- جزء من مشروع كتاب يتأمل في طقوس الحياة السودانية تأريخيتها وامتداداتها في الحاضر والمستقبل.. مع استحضارات ذاتية لهذه الطقوس من الذاكرة
"فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا".. (سورة مريم 23)
مثلما يحتفي السودانيون.. مثلهم كأي شعب.. بكثير من طقوس الحياة كالزواج والوفاة والختان، فهم يحتفلون بالميلاد بطريقة كثيفة الدلالات تدل على تعلق كبير بطقس الحياة في حد ذاتها، بمحاولة تنزح نحو ابتكار معنى للوجود من خلال الميلاد، ويتمثل ذلك في المرأة نفسها التي هي "واهبة الحياة" وتربة بذرة الإنسان، الذي كان "نطفة من مني يمنى"، وفي مولودها الجديد الذي يطل على نافذة العالم من خلال براءته وجماله وروعته ككان جدير بالمحبة والاحتفال. ذاكرتي حول النفاس.. مرتبطة بنساء من حولي في طفولتي وصباي بالتحديد.. منهن أمي بوجه التحديد.. والتي أنجبتني وبقية الأبناء الذين شهدتُ بدقة على مولود أصغرهم "الحتالة" كما يسمى في السودان.. وهي كلمة تشير إلى الرواسب المتبقية في أدنى أبريق الشاي أو الشيء الذي بقي من جملة أشياء، وهي قريبة لكلمة "الحثالة" لفظا، ولكن المعنى المراد طالما كان الاحتفاء قائما، فهو يتعلق بالمولود الذي يأتي في خاتمة العقد، وهنا الارتباط أكثر ما يكون بالمسك ساعة يكون "ختامه مسكا" لأن "الحتالة" كما "البكر" يخضع للتدليل والتأنيق والمحبة الفائضة، وهو أكثر حظا من البكر لأن دائرة الاهتمام تتعاظم لتشمل الأخوة الكبار. وتكبر دائرة الذاكرة الخاصة حول النفاس لتشمل نساء من الجيران وقبل ذلك الخالات.. وغيرهن من نسوة الحي.. وهي ذاكرة تنشرخ إلى نصفين.. النفاس الكلاسيكي والحديث.. والأول مكانه البيت وله من الاستعدادات والتقاليد مالاحصر له في كتاب، والثاني مكانه المستشفى، وتعد معه العمليات القيصرية التي توسعت في السنوات الأخيرة برغبة المرأة نفسها، حيث أن بعض النساء يرغبن فيها للتخلص من الألم الطبيعي في الولادة "ألم مريم"، وإن كان هذا متعلق بحالة الألم الممتزجة بحالة الخوف من الرفض الاجتماعي بسبب البحث عن هوية الطفل وأبوته. وهذا يفتح بابا عن طقوس النفاس فيما يتعلق بالنساء اللائي يولدن بشروط خاصة في السودان، ممن ينجبن أطفالا ذنبهم في الحياة أن آباءهم هربوا عن الالتزام سواء لعقد ديني أو مسؤولية اجتماعية تناط بهم، لأن طقس النفاس أيضا يشمل الرجل في العديد من المستحضرات التي يجب إعدادها سلفا والتهيؤ النفسي المسبق من قبل الرجل لاستقبال المولود، لاسيما في توفير الماديات التي ستصنع غرفة النفساء وهي لها شروط وإبداعيات وتلعب دورها كفضاء تتمسرح فيه الحياة وتتشكل لمبادرة الإنجاب والإضافة للوجود الإنساني، كذلك متعلقات الطفل نفسه، الذي لابد من الإعداد المسبق له من حيث أدواته الخاصة وملابسه وسترته، وهي كلها إشارات إلى أن كائنا جديدا سوف يضاف للحيز الأثيري المعين. وهذه الطقوس والتجهيزات مازالت قائمة عبر عقود لكنها خضعت لتغييرات ومواءمات مع فضاءات الحياة الحديثة، وهي أيضا تخضع للمتحول على الصعيد الاقتصادي، كما أن المنتج النهائي المتمثل في شكل الغرفة أو ما تلبسه النفساء أو تجهز به أو يحضر للطفل، كل ذلك، يكون أسير الوضع المادي والطبقة الاجتماعية.. وإن كان الحديث عن طبقات مثير وغير محبذ إلا أنه قائم فعليا، لكنه في الآن ذاته يرادف بأبعاد مختلفة لطقوس النفاس على مستوى التحضر المفترض عند الطبقة، مايعني التخلص من بعض ما يمكن النظر إليه كـ "خرافة" في مقابل "الواقعي" والمنطقي في الحياة اليومية.. وفي كل الأحوال فإن الخرافة تظل قائمة وما يحدث هو استبدال أنماط كلاسيكية بأنماط جديدة، سرعان ما تكشف عن عمق تجذرها في دلالات متعلقة بالطقس نفسه، وبأبعاده ذات الجذور البعيدة في ماضي الأسرة أو القبيلة أو المدينة أو الإطار المكاني المعين
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة