|
المدنية والسلطان في "سودان الإسلام" - من "بني ربيعة" إلى "دولة الترابي" - كتاب في حلقات
|
المدنية والسلطان في "سودان الإسلام"
يشكل سؤال "المدينة والسلطان"، أحد الأسئلة الملحة في الحياة السودانية على مدار أكثر من خمسة قرون. تحديدا في اللحظة التي تأسست فيها الدولة المسماة بسلطنة أو مملكة الفونج 04-1505م، والتي وصفت بأنها أول دولة إسلامية سودانية. وهو وصف مشكل في حد ذاته - بجمعه بين صيغتي الإسلام والسودان - الإسلام باعتباره لم يقدم أي مشروع واضح ومثالي أنموذجي لمشروع الدولة الإسلامية وفق التصور المقدس، الذي هو في أساسه مجرد صورة ذهنية لمدينة فاضلة لم يكن لها وجود ذات يوم، والسودان لكونه صيغة غامضة ومدرجة تحت عدد من التأويلات المفتوحة، لكيان يوصف أحيانا بالتفسير الجغرافي البحت، دون أن يعطي هذا التفسير أي دلالات واضحة، أو يوصف بفكرة لهوية لا محددات لها. لكن مشكل الوصف "إسلامي/سوداني"، لا يقف عند حد ما ذكر، حيث يتشعب ليكون بإمكانه احتواء مناخات أكثر غموضا في ظل خضوع العقل المنسوب للسودان بمعناه الحديث، كنتاج إمبريالي، إلى تقلبات وحالات من الدوران المتلازم مع فلك الحياة الإنسانية على الأرض، مع رحلة التيه لكائن يفتقد للمعنى إلا في حدود ما ينتجه من معرفة وخواص تجعله يقترب من ذاته بقدر مزعج، يحقق الاستغراق لحظيا في دائرة فوضى سلطة الزمن وقوانينه المؤنسنة، بيد أنه لا ينفك أسير العشوائية والنزوح إلى ذات البدايات. فالوصف في حد ذاته ليس له معنى، أو دقة. لأنه حتما نتاج مابعدي، لما تشكل في الماضي بطريقة قد تكون مغايرة تماما لما جرى اعتماده لاحقا. خاصة أن التاريخ لتلك الفترة افتقد لمصادر واضحة، أو بالأحرى هي شحيحة أو منعدمة تماما. وحتى لو توفرت هذه المصادر فليس معنى هذا أننا أمام حقائق، لأن التقرير المبدئي سيكون إحالة التاريخ إلى هوى السلطة التي كتب في زمنها. وإزاء ذلك فنحن أمام كيان هلامي، متشتت الهوية، مجهول الجذور. لذا كانت الاختلافات جلية حول متى بدأت تلك "الدولة الإسلامية" والكيفية التي تأسست بها، وأصول من أسسوها. "وبالرغم من أن هذه الحقبة من تاريخ السودان قريبة منا نسبيا فإن مصادرها قليلة ومشوشة والعهد الذي سبقها في علوة المسيحية كان أشد غموضا" كما يذهب المؤرخ مكي شبيكة. دولة بني ربيعة: ومن جهة ثانية فإن أهلية الفونج لاحتلال مقام السبق بوصفها الدولة "الإسلامية" الأولى في تاريخ السودان، هي قضية ذات جدل، فثمة إشارات مغايرة إلى أن أول دولة بذات المفهوم المشكك فيه أصلا، هي دولة "بني ربيعة" التي لم يرتض مكي شبيكة أن يسميها دولة، تماشيا مع منظومة السائد في وصف الفونج بقصب السبق، حيث سماها "دويلة إسلامية" ، وقد امتد نفوذها من أسوان جنوبا في بلاد النوبة وشرقها في الصحراء إلى البحر الأحمر، وتنسب إلى مؤسسها بشر بن أسحق بن ربيعة، وكان ذلك في حدود منتصف القرن العاشر الميلادي. وهي "الدويلة" التي استحق ملوكها لقب كنوز الدولة