|
Re: أوهام الزول ... (Re: عماد البليك)
|
-2- أنا مليم ود بركة شيخ الدين ولد محمد أبو مريومة.. جدي كان شيخا جسورا حارب في جيش المهدي وقتل العشرات من الإنجليز الكفار وقبلهم من الأتراك الأنجاس قبل أن يلقى حتفه في أم دبيكرات.. وأمي امرأة جسورة تربت على طولة البال وعشرة حسنة لكل الناس.. أما أنا فملعون كما يقول أصحابي هنا.. ليس هذا فحسب بل أني أجلب النحس والنكد إينما حللت.. يوم وصلت إلى الغربة الثانية.. حيث أن غربتي الأولى هي غربة روحي ولا انتمائي لذاتي الموجعة.. استقبلني زمرة من الأصدقاء القدامى الذين عرفتهم في سنوات الوطن القديمة.. هم بقية من الطفولة والصبا والأوجاع التي تكسر بفعلها الجسد وغزا الشيب مقدمة رأسي رغم أنني لم أتجاوز الأربعين بعد.. تحديدا بعد ثلاثة أشهر سوف أبلغ الأربعين من عمري.. وسيحتفل معي الأصدقاء بعيد ميلادي الذي لم يسبق لي أن احتفلت به من قبل.. سوف يوقدون لي أربعين شمعة ويهتفون.. ويغنون.. وهم سكارى "سنة حلوة يا مليم.. سنوة حلوة يا ..".. وبعدها "هبي بيرث تو يو".. وأيضا يغني تامر حسني.. أنا مجنون بهذا الفنان المصري رغم أن أصدقائي يتضجرون منه.. لعلل محمولة من البلد الذي جئنا منه.. فالناس هناك إما بشوارب أو حليقي الشوارب.. وبعدها لا تحتاج الأمور لتفسير.. وأنا بحمد الله احتفظت بشاربي كثيفا لعشرات السنين.. أرفض أبدا حلقه إلا أن فعلها أصدقائي وأنا نائم يوم عيد الميلاد.. وبعدها استيقظت لأرى نفسي في المرأة امرؤ آخر.. لا يطاق شكله.. ولا يمكن تشبيهه بأي شيء له قيمة..
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أوهام الزول ... (Re: عماد البليك)
|
- 3 – ما كان لأتخفى أو أهرب رغم الخيبة التي شعرت بها ولا يوجد لها من سبب منطقي.. فأنا عقلاني مثقف أو هكذا أظن.. كما أن حكاية الشوارب هذه لها قصة من بلد لآخر.. ولهذا ليس من عيب ولا فضيحة.. وفي واقع الأمر فإن أزمتي تتعلق ببني جلدتي وليس بأهل البلد الذي أنا غريب فيه مع أصدقائي.. وفي الظهر كنت جالسا في ركن قصي في المطعم السوداني الذي يتجمع فيها المسافرون والعابرون والمقيمون من "الأزوال" كما يحلو لمبارك أن يسميهم.. وهو يدخل عليّ خلسة ويراني جالسا كمن يخاف سكينا ستقع فوق رأسه بعد قليل.. "يازول مالك... الحاااااصل شنو؟" أنظر إليه وأنا أضع كفة يدي اليمني أغطى بها العورة الجديدة في وجهي.. "وآفضيحتي في الغربة".. أخبر نفسي.. وأخيرا أقرر أن أخلع يدي بعيدا لأجده مبارك يقهقه هستيريا.. ويخبرني: "يا وهم...." لا أتركه يكملها.. يفهم ذلك من تعابير وجهي الجديد.. المغسول للتوّ في هذا الصباح بعطر الكولونيا حتى أخرج من سكرة ليل قصير.. كثيرا ما يناديني بالوهم ويستحل هذا اللقب وهذه المناداة.. لكني لن أتركه هذه المرة سأرد عليه بقوة.. فقد وجدت نفسي فجأة تتقمصني نفس شيطانية متمردة قادرة على تدمير كل شيء أمامها.. ويبدو لي السبب واضحا.. لقد كان هو وراء المؤامرة التي انتهت بي لهذا الشكل المخجل!! يقولون إني مؤدب وأخلاقي.. لاسيما الأصدقاء الذين كانوا قد درسوا معي في الجامعة هناك في البلد الذي كان.. لكنهم الآن قد لا يعرفون في هذه اللحظة بالتحديد أنني تغيرت كثيرا.. كانت شهور قليلة هناك قادرة على تغييري كثيرا.. أو أن الأمر بدأ هناك.. ليس بإمكاني التحديد بدقة.. مبارك تفاجأ بموقفي منه.. وقدرتي على لوي يديه بشدة وبائس شديدين.. وأنني نهرته وصرخت فيه.. وكان أن جراني إلى خارج المطعم ليهمس لي: "خلاص بلاش فضايح.. يا مليم".. "فضايح .. أنت السبب ولازم.." كان قد وضع كفه على فمي ليغلقه تماما.. ويمنعني من الكلام لنصف دقيقة تقريبا قبل أن أجد نفسي أهدأ فجأة في محاولة للتعرف على المكان الذي أنا أقف فيه والشخص الذي بجواري، وأي بلد جئته باحثا عن حياة جديدة.. كانت دماغي قد كبرت كأن وزنها أرطال غير معدودات.. وكانت شمس دافئة قد بدأت تضرب فوقي لتوقظني رويدا.. قبل أن أتعرف على نفسي.. وأنني ما كان لي أن أدخل في مشاكسة تقلل من احترامي فمنذ أن وطأت هذه الأرض والكل يشهد لي بالطيبة.. أعني أبناء بلدي.. ويلقبوني بالرجل الشجاع والنادر والأصيل وأبن البلد.. أما الآن فلابد أنهم سوف يغيرون هذه النظرة.. لكنهم استغلوا طيبتي وما فعله مبارك كان نوعا من الاستغلال الرديء.. والذي بدأ ليلة أمس.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أوهام الزول ... (Re: عماد البليك)
