الاسلاميون .. ازمة الرؤيا والقيادة للكاتب/ عبد الغني احمد ادريس

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-09-2024, 02:04 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثانى للعام 2013م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
04-09-2013, 07:07 AM

مصعب عوض الكريم علي

تاريخ التسجيل: 07-03-2008
مجموع المشاركات: 1036

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الاسلاميون .. ازمة الرؤيا والقيادة للكاتب/ عبد الغني احمد ادريس (Re: مصعب عوض الكريم علي)

    الدعوة للديمقراطية/ الفصل الثاني
    التغيير السياسي
    في نهايات العام 1964م وعقب انتصار الثورة الشعبية في السودان، طرح الاستاذ محمد حسنين هيكل سؤاله الاستفزازي عقب ثورة اكتوبر في مقاله الاسبوعي الراتب (بصراحة)، تحت عنوان : ثم ماذا بعدُ في السودان ؟ ويومها هاج الرأي العام السوداني، وقامت مظاهرات وهتفت الجماهير مطالبة برأس هيكل عدو الشعب، ولكن الآن وبعد قرابة الخمسين عاما، لا يزال ذات السؤال مطروحا، ثم ماذا بعد في السودان؟
    أكثر من ستين عاما من استقلال السودان والبلاد تبحث عن الاستقرار والحكم الراشد. فلا يزال السودان وكأنه يعاني من آلام الميلاد بعد انفصال وذهاب ثلث الارض وربع السكان وثلثي الثروة، وتقف ثلاثة محددات رئيسية تنقل للمتابع الصورة عما يجري تحت السطح، ومن ثم التكهن بما يمكن ان تؤول اليه الأمور من بعد، الاول: عن كيفية تنظيم العلاقات الداخلية بين الاقاليم أو ما اصطلح على تسميته (علاقة المركز بالاطراف أو الولايات)، والثاني: مدى إمكانية توقف الحرب الدائرة في جنوب النيل الازرق وجنوب كردفان ودارفور، والطريقة التي يتم بها ذلك لأنها ستربط مصير السلام والامن الاجتماعي لسكان البلاد على ضوء نتيجتها. آخيرًا مستوى وطبيعة العلاقات التي تنظم وتحكم دول الجوار "خاصة في الجنوب مع الدولة الوليدة" بعد معارك هجيلج الأخيرة وقرارات مجلس الامن اللاحقة، وفي الشمال مع مصر على ضوء تداعيات نتيجة الانتخابات الاخيرة. مع وجوب الاعتراف بدور محوري لا يقل عن ذلك لدول ذات ارتباط وعلاقة متداخلة مثل اريتريا واثيوبيا في الشرق ويوغندا وكينيا في الجنوب وتشاد وليبيا في الغرب (مزيد من التفصيل في هذا راجع فصل العلاقات الخارجية).
    الصورة العامة:
    إن حالة القلق والإحتقان السياسي التي تعيشها البلاد أو ما اصطلح على تسميته أزمة الحكم ، يسهل قراءتها بمطالعة سريعة للاوضاع الحاكمة التي عبرت عن نفسها في التشكيلة الوزارية الاخيرة التي اعلنت في ديسمبر من العام الماضي ،والتي جاءت بعد مخاض عسير ومفاوضات متطاولة مع القوى السياسية الرئيسية في البلاد، امتدت لاكثر من ستة أشهر (من منتصف مايو وحتى مطلع ديسمبر) والتي تعد وبحق أهم مؤشرات لقراءة الوضع السياسي للعلاقات الداخلية في محيط المركز أو بين اقاليم السودان، فهي محاصصة توصلت اليها النخبة الحاكمة عقب اثنين وعشرين عاما من البقاء في الحكم.
    أولا: مفاجأة المؤتمر الوطني :
    أولى تلك المفاجآت ان قائمة المؤتمر الوطني الشريك الأبرز أو (الحزب الحاكم والمسيطر كما تصفه اصوات المعارضة) جاءت قائمة منسوبيه المشاركة في الحقائب الوزارية خالية من اية مفاجآت وذلك باستمرار ذات الوجوه المتكررة لأكثر من عشرين عاما على مستوى مستشاري الرئيس او الوزراء او حتى وزراء الدولة ، وهو على عكس ما وعد به الرئيس البشير "رئيس الحزب " في مؤتمر للشباب والطلاب خاطبه في فبراير من ذاك العام عقب نجاح الثورة المصرية واندلاع الثورة الليبية، حيث قال ان الحكومة القادمة التي ستتشكل عقب الإنفصال سيكون نصيب الشباب فيها( 90%)، وراجت بعدها شائعات تقول بأن الرئيس سيعمد إلى تعيين "نائب للرئيس" من الشباب، ونشطت لجان تتبع لوزير الكهرباء تدفع في ذات الاتجاه.
