أنا وأخري الملك - رواية جديدة

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-07-2024, 04:50 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة عماد البليك(emadblake)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
01-02-2004, 06:21 AM

emadblake
<aemadblake
تاريخ التسجيل: 05-26-2003
مجموع المشاركات: 791

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
أنا وأخري الملك - رواية جديدة


    أنا وأخري الملك

    إلى ثريا.. ومآب

    (1)

    في طريقنا إلى الخرطوم من بربر عبر الصحراء الموازية للنهر، توقفنا عند جبل البركل، قرب أهرامات محاطة بأسوار شائكة، أشار لي أخي الأكبر مرجان قائلا:"هذا موطن أجدادك القدماء لقد صنعوا حضارتهم هنا". جلست على الرمال الزاحفة أرسم أشكالا لم افهم ماذا تعني بالضبط، دائما ما أعشق الرسم، أرسم أشكالا لا أفهم إذا كان لها معنى أم لا، وأرسم في كل شيء يتوفر أمامي الورق – الحائط – سبورة الفصل – على ضفة النهر، في هذه المرة رسمت على الرمال، وفي هذه المرة اكتشفت أن رسمي له معنى كبير جدا.
    في الواقع كان أخي هو الذي اكتشف المعنى، سألني : هل تعرف مغزى ما رسمته، هززت رأسي أقول لا، فحدثني باستغراب: " أنت لا ترسم أنت تكتب لغة أجدادك الذين يعيشون الآن وراء هذه الأهرامات، تكتب اللغة التي اندثرت منذ الآلاف السنوات، ومعها اندثرت الحياة هنا في هذا المكان، نعم كانت هنا حياة لها قيمة، وكان الإنسان يفكر في قدره ومصيره مثلما نفكر نحن اليوم". لم يقل لي مرجان من أين تعلمت كتابة لغة أجدادي التي لم تعد معروفة الآن، إلا في كليات الآثار، في جامعات محدودة في العالم.
    نعم لم أكن أعرف معنى ما أرسمه، أو اشخبطه، وفي حياتنا نقوم بأشياء كثيرة لا ندرك إن كان لها مغزى أو أنها ستكون مفيدة ذات يوم، لكننا لو تأملنا فيها بيقظة أدركنا أن هناك فحوى ما. في ذلك اليوم تعلمت من مرجان أن العبثية شيء لا وجود له في العالم، وعلمني أن كل ما يفعله الإنسان له فائدة وتنضوي ورائه رسالة ما، لكن الإنسان قد يجهل ذلك، قال لي:"هذا طبيعي جدا إلى أن يزيل المرء الغشاوة عن عينيه وعن قلبه ويدرك سر هذا الوجود".
    ما قاله مرجان سيظل يشغلني لسنوات كثيرة من عمري، سأتجاوز طفولتي وكأنني لم اعبر بها، وسأنسى أنني كنت أكتب لغة أجدادي المندثرة، أكتب كما كان يكتب الملك "أركاماني"، الفرق بيني وبينه أن الملك كان يعرف معنى ما يكتب وأنا أجهل. وفعلا، وبعد مرور السنوات، كان ذلك اليوم قد مضى وكأنه حلم واحد من بين آلاف الأحلام الجميلة التي عبرت بها في مناماتي منذ طفولتي وإلى الآن. لم يكن باستطاعتي أن أحدد إن كان ما حدث واقعا أم خيال أم حلم جميل لا غير.
    مات مرجان قبل عشرين عاما، وكان الوحيد الذي باستطاعته أن يقول لي: "لا ما حدث كان واقعا يا محمد". تذكرت كل ذلك وطافت بي الخواطر وأنا وحيد، أقود سيارتي ماركة الجيب، أشق بها الطريق البري الذي قام حديثا، عابراً بموطن أجدادي، في طريقي إلى مسقط رأسي، كانت في الرأس هموم كثيرة، لكن منظر الأهرامات التي غلفتها الرمال من كل الجهات، سحب الهموم جانبا وأرجعني إلى هناك، إلى ذلك الزمن البعيد.
    تذكرت أخي مرجان وعودته لنا في البيت آخر العام بعد أن أكمل دراسته الجامعية، كان يوما من الفرح الكبير، فيه اكتظ بيتنا بالجيران، وزغردت النساء، وبدأ مرجان سعيدا بتخرجه.
    توقفت بالسيارة عند الأهرامات، وبدأت في البكاء على أخي الذي مضى، رأيته أمامي يشبه أركاماني بشكله البهي وعينيه الوخاذتين ونوره الذي يسطع كالشمس عند معبد "أبادماك"، وبدأ لي يوم عرس أخي يوماً لا يُمسح عن ذاكرتي، لم يكن ذلك الحدث قابلاً للشك، أو كان حلماً، كان واقعاً مائة بالمائة.
    خرج مرجان مرتديا زي العريس، ضاحكا، وإلى جواره مريم تجر ثوبها الفضفاض وتقبل في رفيق دربها الذي لن يعيش طويلا، كان الجميع يضحكون فرحاً، إلا أمي فقد مزجت الضحك بالبكاء، وهي تتمنى لو أن أبي كان حياً ليرى فرح أبنه البكر. بعد مقاومة عميقة للحزن، تغلب الفرح على البكاء، وعزت أمي نفسها بأن هذا هو حال الدنيا، لا تتوقف لأحد مهما كان ذلك الأحد.
    جلس أركاماني على عرشه الجميل إلى جوار عروسه الجميلة مريم، وبدأ معبد إله الشمس بؤرة ضوء تنير الليل الغارق في ظلام الصحراء على ضفاف النهر. لبس المكان ثوب الحلم البديع، وأعلن الملك تمرده على الكهنة يأمرهم:"حطموا إلهكم القديم وأسجدوا للإله الجديد". في تلك الليلة حطمت البجراوية الإله"آمون"، قتلت كهنته الجبارين بعد مرسوم صدر من الملك أركاماني يقول فيه:" وداعا لزمن أمون ومرحبا بعهد أبادماك، إلهكم وإله الشمس المقدس الذي ستكتشفون به حقيقتكم، من أنتم وماذا تريدون، وما أنتم فاعلون في يومكم من اجل غدكم".
    لماذا اختار أركاماني الأسد ؟ هل لأنه سيد الغابة ورمز الملك والسلطان على قبيلة الحيوانات، أم لسبب آخر، لا أحد يعرف السبب، وحده الملك المقدس يعرف كل شيء، ولم يكتب لنا المؤرخ الإغريقي الذي كتب عن مملكة نبته عن هذا الأمر، فقد كتب"ديدور الصقلي" يؤرخ ذلك اليوم القديم جدا:"احتفلت البجراوية بالإله الجديد، وقتلت الكهنة حرسة آمون وبعد أن ألقت بجثثهم في النهر، نصبّت الكهنة الجدد، الذين حرسوا معبد أبادماك، كان عيدا كبيرا في المملكة النوبية، تلونت فيه السماء بلون الفراش الوديع، وكان أركاماني الملك يخطو خطواته على درب الفراش إلى عرشه. في ذلك اليوم شاركت مليوني فراشة في الفرح تسد المسافة الفاصلة ما بين الأرض والسماء في البجراوية، كان الفراش قد تربى في معبد آمون لكنه خان آمون وأحتفل بإلهه الجديد".