|
-4 –
كنت أعرف أنني أمر بظروف نفسية غاية في السوء بسبب تبطلي، وعدم قدرتي على الوفاء بالعهود التي قطعتها مع نفسي أن أكون متزنا في وقت وجيز.. فمنذ أن وصلت هنا والضيق والتبرم يحاصرني فيما أحاول أن أكسر من حدة ذلك بالضحك وصناعة النكات والشعر الحلمنتيشي.. كنت أسلي نفسي وأسلي أصدقائي بهذا الفضاء المقلق.. واليوم بعد أن تعاركت مع مبارك فهمت سريعا بعد أن لملم رأسي كل الأيام الماضية في حيز صغير.. أنني لابد أن أغير من سوئي بنفسي.. وأن أعود لأكون إنسانا صالحا.. فهناك من ينتظروني في البلد من الأهل والأسرة تحديدا.. ممن وضعوا في الآمال بأنني سوف أكون منقذهم.. من براثن الفقر والبؤس الذي بات يحاصر كل فرد بلا هوادة.. لا يرحم أبدا.. أخبرت أمي أنني مسافر وفرحت جدا.. وربما حلمت بالتغييرات التي طالما رأتها في مناماتها العصرية.. أن يكون بيتنا جنة صغيرة. "بنغير شكل الصالون.. يا مليم.. ونبني أوضة جديدة للضيوف.." "الصالون كفاية يا يمه" "لا الصالون للروجال.. والأوضة للنسوان.. أنت بتقول فاهم عمرك ما بتفهم.." اليوم كانت ضاحكة مستبشرة أنني سوف أسافر.. وتجمعت نساء الحي لوداعي وكل تجر معها ابنتها التي عنست، أو دخلها الشيب أو تكرضم أسفلها.. والبنات أعني النسوان البايرات كن يبتسمن بغفلة ويغمزن وراء أمهاتهن اللائي كن يدعون لي بطول العمر وأن أرزق ببنت الحلال.. وامتلأ الحوش عن بكرة أبيه.. وما من سيدة إلا وجاءت ومعها هدية تعبر بها عن ما تكنه نفسها من آمال لمقبل السنوات.. أما أمي فقد كان الرابح الأكبر في ذلك المساء ساعة تكدس مخزن البيت القديم بالأواني والأكواب الزجاجية والمواعين من كل الأشكال والحنة التي قالت إحداهن إنها هدية للعروس التي سوف يظفر بها ساعة يقرر الزواج.. قالت لي أمي ليلا: "النسوان ديل مجنونات... مافي هدية واحدة منهن بتنفع معاك.." كانت أخرى قد أحضرت خرطوم ماء وقالت لأمي "إن شاء الله يرشوا بيه حوشكم يوم فرحه".. تعني يوم عرسي.. بالنسبة لي وأنا استعيد ذلك اليوم.. اكتشف الخيال الباذخ لنساء الحي وقدرتهن على ابتكار الهدايا في مثل هذه المناسبات.. وكان عمي مختار شيخ الدين قد توصل لهذه النتيجة سلفا ساعة قال لي ونحن نسير معا عائدين من السوق في منتصف البلدة إلى البيوت بعد العشاء: "سترى العجب العجاب".. كان عمي نادرا ما يتكلم وإذا حدث ذلك.. يقول كلاما مقتضبا يشبه الألغاز التي تصل إلى حلها بعد مضي ليس كثيرا من الوقت في أغلب الأحيان.. وقد فهمت مقصده ساعة وصلت البيت لأجد أمي ترتب في الأغراض تحت ضوء القمر.. فالكهرباء قاطعة منذ النهار.. والماء حار في الثلاجة.. لا يوجد ما يرطب الحلق.. والنساء أحضرن كل شيء تقريبا إلا الثلج.. قلت لأمي" أنا عطشان شديد". نادتني: "تعال شوف النسوان جابن ليك شنو؟" قلت لها: "يعني أنا حخط حنة ولا حألبس شبشب نسائي ولا غويشة" فهمت أن الهدايا لها كما أعني.. وأن المعني أن تمارس قدرتها وعزمها في التأثير علي في مقبل الشهور في أن اختار بنت الحلال من خلال عملية فرز دقيق للهدايا.. ولم اشغل بالي طويلا بكل ذلك، فقد هرعت إلى غرفتي القصية ألملم حقيبتي وبعض من أوراقي القديمة وأشعاري ورسوماتي.. فأنا رجل متعدد المواهب.. ربما سأجد وقتا في الغربة لكي أفعل هذه الأشياء..