    لذلك تكون "المفاجأة" في قائمة المؤتمر الوطني "انه لم تقع مفاجأة". مما يفتح الباب امام المراقبين للتنبؤ بان أولى ردات الفعل لهذه التشكيلة الجديدة يتوقع ان تأتي من داخل اسوار "الحزب الحاكم" فيما يشبه ان يكون حالة من التذمر في اوساط القطاعات الشابة في الحزب والدوائر، التي كانت ترى ان تصعيد قيادات جديدة وجيل جديد من الشباب يمكن ان يدفع بدماء جديدة الى شرايين القمة، ويعطي الحزب جرعة من التجديد يحتاجها الآن اكثر من اية فترة ماضية، وكذلك يعطي الشعب من خلفه بارقة امل في تجديد وتغيير يبدأ بالأشخاص والقيادات وينتهي بالسياسات وفق خطة اصلاحية شاملة (اشبه ببروسترويكا أو غلاسنسوت سوداني على الطريقة السوفيتية) تستفيد من عثرات الماضي وتلجم دعوات وأصوات التغيير على الطريقة المصرية او الليبية التي تعج بها اصوات المعارضة السياسية والعسكرية للنظام، خاصة بعد قرارات الزيادات الأخيرة على الوقود والسلع. وهو ما ظهر لاحقا في مذكرة الألف وما جرى بعدها.
    في الحكومة التي تشكلت عقب انتخابات 2010م كانت عضوية الحزب قد أطلقت عليها من باب التهكم "حكومة مديري المكاتب" لأن شخصين قياديين في الحزب قد أدخلا كل سكرتيريهم السابقين في التشكيلة الحكومية، الاول شخص نافذ للغاية قام بتعيين (14 ) مساعدا سابقا له كوزراء اتحاديين، والثاني استطاع الحصول على سبع حقائب اتحادية لمساعديه السابقين(تشمل وزراء مركزيين ووزراء دولة).
    طائفة الإتحادي أم حزب المراغنة؟
    الحزب الاتحادي الديمقراطي (الذي يعرف باسم الاتحادي الاصل) أصبح هو الشريك الثاني في الحكم مع حزب المؤتمر الوطني، وقد جاءت المشاركة كخاتمة متوقعة لحوار امتد لاكثر من عشرة اعوام استهله الامين العام السابق للحزب ابراهيم احمد عمر وبرعاية ومباركة مصرية رسمية مع السيد محمد عثمان الميرغني مرشد الطريقة الختمية وراعي الحزب -الذي اصبح بوضع اليد في حكم زعيم الحزب- منذ فترة اقامته في القاهرة بعد خروج د.الترابي من قيادة المؤتمر الوطني، مما جعل المشاركة اشبه بدخول طائفة الختمية منها الى حزب الاتحاديين، الشئ الذي دفع خصوم المشاركة ينعتون المشاركين الجدد بانه تجديد لـ"حزب الشعب الديمقراطي" أو طائفة الختمية (كما سماها د.بشير رحمة القيادي في حزب الترابي) خاصة وان "مولانا" قد اختار ابنه رغم صغر سنه وضعف تأهيله وقلة خبرته بالعمل السياسي للمنصب الاول المخصص مما يدل على ان "الطريقة" أو"المزاج" كانت سابقة "للمعايير والمؤسسية" في عملية الاختيار والترشيح، مما جعل سهام النقد تتوجه بكثافة للسيد محمد عثمان الميرغني على الثنائية والازدواجية التي يظلل بها قرارات القيادة، فتأتي ضبابية وتطلب من الآخرين الانخراط والطاعة حتى ولو كانت المشاركة هامشية لا تليق بمستوى حزب الحركة الوطنية الاول وصانع الاستقلال في نظرهم ووفق تقديرهم. فلا عدد الحقائب التي نالها الحزب في السلطة ولا نوعها ولا طريقة الترشح لها، كانت وفق عملية ديمقراطية او مراعية لمستوى الحزب وحجم القيادات التي ترشحت لها.