    وأنا أراقب الأهرامات متذكراً رحلتي القديمة مع أخي، سمعت صوتا يناديني بهمس:"محمد يا ولدي لا تفكر كثيرا". من كان يخاطبني في وحدتي؟ في صحراء تمتد حول ذاتي الغريبة، في زمن لا شفيع لي، فيه، سمعت الصوت مرة ثانية من باطني، وأنا أواصل رسمي على الرمال، أكتب لغة أجدادي، أنزف دمي الثقيل عنباً أزرقاً يلون سماء البجراوية في أزمنتها القديمة، أسأل روحي:"من كان هنا، ومن ذهب، ومن سيأتي ؟ "، مجرة من الأسئلة حاصرتني وجعلتني أبكي في الغابة الجديدة.
    خرج أجدادي من الغابة إلى الغابة، من غابة الأشجار الباسقة الخضراء إلى غابة الأشجار الباسقة الشوكية، يحزنون لموت الحياة، يرقصون كالفراشات في عيد الشمس لا يعرفون معنى لكآبتهم، يشترون السواطير من أسواق أفريقيا البعيدة يحلقون بها اللحى في ظلام الليالي البعيدة، كان كل شي بعيد، حار جاف صيفا، دافئ ممطر في كل العام، كل شئ يتلون بلون الإناء الذي يصب فيه إلا أنت يا محمد، يرجع الصدى فأراه جالسا أمامي سيدي وملاذي أركاماني، قلت له:"هاأنذا لا أفكر كثيرا، أقطع أفكاري بنور الغيب القادم، فيه حلمي وأملي، وحيد ابحث عن ملاذي في الحياة، كالعصافير أنام في عشي المهجور بعد إيابي، صدقني أنا عائد إلى مسقط رأسي بعد الغياب الطويل، من يصدقني غيرك يا رب الشمس؟".
    كنت صغيرا جدا، وكنت كبير جدا، ربما في حجم طائر الزرزور، وربما في حجم الفيل، الذي وضع خرطومه عند ملتقى النيلين مدينة ملعونة. يسمونني محمد واسمي نفسي أركاماني، لساني قصير وعقلي كبير وعيناي وخاذتان تعجب الرجال المخنثين قبل النساء. كانت أفكاري تهرب مني فيسرقها القاصرون في وضح النهار، أحلب بعض الأفكار وحدي بقرة، واشرب الفكرة ثم الرؤية، ولا أنتفع بهذه أو تلك.
    هرب أركاماني تركني وحيدا أتلفت في الصحراء، أعاين الأهرامات القديمة، أسأل هل كانت هنا حياة ؟. هرب الملك وكان يعرف أن بإمكاني أن أدبر حالي في زمن بلا أحوال، فيه الرجال عراة بائسون إلا من أبى، يبحث عن حرية جميلة كالفراشات يوم عرسها، وكان يعرف أكثر أنني لا أرغب في فكرة الوجود، ولو سألني لما ؟ لما عرفت الجواب.
    يقول ديدور الصقلي أن عمري كان ثلاثة أعوام، يوم كتبت لغة أجدادي على الرمل، ويوم ضاع مني أركاماني إلى الأبد، غاب في النهر إلى بلاد بعيدة، لم يقل لي سأعود، لم يخبرني عن حيل محددة لمواجهة الحياة ووقاحة البشر والدنيا، لكني وجدت له العذر.
    كان الموج سريعا في تقلبه العصي، أسرع من عقلي وعقل الملك، رأيته يرفع يده اليسرى يستنجد بي، أو كأنه كان يقول لي وداعا يا محمد وداعا إلى الأبد، وداعا لعالم الجنون، لا تخف سنلتقي يوما ما. وطال انتظاري لهذا اليوم، تأخر، ولن يأتي أبداً في أيام الدنيا التي لا تفي بالوعود.
    كنت أنتظر ساعة القيلولة لأعود للبيت ونتغذى سويا أنا وأمي ومرجان، قبل أن يصلي أبي كعادته وينام إلى ما قبل العصر. يستيقظ بعدها للقهوة والتأمل في حال الدنيا والمعاش، لا يأخذه التأمل طويلا، يشرب القهوة على عجل ويهرب إلى المزرعة على ضفاف النيل، يحفر هنا وهناك، ويعالج المياه والسدود المتدفقة غضباً على حالها،. يؤذن المغرب، يعود أبي ليصلي في المسجد الكبير في الحي.
    في العادة المملة أذهب إلى المزرعة في الصباح مع أبي، في غير ما موسم المدرسة، أما في العصر فأظل كالبنت في البيت، أرتب الغرفة الوحيدة التي نعيش فيها، فلم تكن لنا أخت لتتولى هذه المهمة المخصصة للبنات. أفرغ من النظام، فتعود الفوضى مع عبثي هنا وهناك، بعد أن أكون قد غسلت أواني الطبخ وصببت الماء من الحنفية الشحيحة في الزير، وقدمت البرسيم للبقرة التي تمنحنا البقاء للغد، بلبنها.
    ينتهي العمل، فأخذ كراستي التي أهداني لها الطبيب الوحيد في عيادة الحي، وابدأ في الرسم والشخبطة. أرسم أشياء كثيرة، بعضها احتفظ به، وبعضها أمزقه في الحال، لأنه لا يعجبني، وأكثر ما كنت مغرما، برسم الفراشات، قبل أن أكتشف عالم الملوك، بعد موت أبي. كنت أصطادها من البر شرقي البلد في مواسم كساد النهر قبل الصيف.
    حبي للفراشات تحول إلى محبة لجنس هذه الحيوانات الجميلة، بعد أن تعرفت على الملوك، أشعرتني رقة الفراش وعذوبته بنوع من الأسى لعشرات الملوك الذين تعرفت عليهم لاحقاً في كتب التاريخ، وكنت أقول لأمي:"هذه كائنات تستحق منا العطف والمودة".
    قبل أن أشق طريقي إلى البجراوية وأتوقف هنا، لأسلم على سيدي أركاماني، كنت قد دخلت بلادي عن طريق المطار، استوقفني موظف الجوازات قائلا:"تعال، لا تعبر من هنا ألم تقرأ اللافتة ؟ ". لم تكن هناك لافتة، كان بصري قويا، كما لم تكـن لدي رغبة في محاجة الموظف الغبي، لم أتحدث معه كثيرا، اكتفيت بابتسامة مصطنعة أهرب بها من غبائه. وقفت في الصف إلى أن جاء دوري، قدمت جواز سفري، هويتي.