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أوهام الزول ... (Re: عماد البليك)
|
-5 –
في الأيام الأولى كان الأصدقاء قد استقبلوني بمودة خالصة.. وسألوني كثيرا عن أخبار البلد والوطن.. وعن السيد الرئيس والكيزان والمظاهرات الأخيرة لماذا فشلت في أن تتحول إلى ثورة كما حدث في بلدان عربية.. وهل صحيح أن مليشيات مدربة شاركت في قمع المتظاهرين.. وعن الدولار كم سعره الآن، وعن أزمة الخبز وحجم الرغيفة التي تركها بعضهم قبل سنوات توزن بلدا.. وعن ود الجبل التاجر المشهور هل أفلس أم لا.. وعن مصانع البرير وعصائره.. وعن الخمور البلدية وعن بنات الليل في الخرطوم وعن شارع النيل وعن ستات الشاي وعن الحبشيات وصبرهن على العيش مع الأسر لشهور بلا مرتب وهن يفعلن كل شيء في البيت من الغسيل إلى تنويم الأطفال الرضع بحليبهن.. كانت الأسئلة تنهال علي وكأنني قادم من كوكب آخر.. بعض الاستفسارات كان لدي إجابة لها وبعضها الآخر ظل معلقا وأنا أسالهم بدلا من أن أجيب: "والله الموضوع دا ما سمعت بيه" واستطرد: "أنتو بتجيبوا المعلومات دي من وين؟" يجيب محمدين وهو ينفث سجارته ماركة دنهل في الهواء الحار في السيارة الأمريكية العريضة، وهو يرد علي: "الانترنت يا مليم.. والوتس آب دا بعمل في شنو.. يا فرده".. هذه الاختراعات أعرفها جيدا لكني أكرهها.. لكن الشباب هنا يقضون وقتا طويلا معها في الليل.. كل يعاقر حبيبة قديمة تركها قبل سنوات طويلة وهي في الانتظار وهي في الانتظار وكلاهما لا يعرف متى تنتهي الحكاية!!.. في ذلك العصر وبعد يوم من وصولي أخذوني لشراء شريحة هاتف محلية.. بعد أن تأكدوا أن جوالي ماركة نوكيا العتيق يمكن أن يوفي بالغرض.. قال لي مبارك: "والله العظيم يا مليم لو الظروف تمام كان اشتريت ليك جلاكسي آس ثري".. رددت عليه: "ربنا يكتر من أمثالك يا ابن الحلال" وارتفع صوت الغناء والموسيقى في السيارة بعد أن فتح مبارك النوافذ عند الإشارة المرورية، كان صوت ندى القلعة يشق الشارع في حين كانت أعين الجميع الواقفين بسياراتهم يتأملون هذه الشلة العجيبة التي صنعت الضجيج وكسرت الأدب والذوق والاحترام.. ".. راجل السترة ما تفكي لوكي القرضة وامسكي في بيت حلال ما تخربي لوكي المرة وامسكي في
بي الفي المافي عيشي معاه بيت جالوص وضي شمعة شن المرة بلا السترة وشن الزول بلا السمعة.." ويصرخ مبارك غير مبال بمن حولنا .. مزغردا.. "آي يويويو يوياااااا".. ولولا أن الإشارة الضوئية فتحت على اللون الأخضر وتحركنا لكانت فضيحة لنا..
