوى عالمي تشيع بأن مرافق الأمن العام عند الحدود السورية لم تسجل دخول شخص يـُدعى "فرج الله الحلو".. كـلُّ هذا، إضافة إلى أن أحـدا ً لم يكن يود أن يصـِّدق أن فرج الله قد مـات فور اعتقاله، جعل الكثيرين، بمن فيهم نجيب سرور، يعتقد بأن المناضل الكبير مـازال على قيد الحياة ولا بد من الاستمرار في تنظيم الحملات العالمية لإطلاق سراحه. الإعلان عن نهاية البطل أتى متأخرا ً سنة كـاملة ومن دون تفاصيل نظرا ً لاستمرار الأجهزة آنذاك في التستر على الواقعة.. لقد ظن نجيب لأول وهلة مثله مثل الآخرين بأن فرج تعرض في سجنه للاستجواب والتعذيب المتقطع لفترة لا تقل عن السنة وبأنه قضى في زنزانته في أوائل صيف 1960.

    عدَّلـْت ْ جلوسي على المقعد غير المريح وأنا آخذ رشفة ً من كأس الشاي الشديد الحلاوة الذي حضرته لنا أم جبور، تخيلت صعوبة غلي الماء في الإبريق المصنوع من الألمنيوم وقد عشعش الشحار الأسود في ثناياه فوق نار البيت أو عند إحدى الجارات، بينمـا نهض عبد الله يزيد من إنارة ضوء الكاز الشحيح برفعه فتيله المشتعل إلى الأعلى دون أن يعبأ للزيادة في حرق الكاز الذي يـُترجم إلى كلفة نقدية.. لم تكن في القرية حينهـا، كمـا هي الحال في أغلب القرى ومناطق الريف السوري، خدمة الطاقة الكهربائية.. كان هناك بيت واحد اعتمد على مولِّدة لإنارة بعض غرف منزله وقد نظر الأهالي إليهم بغيرة، بعضهم كان يقول (الله يتحنن !) دفعا ً للحسد السلبي، وهو بيت المختار الثري صاحب الأراضي والأملاك ووسائط النقل وغيرها من مصادر تراكم الثراء في قرية يعتمد معظم أهـاليها على عطاء حقولهم وبقراتهم المتواضع أو دخل الوظيفة المحدود..

    لم يكن اعتماد القرية على الإنارة بهذه الطريقة يزعجني.. كنت أحس عتمة الطرقات في المساء والليل جزءا ً لا يتجـزأ من متعة الصيف لما تضفيه الظلمة، التي تكسِّرهـا أشعة خافتة صادرة من نوافذ البيوت المتراشقة دون أي انتظام، من جو رومانسي محبب في لوحة ليلية امتزجت فيها العتمة بهدوء لا يعكرُّه إلا أصوات "زيز الحصايد" أو نباح كلب..

    كنا حريصـَين على البقاء لوحدنا لا بسبب الخوف، فالقرية آمنـة ومطمئنة تجـاه قضايا من هذا النوع.. فالقرية برمتها تعاطفت مع قضية فرج الله الحلو وبكت استشهاده وأعلنت جهارا ً سخطها على القتلة، وإنما رغبة منا بإنجاز ما نقوم به دون عرقلة.. تـابعت:

    القـرن ُ يُــقال ُ العشــرونْ
    والعـام ُ يُــقال ُ الستــُّونْ
    وأنا في الجب ْ
    عيناي َ على البـاب المغـْلق ْ
    أذنـاي َ على الصَّمْت الأخرس ْ
    من باب ِ فـُضول ْ
    ماذا في وسع الغستابو ؟
    خلـع ُ أظافر ْ ؟
    خلعـوها من أول ِّ يــوم ِ
    خرجت ْ باللحـم ِ وبالـدَّم ِّ
    لن تنبت َ لي بعـد ُ أظافـر ْ
    ماذا في وسع الغستابو
    فوق التعذيب ِ الوحشـي ّْْ
    فوق الكـي ّْ
    أو صب ِّ الماءِ المغلي ّْ
    فـوق َ البارد ِ
    والبارد ِ فـوق َ المغلي ّْ
    أسناني....!
    هل بقيت سـن ٌ في فكي؟ !
    عقب ُ السيجارة في اللحم ِ ؟
    حرقوا لحمي
    هل يـُغرس ُ عقب ٌ في العظم ِ ؟
    قطـع ُ لسـاني ؟
    هم أحـوج ُ مني للساني
    ماذا في وسع الغستابـو
    لمناضل َ غير الموت ْ
    الموت ُ لعيـن ٌ ورهيب ْ
    لكن..
    في جب ِّ التعذيـب ْ
    لا نخشـاه ْ...
    نتمنـــَّاه ْ
    فالموت لنا مثـل الواحـة ْ
    والموت لهـم... للغستابـو
    يعني الصمت ْ
    فالميـِّت ُ من دون لسـان ْ
    والحـي ُّ لـه ألف ُ لسان ْ
    قد يضعف ُ يومـا ً
    قد يركـع ْ
    يتخاذل ُ... يرضخ ُ... ينهار ْ
    ويبوح بتلـك الأسرار ْ
    سأموت ُ لكي يحيـا الشـَّعب ْ
    حملوني فوق النقــَّالة
    هبطوا سلـَّم ْ
    ساروا.. لفـُّوا
    دخلـوا غـُرفـة ْ
    داخـل َ غـرفة ْ.. داخـل َ غـرفة ْ
    وقفـوا.. حطـُّوا النقــَّالة ْ
    ماذا بجراب الغستابـو ؟
    الصورة السينمائية التي انتقلنا معها لنراقب ماذا سيحدث وإلى أين يقتاد الجلادون بطلنـا، الذي كان بالنسبة لأهله ورفاقه مسيحَ القرن العشرين الواقع في قبضة جنود بني إسرائيل المتوحشين الساديين، فاديهم الذي ما انفك يردد (سأموت ليحيا الشعب)، خففت للحظات من حالة الألم التي ألمت بنـا ونحن نرى فنون التعذيب فاستغلينا هذه الاستراحة لمسح الدموع عن عينينـا وأخذ جرعة من النفـَس، الذي كان محبوسا ً في صدرينا الصغيرين، ورشفة من الشاي..