    حزب الصادق الشريك الخفي:
    رغم الضجيج الاعلامي الكبير والكثيف الذي غلفت به عناصر حزب الامة موضوع دخول عبد الرحمن نجل زعيم الحزب في التشكيل الحكومي الحالي ،بيد أن مشهد أدائه للقسم، ومن ثم نشاطه المكثف داخل القصر (وفي لجنة الاستنفار التي اعقبت احتلال هجليج) يجعل من الحزب أشبه بالشريك الخفي في السلطة ،خاصة وأن أصواتا حكومية كبيرة ومتكررة كانت تردد باستمرار أن السيد صادق المهدي زعيم حزب الامة (أو آخر رئيس وزراء شرعي منتخب كما يحلو له ان يطلق على نفسه في الحوارات الصحفية) ينال باستمرار أموال الحكومة وحصصا مالية ثابتة، أشبه براتب شهري تحت ستار "تعويضات الحزب عن خسائر المصادرة" التي تعرضت لها أصوله بعد الانقلاب في 30 يونيو أو "قوائم التفريغ" داخل الحزب، كان ابرزها تصريح ادلى به الاستاذ علي كرتي وزير الخارجية في زيارته لواشنطن في خطابه للجالية السودانية هناك بأن (الصادق والميرغني "سجمانين" يفلحون فقط في أخذ الأموال من الحكومة ويكتفون بالنقد الشفاهي ولا يجرأون على التقدم اكثر من ذلك خطوة ضد الحكومة)، وقد نشر موقع (ويكيليكس) الشهير برقية من السفير الامريكي في الخرطوم عقب لقائه مع د.فاروق محمد آدم عضو المكتب القيادي والعائد لتوه إلى صفوف حزب المؤتمر الوطني قوله للسفير (الميرغني والصادق المهدي يبيعون ذممهم لفترة قصيرة ، ولذلك المؤتمر الوطني عندما يدفع لهم اموالاً فانه يعلم أنها تلعب دور المسكن لوقت قصير جدا)، اذاً فالشراكة القائمة حاليا عمادها المال وتكمن فاعليتها في لعب دور المخدر لعناصر المعارضة الأخرى، الذي ربما سيقوم حزب الامة بلعبه مع الأطراف وفق الحكمة الانجليزية (wait and see)"صبر وانتظار" لصالح حزب المؤتمر الوطني. ولكن هل سيغامر صادق بمستقبل حزبه في شراكة محكومة السقف اذا توافرت شروط وإرادة حقيقية للتغيير في الشارع؟؟
    الطبعة الرابعة للإنقاذ:
    الاحزاب الاخرى ذات المشاركة والدور الصغير هي موسمية الجريان، فحزب الاتحادي جناح جلال الدقير قد جرت له عملية رفع الى أعلى وفق القاعدة (kick him up) حتى لا يشعر بان مشاركة الميرغني جاءت خصما عليه، كذلك في بقائه في التشكيلة يمسك صناع القرار الإنقاذي بكرت يضغط على الميرغني بقوة ويساعد على تفكيك أكبر أحزاب الكتلة الوطنية الذي يقوم حزب المؤتمر الوطني بإحلال جزئي بطئ لقواعده واذابتها والتمدد في مساحاته الفكرية (فكرة حزب الوسط، او حزب الحركة الوطنية، ...الخ)، بقية متفككات احزاب الامة (المهندس عبد الله مسار حتى بعد استقالته، د.أحمد بابكر نهار، الصادق الهادي،....الخ) تنظر اليهم الحكومة من زاوية نفوذ شخصياتهم ومراكزها القبلية، فالأول ينحدر من بيت أكبر أعيان قبيلة الزغاوة في دارفور، والثاني من مركز قوى وسط عرب دارفور، والثالث يمثل القيادات الشابة في بيت آل المهدي، ...الخ.