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أوهام الزول ... (Re: عماد البليك)
|
-6 –
اليوم وبعد أن عدت في وقت متأخر من الليل إلى بيت العزابة.. كان الجميع قد ناموا تقريبا.. كنت قد تعمدت ألا أبكر في الحضور.. فقد كرهت رؤيتهم.. وكانت مشكلتي مع مبارك في المطعم بداية ليقظة وانتباه بالعودة إلى الذات ومواجهة الحياة بشجاعة.. فأمي في انتظاري وأختي سميرة التي تعيش مع خالتي في حي بأطراف الخرطوم غرب.. أي أمدرمان.. قريبا من الحدود مع ليبيا.. ذاكرتها وهي في الخمسين من العمر فهي أكبر مني بعشر سنوات تقريبا.. محشوة بحكايات متناثرة عن اقتحام خليل إبراهيم للمدينة في مايو 2008 وقبل ذلك عن المرتزقة الذين هبطوا بمروحيات ليلا وهاجموا العاصمة في منتصف السبعينات.. قضت حياتها عانسا بلا زواج.. لم تجرب حظها أبدا مع رجل.. أعرف عفتها وكرامتها.. وخالتي هي الأخرى عزباء قضت حياتها وفي الخامسة والخمسين في مهنة التدريس.. تعمل معلمة بالمدارس الثانوية.. وقبل سنتين نجحت في إنشاء مدرسة خاصة في بيت صغير من الطين في منطقتهم اطلقت عليها مدرسة "الخواص الفريدة".. لم أشغل نفسي بالاسم ساعة أخبرتني سميرة وسالتني: "خالتي دي بتقصد شنو؟" كانت تعرف أن خالتنا قليلة الكلام إلا في الفصول الدراسية ساعة ترفع صوتها عاليا وهي تدرس مادة التربية الإسلامية والإنجليزي والكيمياء.. تدرس كل شيء تقريبا.. الجميع يشهد أنها معلمة من جيل نادر.. وقد تكون تلك أكذوبة لأنني اكتشفت أنها لا تجيد نطق الكلمات الإنجليزية ولا تعرف ما هي صفات غاز الهيدروجين ولا تعرف كيف تحل معادلة من الدرجة الثالثة بطريقة صحيحة.. هذه الاكتشافات وليدة صدف كثيرة جمعتها في ذاكرتي.. أشواقي لسميرة لا حد لها ومنذ شهرين لم اتصل بها وليس لدي المال الكافي فقد نفد ما عندي.. في الواقع وأنا بلا عمل كنت اعتمد على الهبات التي يقدمها لي زملائي من الأصدقاء القدامى.. كل يجود بما شاء.. وأحيانا أجد نفسي جرئيا للطلب بحجة الاتصال بأمي مرة في الأسبوع ولدقيقة عابرة.. من هاتف أحدهم.. ومرة كلمت سميرة أن تركب برنامج "فيبر" للمحادثات لنتكلم مجانا فاعتذرت بأنها لا تملك ثمن خدمة الإنترنت وأن هاتفها قديم لا يحتمل هذه البرامج الحديثة. ورجتني أن أرسل لها هاتفا في أقرب وقت.. أخبرتها أنني بلا عمل.. ولا أدري إن كانت قد صدقتني أم لا.. وأمي هي الأخرى ربما كانت تعيش الشك.. خاصة أن نساء الحي يبرعن في تحليل الأمور وكيف أن الأبناء تتغير طباعهم بمجرد أن يخرجون من البلد، بحيث أنهم لا يفكرون بسوى أنفسهم. في هذه الليل كانت القرارات السريعة والعجولة والجديدة تتحرك في ذهني أن أغير خطتي وأباشر وضعا جديدا بأي شكل كان.. كيف سيكون ذكل علي أن أجد مخرجا قبل صباح اليوم التالي.. كان ذهني مشغولا بذلك.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أوهام الزول ... (Re: عماد البليك)
|
-7 – الحياة هنا ليس كما تصورتها قبل أن أصل. كنت أتخيل أنني سوف أغادر الجحيم إلى الجنة. مرت أيام وأيام والحال يتكدر والأصدقاء يصبحون أعداء ويفرزون المثالب والنوايا السيئة، هم لا يعلنون الكراهية مباشرة لكنهم يعبرون عنها بأشكال متعددة. صحيح أن وقتا طويلا يمضي في الضحك المتواصل والاستماع للأغاني ولعب الورق والتسكع في المقاهي الليلية وتدخين الشيشة وتعاطي التمباك والبحث عن العرق الرخيص في حواري المدينة القديمة، حيث يقوم على صناعته هنود