    أروقة أبنية المخابرات مخيفة.. جدرانها مرتفعة وممراتها طويلة ومتشعبة وأقسامها كثيرة وطوابقها كذلك وغرابتها العمرانية تذكرك بسجون الرومان في قلاعهم.. في زواياها روائح القذارة والتآمر والتربص والتنصت والملاحقة وعلى أسطح جدرانها تتكسر أصداء قهقهات الضباط أو صراخهم في وجوه مرؤوسيهم ممزوجة مع أنين الخاضعين للتعذيب وتلاوات بعض الموقوفين في زنزانات هنا ومهاجع هناك معزولة عن النور والعالم الخارجي سوى من فتحة لا تزيد مساحتها عن سطح كفين مفتوحتين ولها شبك حديدي قابل للتحريك من الجهة الخارجية فقط لتمرير الماء والوجبات المخصصة للموقوفين.. أما من الداخل فالشروط الإنسانية والصحية للمكوث ساعة واحدة معدومة وأول ما يشعر به المرء هنا الذل والمهانة والاحتقار.. وأنت لن تستغرب إن رأيت في مكاتب الضباط أجهزة التلفزيون والراديو والمسجلات وطاولات النرد أو الشطرنج وورق اللعب.. فقد اعتاد هؤلاء أخذ أقساط من الراحة بين جولات الاستجواب والاستنطاق والتعذيب والترفيه عن نفسهم بعد تلك المعاناة.

    من هذا...؟
    هل تعرف من...؟
    وأشاروا للشخص الواقف ْ
    بصري من أيام ٍ يضعف ْ
    لكـنْ أعرف ْ
    أعرف ُ من !
    < لا ، لا أعرف >
    خــان َ النــَّذْل ْ
    قالَ: "وقـعـت ْ..
    قـد وقـَع َ الكـُل ْ "
    الخائن ُ هذا قابيـل ْ..
    كم غيري في سـِجن المـزَّة ؟
    كم هابيـل ْ ؟ كم هابيـل ْ ؟
    منذ متى أنت خائـن ْ
    ياخائـن ْ
    خذ مني هذه البصقـة ْ
    الخائن ُ يضحك ُ منـِّي
    يزعم ُ أنــِّي
    أحمق ْ
    ينصح ُ أن أستسـْلم ْ
    قال : " خسـِرت َ اللـُعبـة ْ "
    لا لم أخسـر ْ
    هذا أول ُ شوط ْ
    هل تتكلم ؟
    فضحكت ُ وجــُن َّ الغستابـو
    وأعادوا وصل َ التيـار ْ
    قالوا: " لا جدوى في الصمت ْ
    قـل ْ أو مـُت ْ..
    لا تخجل ْ قد قال الكـل ْ "
    تلك قديمـة ْ
    قد شاخت ْ حـِيـــَل ُ الغستابــو
    هاتوا الأخـــرى
    لن أتكلـَّم ْ... لن أتكلــَّم ْ
    وأعادوا وصل التيار ْ
    ياللصـَّدمة ْ
    قالوا: " الحكمة ْ
    أن تـُنقـِذ َ نفسـَك ْ..
    ماكـِنيـة ُ أعضـاء ِ اللـَّجنـة ؟
    من يعمل من أجل الجبهـة ؟
    أسماء ُ بضعة ِ أشخاص ٍ
    تلك الحـِكمة ْ "..
    عادت إلينا حالة الكآبة والحزن والتـألم لعذاب فرج الله وعـادت معها الصعوبة في القراءة التي حاولت تخفيفها برشف المزيد من الشاي الساخن.. أم جبور تجلس على طرَّاحة ممدودة فوق الحصير وتتكيء على مسند أكثر طراوة من الذي نستند عليه، ليس بعيدا ً عنا، بصمت ودون اكتراث بما نقرأه ربمـا تحاشيا ً لإظهار الفضول وعلى الأغلب بسبب التعب الذي نال من همتها في نهاية نهار طويل بدأ مع طلوع الضوء واستمر العمل المضني طيلة ساعاته. أبو جبور ما يزال في الساحة يتبادل مع رجال الحارة أطراف الحديث ويتناقلون أخبار الساعة.. الساحة العربية تغلي والصراع العربي الإسرائيلي ينبيء بتصاعد التوتر وجمال عبد الناصر (بطل الثورة والقومية !) يحرض الـ (تسعين مليون) ويعد بتحرير القدس بقيادته الحكيمة والشجاعة ومع رفاقه الأبطال أعضاء قيادة ثورة 23 تموز وبتعاونه مع أشقائه الرؤساء والحكام العرب.. كان شعراء القومية العربية يحضِّرون مساهماتـِهم وقصائدهم لـ (مسابقة) أغنية القدس التي ستغنيها أم كلثوم من القدس المحررة في أول يوم خميس بعد تحرير فلسطين..

    أخبار إذاعات العرب، وخاصة صوت العرب ومذيعها الشهير الذي أكد أن العرب سيلقون بالإسرائيليين في قاع البحر طعاما للسمك كان يحض الجماهير للتهيؤ للحرب المقدسة، لم تكن تلقى المزيد من الإقبال لدى أهالي حبنمرة وجيرانها من قرى (وادي النصارى) وخاصة أقربها إليها (مرمريتا) الذين كانوا حتى مطلع الستينيات متحزبين، مناصفة تقريبا،ً فعلا ً أو تأييدا ً للحزب الشيوعي السوري وللحزب السوري القومي.. وعلى الرغم من بعض حالات التوتر أو عدم الاتفاق على تفسير قضايا معينة أو تحديد المواقف من بعض الأحداث فإن الرجال والعائلات المؤيدة لكلا الحزبين كانوا على تعاطف مع بعضهم وكم التقى شباب من كلا الحزبين، بمن فيهم السيدة جولييت المير زوجة الشهيد أنطون سعادة، في سجن واحد.. بسطاء من رجال القرية، ومثلهم كثير من المثقفين روجوا لتصور طرحه أحد مؤيدي السوريين القوميين يقول بأن قاتلي فرج الله الحلو هم نفسهم الذين تواطأوا مع قاتلي زعيم الحزب أنطون سعادة.. الوثائق المتعلقة بالحدثين والتي أزيح الستار عنها مؤخرا ً تفيد بأن الشهيدين، برغم الفارق الزمني، وقعا تحت بطش نفس المفرزة ونفس الأشخاص الذين ورثهم الحكم الناصري من حقبة حسني الزعيم وبنفس أسلوبهم الوحشي والدنيء.. مذكرات البعض ممن عاصروا تلك الفترة، بمن فيهم مقربون من السراج وأقارب له، تستعرض تلك الفترة بالأسماء والوقائع والوثائق، إضافة إلى المسلسل التيلفزيوني السوري (حمام القيشاني) الذي عـُرض مؤخرا ً فروى عطش الشعب السوري للكثير من الحقائق التي كشف عنها هذا العمل الناجح والذي استعرض في عدة حلقات وبكثير من الشفافية تلك الفترة بالأسماء الصريحة والوقائع المسجلة والتي كان يكتنفها الغموض إلى وقت قريب.