    (يقول إن الترتيب معكوس: نهار من الزغاوة ومسار من العرب)

    المكون الرابع في التشكيلة هو القوى القبلية والجهوية مثل جبهة الشرق ،ومتبقيات حركات سلام ابوجا، والمنشقون من الحركة الشعبية (جناح تابيتا بطرس) بالاضافة الى حركة تجاني سيسي. وهؤلاء يحتفظون بمواقعهم بحسب اهمية الرمزيات التي يمثلونها على السواء أكانت جهوية او اتفاقيات سلام او خلافه.
    بلا أدنى شك ينظر المراقبون الى هذه التشكيلة التي تجلت والانقاذ تدخل على الطبعة الرابعة من نسختها ، فالاولى، التي كانت تحالفا مع الحركة الاسلامية التي يمثلها حسن الترابي، والتي بدأت في 30يونيو 1989 وانتهت في 12/12/1999 او الرابع من رمضان، والثانية التي كانت انقاذا بدون الترابي مع تحالفات صغيرة اهمها الحزب الاتحادي جناح الشريف الهندي والاخوان المسلمون وانصار السنة، ومؤقتا حزب الامة جناح مبارك الفاضل. ونسختها الثالثة بعد توقيع اتفاق السلام الشامل ودخول الحركة الشعبية وانتهت بانفصال الجنوب، وهاهي البوابة الرابعة للانقاذ تفتح في اجواء الربيع العربي بما يشبه الردة التاريخية أو ما يمكن وصفه بــ (تحالف الجيش والطائفية السياسية، السيدين).
    الخروج من النفق:
    يعترف كل القائمين على الامر في الخرطوم، بأن هناك ازمة حكم تطرح نفسها بقوة ،ولكن تختلف اسباب الشرح لها، وبالتالي زاوية النظر للطريقة المثلى اتخاذها، المتابع للشأن السوداني يلاحظ أن رؤية القيادة الحالية للاصلاح او حل أزمة الحكم تتخلص في تبنيها لإستراتيجية تقوم على قاعدة "فقه الإستِيعاب" وهو إشراك وإدخال أكبر قدر من الخصوم والأعداء في العملية السياسية بإقتسام الكيكة معهم، ومن ثم منحهم وظائف في السلطة ونصيبا من الثروة، وقد كانت تجربة الحركة الشعبية (يوليو2005- يناير2011م) هي اوضح نموذج على فشل هذه الرؤية التي كانت كما وصفها في وقت من الأوقات نائب الرئيس علي عثمان "مليئة بالمطبات الهوائية"، ولكنها ما لبثت أن إنتهت بالبلاد وقيادة الحزب إلى مأزق تاريخي يكاد يقضي على ما تبقى من رصيد او مشروعية سابقة، بما جرته من كوارث وازمات متلاحقة تأخذ برقاب بعضها البعض.
    هناك نقطة جوهرية "كما أشار اليها الكثير من المراقبين" ألا وهى أن الإطار الذي يمكن أن يستوعب عمر البشير وجون قرنق وخليل ابراهيم وصادق المهدي وسليمان حامد وعقار وهلمجرا، هو في حقيقة الأمر سياق لا بد وأن يكون مختلا، إن لم يكن هناك الاتفاق على شكل وهيكل واضح للحكم، تُحل فيه القضايا الرئيسية، ويُجاب فيه على كيف هو شكل الحكم؟ وليس من هو الذي يحكم؟ مع العمل على تجنب شعارات الإثارة، فالظن السابق بأن إذاقة هؤلاء من عسل السلطة كفيل بأن يتركهم يتناسون "مظالمهم المدعاة"، ثبت أنه ظن أجوف، لا يقوم على رؤية ناجعة ذات صلة بالوقائع أو تحليل عميق لجوهر الأزمة ومسبباتها الحقيقية، فالأول يتحدث عن مشروع إسلامي، والثاني يتحدث عن مشروع تحرير -لا أحد يعرف تحرير مِن ممن؟- والثالث يحمل الكتاب الأسود، والرابع يبحث عن زعامة سياسية مقدسة تاهت منذ قرن، والخامس يبحث عن حكم علماني، والسادس والسابع ..