جاؤوا من ضواحي كيرلا، يقدمونه بطريقة أجود من المُصنَّع في مدن السودان. قبل آخر الليل نكون أنا ومبارك ومحمدين قد دخلنا أحد هذه البيوت القصية في المكان الذي يسمونه عندنا أسفل المدينة.. على مبارك أن يدفع فوضعه المالي هو الأفضل والشباب هنا يلقبونه بالشيخ تدليلا له ودلالة على المال الوفير.. وهو لا يبخل على أحد لكنه في أغلب الأحيان تكون له مصلحة بعيدة المدى، سياسته تكتيكية في كل الأمور ونادرا ما ترى المقصد إلا بعد أن تكون قد تورطت.. يقولون عنه ذلك وأشياء كثيرة أخرى.. والشباب لا يقولون ذلك أمامه.. فكل الأشياء تقال عندما يبتعد الشخص وساعة يكون قريبا لا تعد تسمع سوى الإطراء.. "يا أخي دا زول ما في ذيه أصلا.. دا أخو أخوان".. نصل أمام جورج ونعبئ القوارير بعد أن نكون قد امتلأنا تماما.. ثم نسلك طريق العودة إلى السيارة المركونة هناك في طرف الشارع البعيد، قريبا من السوبرماركت المفضل لمحمدين حيث سيشتري باكت الدنهل وزجاجات الكوكا كولا وبعض من الصودا والبربيكان.. مشروبات مفضلة له مع الصبح يكون قد أفرغها وهو يقضي مشاوير متواصلة في الذهاب من وإلى الحمام، لاعنا البلد الذي جاء منه وسياسة الحرب الشعواء التي لم تنته بعد.. "اليوم الجماعة رشوهم بالطائرات رش.." "منوا ديل يا محمدين؟" "البي بي سي جابت الخبر" "منو؟" ليس عنده إجابة.. فهو يرى أن الأطراف المتنازعة تقف عند مساحة واحدة من أزمة بلد يضيع إلى الأبد بتصوره.. لا أحد يعمل لمصلحة عليا ولا لأجل الشعب الذي صار حكاية من الماضي.. يتذكر أيام كان أستاذا جامعيا يدرس علوم الحاسوب في جامعة الخرطوم ثم انتقل للكليات الخاصة، قبل أن يتم فصله من الجامعة الأم بحجة الترويج لأفكار هدامة هو لا يعرف ماهي بالضبط.. ولم يتم تعريفها من قبل المحققين الأمنيين الذين استدعوه ليلا ثم فكوا سراحه في الفجر بعد أن أوسعوه ضربا وتشليتا، وطلبوا منه التوقيع على ورق أمامهم لا يدري ما الذي كتب فيه.. فقد كان وعيه قد غادر إلى المجهول ورأسه تشبع بالصداع والدوار.. تلك أيام قد خلت والآن هو ممتعض من الماضي ومن أي ذكرى تجعله يشعر بأنه مواطن سوداني.. زول كما يسميه زملاؤه العرب في المستشفى حيث يعمل في برمجة الحواسيب للدكاترة وتجهيزها لفوترة الحسابات في مكاتب الاستقبال والمحاسبة.. يؤدي عمله بكل إتقان وبسرعة هائلة دون أي محبة حقيقية لما يفعله.. دائما متضجر داخل المكاتب وفي ردهات المستشفى.. وما أن يخرج للهواء الطلق حتى يبدأ يومه الحقيقي بأن يهرع إلى الشلة وهو ينفث الدنهل في الهواء الحار ويسب مدن الملح التي جعلته عبدا لهؤلاء الهنود.. فهم ملاك كل شيء هنا.. وساعة نجلس سويا ويفيض به الكيل وبعكس مبارك يروح في رواية كل الأمس.. لا ينسى نقطة على حد ظني.. حتى نتركه وحيدا يحدث النوافذ والجدران ويكح كحات طويلة بفعل الدخان الكثيف الذي يحاصره.. نكون قد نمنا على الأرض في بيت العزابة.. والمكيف يضرب بالغرفة هواء ساخن، فعلى الأغلب هو بدون غاز مجرد ماكينة تدور في الفراغ.. ويكون التلفزيون العتيق مفتوحا وقناة سودانية تبث أغاني معادة منذ أيام تتحدث عن الجدود الذي أوصوا الأحفاد بالحفاظ على الوطن.. يقوم محمدين بثقل من نومته يغلق الجهاز وهو يلعن الأغنية والتراب الغالي.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أوهام الزول ... (Re: عماد البليك)
|