    سألني الموظف:"من اسمك؟". رددت عليه بغضب:"مسجل في الجواز، اقرأ، ألا تعرف القراءة!". لم يقل لي أنا أُمي، قال:"لا أعرف". قلت له:" أذن أكتب، اسمي أركاماني، مهنتي ملك متقاعد يحب الفراشات، رائحتي حلوة، وعيوني جميلة عسلية"، وأكملت الباقي في سري "ومؤخرتي تتسع لتمرير الجيوش النوبية في خيانة كبيرة"، لكنه لا يعرف أن يكتب، لكنه سمعني، وابتسم ابتسامة صغيرة لم أفهم مغزاها، ثم تغيرت ملامح وجهه الغبي، الذي يشبه علب الصفيح القديمة المثقوبة، ليسألني بخبث: " هل أنت لوطي ؟ ".
    كانت تلك عودة لا تنسى، فحادثة اعتقالي في المطار، لأنني أسأت للجيوش النوبية سراً، كانت مجرد حدث عابر، اعترف أنني زججت بنفسي في المصيدة، وشرحت لرجال الأمن الذين اعتقلوني من يكون أركاماني، فقد كانوا لا يعرفون عنه شيئا، لكن الحدث الذي لا ينسى حقيقة، هو لقائي مع أجدادي في البجراوية، قبل أن أصل إلى مسقط رأسي في الشمال، عند ضفة النهر.
    مررت بالخرطوم عابرا، كأنها لا تهمني أو أنني درست وعشت بها ذات يوم، وعملت فيها فترة من الزمن، كنت في شوق للقاء الأهل، بعد غياب طويل أمتد لعشر سنوات وربما أكثر بشهور. ودائما ظلت الخرطوم مدينة لا تبقى بذاكرتي، فالمدن عندي مثل الأحلام، أعاشرهن في ليالي ضحلة، أقضي بهن حاجتي، وأرمي بهن في الفجر مثل أعقاب السجائر الأمريكية التي أدخنها.
    في الصباح سأرمي بالخرطوم في مذبلتي كسيجارة صدعتني. وقد كان ذلك بعد نهاية الرحلة وعودتي لعملي خارج البلاد، كنت أجلس على مقعدي في الطائرة، متأملا بقايا سيجارة، رميت بها من على مقعدي، على الأرض، عند ملتقى النهرين، تلاشت حتى ذابت وانتهت بالموت. كنت سكرانا أخال نفسي ملاكا عظيما يسافر على متن الخطوط الجوية الملكية، ينظر للأرض من علٍ محمولا على طبق طائر بأجنحة البراق.
    وقفت المضيفة أمامي تسألني:"ماذا تريد؟" .. "لا شيء" .. "ألم ترن الجرس؟" .. "نعم " .. "إذن ماذا تريد؟" .. "أريدك أنت ملكة تجلس مع الملك في عرشه". لم تجب عليّ ، تشاغلت بتحريك نهديها الكبيرين تحاول إثارتي، لم تكن جميلة لكن أردافها كبيرة وعيناها تشبه عيني أبادماك، كانت تمثل أنها لا تسمعني، وكانت تسمعني بدقة تامة، كررت لها طلبي فضحكت تواصل سيرها في الممر، بين الركاب النائمين، في إضاءة خافتة، كانت تمشي مثل مدينة عرجاء لم أدخلها بعد، لكنني دخلتها بعد قليل.
    كنت قد دخلت جسد المدينة العرجاء، وخرجت منه غير تائب، أنا أركاماني. سألتني عن اسمي فقلت بزهو، أنفخ صدري:"أركاماني"، قالت:"هذا اسم عجيب!". حدثتها بغضب مفتعل:"الأعجب أنكم لا تعرفون تاريخ بلادكم". لم يكن ذلك كله مهما، المهم بالنسبة لي، هو دخول جسد المدينة المحمولة على طائرة الإيرباص الملكية.
    أشرت لها بإصبعي ففهمت أن المقصود هو "التوليت". دخلنا سويا، بل دخلت هي ورائي بحجة إصلاح عطل جرار الماء، وبقيت بالداخل، تحاول إصلاح الجرار بتلمس ذكر ملك أسطوري، وتماسكت بالذكر عندما أعلن الكابتن عن دخول منطقة مطبات جوية "يرجى من السادة الركاب التزام مقاعدهم". أغلقتُ الباب، فتحت جسد المدينة المحمولة جواً، فرأيت غابة ذكرتني بالغابات المدارية في ممالك النوبة، غابة بأشجار سوداء لم أرى مثلها من قبل. يقول ديدور الصقلي "مثل هذه الغابات كانت هنا في البجراوية في زمن ليس بعيدا، وظلت إلى ما بعد مئات السنوات من نهاية عهد الإله أبادماك".

    (2)

    كأنني ذاك الملك الذي تغلفت أيامه بالحزن، يوم قرر استبدال الإله، كأنه يعرفني، أو كأنني هو، كنت قد لاقيته، قبل سنوات بعيدة جداً، كان وسيماً، ذكياً، يتمتع بخواص نادرة، قل ما تتوافر للملوك، أمثالي. ضحك في وجهي، يقول لي:"أنت!". قلت:"نعم، أنا"، سألني:"متى عدت إلى البلد؟"، كذبت عليه، أقول:"قبل يومين". وفي الواقع أنني لم أفارق البلد أبداً. مضى في سبيله، ومضيت في حالي، أبحث عن مصادر جديدة لنهر الحزن في حياتي.
    لماذا أنا حزين؟. لا أعرف!. لكني سأحاول الجواب عن السؤال بتجردٍ تام، بمحاولتي استنطاق عفاريت ذهني المخبأة، أراجع ذاكرتي، لكن هذه الذاكرة الصدئة لا تعمل، إذن ماذا أفعل؟. أثرثر قليلا مع ذاتي، انشطر بكاءً، مع انحدار الدموع اكتشف أن البكاء يكسر حدة الحزن في الذات، يخفف الآلام الملك، الوحدة والعذاب، والتطاول على الآلهة.
    أدخل سجن الذات، لا أعرف جرمي، كنت أسير في الشارع، ابحث عن لقمة عيش أسد بها بؤسي، فإذا برجل بشارب كثيف ولحية يقف أمامي، يصوب نحوي مسدساً ضخماً، يقتادني نحو العربة، أجد نفسي داخل غرفة صغيرة مساحتها لا تتعدى حجمي بكثير، كأنما فصلت عليّ، أو كأنها قبري، ظننت أنني أنام في القبر، وفرحت كثيراً لكوني أودع عالماً من الشقاء والأنانية.
