|
خديجة بت الشربف أضناها الحنين
|
خديجة بت الشربف أضناها الحنين محمد التجاني عمر قش رأى عبدالرحمن الداخل صقر قريش نخلة منفردة في رصافة قرطبة بالأندلس فأشجته فقال: تَبَـدَّت لَنَا وَسْطَ الرُّصافَةِ نَخْـلةٌ ... تَنَاءت بأرضِ الغَرْبِ عن بَلَدِ النَّخْل فقُلـتُ شَبِيهي في التَغَرُّبِ والنَّوَى ... وطُولِ التَّنَائي عن بَنِيّ وعن أهلي نشَأتِ بأرضٍ أنتِ فيها غَريبةٌ ... فمِثْلُكِ في الإقصاء والمُنْتأى مثلي سَقَاكِ غَوَادِي المُزْنِ مِن صوبها الذي...يَسُحُّ ويستمرِي السِّماكَين بالوّبْلِ لا ينفك الإنسان العربي، على مر العصور، يحن إلى ماضيه وبيئته البدوية ومعالمهما التي ظلت منحوتة في دواخله ووجدانه، وإلا ماذا يجعل هذا القائد البطل تستوقفه مجرد نخلة رآها في ديار الغربة لولا ارتباطه ببيئة الجزيرة العربية التي تعد موطن النخل ومنبته الأول. كما أن الإنسان العربي شاعر بطبعه يشجيه ترنيم ساجعة أو شدو فلاح، فيظل شوقه متقداً لبيئته بكل ما فيها من إنسان وشجر وطيور وبهائم؛ وعندما يحس بالغربة أو يفتقد شيئاً مما كان يألفه في ماضيه، تنهش روحه الذكريات فيسكب الدمع، أو يلجأ للشعر قولاً وترديداً لعله يجد فيه السلوان، ويبث لواعج الذكرى والحنين في تلك اللحظات التي تشف فيها نفسه عن شوق عارم لماضيه الذي ضاع من أمام ناظرية سواء كان بعامل البعد والنوى أو بالاغتراب أو لأي ظرف آخر مثل تغير معالم المنطقة وتبدلها لسبب أو لآخر؛ فأنطوت في القلب حسرة تظل تراوده كلما عنّ له طيف من الماضي أو سرح به الخيال في تلك الأيام الخوالي وحلاوتها، ولعل هذا ما جعل الشاعرة البدوية خديجة بت الشريف عبد الله محمد صالح، هذه الشنقيطية التي نشأت في بوادي شمال كردفان بين الكوكيتي والجمامة وأبو رقّاشة، عندما كانت الدنيا لا تزال بخير في ستينات القرن الماضي حيث كان الرعاة يرتحلون إلى أرض "السيسة" وهي يومئذ ممرعة مربعة تسيل فيها الوديان بعد أن تجود عليها السماء بمسبل هطل؛ وتخضر الأرض ويمتلأ الضرع ويغرد البلوم ويشدو القمري و"يقوقي" طروباً على تلك الأغصان التي تتمايل وكأنها تعبر عن فرحتها بتلك المناظر التي تسبي القلب وتسعد الروح المعنى. في هذه البيئة نشأت خديجة بت الشريف، ولذلك لا غرو أن نجدها تتوق إلى تلك البيئة الخلابة، وقد أضناها الحنين، سيما وأنها شاعرة تربت في بيت يتنفس الشعر؛ فأمها مريم بت الشريف محمد عمر شاعرة، وأخواتها رقية وفاطمة شواعر مجيدات وكذلك خالتها أم كلثوم. تزوجت خديجة من رجل رحل بها إلى مدينة الأبيض ولكنها عندما عادت إلى موطن الصبا والشباب وجدت أن الوضع قد تغير تماماً بفعل الجفاف والتصحر فما كان منها إلا أن قالت: ندمانة يا بنيات وين القميريات هي تقوقي هن عاطنات رحلت مع السالمات؟ فكلمة "ندمانة" تدل على أن الشاعرة لا تكاد تصدق ما حل ببيئتها من تدهور مريع جعل القمري يرحل عنها، بينما كان عهدها به وهو " يقوقي" في حين تكون البهائم "عاطنة" أي أنها ترقد تحت الأشجار في المشرع أو العد أو مورد المياه، إلا أن كل ذلك لم يعد موجوداً الآن، وأروع وأبلغ ما في هذه المربوعة من شعر الجراري هو البيت الأخير الذي تطرح فيه الشاعرة سؤالاً موحياً بكثير من التداعيات؛ إذ كأني بها وهي تقول إن الكل قد فني ورحلت السالمة من القماري مع من رحل من أهل الديار! يا ألهي من علّم هذه البدوية هذا الأسلوب الراقي من فن الكتابة إذ من البلاغة بمكان أن تختم القول بسؤال وتترك الإجابة عليه لخيال القارئ. هذه، يا حضرات السادة، ليست مجرد قصيدة لشاعرة بدوية بل هي لوحة فنية غاية في الروعة والدقة والتصوير لمن يتذوق مثل هذه المواقف وهذا الدفق من الأشواق، وهل لاحظتم أن خديجة تستخدم التصغير للتمليح معبرة بذلك عن مكنون وفائها لصويحبات صباها بقولها: "يا بنيات" والقميريات". متعك الله بالصحة والعافية يا خديجة بقدر ما أمتعتنا بهذه الشعر الجميل.
|
|
|
|
|
|