Quote: اليوم كانت ضاحكة مستبشرة أنني سوف أسافر.. وتجمعت نساء الحي لوداعي وكل تجر معها ابنتها التي عنست، أو دخلها الشيب أو تكرضم أسفلها.. والبنات أعني النسوان البايرات كن يبتسمن بغفلة ويغمزن وراء أمهاتهن اللائي كن يدعون لي بطول العمر وأن أرزق ببنت الحلال.. وامتلأ الحوش عن بكرة أبيه.. وما من سيدة إلا وجاءت ومعها هدية تعبر بها عن ما تكنه نفسها من آمال لمقبل السنوات.. أما أمي فقد كان الرابح الأكبر في ذلك المساء ساعة تكدس مخزن البيت القديم بالأواني والأكواب الزجاجية والمواعين من كل الأشكال والحنة التي قالت إحداهن إنها هدية للعروس التي سوف يظفر بها ساعة يقرر الزواج.. قالت لي أمي ليلا: "النسوان ديل مجنونات... مافي هدية واحدة منهن بتنفع معاك.." كانت أخرى قد أحضرت خرطوم ماء وقالت لأمي "إن شاء الله يرشوا بيه حوشكم يوم فرحه".. تعني يوم عرسي.. بالنسبة لي وأنا استعيد ذلك اليوم.. اكتشف الخيال الباذخ لنساء الحي وقدرتهن على ابتكار الهدايا في مثل هذه المناسبات.. وكان عمي مختار شيخ الدين قد توصل لهذه النتيجة سلفا ساعة قال لي ونحن نسير معا عائدين من السوق في منتصف البلدة إلى البيوت بعد العشاء: "سترى العجب العجاب".. كان عمي نادرا ما يتكلم وإذا حدث ذلك.. يقول كلاما مقتضبا يشبه الألغاز التي تصل إلى حلها بعد مضي ليس كثيرا من الوقت في أغلب الأحيان.. وقد فهمت مقصده ساعة وصلت البيت لأجد أمي ترتب في الأغراض تحت ضوء القمر.. فالكهرباء قاطعة منذ النهار.. والماء حار في الثلاجة.. لا يوجد ما يرطب الحلق.. والنساء أحضرن كل شيء تقريبا إلا الثلج.. قلت لأمي" أنا عطشان شديد". نادتني: "تعال شوف النسوان جابن ليك شنو؟" قلت لها: "يعني أنا حخط حنة ولا حألبس شبشب نسائي ولا غويشة" فهمت أن الهدايا لها كما أعني.. وأن المعني أن تمارس قدرتها وعزمها في التأثير علي في مقبل الشهور في أن اختار بنت الحلال من خلال عملية فرز دقيق للهدايا.. ولم اشغل بالي طويلا بكل ذلك، فقد هرعت إلى غرفتي القصية ألملم حقيبتي وبعض من أوراقي القديمة وأشعاري ورسوماتي.. فأنا رجل متعدد المواهب.. ربما سأجد وقتا في الغربة لكي أفعل هذه الأشياء |
"في يوم طويل مبطُوح علي صدر الزَّمن إتْلمَّت الحِلَّة الحنينة......... عشان وداعك ياغروب........." الرائع الراحل الدّوش
شكرا أخي عماد البليك علي هذه الكتابة .......الواقع والطاعمة بلحيل........... محبتي
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أوهام الزول ... (Re: عماد البليك)
|
-9- في ذلك الفجر لاحقت إحداهما إلى أن وقفت بجوارها.. التصقت بها.. فأنا الآخر رجل ولي شهواتي ونزواتي.. وقصص عابرة في مرات متناثرة.. ليس لدي تجارب كبيرة كالتي أسمع الشلة يحكون عنها.. وليس لدي إثبات لمصداقيتها.. على الأقل قد يكون بعضها واقعي.. فأمامي الآن بيان بالعمل كما يقول أهلنا في الجيش.. ما يهم في الأمر أنني الآن بجواري هذه المرأة التي لا أرى سوى عينيها.. كانت رائحتها نفاذة قوية جدا.. من النوع المدوخ الذي اشتهرت به النساء إياهن.. هذه الرائحة التي قالت الشلة إنها دليل العهر والشرمطة.. من قال لا أذكر.. ما أذكره أننا كان في مصعد في بناية مال.. وكان الوقت نهارا.. هم أحيانا يقولون أشياء أفهم بعضها وبعضها لا أفهمه إلا بعد حين لأن تجاربي لم تكن بقدرهم أبدا.. لم تتكلم ساعة حاولت أن ألمسها.. فهي على الأعمّ لا ترغب في أن أسمع صوتها أو أتعرف عليه.. أو على هويتها.. وبفعل سريع كان قد قذفتني بعيدا ربما