    إلى يومين وأنا على هذا الحال، خرجت بعدها من القبر، دخلت وخرجت دون أن أفهم السبب، أو يقابلني أحد ليحدثني، يسألني، دون أن أتعرض لركلة واحدة من قدم، أو يتفوه كائن ما بكلمات تشعرني بالضيق.
    مضى شهران، وربما أيام قليلة بعدهما، دون أن أفهم ما جرى معي، ما زلت أبحث عن لقمة العيش، وأفكر عندما لا أجدها بأن أكل أفكاري، حدثني أركاماني وأنا طفل:"يا ولدي الأفكار لقمة عيش". جربت أن أمضغ أعظم أفكاري، لكن بلا فائدة، "الفكر لا يسد رمقاً أيها الملك "، قلت له وهو بعيد عني، هناك يتوسد قبره في النهر.
    هل كان يسمعني؟. رأيته في الحلم، فتح رمسي، همس يقول لي:"اضحك"، كنت عابس الوجه، غير قادر على الضحك، كرر الكلمة، فضحكت مرة، مرتين، ثم صمت، فغاب عني، توارى وراء جبل من رمل.
    حاولت مراجعة الماضي في ذاكرتي المرتجة، وصوت مزلاج الباب القديم يكتم أنفاسي، تفوح منه رائحة نتنة، احتملتها. عاينت صورتي في مرآة الحائط بالحمام، كنت قد دخلت ونسيت أن أغلق الباب. تناولت سيجارة من الصندوق الذي سرقته في المساء من صاحب المقهى الليلي، مع أول نفث كنت أغني "سعادتنا في تحدي العالم"، تحديت العالم بتغوطٍ فظيع، تأملت خيوطاً هلامية على الحائط تواجهني، حاولت أن أجمّع منها صورة لحبيبة قديمة، هجرتني عندما اكتشفت أني حلمي أن أكون ملكاً. عجزت عن لم الصورة، فأغمضت عيني، كان الباب لا يزال مفتوحاً، قمت، أغلقته بهدوء، أسأل نفسي عن سبب هدوء الضجة، فالليل في بدايته.
    فتحت الماء، انساب يغمر جسدي العاري، لا استحي من الإعجاب به، افتعلت خوفاً أبرر به حياء مفتعلاً، أقاوم به جرأتي تجاه هذا الجسد، كنت كمن يخاف من مجهولٍ، جسدي كان هذا المجهول، ووجهي بدأ غريباً، كان رجل آخرٌ وراء المرآة يحدثني، يقلدني يسألني:"من أنت يا ملك الملوك؟".
    فجأة قفزت صورة الحبيبة القديمة، بعد أن دست ملامحها عني، بعد أن حاولتها فاستعصت عليّ، قلت:"يا ولد أتركها وشأنها"، كانت مكابرة كعادتها، الرجال يقولون عنها إنها بلا مزاج، وأنا أقول هي مغامرة.
    قبل أن أغلق الماء، نظرت إلى غائطي وقد أخذ طريقه إلى قاع المقعد، تملكتني رغبة في تحسسه، كم هو غليظ كقلبها، فكرت في قلبها، فزاحمني الرأس بشعرات مسافرة مع الريح، تتسلق الجدران، تسابق جنادب مقذذة، تلمستها رغم خوفي، أنادي بأعلى صوتي " يا لبؤس حياة الملوك ".
    أدخل الغرفة، أدفن رأسي في الوسادة، منبطحاً على بطني، أفكر في النوم، منذ أيام لم أنم مبكراً بسبب الزكام، قلت:"ربما كان الضوء سبباً"، أغلقت الستارة، أطفأت الشمعة الصغيرة، بدا شيء ما، دبيب من القشعريرة والاستياء، يحيط بي، يدخلني، يقاوم داخلي، تسمرت عاجزاً عن النهوض، مددت رجليّ، قفزت رجلي اليمني فأشعلت المصباح الكهربائي.
    مع الضوء كنت قد انزلقت على أرض الغرفة، على الرسومات التي انتهيت من تخطيطها بالأمس، قفز كاهن يعطس فيّ، لم أحفل به، سمعت تلك الحبيبة تقول لي:"رحمك الملك". أطفأت النور، رقدت على ظهري، سرقت أنوار الشارع العام مساحات من الغرفة، عبر ثقوب النوافذ، سمعت أصوات السيارات، همس العاهرات عائدات لتوّهن من الفنادق الليلية، صراخ الباعة، كان الفجر لا يزال رصيفاً.
    في الصباح عليّ أن أرتب أفكاري مع غليان " الكفتيرة "، سحبت أخر سيجارة أبقيتها من الليل، سكبت الشاي في المصفي، أضع الكوب تحته، أصب الماء الساخن، تعودت على هذه الطريقة في صنع الشاي من بائعات الشاي والهوى في شوارع الخرطوم.
    سحبت من بين الرسومات على الأرض، لوحة رُسِم فيها طفلاً يرسم على الرمل، أفكر هل هذا الطفل أنا؟، لماذا لا يكون محمد ؟. قذفت باللوحة بعيداً، أجذب نفثاً من سيجارتي، أراقب الدخان يصعد لسقف الغرفة، يتدلى عندما يرى العناكب في السقف.
    تذكرت جارتي سلوى التي قالت لي قبل يومين:"سأحضر لتنظيف الحجرة وترتيبها، يجب أن تعيش في وضع مريح"، كان العيد على الأبواب، ولكني لا أحفل به، لا ضيوف لي، ضيوفي جالسون معي دوماً، هؤلاء الكهنة الذين انتهيت من رسمهم قبل عام.
    سكتت، تمطّ شفتيها في وضع مثير، قالت:"أنت كذاب، حياتك كلها وهم". ضحكت أرد عليها:"لكن الوهم هو معنى الحياة يا سلوى، هو الحياة نفسها التي نبحث عنها". ضربت بيديها على ردفيها الكبريين، أنا مغرم بالأرداف الكبيرة. بصورة استياء متعمد، أغلقت الباب، كلهن يغلقن الأبواب، تبدو متضجرة وراغبة، لكني لم أعاقرها، لم أرى غير برهان الملك.
    قابلتها بعد ثلاثة أيام في سوق الخضار، كنت أبحث عن قطعة بطاطس تشبه وجه أركاماني، قرأت ليلة أمس ما خطه ديدور الصقلي "أركاماني عشق البطاطس طوال حياته، فعشقته البطاطس ،واختارت بعد هروبه إلى النهر أن تمنح بعض أحفادها شكل وجه الملك ".
    سألتني:"من كان معك ليلة أمس؟". فكرت هل كان معي أحد، لا أتذكر، لقد تشبعت بالنسيان منذ سنوات، أجبتها:"لا أحد". وضعت سلة الخضار على الأرض، ونظرت إلى عيني بعمق، شعرت بالخوف من نظراتها، وهي تحدثني بعنف:"أنثى أليس كذلك؟". غضبت أكثر، وصرخت فيها:"أنت مجنونة تتوهم".