بمكافأة معنوية من الحاكم الفاطمي الحاكم بأمر الله، عندما استطاع ملك بني ربيعة، أبو المكارم هبة الله، القبض على الثائر أبي ركوة الذي كان من معارضي النظام الفاطمي والمحققين لانتصارات ضده في شمال أفريقيا إلى أن هُزِم في الفيوم المصرية ففر لاجئا إلى بلاد النوبة فانتهت حياته بفوز أنجال بني ربيعة بلقب الكنوز. ومن هذا السرد يبدو واضحا أن "الكنوز" لم يؤسسوا دولة ذات استقلالية، حيث كانوا بشكل أو بآخر تحت إمرة الحاكم الفاطمي الذي يدبجهم بالألقاب. كما أن دولتهم كانت تعاني منذ بدء تأسيسها من النزاعات الداخلية بين بطون قبيلة بني ربيعة، الأمر الذي أدى إلى قتل مؤسسها أولا، ليخلفه ابن عمه المعروف باسم ابن يزيد اسحق. ومن خلال المصادر الشحيحة حول هذه "الدويلة" نجد أن جل همها كان يقوم على موالاة الفاطميين والحرص على رضاهم من خلال مد نفوذها في بلاد النوبة، ولعل اعتراف الفاطميين بها ودعمهم لها كان ضمن خططهم لمد نفوذهم جنوبا حيث بالإمكان فتح أسواق جديدة للرقيق والنخاسة، وتطلب ذلك أسلمة النطاق الجنوبي ومحاربة المسيحية ومصاهرة أهل الجنوب، وكل ذلك كان لأهداف سلطوية تكتيكية، أراد منها بني ربيعة الحفاظ على دولتهم لأقصى زمن ممكن بتحالفهم مع العلويين الذي كان بمثابة شؤم عليهم عندما حل صلاح الدين الأيوبي حاكما على مصر، والذي أتهم سلطانهم بأنه لا يزال متشيعا للعلويين وأنه لعب دورا في حركة ثورية لم تكتمل فصولها كانت ترمي لإحداث انقلاب على نظام الأيوبي لصالح الفاطميين في مصر، ورغم أن سلطان الكنوز حاول أن يلعب فيما قبل دورا في تملق صلاح الدين بالوقوف معه ضد مجموعة من الجند السودانيين الذين كانوا قد حاولوا إقصائه عن الوزارة في عهد الخليفة العاضد الفاطمي، إلا أن هذا التملق لم يخدمه حيث سير الأيوبي حملة لغزو دولة الكنوز، استطاعت أن تقضي على "كنز الدولة" ودولته، فتشتت الكنوز إلى الجنوب واندمجوا مع النوبة. ويتضح من هذا السرد أن تلك "الدويلة الإسلامية" كانت تفكر في أدوار أكبر منها رغم عدم استقرارها الداخلي، مثل المشاركة في الحركة الانقلابية المشار إليها، أضف إلى ذلك قيامها بقتل والي صلاح الدين في جنوب مصر في حملة سيرها الكنوز على المنطقة الواقعة تحت سيطرته بعد سوء العلاقة بين الطرفين، وقد كان بإمكان دولة بني ربيعة أن تنسج علاقة جيدة مع الأيوبي بيد أنها أرادت أن تلعب على الحبلين كما يقال، (الموالاة الظاهرة واللعب الخفي)، الأمر الذي أفشلها وأدى لنهايتها، فقد كانت الأحلام أكبر من الواقع، وعلى ما يبدو أنهم كانوا يطمحون في قيامة إمبراطورية إسلامية تمتد إلى مصر ومن ثم باقي بقاع الدنيا، وهو ذات الحلم الذي سيحمله فيما بعد في نهاية القرن التاسع عشر خليفة المهدي، عبد الله التعايشي، ويتكرر المشهد في نهاية القرن العشرين بحلم آخر حاول أن يقوده الدكتور حسن الترابي بإقامة مشروع الدولة الإسلامية الكبرى انطلاقا من "دولة الكنوز الجديدة".
|
|
|
|
|
|
|
|
|