لكمتني وأنا لا أشعر.. فقد كنت دائخا من السكر.. فالعادة أنهم يغرقوني في الشراب ويفعلون ما يفعلون.. هم أخبروني بوضوح أنهم لا يخافوني.. فقط يريدوني أن أقضي باقي الليل أمام شاشة التلفزيون مع شريط فيديو من ذلك النوع الذي يثير الحواس ولا يفعل شيئا سوى أنه ينتهي بتفريغ الشحنات الفائضة بأطراف الأنامل.. وكنت أفعل ذلك وأنا أتخيل ما يجري في الغرفتين المجاورتين، لا أركز على المشاهد في الشاشة.. أتخيل ما وراء الحائط دون أن أكون جيدا في سماع أي شيء رغم محاولتي لإرهاف سمعي والتلصص بأذنيّ.. في ذلك اليوم قررت ملاحقة الأولى كانت أطول من الثانية.. طولها جعلها تفوّر أعصابي.. كنت مختالا بنفسي.. أظن أنني شاشي كابور.. أو البرت مورافيا في صباه.. وكنت أظن أن كل ال(.........) لهن الشهوة نفسها مع كل الرجال.. ولم أحفل بموضوع المال.. لأنني علمت أنهن لا يأتين لأجله.. هل هو الحب؟ لا أدري!.. ربما .. لأن السيدة قذفت بي بعيدا.. في إشارة واضحة إلى أنها جاءت هنا لأجل رجل واحد لا غير وليس لأجلي.. وفي تلك اللحظات كان مبارك قد خرج من الحمام فقد تبول سريعا ليلحق بها ويودعها في سيارتها العالية من بعيد وهي تنطلق قبيل الصباح مع ارتفاع صوت الأذان من المسجد القريب.. ورآني على الأرض وقد فهم ما جرى ولم يتكلم معي سوى أنه قال لي بعد أن أغلق الباب الخارجي.. "لن تبق معنا بعد اليوم.. أنت زول ما عندك أخلاق"...
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أوهام الزول ... (Re: عماد البليك)
|
- 10 – قلت أن بعض الأصدقاء القدامي ممن درسوا في الجامعة كانوا هنا.. التقيت بعضهم في مرات عديدة متناثرة.. ومبارك كان واحد منهم لكن في تلك الأيام البعيدة لم يكن صديقا بالمعنى المباشر للصداقة في أبلغ معانيها.. وكان يوم عيد ميلادي الذي أتيت على ذكره اليوم الذي يكاد قد اجتمع فيه العشرات من أصدقاء الطفولة والصبا وأيام الجامعة.. من أخبرهم ومن جاء بهم لم أسأل أحدا.. وليس لدي الحجة الدقيقة على حقيقة ما حدث رغم أنني سبق أن ذكرته.. لكن على العموم كنت أقابل الأصدقاء في كل مكان.. وهذا التعريف سوف يخضع لإعادة نظر.. فمفهوم الصداقة في حد ذاته ملتبس ومتغير مع كل مرحلة من عمر الإنسان ويخضع كذلك للمواقف والظروف والاختبارات وفي بعض الأحيان يكاد يتحول إلى موقف ميتافيزيقي لا أساس له في الواقع.. اليوم علي أن أختبر ما ظللت أردده عن الأصدقاء القدامى.. هل هم موجودون بحق.. فقد تبقت لي ساعات معدودات لمغادرة بيت العزابة إلى أين.. لا أعلم.. ما أعرفه أن التهديد بات ساري المفعول.. وأن ساعة صفري قد اقتربت فقد حدد منتصف النهار لأكون قد أخذت حقيبتي وخرجت.. سوى ذلك ليس لدي ما أملكه في هذا البيت.. غير ذكريات قاسية ومؤلمة وبعضها مثير للشفقة.. ساعة يكون الإنسان متعاطفا مع ذاته وبقوة.. ولم أكن لأتخيل أنني سأغادر هذا المكان سريعا لحظة دخلته لأول يوم وأنا قادم من المطار.. أوصلني تاكسي المطار على العنوان المقصود.. الذي حفظته عن ظهر قلب بعد المكالمة الهاتفية مع صديقي القديم الذي أذكره لكم لأول مرة.. اسمه رشاد.. لم أره سوى مرة واحدة بعد وصولي رغم أنه كان دليلي قبل القدوم، كنت اتصل عليه هاتفيا لكي آخذ منه الدروس عن الوطن الجديد.. وما أن وصلت عرفت أنه إنسان انطوائي لا يحب أحدا ولا يرغب في أن يرى سوى نفسه وزوجته.. وقد أجد له عذرا بخلاف الشلة التي وصفته بذلك.. فقد كان يعمل في