    فلتذهب وجنونها، وتغسل بوهمها مؤخرتها، لا شأن لي، كنت أحدث نفسي وأنا أسلك طريقي عائداً إلى البيت، أنستني البطاطس بغضبي. في الشارع راجعت صورة الحبيبة القديمة، قبل أن تقلق مراجعتي، أبواق السيارات المكتظة في الشوارع الضيقة، جعلني الحر أتصبب عرقاً، كنت أريد أن أشتري منديلاً ورقياً، لكن ما بقي مع الملك من نقود، لا يكفي، ولم يتناول فطوره بعد، لم يشرب كوباً من الشاي، أو يشتري سجائر أو صحيفة صباحية تافهة، يرى فيها صورة الملوك الذين لا يتشبهون بالملوك.
    الطريق كان مزدحماً، لدرجة تقرف القرف، توقفت للحظات، أعاين وجوه المارة من البشر والسيارات والحمير، أتفحصهم جميعاً، كأنني لا انتمي لهذه الأشياء، فقد بدأت ملطخة بالوجع، لا اشتهاء فيها، يسكنني هاجس أنني مشرد، ومالكة الغرفة التي أسكن بها تطالبني بمغادرتها أول الشهر، صرخت وحدي:"العالم لا يطاق ".
    لا أنكر أنني فكرت قبل أيام في الانتحار، كوسيلة تخلصني من العذاب، من ضيق العالم، أكثر من عشر سنوات مضت لم أرى فيها نفسي، لا أذكر متى قرأت كتاباً جديداً، الكتب أصبحت لا تجدي، تشحنني بوجع القلب، انتبهت على صرخة سائق تاكسي، ينهرني كالبعير:"يا حمار، سر محترماً في الشارع"، صرخت فيه:"يا أهبل، وهل أنت محترم؟". لم يلتفت لي بعد قولته، استمر يضرب بوق سيارته المتهالكة، تصب الماء من أسفلها، كأنها تتبول، ينزع شريط الكاسيت من المسجل الحجري، ويضع أخراً، ينبعث منه صوت مرتل القران، فيّما كنت أفكر، أين أذهب؟.
    أول المساء، تبدو الأشياء مدوخة وقاهرة في مدينة ملعونة، فكرت أن أدخل المسجد، أصلي العشاء، منذ شهور لم أصلي، يكسوني وهم أنني نصف إله، وأحياناً إله كامل فقير. دخلت المسجد من البوابة الخلفية، انحرفت يساراً تجاه دورة المياه، أشار لي حارس الدورة العجوز، أن أجلس بعيداً، للناحية الثانية، قال بغضب:"هذه دورة النساء".
    عدلت حال سوستة البنطال، أحاول تحمل الماء الفائر في مثانتي، اتجهت نحو الجهة التي أشار العجوز لها، وجدت أكثر من عشرين رجلاً في صف طويل، كان أخرهم محمد، وبعد برهة طال الصف، فكنت أوله، أبصق على الأرض، فيقرصني جاري، منبهاً إياي، للافتة المكتوبة أمامي "الرخام جميل، من فضلك لا تبصق"، قلت في سري، لكن صوتي ارتفع : "هل هو رخام الجنة!".
    مع ضجيج البعض، الذي لم أهتم به، كنت قد أدركت محصل النقود، يجلس جوار منضدته الخشبية المتسخة، ممسكاً بمسبحة، لا يسبح بها الله، يحركها مع صوت النقود، وهي تسقط في الحصالة، يسجل كلاماً هيروغليفيا على الدفتر.
    أرتفع صوت المؤذن، ومعه بدأ الرجال يتململون في الصف، سمعت بعضهم يقول:"لن نحصل الصلاة "، كنت في أول الصف، بمحاذاة طاولة محصل النقود، لكني وجدت نفسي دون أن أشعر، في منتصف الصف تقريباً، ما الذي جرى ؟ لم أفهم!، ولم أجهد روحي بفهم ما لا يفهم.
    مرت خمس دقائق، كان الصف قد نقص خمس رجال من ذوي الأحجام الكبيرة جداً، والأجساد المرهلة بسفالة، حدثت نفسي ضاحكاً:"مثل هؤلاء، لا شك أن غوائطهم تسد أفواه المقاعد في الحمامات". قبل أن أفكر في غائط رجال كانوا أضخم من هؤلاء، رأيت رجلاً زهق فترك الصف، وهو يلعن دورة المياه، وكان في سره يلعن النظام، أن يقف الناس في صفوف مستقيمة، وآخر دلف بعد مشاجرة مع محصل النقود، عبر البوابة الواحدة للدورة، ففاز بحمام لا يجد فيه موضع قدم من العفن.
    أقيمت الصلاة، فرأيت أنني لو انتظرت في الصف، الذي أصبحت في نهايته، لن أصلي أبداً، فتركت رغبتي في الصلاة، التي أكتشفت أن دافعها الرغبة في التبول. خرجت من المسجد إلى الشارع المزدحم بالبائعين المتجولين وصبية الورنيش والنازحين خوفاً من الحرب.
    بدأ المطر يداعب خصلات الإسفلت المهشم، فقد كان الفصل أول الخريف، ارتفع صوت مادحٍ للنبي (ص) يغني:"الصلاة والسلام لك يا نبينا"، على يمينه، مجموعة من الناس، يلتفون حول صبي معوق يؤدي حركات بهلوانية، مثل أن يشرب الشاي برجله، فيضعون النقود أمامه.
    اتجهت نحو موقف الحافلات، وجدته خالياً، الركاب المنتظرون انحشروا في صالات الدكاكين خوف المطر، الذي انهمر فظيعاً، شعرت برغبة في التدخين، انزويت في صالة أمام مجموعة من الدكاكين، التي أغفلت أبوابها، اشتريت سيجارة واحدة من بائع السجائر الجنوبي، أشعلتها، جذبت نفثاً، أحاول معه أن أتأمل صورة الملك، أين هو الأن ؟ وماذا فعل به شعبه الوغد؟، هرب الملك، ومعه هربت حبيبتي القديمة، مع عبور فتاة من قبيلة " الزاندي " بجواري، ملتصقة بي، في وضع شبه متعمد، عندما نظرت إليها شذراً، قالت:"سوري"، واصلت سيرها، تابعتها إلى أن ركبت التاكسي، وهربت من المطر، الذي تحول طوفاناً.
    كان الليل يدخل ببطء في جسد السوق، والبرق يكشف عورة الأشياء، استحم أنا بوجعي، أتأمل خواطري السمجة، غير حافلٍ بما يجري حولي، تستند بعض الأشياء عليّ فأدفنها في خلاياي.