    عبد الله، الذي يدرك بأن القصيدة ستقول في نهايتها بأن فرج مات، كان متلهفا ً لمعرفة رد فعل البطل الذي أصبح رمزا ً للصمود، على طلب الجلادين التعاون وذكر الأسماء التي يبحثون عن أصحابها.. لقد سمع الكثير مما تناقله الرجال عن خيانة رفيق رضا وإصرار فرج الله الحلو على الصمت والكتمان..

    لم يستطع إخفاء فضوله الذي اخترق بحر الدموع في عينيه ليقول لي: أكمل ْ !!

    وأُكمـــل:

    قلبي يتخطى الأسوار ْ
    ويغافـِل ُ كل َّ الحرَّاس ْ
    ليعانـق َ أعضاء َ اللجنـة ْ
    ويقبـِّل َ أنصار َ الجبهـة ْ
    لا تخشـَوا لن أتكلـَّم ْ
    لا لن أتكلـم ْ
    لنجـَرِّب ْ فيه المنفـاخ ْ
    حـِيـَل ُ الغستابـو الملعونة ْ
    أأنا أُنفـخ ُ كالبــالونة ْ ؟
    أأنا أُنفـخ ُ كالبالونة..
    نعم المنفـاخ.. صدقوا..
    نجيب يعرف الكثير عن قصص النازية والغستابو وأساليب التعذيب الجسدي الوحشية التي مورست مع المناضلين ضد هتلر والنازية والثوريين منهم خاصة.. وهو لذلك يذكرنا بيوليوس فوتشيك وأرنست تيلمان.. وهو هنا يفضح أجهزة الأمن الناصرية التي قضت على حياة شهدي عطية الشافعي منذ أيام وجلادي عبد الحميد السراج الذين قرروا إنهاء حياة فرج لإثارة الرعب في صفوف الشيوعيين (أعداء الوحدة !) الذين يمارسون نفس أشكال التعذيب النازية ويستخدمون جميع وسائلها القذرة دون رحمة.. أليسوا غستابو ناصر والسرَّاج إذن ؟!

    في حديثه عن كتابه (خرافة فرج الله الحلو) يصف الكاتب صلاح عيسى أشكال التعذيب الذي تعرض إليه فرج استنادا ً إلى وثائق سـُرِّبت إليه وكذلك إلى مذكرات الرائد سامي جمعة، جلاد السـَّراج الرئيسي والذي عرف بهمجيته، كما قال عنه الراحل مصباح الغفري: "الرجل ولد يحمل في يده سوطاً يُقنع به المعتقلين بأن السلطة، أي ســلطة، على صواب دائماً!"، وعنوان هذه المذكرات التي نشرت منذ ثلاثة أعوام (أوراق من دفتر الوطن).. كثيرون تحدثوا عن فنون التعذيب الجسدي وكشفوا النقاب عن أبطال الجرائم البشعة بحق سجناء الرأي أو العمل السياسي الوطني.. العدالة الحقــَّة تقتضي محاكمة هؤلاء حتى ولو كانوا على عتبات قبورهم لكي يكونوا عبرة لمن تسوِّل له نفسه القبيحة ممارسة أي نوع من أساليب التعذيب الجسدي بحق السجناء وهو مستنكر ومحرمٌ دوليا ً!!.

    في مقال للدكتور شاكر النابلسي تحمل العنوان (زلزال التاسع من نيسان أدخل العرب إلى رحاب الحداثة من أوسع أبوابها) نشر مؤخرا ً في الجريدة الإليكترونية (إيلاف) يرى الكاتب بأن مرحلة جديدة بدأت في العالم العربي بعد سقوط أعتى نظام ديكتاتوري عرفه الشرق في العصر الحديث، نظام الطاغية صدام حسين في العراق، ستخف معها وطأة القمع الفكري وأساليب التنكيل بسجناء الرأي وإعدامهم:

    " قبل التاسع من نيسان 2003 وقبل سقوط (صنم الوهم) الأكبر في بغداد، كانت الأنظمة العربية تعتقل، وتعذب، وتنفي، وتقتل أصحاب الرأي. فقد سجنت المئات من الصحافيين والمفكرين السياسيين العرب، وطردت من الأوطان المئات منهم إلى المهاجر في الشرق والغرب. وقتلت العشرات منهم: سيد قطب، شهدي عطية، فرج الله الحلو، سليم اللوزي، رياض طه، الإمام الصدر، المهدي بن بركة، محمود محمد طه، ناجي العلي، حسين مروة، كمال جنبلاط، مهدي عامل، وغيرهم كثيرون.

    بعد التاسع من نيسان 2003 وبعد سقوط (صنم الوهم) الأكبر في بغداد، ما زالت بعض هذه الأنظمة العربية تقوم بجرائمها نحو أصحاب الرأي والرأي الآخر، ولكن ليس بالجرأة والشراسة التي كانت تقوم بها قبل هذا التأريخ. أصبحت تخشى مآل “صنم الوهم” الأكبر، وأصبحت تخشى حملات جمعيات حقوق الإنسان، وأصبحت تخشى الإعلام الغربي والرأي العام الغربي اللذين بديا متربصين بالأنظمة العربية التي ما زالت تكسر الأقلام، وتحرق الكتب، وتقتل الكتّاب والمفكرين، وأصحاب الرأي والرأي الآخر."