الخ، كان أجدى وأدعى للصدق أن يتحدث السياسيون في السودان عن الاتفاق على قواعد للعبة السياسية، وطريقة جديدة لإدارة الصراع فيما بينهم عوضاً عن مبدأ المشاركة. فالدعوة إلى "توحيد الجبهة الداخلية" والإتفاق على "ثوابت وطنية" أو تغليب مصلحة البلاد القومية، أو الاتفاق على الأجندة الوطنية، أو غيرها من الشعارات الزاهية التى يُطلقها معسكرا أهل الحكم وأنصار المعارضة، تبقى مجرد شعارات جوفاء إن لم يصحبها تنازل للوصول إلى ارضية مشتركة بين المتلاحين، فإذا كان الحاكمون يظنون أن في امكانهم أخذ كرت تفويض مفتوح من المعارضة والسير به في كل الإتجاهات دون أن يكون هناك ثمن تتقاضاه هذه المعارضة، هو ضرب من الوهم التحليلي أدعي بصاحبه ترك العمل في السياسة والبحث عن مجال آخر للتعبير عن ذاته، وكما قال أحد المعارضين بعد أحداث هجليج الأخيرة عندما دعت الحكومة المعارضة الى التوحد ضد الغزاة(1) "الحكومة تريد منا أن نضحك حين تضحك هي، ونبكي حين تبكي" . وفي القول إشارة إلى استقبال الحكومة لفاقان أموم واحتفالها به في الخرطوم في نهاية مارس قبل الحرب في هجليج بأيام، وفي المقابل اذا كانت المعارضة تظن أن الحكام سيخرجون إلى الناس ويعلنون تنازلهم عن السلطة وإعترافهم بالأخطاء التي ارتكبوها جملة واحدة ودعوتهم لتحديد ممثلين عنهم لتسلم السلطة منها، فهذا هو الجهل بعينه. فنظام محاصر بهذه الطريقة وينظر من جميع الإتجاهات فيجد الطرق مسدودة – من وجهة نظر المعارضة- لن يكون امامه إلا ان يستميت في القتال والدفاع عن نفسه، ولو جر ذلك كل مقدس ومحذور لديه، وغير بعيد التجربة الماثلة في سوريا، إن المثل الانجليزي المعروف يقول: انك لا تستطيع ان تأكل الكيكة وتحتفظ بها في ذات الوقت (you cannot eat the cake and have it too)، ان اطلاق مثل هذه الدعوات لإستخدامها كوقود لإضافة مكاسب آنية للإستمرار في السلطة أو التعجيل بخلع حاكم أو كرصيد ليجري إستغلاله لتمرير أجندة ذاتية، ذلك تلاعب بالشأن الوطني يفتقد الى الحس التاريخي، كما أنه من ابرز ما يضاعف حالات انعدام الثقة ويعمق الهوة بين الاطراف المتخاصمة، وبالتالي يزيد من حالة التوتر القائمة في الساحة الوطنية، ولن يقود إلا إلى المزيد من المخاوف والقلق من المصير المظلم.
    إن الدعوة للديمقراطية التي يصحبها "إصلاح سياسي حقيقي وجذري" في كل المشهد السياسي وليس في حزب بعينه دون الآخرين، هو أمر لا بديل له ولا يتم الواجب إلا به، فلو كانت القيادة السياسية الحاكمة أو المعارضة في البلاد اليوم جادة في التوصل الى ثوابت وطنية تقي البلاد شفا التمزق والتشتت الذي تقف على حافته، فالأجدى بنا الدعوة إلى السعي الحثيث إلى إرساء نظام ديمقراطي مدني حقيقي تكون إرادة الشعب فيه هي الغالبة ،ويقوم على المحاسبة والتجديد وحرية الرأي والتعبير، ولا يعني ذلك بأي حال من الأحوال العودة إلى ما قبل 1989م بكل ما تمثله تلك الديمقراطية من عيوب ونهج إستئصالي يقوم على الطائفية السياسية التي تجعل من الشعب ومثقفيه أدوات سيطرة وتحكم عن بعد، ثبت مع الأيام انها –الطائفية السياسية- لا تنظر إلا إلى مصالحها الذاتية ودائرة طموح الأسرة وأفرادها من منظور ذاتي ضيق، على أن ذلك لا يعني أن ما توصلت إليه التجربة الحالية في الحكم من نموذج إحتكاري ضاق حتى بأهله الأقربين، وصادر حرية الرأي والتعبير وانتهى إلى تقسيم البلاد، هو البديل الأوفق الذي نقول بأنه "هو أو الطوفان".