    (3)

    فرغت من ترتيب أشياء قديمة، كنت احتفظ بها في حقيبة، عمرها لا يقل عن عمري، حملتها معي منذ طفولتي، تمنحني دفء الحياة، وتكسر من حدة حلمي بالثروة والثراء العاجل، أن أكون سيداً في قومي، يشيرون إليه بالبنان، أسير وسطهم كملك، يوقروني، حتى لو كانوا يكذبون عليّ، يكرهوني في سرهم، ينسون أنني أنتمي لعائلة فقيرة.
    الحياة كعادتها، لا تذهب وفق طموح المرء وأهدافه، فقد اكتشفت وأنا أقلب محتويات الحقيبة، أنني لم أغادر المحطة الأولى، فقد ظل وزني كما هو 52 كغم، وطولي 167 سنتمتراً، وبدا لي مشواري مع الدنيا، كمن غرس نفسه نبتة، وسط وادي أقرع، كان أمامي خيارَ أن أنفي جسدي، إلى وادي الموت، لكني جبان، شجاعتي لا تتعدى بطولاتي المزورة، في الورق، أن أرسم.
    هاتفت مريم، كانت تتهرب من مكالماتي، ترد علي بسرعة، ثم تعتذر قائلة:"أنا مشغولة يا محمد"، وأحيانا يرن جرس الهاتف حتى يئن، ثم عرفت لاحقاً بعد أن كثر أنين الجرس، أنها تزوجت وهربت مع زوجها إلى أميركا، بعد أن وقع اختيارها صدفة، عن طريق قرعة "اللوتري"، للهجرة.
    مات مرجان بعد عام من زواجه بها، ورغم فارق السن بيني وبينها، كنت أفكر فيها كزوجة، على الأقل سأضمن أنها ليست عاهرة، لكن أحلامها لم تصب في مجرى نهر أحلامي، لأنها لا تحترم من يحلمون بدرجة مبالغ فيها، أن يصبحون ملوكاً، ولأنها درست التاريخ بجامعة الخرطوم، فقد كانت كثيرة الشك تجاه من يثقون في التاريخ وملوكه. حدثتني بعد رحيل مرجان بأيام:"التاريخ أكذوبة كبيرة، تماماً مثل الحاضر"، كنت معجباً بفلسفتها، لكن الفلسفة تسقط أمام الفقر، وأنا كنت لا أملك لا قوتي، ولا قراري.
    دائما أسميها الحبيبة القديمة، وأتذكر ما كانت تكرره لي:"هذه الحياة لعبة، ونحن أوراق اللعب". وكنت أقول لها:"دعيني يا مريم أرتب الأوراق، لأكون معك، أحتاجك أن تنزعين قلقي لأعرف كيف ألعب".
    لكن كل شيء مضى، تساقط ورق الحلم، وأنا أنتظر مفاتيح الصباح، كنت وحيداً أدغدغ حزني، وكانت هي بعيدة، في بلاد تفصلها عني الجغرافيا وإحساسي بالعجز والإحباط وربما الخوف. حتماً لن أجدها، لن أضمها إلى حضني العاري، لن أقول لها:" تعالي نغني سوياً "، لتقول لي:"دع الغناء فإنه لا يجدي ".
    من سأحدثه عن مأساتي، جنوني، عن لغة الرفض التي تحاصر حياتي، فترفضني الحياة والأحلام، وماذا بإمكان رجل مثلي أن يفعل، وهو لا يملك غير سروال من القطن، غزلته أمه في ساعة من نهارات حزنها، ألبسته إياه، لكي يستر عورته، فهل انسترت العورة؟.
    تدرك مريم، أن لغة الرفض هي التي تقلقني، أن حلم طفولتي ضاع، لا تحاول أن تخفف من ألمي، لتقول لي:"ستعود أنت، أنت، ستحب الدنيا رغم زهدك المُدعى، وستنسى حزنك"، أنا حزين فعلاً، ولو أدركت مريم حزني، لاحترمت أخي في قبره.
    هل كنت أهزئ، أرى ما لا يراه خيالي؟ أم أن ما جرى وما يجري من حولي وفيّ، غيّر لغتي ونظراتي، حتى وجهي تغير، لم يعد ذلك الوجه القديم، أصبحت رجلاً كإناء من وجع، محفوف الشوارب، أصلع الرأس، زنديقاً، ينظر إلى عينيه وباطنه بأرق شديد، يحاول أن يتجاوز معنى العنف فيه، فيعجز، كدت أن أصرخ، وأنا أفرغ محتويات الحقيبة، ارمي بها بعيداً، في مزبلة الممالك النوبية.
    حتى هذا اليوم، كانت السماء تمطر، البروق تنتزع الفرح من قلب السماء بضحك يشمئز له العاقل، كنت مستعداً لإعادة التفكير في أشياء كثيرة، لكني أنسى، فقط أعود لتذكر جراح حياتي القاحلة، مفرداتي المنهوبة، الحرية كمفردة للعيش والانكسار، البطل الذي يأتي كما عودنا في نهاية المشاهد ليصرخ، هاأنذا، الجنون، الذي لم يعلم الفوضى تألقاً ونظاماً.
    وجدت المفردات تغرق ما حولي من سدود الخوف، باستثقالها خطوي، كأنها تضحك في وجهي، تلعنني بقوة قاهرة، تقول لي:"أنت حثالة زمن التيه". أرى في الظل أمامي ذكوراً بأذيال الكلاب، تعلموا النباح وصاروا يحترفون الخديعة، الخوف من أسيادهم الملوك، بعد أن تحولوا لطواحين من هواء حار، في أشد فصول العام برداً وقهراً. غادرت كل شارات الضوء والأمل، فوجدت نفسي وحيداً، أتقيأ الحزن على رصيف الطريق المبلط بالوجع، كان وجع العام ممتزجاً بأشياء لا مفر من الاستغراق في أحكامها السمجة، شاءت الروح البليدة أم غادرت إلى مطاف الأماني الكاذبة.
    سمعتُ صوتي العاثر، غريباً، تسوّد بالرغبة في تحطيم لغة الوجود، أن تتحلل عصابات الحروف الشاردة، في غابات ومستنقعات ببرك آسنة، لا تعرف كيف تقرر مصيرها، مثلها كعجزي عن استحضار لوحة العالم في قلبي، مصنوعة من بقايا نتف قديمة رائعة الألوان، تذوب فيها أجساد الغرباء، يغسلون ضوء الشمس بالنعاس اللذيذ، قبل أن يدلقون في الأحلام النهارية ألف لترٍ من ماء العفن، جبناء، يحدثون ذواتهم عن أنفسهم القبيحة، بكلمة ممجوجة لا تُصدقْ، تناوبوا الاستلهام الغائط في راحة العمر، يحنون لزمان آخر، تنكسر فيه المفردات جوراً، ثم تعود لتنزف دموع المحبة، تجاه عالم لا يصدأ بالأنين والصداع.