    للتأكيد على صحة وجهة نظر الأستاذ الدكتور شاكر النابلسي أذكر بأن دار الكلمة اللبنانية نشرت في عام 1981 رواية الكاتب صنع الله إبراهيم (اللجنة) وقامت بحذف أسماء فرج الله الحلو وشهدي عطية وبن بركه وبن بيلا من الرواية خشية إثارة الجهات المعنية في بعض البلدان العربية. أما الآن فالمقالات والكتب التي تكشف الحقائق برمتها أمام الناس وبذكر صريح للأحداث وأسماء المجرمين والمتورطين وليس فقط الضحايا، أصبحت سيولاً جـارفة يستحيل معها على أجهزة الرقابة التدخل لمنعها أو الحد من قدرتها على الوصول إلى عقول المواطنين.

    رثاء فرج الله والإشادة بصموده البطولي ورفضه تقديم أية معلومة لأجهزة التحقيق والتنديد بالجريمة ومقترفيهـا استمر لسنوات بعد ذلك ومـازال اسم فرج الله حتى اليوم حيـا ً في نفوس المناضلين الوطنيين الشرفاء كرمـز ساطع على نكران الذات والتضحية بالنفس من أجـل قضايا الشعب والوطن..

    القـرن ُ يُــقال ُ العشــرونْ
    والعـام ُ يُــقال ُ الستــُّونْ
    ألألـم ُ يموج علـى شفتـِي ْ
    والنار جحيم ٌ في حلقي
    حلقي جف ّْ
    اشرب ْ.. اشرب ْ
    رفعـوا رأسي
    صبـُّوا قـَطرة ْ
    لكن لم يـُعطوني الأُخرى
    يا للبخل !
    نـِصفي مات ْ
    ويدب ُّ الموت ُ إلى نـِصفي
    لكن ْ
    قلبــي في صدري
    ما زال يــدق ّْ
    الشـرق ُ الشـــرق ْ
    بيروت ُ دمشق ْ
    كل ُّ العالــم ْ
    يا قلبي يا أعنـد َ قلب ْ
    ما زلت َ تـدق ّْ
    رفـَّت ْ نسـْمة ْ
    في أعماقــي
    غـِـنـْوة ْ.. غـِـنـْوة ْ
    تأتي من أحضان الأرز ْ
    قلبي في أحضان الأرز ْ
    أرزة ْ... أرزة ْ
    نغـْمـة ْ... نغـْمـة ْ
    لكن ما كلمات ُ الغِنوة؟ ما الكلمات ْ
    بطل ُ الثورة إحنا معاك ْ !!
    صمتا ً صمتا ً يا غستابـو
    الشعــــ
    قاطعني عبد الله الفتى الذكي والحساس والذي تأثر بأخيه الذي يكبره بحوالي عشر سنوات وقد كان حينها يدرس في ألمانيا الشرقية فعشق القراءة والثقافة وعرف الكثير من الأخبار والمعلومات. قـال:

    مـاذا ؟ بطـل الثورة.. يعني عبد الناصر !! عيد يا مفيد.. بالله عيد

    كانت كراهية أهل القرية والقرى المجاورة لجمال عبد الناصر وحكمه لا تقل عن كراهيتهم للاستعمار الفرنسي أو إسرائيل.. لم يكن من السهل على أحد تذكر عبد الناصر بحسنة واحدة.. الأهالي عانوا القمع الذي لم يشهدوا مثله أيام سلطة الانتداب.

    أعـدت:

    لكن ما كلمات ُ الغِنوة؟ ما الكلمات ْ
    بطل ُ الثورة إحنا معاك ْ !!
    يقاطعني عبد الله ثانية ويطلق مسبـَّة ً لم أكن قد عهدتـُه يقول مثلهـا.. فأنا أعرف كم هو مهذب ومؤدب.. أدركت أنه اغتاظ إذ تذكر مـا كان أساتذة المدرسة يجبروننا على ترديده ونحن في المرحلة الابتدائية فرضـا ً لإشاعة حبًّ كاذب للريـِّس..

    لم أعـلـِّقْ بل تـابعت على الفور:

    صمتا ً صمتا ً يا غستابـو
    الشعب ُ هو الثورة ْ
    الشعب ُ هو الثورة ْ
    لكن ما كلمات ُ الغـِنوة
    أنا لا أذكر ْ
    أسمع ُ صوتا ً وزعيقا ً في الظـُّلمة ْ
    حارس ْ ، هايل هتلر ْ، هايل هتلر ْ
    أسمع ُ صوت َ المزلاج ْ
    تيمورلنـك ْ
    يا زكريـَّا
    يا سـرَّاج ْ
    أهلا ً أهلا ً
    ماذا في وسع الغستابـو
    لمناضل َ غير الموت ْ
    الآن َ تذكرت ُ الكلمات ْ:
    < نحنا ودياب الغابـاتْ ربينـا
    بالليل الدَّاجي العتماتْ مشينــا
    للغاب ليالينا.. للريــح غنانينا
    هيك.. هيك.. نحنا هيك ربينا >
    هكذا كان فرج الله الحلو عاشقا ً لوطنه ولشعبه يكرس نفسه ووقته للنضال من أجل حياة سعيدة حرة كريمة ومن أجل وطن عزيز يشمخ أرزه وتصدح في سمائه أهازيج الفرح وأناشيد الأبطال للحب يطيب لهم اختراق العتمات الداجية.. ومن أجل عالم يسوده العدل وتظلله الحرية وابتسامات الأطفال.. رومانسية تتلون بها روايات النضال العنيد لصناديد رافقوا الصخر والغابات وديابها والليل والدروب المليئة بالأشواك.. بلـَوا الأيام مـُرَّهـا وحلوَهـا.. فكانوا المنارة التي يسير بنورها شباب أجيال تكـنُّ لهم العرفان..