    ان التفكير في طريق ثالث يأتي من اهل الاستنارة والرأي ويحتاج من أولي العزم التشمير والتجرد للخروج بمنوذج مشرف يستلهم تجارب الامم من حولنا ويقود بلادنا الى بر الامان، فلا ينقطع عن إرثه الوطني القومي، ولا ينعزل عن واقعه المحيط وعالمه الذي يحيا فيه ويستمد من جذوره العميقة في أصله الافريقي المبدع ، وحضارته وثقافته الاسلامية والعربية التي تعايشت وتناضحت وتلاقحت مع مكوناته المحلية لأكثر من ألفي عام، ومن ثم يحافظ بذلك على ما تبقى من البلاد ويعمل على انتشالها من وهدة الضياع التي هي موشكة على السقوط فيها.
    نماذج وسيناريوهات التغيير:
    إن هناك حالة شبه إجماع عامة بين المحللين والمراقبين للمشهد السوداني، ترى أن التغيير "حتمي وقادم بلا جدال" بيد أن السؤال يتوقف عند كلمتين: متى؟ وكيف؟ ففي السودان هناك حكومة ولها حزب كبير ومنتشر ومتمدد وأيضا متململ، وهناك معارضة مدنية شاخت وهرمت ولم يعد فيها أمل أن تقود إلى تغيير يؤدي إلى إصلاح حقيقي، مما ولّد حالة من الإحباط والعزوف في الأوساط الشعبية التي تملكها اليأس من هؤلاء خاصة الشباب الناهض، وفي المقابل هناك تصاعد ناشئ في صراع المركز مع قوى الأطراف والجهويات التي تحمل السلاح وتطالب بتغيير جذري لا يشمل اشخاص الحاكمين وأرديتهم السياسية، بل تطالب بأن يمتد إلى أن يتضمن هياكل ونظام الحكم. ومن خلال النظر في هذه المعطيات الثلاثة (حزب حاكم، معارضة مدنية، معارضة مسلحة) يمكننا إعادة قراءات المشهد واستنباط ثلاثة سيناريوهات يمكن للتغيير القادم أن يتبلور من خلالها:
    الاول: الطريقة التقليدية التي أضحت ظاهرة في الدول التي من حولنا "دول الربيع العربي، على الأقل النموذج المصري أو التونسي"على غرار ما جرى في السودان نفسه في اكتوبر 1964م أو أبريل 1985م، وهذا السيناريو لا يتملى في المشهد القائم في السودان الآن بطريقة عميقة ، ليلاحظ الفروقات الكامنة في بنية السلطة الحاكمة حاليا، والتي لا تمثل طبقة "برجوازية بلغة اليسار" حاكمة معزولة عن الشعب كتلك التي في تونس، أو تحالفا بين بيروقراطية عسكرية وأوليغاركية مدنية مثل تلك التي في مصر، بل أن النموذج الأقرب هو القائم الآن في سوريا - مع مراعاة الفوارق ايضا ان قاعدة الحكم الآن هناك تستند الى اقلية مذهبية ،على عكس الموجود في السودان- فالحزب الحاكم في السودان هو حزب يقوم على ميراث عقدي اثبت في معركة هجليج الاخيرة أنه لا يزال يمتلك قدرة هائلة على تعبئة أنصاره والشعب وجعلهم على استعداد لحمل السلاح والموت، بمختلف الدعوات حتى مع حالة تراجع المشروعية الاخلاقية أو التردي الإقتصادي أو طول البقاء في الحكم، وهذه القدرة على تعبئة الجماهير وإلهامها بالقضايا الحقيقية(2)، ودفعها نحو التحرك لإنفاذها هو بعينه ما تفتقر إليه المعارضة بصورة كبيرة.