    سمعت صوتي، صوته، سيدي الملك، وأنا أخطط اللوحة الجديدة:"أنت ذاك البطل الذي غادر إلى مشهده الأخير دون الـ "هاأنذا"، كنت قد تأزمت بنفايات الخوف، أخال كل أناء معبأ بالعواطف ملِكٌ لي، أركض صريعاً بالتحدي المجوف، أن أتمرن على قراءة كتاب الزمن، احتراف لهجة الحركة والحرية في تقلباتي، ضد أشواق الجسد نحو مأساته، لأقف حليق الرؤى، أعد صالونات الغيب المنتهك بالشهوة المفتعلة، نادماً على الحياة، تمضي نحو جراثيم مبتغاها المستعجلة للرحيق.
    قلت للملك:"يا أبي هذه قوارير الظلمة تحرقني"، فقال لي، وهو يعبر جسر الحقائق الملفقة إلى تكويني، أن زورقي انشطر عند سدرة المنتهى، ضاعت خطواتي العجولة، وترملت أحلامي، قبل أن أغرق فعلاً في شيطان الروح، وأغني معه أغنية الصفير الكسول.
    كنت قد عبرت الجسر إلى السدرة، وجدته هناك جالساً، أركاماني، يتسلى بمضغ قصب السكر المعجون من بقايا رحلتي الأخيرة إلى ذاتي، في ليلة بلا أقمار اصطناعية، تشردت فيها البدايات، واستعجلت نهاياتي اللعب، على ميزان الخوف. كانت الطرقات مغلقة، صفوف من طوابير الملائكة والفراشات أمام المعبد الجديد، صفوف كسولة، تجلس على ظل رهقي، عطرتني بنكت مستورة من بحار بعيدة، يقول الكون أنه أحضرها ليدسها في صندوق المعبد السحري، في بيتنا القديم، على ضفاف النهر.
    الأبواب تُطرق، فلا يدخل أحد، أجعل الباب الأول مشرعاً للجنون، أحدث الملك أن لا يقص عليّ القصة، أو أن يطرد الأحلام عن زوبعة الفراشات المتمردة بالاستسلام، تهرب إلى ملاذها الأخير، عند ناحية الحديقة الجديدة في معبد أبادماك. أفكر هل كانت الفراشات سيئة المزاج؟ قبل أن استرسل في الفكرة، افهم حاجتي لاحتساء كوب قهوة يهلكني، استيقظ في الفجر، أو ربما لم أنم، أفك سروالي، أفرغ شاحنة المني المطاردة في قطارات الوجود، أولاداً يتطايرون على ملة الملك، يضاحكهم، ينكسرون بالحزن في وشوشة الموج، عند النهر.
    حدثني الملك:"حلف الأنهار والفراشات لا ينهزم"، لكنني صدقت عقلي، يرسل شارة الضوء النافذة، ويجذب رحيق الزهر عن أنفاس الفراش، قبل أن أرى روحي من قصب السكر، غلافي مقلوب، أسناني محطمة بقيود اللسان، أمام جلالته، سطوته، كان النهار لا يضحك، والمرآة تعاند وجه الملك، وزهدي في لقاء سلوى ينفصم بهيل مريم، تسد قواربها عند ضفة النهر، مع جاريات الكهنة الجدد.
    سلوى هذه الجارية المعذبة، ترغب في تدمير العالم، على شكلها الخاص، شكلي أنا، وحدتي، ترقص كما الفراش، على قلبي، تهدهد الشجن القديم، على رائحة احتراق البخور النوبي في غرفتي، مع شوارد الغضب النازع لشهوة الزمن الذي مات، لون المساءات في البجراوية، ربيعها الأزرق، هذا الباهت، الذي لا ينام إلا على وسادات الرمل، يرسم مجده الضائع، يحدثني أنها لي.
    لم أصدق، رمال النهر، لا تصدق، سلوى اكبر من كل الأكاذيب، ومن لعنة الملوك القدماء، سأدخل إليها الليلة، سأكون خائفاً، أطارد ظلي، سأعاندها، لنرحل معاً إلى بلادنا المفقودة في الرمل.
    أشياء تحاصر الذاكرة، فيصبح الوقت وقوداً للحاجات العصية، انتهيت من التمرين الرياضي، الصباحي، طالعت قرص برتقالة الشمس، وراء الشوارع وأعمدة الكهرباء، ما بعد ليل مطير. لسبب ما كان عليّ أن أتذكر جملة أحوالي في الأيام الأولى من انضمامي لطائفة الملوك.
    في تلك الآونة، لم تكن سلوى قد تبلورت بحجم الآن، مجرد حمل لطفلٍ سيئ المزاج، يدخل المدينة مساء بالقطار، متأملاً العالم، مستعيناً بأوجاع طفولته، يحاول بها استصلاح مكامن البور في جسده القذر، محو ماضيه، ينشد تطلعاته في جحور الدواهي.
    أوقفني الشرطي، عرف أنني غريب، سألني عن بطاقة الهوية، ظللت ساكناً، صامتاً، أؤمن بأن الصمت يحل عقد الناس، لكن ليس هنا، فالمكان يبدو أكثر اضطراباً من توقعاتي الخاطئة، ومن الصعب عبور الليالي سالماً، فالجسور محروسة بالأوغاد، البلد تعيش قلق تغيير النظام، والنهر مسكون بهاجس أن يسافر شمالاً، كل شيء يفر نحو الشمال، إلا محمد، فقد جاء للجنوب، من أجل يكون ملكاً مزيفاً.
    قلت للشرطي:"أنا أبن الملوك"، ضحك:"أي ملك؟". حدثت نفسي:"الجميع يعرفون الملوك، هذا الشرطي الأهبل، لا يعرفهم؟"، كنت أعتقد أن معرفتهم واجبة على كل إنسان، وبعد أيام فهمت أن الملوك ليس إلا مجرد ثقوب في إبر الدنيا، لا يخيطون، ولا يمررون الخيط إلا بأيادي العبيد.
    قضيت الليل في المخفر، أنا ذلك الولد المسكين، اطلقوني في النهار للريح، أحاول أن أزيح هاجس الملك، أتذكر كلمات سلوى:"المرء لا يصنع حياته إلا بنفسه ولنفسه"، حدثتها عن تفاهتي، وعن بحثي عن دليل لمغزاي، صرخت:"حياتك ملك لك وحدك، حريتك، لا تقهرني بالرعب". وطالما عذبتني سلوى لكن خلاصة العذاب، كانت فراراً لذيذاً إلى دنيا جسدها. فررت لأصنع حريتي، أتعلم أن سعادة الملوك لا تكون بغير النساء، حتى لو كسبوا كل الرجال.