    لا أعتقد أن نجيب سرور التقى فرج شخصيـا ً.. أغلب الظن أن الشهيد كان بالنسبة إليه ضحية الأنانية الفكرية لشلة الحكم القابع حينها فوق صدور شعبين عزيزين.. وربمـا كانت جنسية فرج اللبنانية عاملا ً إضافيا ً زاد من حقد نجيب على المخابرات الناصرية.. فالرجل يتمتع بحصانة يضمنها الدستور اللبناني في بيئة من الحرية الفردية ميزت الحكومة اللبنانية عن سواها من الحكومات المجاورة في ذلك الوقت، وقد كان بإمكانه الإحجام عن التردد إلى دمشق الواقعة تحت إرهاب عبد الحميد السـَّراج، الذي كان على مستوى من القذارة كافية لأن يتنكر لأي عرف إنساني أو دبلوماسي. وهذه الرواية المذهلة يصر الكاتب صلاح عيسى، محقـاً، على تسميتها (خرافة) ليس تشابها ً مع مصطلح القيادة السورية السائد آنذاك وإنما حفاظا ً على حقها بالتميز عن سائر روايات البطش وجرائم الإعدام المعروفة في أقبية التعذيب التي يرعاها العديد من الأنظمة الديكتاتورية، فالقصة تكاد لهولهـا لا تصدق..

    وكتمان الرواية وتفاصيلها لفترة طويلة من الزمن جعل البعض، وربما لأسباب إضافية تتعلق بالسياسة الدولية والتوازنات على الساحة العربية اقتضت إجراء إعادة اعتبار لجمال عبد الناصر أظهرته بطلا ً قوميـا ً وحليفـا ً للاتحاد السوفييتي والبلدان الاشتراكية ولقوى التحرر العربية والعالمية في نضالها ضد الاستعمار وإسرائيل، يعتقدون بأن عبد الناصر شخصيا لا يتحمل مسؤولية هدر دماء المناضلين وقمع المخالفين له بآرائهم.. في ردِّه مؤخرا ً على أحد هؤلاء وهو يتحدث عن مقتل المناضل الشيوعي المصري شهدي عطية الشافعي تحت التعذيب في السجن عام 1960 يستهجن الدكتور مصباح غيبة (براءة) عبد الناصر التي استنتجها الكاتب حسين عودات من حقيقة أمر الرئيس بـفتح تحقيق قضائي ماطلت بشأنه الأجهزة !! ويتساءل الدكتور غيبة:

    " ألم يكن عبد الناصر على علم بتعذيب المعتقلين السياسيين؟

    ألم يكن عبد الناصر يتوقع أن هذا التعذيب سيؤدي إلى مقتل بعض المعذبين؟

    هل كان المناضل الشهيد شهدي عطية هو الوحيد بين المناضلين الذي قتل تحت التعذيب؟

    ألم يصله خبر مقتل المناضل الشيوعي الشهيد فرج الله الحلو تحت التعذيب وإذابة جثته بالأحماض؟ أو لم يبلغه مقتل العديد من السجناء السياسيين تحت التعذيب؟

    ما دام عبد الناصر استاء استياءً شديداً من مقتل شهدي عطية تحت التعذيب، فلماذا لم يأمر بإيقاف تعذيب المعتقلين السياسيين بعد ذلك؟

    وأخيراً هل صحيح أن الأجهزة ماطلت بإنهاء التحقيق والمحاكمة رغم أوامر الرئيس عبد الناصر المشددة بسرعة إنهاء هذا التحقيق وهذه المحاكمة؟ هل كانت هذه الأجهزة تجرؤ فعلاً على عدم تلبية أوامر الرئيس أو التلكؤ في تنفيذها، خاصة إذا كانت الأوامر مشددة؟ "

    ويضيف: "من خلال هذه الأسئلة تبرز الحقيقة: لا يمكن تبرئة الرئيس عبد الناصر من المسؤولية عن مقتل المناضلين شهدي عطية وفرج الله الحلو والمناضلين الآخرين الذين قضوا تحت التعذيب. فقد كان الحكم حكمه والسلطة في قبضته والأجهزة أجهزته والأوامر أوامره. إن من حق الشعوب على مدوني تاريخها سرد الحقائق كما جرت "

    أنت محق يـا دكتور مصباح وإلا:

    " وإذا كـان عذاب الموتى أصبح سلعة ْ
    أو أحجية ً أو أيقونة ْ
    فعلى العصر اللعنة والطوفان قريب !"
    كمـا قال شاعرنا الكبير نجيب سرور !!

    صوت:

    مات بالأمس فرج ْ
    أيها العمال ُ في كل مكان ْ
    منذ أن كانوا وكنـَّا
    منذ كان العبد ُ يعمل ْ
    ثم لا يـأكل ُ
    والسيـُّد ُ يـأكل ْ
    منذ كان القـن ُّ يعمل ْ
    ثم لا يـأكل ُ
    والمالك يـأكل ْ
    منذ صارت ْ قوة ُ العامل ِ سـِلعة ْ
    تضمن ُ الرِّبـحَ لربِّ الرأسـِمال ْ
    قد أرادوها ابادة ْ
    حسنا ً.. فليـأخذوها لا هوادة ْ
    أيها العمال في كل مكان ْ
    أيها العمال كونوا يقظين ْ
    صوت:

    مات من قبلي وقبلـِك ْ
    مات من أجلي وأجلـِك ْ
    مات من أجل الملايين التي حولي وحولـَك ْ
    مات ْ.. مات َ فرج الله
    صوت :

    لا تقـل ْ مات َ فرج ْ
    هو في قلبي وقلبـِك ْ
    هو في كل الملايين التي حولي وحولـَك ْ
    في المصانع ْ
    والمـزارع ْ
    والشـوارع ْ
    في الملايين التي تزحف ْ
    وتزحف ْ
    قــُدُمـا ً لا تتوقف ْ
    هي كالأمواج صف ٌ بعد صف ّْ
    كلما ماتت ْ على الصخرة موجة ْ
    عاجلتـْها ألف ُ موجة ْ
    هكذا البحر عنيد ْ
    أينما كان غني ٌّ بالرصيد ْ
    بألـــــوف ٍ كفــرج ْ
    لا تقل ْ مات َ فــرج ْ
    صوت :