الصحراء في مناطق التنقيب عن النفط.. فهو مهندس متخصص في جيولوجيا البترول وطبقاته.. عرفت أنه يتقاضى راتبا كبيرا.. وأنه متزوج من استرالية زميلة له بالعمل.. اتخذها شريكة عمر منذ سنوات.. ويقولون سرا أنه لأجلها صار مسيحيا.. ونسى السودان.. وقصص كثيرة لا أعرف مدى دقتها.. الشباب قالوا لي في أول يوم وصلت فيه: "أنت رشاد دا لميت فيه من وين؟" وقال مبارك: "يا أخي دا زول صعب شديد" وقال محمدين: "ما تبالغ يا مبارك دا زول محترم جد.. يا ريت كل السودانيين ذيه بتحب العمل ونشيطة ومتوقدة الذهن" كان ما يقوله صحيحا.. فهذا هو رشاد الذي كنت أعرفه.. وبعد يومين اتصل بي واعتذر أنه لن يستطيع أن يقابلني أو يساعدني بشيء الآن.. "..فظروفي وايضا وقته لا يسمحان.. ".. ولم أرد عليه بسوى "ما قصرت يا رشاد".. كنت أعني أنه أوصلني إلى المكان الذي سأجد فيه ابناء بلدي ليكونون لي دليلا في غربتي.. فالذي يأتي جديدا لابد له من إنسان يتطوع لأجله.. وقد قال لي رشاد "الشباب ما حيقصروا معاك".. وحدث ذلك ليومين ثلاثة... وشهرين.. لكن لم يستمر.. فلكل شيء نهاية.. ويبدو أن ما جرى معلنا عن النهاية.. كان مرتب له.. أعني من جانب العناية الإلهية التي تصنع المقادير.. وأعني أن ذلك كان لابد أن يحصل لكي يجدوا الحجة ويطردوني.. فهم في الأصل كرهوني تماما بعد أن اصبحت أجلب لهم الضيق وبعد أن أكلت من عرقهم..
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أوهام الزول ... (Re: عماد البليك)
|
على الفيسبوك يسأل (قرحطب فور برنقا)
يا عماد اخذت إجازه، هنا في سودنسز ولا سافرت
الجواب: إذا كان في الواقع بالنسبة لي شخصيا لم أسافر ويبدو أنني كنت في إجازة أما في النص أو الرواية الافتراضية هذه "أوهام الزول" فأنا باق
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أوهام الزول ... (Re: محمد البشرى الخضر)
|
العزيز عماد بليك لمن تكتمل وتطبعا كلمنا عشان نشتريها وحقو تحصل بيها معرض القاهرة الدولي للكتاب اطبعا في دار سندباد
ويبدو ان رواية دماء في الخرطوم اضحت واقع حقيقي الان والنهايات قربث التحية لك ولي اهلنا في بربر من دون فرز
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أوهام الزول ... (Re: adil amin)
|
ويا ريت تستخدم الداش(-) في الحوارت بدل" هكذا جراني إلى خارج المطعم ليهمس لي: - خلاص بلاش فضايح.. يا مليم .. - فضايح .. أنت السبب ولازم..
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أوهام الزول ... (Re: adil amin)
|
شكرا أخي عادل أمين وأتذكر متابعتك اللصيقة لدماء في الخرطوم منذ وقت مبكر.. ربما أن بعض الأشياء تحتاج إلى وقت حتى تنضج في منظور الناس.. ربما دماء في الخرطوم تحققت واقعيا ربما.. وهنا الأوهام تكبر والحياة تزداد تعقيدا
سأحاول أن اطبعها في دار أوراق فأنا عندي اتفاق معهم.. لو حصلت معرض القاهرة في اكتوبر يكون جميل .. يا رب
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أوهام الزول ... (Re: محمد البشرى الخضر)
|
Quote: وجلست وإلى جواري حقيبتي في المطعم السوداني عند ناصية الشارع الذي يؤدي إلى ما يعرف بالنادي الثقافي السوداني.. تسمية غريبة نصرّ على أننا مثقفون قبل أن نكون سودانيين. |
قليلون أولئك الذين ينفذون الى جوهر الأشياء بدون تردد جسارتك و ابداعك في الكتابة تجعلنا نتحسر على غيابك الطويل و لك محض الود الذي تعلم.
| |
|
|
|
|
|
|
|