    مع سلوى، لاحقاً، مضت السنوات، لترمي بي الحياة في مذابلها الوسخة، كرهت اشتياقي للمعرفة، وتسربت أحلامي في إقامة مملكتي الجميلة، هناك عند ضفة النهر، في وطن أجدادي، الذين رسمتهم ذات يوم.
    عدت إلى غرفتي، أحصيت مكامن الخوف فيّ، تخلصت لسبب مجهول، من كل الأوراق التي تتصل بماضي السوء، دخلت الحمام، تغوطت، عادة رذيلة أمارسها، حتى لو كنت ملكاً، أشعلت سيجارة أفكر في مريم، فأزيحها بسلوى، أكره أخي مرجان وأجدادي، تتخفى سلوى، رغم وجهها المحفوظ لي، كان العيد قد ولى، وبدأتُ التفكير بجدية في هجرتي خارج الوطن، سلوى علمتني هذا النوع القاسي من الأفكار، وأنا أدس ذكري في أنوثتها.
    لم أكن قادراً على مدافعة الفكرة، أقلقتني كبول ناري يعتصرني، لم أعد مستسلماً لمواجهة جحيم الحياة تحت شمس الخرطوم، الغبار، الليالي الطويلة التي لا تنتهي بسيقان مؤرقة، أغلقت باب الحمام، خرجت مواجهاً فراغ البيت، أصوات ما تناديني، لا استجيب لها، هؤلاء الملوك السخفاء، يريدون إعادتي لدورة سخيفة، جديدة، من حياتهم البلهاء، لن أستجيب لهم، لن أدخل في طاعتهم، سأصنع حريتي عبداً.
    علمتني سلوى أن الرغبات السيئة تدافع بقراءة الشعر، وأنا لا أفهم إلا في الرسم، في هذا الصباح سأقرأ شعراً، شاءت رغباتي أم لا، أريد شعراً طازجاً، مطهي بفنون الزمن الجديد، لا أريده غثاء، تذكرت أشعار سلوى، بدأت في قراءتها :
    أحاوركَ أول الفجر ، عصي أنت
    بمثل اكتشافك، كان المساء
    هل أنت مماس دائرة سجودي ؟
    أم فصول مطرك الجسدي.
    أرمي الأوراق، أعاين خلال نافذة الشارع، قلبي يدق، يبدأ الصبح استياء، يتقدم وجعاً قاتماً، أفرد أوراقي بشهوة الرسم، تطل عليّ من النافذة، تغني :
    وأنت آخر ما يرصد النائمون
    وأول ما يحلم الحالمون
    خرجنا سويا، اشترينا صحيفة صباحية، قالت لي:"تجارة الصحف أصبحت كاسدة"، لم أقل لها أن الناس لم تعد تهتم بالأخبار، تشغلهم أخبارهم، صنعوا ممالك وحدتهم البائسة، قرأت أفكاري، فقاطعتني:"كل إنسان يصنع حلمه، دولته، مملكته، ودستوره".
    دخلنا مبنى البوستة، وراء عمارة شائخة، فتحت الصندوق، لم تجد مجلة جديدة تنتظرها، أغلقت الصندوق بعنف، هربنا من وراء العمارة، ضمنا الشارع العريض، أخرجت صندوق السجائر، أشعلت سيجارة، وبدأت في الغناء تحت المطر، اشعر بسعادة غامرة، حرية أخرى مكتسبة، جذبت نفثاً ضحلاً، أعاين من بعيد، أفكر في سلوى، متى ستعيش معي إلى الأبد ؟.
    الشارع معبأ برجال بذقون وجلاليب بيضاء، عمم وقفطانات، تذكرت صديق قديم يعمل في مؤسسة جوار البريد، على بعد أمتار تبدو اللافتة القديمة، ذكرتني به، تشبه غفلته في الحياة، وروتينه الممل في فهم العالم، لا يصلح إلا لوظيفة كاهن في مملكتي، يؤدي فروض الخوف، ويُعمد أشيائي.
    كعادتي في الهروب، هربت من سلوى بين الزحام، دخلت المؤسسة التي تعمل في مجال كتابة التقارير السرية عن الحياة الجهرية، وأنا أدخل عبر الباب الزجاجي، تذكرت هدفي من هذه الزيارة التي جاءت فجأة، أن يساعدني صديقي القديم في استخراج جواز سفر جديد، فجوازي ممنوع من السفر، لأن موظف الجوازات الغبي، كتب في خانة المهنة ، ملك.
    وقفت أمام موظف الاستقبال، حليق اللحية، سألني عن بطاقتي، تأملها، قال لي برعونة:"أنت ملك"، كانت مهنتي على البطاقة رسام. غضبت من طريقته في القراءة المتوهمة، ومن لحيته الحليقة، وسط رجال تجمعوا في الفراغ بلحي طويلة، كلما عبر أحدهم لمكتبه، وقف الموظف بأدب مفتعل، يقول:"وعليكم السلام"، رغم أنهم لا يسلمون عليه.
    شربت ماء من حافظة كبيرة الحجم في صالة الاستقبال، وضعت الكوب، لأسمع الموظف يسألني:"ماذا تريد؟"، أخبرته:"أريد مقابلة صديقي جيلاني"، تشاغل عني بافتعال البهجة، عندما رأي موظفة بخمار وعطر نفاذ، تحمل رضيعها، تدلي حقيبة صغيرة من كتفها، تتجه لمكتب داخلي. صرخت فيه:"يا ابن العم"، رفع سماعة الهاتف لدقائق، وضعها، يحرك يديه، بصورة المنتصر، المزهو بغلبته، في وضع استفزني، يلخص انتظاري الطويل قائلاً:"غير موجود".
    قفزت عيناه في سرور، كنت قد دخلت في أظافري، أذوب، أتحول لقيمة تافهة في كيمياء الكون، أرى من خلال النافذة الزجاجية، التي انفتحت لثواني وأغلقت، جيلاني، هناك خلف مكتبه، أمامه فنجان قهوة ودوريات بلغات مختلفة، وورائه لافتة كبيرة كتب عليها بالأحمر "زيارتك تسرنا.. من فضلك لا تدخن"، قناة فضائية تبث مشاهد لراقصات، وملك يحمل رجليه، يهرب إلى الخارج، اكثر حزناً، ساباً للدنيا. أخرجت آخر سيجارة معي، أشعلتها، صوت قلق يشاغلني، أيام بعيدة في الذاكرة تتسربل، مثل طفل كنت أمشي بلا هدف.
                  

العنوان الكاتب Date
أنا وأخري الملك - رواية جديدة emadblake01-02-04, 06:21 AM
  أنا وأخري الملك - رواية جديدة emadblake01-02-04, 06:24 AM
    أنا وأخري الملك - رواية جديدة emadblake01-02-04, 06:26 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de