    قالها فوتشيك قبلـَك ْ :
    " نحن حبـَّات ُ البذار ْ
    نحن لا ننمو جميعا ً عندما يأتي الربيع ْ
    بعضـُنا يهلك ُ من هول ِ الصقيع ْ
    وتدوس البعض َ منا الأحذية ْ
    ويموت البعض ُ منا في ظلام الأقــْبية ْ
    غير أنـَّا كلــَّنا لسنا نموت ْ
    نحن حبات ُ البـِذار ْ
    نحن يا هتلر َ... يا فرعون َ نعلم ْ
    أن أطلال َ القبور ْ
    ستـُغطى ذات يوم ٍ بالسنابـل ْ
    وسينسى الناس أحزان َ القرون ْ
    وسينسون السلاسل َ والمقاصل ْ
    والمنافي والسجون ْ
    وسنكسو الأرض َ يوما ً بالزُّهور ْ
    وستأسو الفرحة ُ الكبرى جراحا ً في الصُّدور ْ
    عندما يأتي الربيع ْ
    نحن إن نحيا فمن أجل الربيـع ْ
    حكمة ُ التاريخ أن يغتال َ هتلر ْ
    ألف َ حبـَّة ْ
    ألف َ شهـدي وفـرج ْ
    ألف َ فـوتشيــك ْ
    ألف تيلمــان َ وأكثر ْ
    قبل أن يسقـُط َ هتلر ْ
    غير أن الزرع يوما ً سيقول ْ :
    باسـْم ِ حبـَّات ِ البذار ْ
    باسـْم ِ كل ِّ الشـُّهداء ْ
    يضحك ُ التاريخ ُ من هـتلر ْ
    ويضحك ُ ثم يصمت ْ
    عـاش للشعب فـرج ْ
    مات للشعـب فـرج ْ
    مات فليحيـا فــرج ْ
    لا تقـل ْ مات فـرج ْ
    مات يسوع حصرايل.. فادي دمشق وبيروت وعشاق الحرية ورفاق الطريق.. مات على خشبة صليب إسبارطي حملت جسده الطري الطاهر اتحد لتشكيلها أرز لبنان بسنديان سوريا وسقتهـا دموع مصر.. وخط العمال عليها بدم الشهيد "نحن حبات البذار".. مات من أجل الملايين التي حولنا.. من أجل الربيع المنتظر.. من أجل السنابل والزهور وسعادة الأطفال وعز الأوطان.. مات أحد أبطال الثورة ولكن الثورة كالبحر العنيد إن تكسرت موجة ٌ منه عند الصخر تزداد أمواجه التالية قوة وصلابة وعنفوانـا ً.

    بكت دمشق بعد سنة من الأرق جففت الدمع في مُـقـَلها ترقبـا ً وأملا ً.. ذبلت زهور الغوطتين باكرا ً في ذاك الربيع الداكن.. لم يثمر المشمش.. أجهضت أشجاره تعبيرا ً عن الاستنكار لجريمة حكومتها القبيحة وتساقط الياسمين وزهر النارنج في البيوت الدمشقية التي بصق أهلها على زبانية النظام القمعي وأعلنوا استمرارهم بتحدي السـراج وسجونه وصرخوا "كلنـا فرج.. مات فليحيا فرج !!".. أقام الشعب السوري احتفال انتصار لا عزاء انكسار لأنه على يقين بأن التاريخ سيضحك من السـَّراج الجبان كما ضحك العالم من هتلر..

    وبكت بيروت لخسارتها وللخنجر المغروس في خاصرتها وهي مدينة النور وعاصمة بلد الحرية والجمال والسعادة والملاذ الآمن لكل من ضاقت به سبل الحرية وطاردته عصابات البغي.. بكى لبنان، حكومة وشعبا ً وقوى وطنية، فرج الله الحلو الذي كان أحد رموزها وقدم المواطنون اللبنانيون العزاء الصادق لشيوعيي لبنان وذوي الشهيد وكلهم حقد على الديكتاتورية وأجهزتها وصلابة في التمسك ببيئة الحرية الفكرية والسياسية في وطنهم العزيز.. وأصدرت الأحزاب السياسية اللبنانية بيانات تندد فيها بالجريمة الصارخة ويـُذكر من بينها بيان الحزب السوري القومي الذي استنكر بشدة سياسة القمع والبطش والتنكيل بالوطنيين الشرفاء وذكـَّر الشعب السوري بدم الشهيد المسفوك قبل عشرة أعوام بأيادي متواطئين من كلا البلدين.. فالجميع يعرف أن عبد الحميد السراج وزمرته بقيادة حسني الزعيم خدعت، عبر وسطاء مشبوهين، أنطون سعادة الملاحق والمطلوب من قبل حكومة رياض الصلح في لبنان واستدرجته مطمئنة إياه بمنحه حق اللجوء السياسي، المشروع الذي كان مقبولا ً بالنسبة إليه نظرا ً لما كان يتمتع به من شعبية واسعة ومحبة وتأييد في كافة مناطق سوريا وبدخوله الأراضي السورية اعتقل فورا ً وسـُلـِّم خلال ساعات لأجهزة الصلح وأعدم في نفس اليوم.. يا للسفـالة.. يـا للسفلة !!

    وبكى أرز لبنان الشهيد فرج دون أن ينحني.. لقد بلا هذا الأرز حقبا ً طويلة في التاريخ مليئة بالمتغطرسين وسيرهم وبالأحداث المؤلمة والنكبات ولم ينحن ِ.. وها هو يشمخ كبرياء ً وعزة برجاله الأمميين.. بكى الأرز شهيد لبنان وعطـَّر بشذاه ملحمة الثورة والبطولة التي لن تـُنسى..

    وبكت القاهرة حزنـا ً وخجـلا ً.. وكتمت أنفاسها تحت ثقل الكابوس الناصري الذي امتهن بمهارة سياسة تغطية أساليب البطش والقمع والتنكيل وقتل الشرفاء بالشعارات المزيفة والإشاعات الكاذبة والبيانات المخادعة.

    وبكى نجيب سرور، الشيوعي والمناضل الأممي العنيد وأتحف مناضلي العالم بالقداس الجنائزي مرثية ً وطِيبـا ً وإكليلا ً من فخر وكبرياء ويدين فولاذيتين يمناهما قبضة مرفوعة إلى أعالي المجد وفي اليسرى كمشةٌ من حبات البــذار النقية.

    وحزن أحرار العالم واستنكروا الجريمة البشعة ونددوا بفاعليها ووجهوا أصابع الاتهام إلى الأجهزة المتبنية لأعمال القمع في سوريا ومصر وطالبوا، شخصيات ٍ مرموقة وهيئات ٍ، بإجراء التحقيق ومحاكمة المجرمين.. وناشدوا أحرار العالم للوقوف إلى جانبهم وحصل هذا بالفعل ولكن الإدانة الدولية لتلك الجريمة والمطالبة بالتوقف عن التنكيل بالشرفاء والوطنيين لم تـُجـْـد نفعا ً لأن حكومتي البلدين في ذاك الوقت كانتا على درجة من الوقاحة والتخلف جعلتهما لا تكترثان أبدا ً بالمجتمع الدولي أو بأصوات العالم..

    أما أهل فرج وذووه فقد ذابت مشاعر الحزن لفقدان الأخ والابن والزوج والأب بمشاعر الشيوعيين وأصدقائهم في أية بقعة أثار موته حزنا ً فيها.. بينما وجدت زوجة البطل الراحل (فيرجيني الحلو) نفسها أمام تحديات الحياة الشخصية التي لا بد من الاستمرار بيومياتها حفاظا ً على اللبـَنة الاجتماعية التي أسستها معه وهما يحلمان بمجتمع العدالة والاشتراكية فاستأنفت عملها موفرة لبناتها الفتيـَّات الثلاثة كل مقومات الحياة السليمة ما ضمن لهن التحصيل العلمي والمكانة العملية اللائقة والمنتجة والمرتبطة بحياة الناس وكفاحهم على خطى الشهيد متخطين الصعاب وانتكاسات الوطن قبل الحرب الأهلية وخلالها، وقد خضعوا لابتزاز الرجعيين والحاقدين وعملياتهم المشينة مثل احتلال منزلهم وتفجير النصب التذكاري الكبير (فرج الله والعمال) الذي قدمه الاتحاد السوفييتي للشيوعيين اللبنانيين بمناسبة الذكرى الخمسين لتأسيس حزبهم وكان في ساحة بلدته (حصرايل).

    وأما الطغمة الحاكمة التي استعجلت الخريف الباهت فسرعان ما ازدادت عزلتها ولم تكن لها في الأصل أية قاعدة جماهيرية فيما عدا حفنة من المنتفعين والحاقدين وقصيري النظر والمخدوعين بالشعارات القومية والوعود الناصرية الكاذبة.. وكان جنود ومرتزقـة أجهزة الأمن يسـيِّرون أطفاال وفتيان المدارس قسرا ً في مـُسيـَّرات باردة ادِّعاءً أمــام العالم بجماهيرية الوحدة ومحبة الشارع السوري لـ (بطل الثورة !!!) الذي أرادوا اختزال الوطنية والإخلاص بشخصه.

    اغرورقت عينانا بالدموع عند هذا المشهد الجنائزي المؤثر.. وضاق صدرانا من الحسرة والحزن على بطل ثورة العمال والفلاحين والفقراء وتشنجت عضلات وجهينا الصغيرين وازداد في قلبينا الطرق السريع تاركا ً عند كلينا حالة من الاضطراب.. ربما مازلنا صغيريـَن لنتمكن من الضغط على نفسينا وتحمل هذا القدر الكبير من إجهاد الذات.. وافترقنا من دون تعليق .

    السخط الشديد على مجرمي النظام القمعي وحملات التضـامن مع المناضلين السوريين، من شيوعيين وسوريين قوميين وأصدقائهم وحتى جيرانهم، الذين اكتظت بهم سجون دمشق (المزة والقلعة والكركونات وحتى المخافر) والمدن السورية الأخرى إبان الوحدة المصطنعة الفاشلة مع مصر عبرت عنه، إضافة إلى صفحات الجرائد السياسية العربية والعالمية، أعمـال أدبية للعديد من الكتاب والشعراء في البلدان العربية وفي الخارج جـاءت قصيدة الشاعر والفنان الكبير نجيب سرور ملحمة شعرية متوجة لهـا.

    القصيدة ليست عادية ولا هي كقصائد الرثاء التقليدية.. هي بيان إنساني بانورامي شامل يفضح القمع والإرهاب وأجهزتهما التي مارست كافة أشكال التعذيب الجسدي في تلك الحقبة ويطابقها مع أفظع جرائم النازية والفاشية التي أدانها التاريخ.. وهي تنديد صارخ بسياسة التنكيل بسجناء الرأي ومعارضي الحكومة الرجعية من قبل طغمة من ذوي السيرة السيئة والمواصفات اللاإنسانية اعتمدت على (إخلاصهم لها) قيادة (بطل الثورة) وهي أيضا ً سجل وثائقي داعم لذمة التاريخ بأن أحد أبطال العمل الوطني والأممي المناضلين في سبيل الحرية والعدالة والتقدم صمد كما السنديانة بوجه الريح الغاضبة محطما ً جبروت آلة القمع الوحشي ومسطرا ً صفحة ناصعة من الاستبسال والموت قربانا ً من أجل أن يحيا الآخرون..

    هي أيقونة ٌ لمتاحف النضال الإنساني وترنيمة ُ عبادة للوطن والشعب وأغنية ٌ للحب الصادق ولحنٌ لعهد الوفاء.. وهي قطعة من جسد نجيب سـرور الذي كان مع فرج في جوف الزنزانة وقمرات التعذيب كما كان مع شهدي في القاهرة من قبل.. رافقه باسمنا.. مندوبا ً عن ألوف ألوف العمال في المزارع والمصانع والمدارس..حاول تلقي الركلات وصدمات التيار عنه والمنفاخ أيضا ً وحادَثَه باسم أعضاء اللجنة وباسم الملايين خارج السجن وقد كانوا يهيئون طقوس المجد للاحتفال بعرس البطل..

    القصيدة شمعة لا يأفل نورها أضاءها نجيب (أبو شهدي) وحملها في دمشق وبيروت وموسكو وبودابست والقاهرة وحملها وسيحملها معه كل مناضلي الأرض وعبر الأيام ليقولوا جيلا ً بعد جيل: نحن حبات البذار..

    كـان نجيب سرور أيام تلك الأحداث خارج بلده مصر، معبوده الوحيد، وكان في أوج حقده على الصهيونية والاستعمار ومخططاتهم للسيطرة على البلدان العربية عبر كافة منافذها، والحكومات ضمنـا ً. كـان نجيب يرى مـا لا يراه سواه.. فهو الفنـان والشاعر ذو العيون الكبيرة القادرة على اختراق جدران التكتكم ودهاليز التآمر على الوطن.. وهو المنـاضل العنيد الذي يأبى أن يعيش لحظات سعادة وهو يرى الحيف والضيم والذل يحيط بالمظلومين والمستغـَـلين من كل جانب.. وهو القــائل الجريء الذي يكره الخوف والصمت كمـا يكره أعداء الإنسانية.. ولأن تجـارب نجيب سرور مع أجهزة الأمن المصرية طويلة ومضنية ومتنوعة فقـد جـاءت قصيدتـه مكمـلة لملفه الساخن الذي دفـع شاعرنـا وفنـاننا ثمنـه غـاليا ً خلال حياته الدراسية والعملية وحتى غيابه القسري المبكر..

    فمن المعروف أنه في مواجهة حملات التنديد الدولية بجريمة اغتيال فرج الله الحلـو والتشهير بأجهزة القمع السورية الموجهة لدرجة السيطرة التامة من قبل الحكومة المصرية آنذاك هبـَّت صحف الأخيرة الرسمية في كلا البلدين بإيعـاذ من رجـال المخابرات تكيل الشتائم لحملات اليساريين العرب غير الموافقة على خطوة الوحدة بين القطرين واصفة إياهم بـ "العمالة وباختلاق شخصية مجهولة وقصة مقتل ِ صاحبها التي لا أساس لها من الصحة.." !!

    أسلوب الكذب وإخفاء الحقائق وترويع الناس وإرهابهم تحت ذريعة حماية الوطن من (الأعداء) تكرر مع نجيب سرور في مناسبات عديدة.. وهو يعود إلى مـا قبل قتل فرج الله وقصيدة الغستابو. وفي حين أن هذه الجريمة قـُدِّر لها الكشفُ الجزئي ضمن عملية التحقيق في جرائم فترة الوحدة فور سقوطهـا من قبل سلطة الانفصال فإن جرائم التنكيــل بالفنان نجيب سرور منذ فترة دراسته في موسكو وحتى وفاته في مصر مـازالت بحاجة إلى كشف النقاب.

    لقد غدا إسم فرج الله رمـزا ً لمناضلي سوريا ولبنـان والعالم وصمودهم ووطنيتهم الصادقة.. صفحـات الجرائد الوطنية وصحف الأحزاب التقدمية واليسارية والشيوعية في البلدان العربية وبلدان دول عدم الإنحياز وكذلك في البلدان الأوروبية من كلا المعسكرين فاضت بصور فرج الله وأحاديث عنه منذ اختفـائه وحتى إعلان استشهاده.. ومازالت حتى الآن محاولات أصحاب الضمائر الحية تسعى لمعرفة المزيد كي تكمل ما بدأه نجيب سـرور منذ أربعة وأربعين عامـا ً. وفي نفس الوقت كانت قصة فرج سـِفرا ً للتربية والأخلاق النضالية في بيوت الشيوعيين نمى مع ترنيمه الأطفال وشحنت بآياته نفوس الشباب.. وكم تلونت قصص وأناشيد وبيانات الفرق الحزبية والهيئات ووثائق المؤتمرات باسم فرج الله الحلو وحكاية صموده وتحديه..

    بعد عشر سنوات من رحيل فرج يتعرف أخي الشاب مسوح مسوح، الذي أعطاني الجريدة التي قرأت منها قصيدة نجيب سـرور لعبد الله، وهو في الثالثة والعشرين من عمره على بشرى ابنة فرج الله الحلو وكانا يدرسان الطب في الإتحاد السوفييتي.. يسأل الفتى الطري العود بدهشة وخجل فتجيبه بفخر وتواضع:

    أيوه أنا بنت الشهيد

    ولم يتطلب الأمر الكثير من الجهد حتى بدأت قصة حب رائعة تعثرت قليلا ً وكادت أن تنتهي بالفشل بسبب ملابسات تتعلق بالموقف السطحي من سوريا التي فيها عـُذب وقـُتل فرج وكذلك بسبب التدخل السلبي لبعض القياديين، وكانت العلاقات بين الحزبين في حينها ليست على ما يرام. أجـل فقد كان مشروع الزواج مهدداً بالإلغاء لولا الروح النضالية العالية المو######## عن الأهل والتي تكلل الحب بسببها بالنجاح مؤكدا ً صدق المشاعر الأممية التي مات من أجلها فرج والتي أنبتت السنابل والزهور.. الحب الآن في عقده الرابع والأيقونة التي رسمها نجيب ما زالت تملأ أيامهم طالما تذكروا سيرة البطل.. أما السوريون الذين آلمهم موت فرج فقد جاء زواج ابنته لأحد أبنائهم، قبل أن يخفف توالي الأحداث من هول الكارثة، نصرا ً يشفي الصدور ويثلج القلوب ويعيد للمشاعر والمواقف الوطنية والأممية اعتبارها لما يحمله من معان إنسانية وكفاحية تكرست معها أخلاقية فرج ورفاقه ورؤيا نجيب سرور..

    (عدل بواسطة Amjed on 10-28-2006, 10:27 AM)

                  

العنوان الكاتب Date
نجيب سرور يبكي فرج الله الحلو و نحن نبكي كليهما و اخرون Amjed10-26-06, 06:39 AM
  Re: نجيب سرور يبكي فرج الله الحلو و نحن نبكي كليهما و اخرون Amjed10-26-06, 10:18 PM
  Re: نجيب سرور يبكي فرج الله الحلو و نحن نبكي كليهما و اخرون Amjed10-27-06, 11:20 PM
  Re: نجيب سرور يبكي فرج الله الحلو و نحن نبكي كليهما و اخرون Amjed10-28-06, 10:08 AM
  Re: نجيب سرور يبكي فرج الله الحلو و نحن نبكي كليهما و اخرون Amjed10-29-06, 11:21 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de