    الوقود المحرك للتغيير في هذا النموذج هو المعارضة المدنية بكل تشعباتها (أحزاب طائفية، القوى الجهوية، يسار،...الخ) وغني عن القول أن هذه القوى، والتي ليست على جديلة واحدة، ما يفرقها اكثر مما يجمع بينها، وأثبتت التجارب الكثيرة التي خاضتها ضد هذا النظام نفسه، أن الإتفاق على برنامج الحد الأدنى بينها هو ضرب من المستحيل، فتجربة التجمع الوطني الديمقراطي الراحل لا تزال شاخصة في أذهان الكثيرين من قادتها، فالمكون الأساسي لهذا التشكيل هو القوى التقليدية واليسار ومجموعة مناصرين، منهم المؤتمر الشعبي وبعض القوى الجهوية، الكتلة المتماسكة الأساسية والتي لها نفوذ جماهيري هي ما يطلق عليها الإسلاميون " الأحزاب الطائفية" ويُسميّها اليسار بـ "القوى الرجعية" والمتمثلة في أحزاب الامة والإتحادي أو بيت المهدي وبيت المراغنة، فهؤلاء من خلال وجودهم الطائفي أو بقايا نفوذهم في الولايات ووسط زعماء العشائر يتوافر لديهم هامش حركة مقدر يمكنهم من الإتصال بالجماهير والعمل على إستقطابها متى حانت اللحظة المطلوبة للكسب، وهي الإنتخابات، إلا أنها تحبذ أن يتم التغيير بطريقة سلمية بدعوى وطنية صادقة، وهي أن ظروف السودان وطبيعة تماسك نسيجه الوطني والاجتماعي حاليا لا يحتمل التغيير العنيف أو التغيير بالقوة، وهؤلاء تكمن قوتهم الحقيقية في الريف الذي هو ساحة مكشوفة للعمل من خلال جهاز الدولة، حيث صعوبات الإنتقال وسوء وسائل المواصلات تجعل من يمتلك جهاز الدولة هو القادر على تعبئة الريف وكسبه لصفه. لقد أثبتت التجارب المتكررة أن الحاكمين الآن أقرب إلى هؤلاء من حلفائهم اليساريين في المعارضة، فقط كل المطلوب هو تحييد الجيش عن المؤتمر الوطني، أي فتح ثغرة نفاذ يجري بها تمييز بين (البشير والآخرين)، وبالتالي الإتفاق مع رجال الجيش أسهل ما يكون، بدعوى انها مؤسسة الإستقرار البيروقراطي الأولى في البلاد والأكثر إنتشارا والأقوى أداة في تنفيذ قراراتها، بإختصار هي أساس مشروعية الحكم للحكام الآن "من وجهة نظرهم". أقوى دليل على هذا الرأي هو الشراكة السياسية القائمة الآن بين بيت الميرغني وبيت المهدي والرئيس البشير، والتي تُعد تعبيرا حقيقيا لإتفاقات سابقة بينهم، الأول إتفاق جيبوتي في 1999 مع صادق المهدي، والثاني إتفاق القاهرة مع الميرغني2005م.
    المكون الآخر في هذا السيناريو هو أحزاب اليسار (الحزب الشيوعي، البعث، الناصري،...الخ) التي تقوم أفكارها على ضرورة تغيير جذري في هيكل السلطة، وتجد نفسها في وفاق مع البشير في أمر واحد وهو إزالة الطائفية السياسية من الوجود السياسي في السودان، وتخالفه بعد ذلك في كل شئ، وقاعدة إرتكازها وحيويتها تكمن في الخبرة التراكمية الفنية الفائقة في الإتصال والتعبئة الجماهيرية، ولها مقدرة علي التحرك بصورة فعالة وسط القطاعات الحية في المجتمع، مثل الشباب والطلاب والمرأة والمهنيين، لكن تحفيزها للجماهير للخروج بات متراجعا جدا، كما أن روح الفداء وسط عضويتها تكاد تكون صفرية، ولكنها استطاعت أن تستفيد من تجربة العشرين عاما الماضية في اختراق منظمات حقوق الإنسان الدولية مثل (هيومان رايتس) و(امنيستي انترناشونال) و(افريكان ووتش) وغيرها، وتمكنت من تثبيت عضويتها بها ومن ثم المساعدة على التعبئة السياسية من خلال إستغلال واجهات هذه المنظمات لتوفير إدانات دولية تعمل على عرقلة جهود الحكومة في التواصل مع الغرب والتطبيع معه، وبالتالي "إحكام حصار النظام" دبلوماسيا، وما يمكن ان يوفره ذلك من صعوبات اقتصادية تجعل امر الحكم صعبا...الخ. وظهرت فاعلية ذلك في الإدانة المتكررة للجان حقوق الانسان طيلة العشرين عاما الماضية للحكومة، كذلك حمل الإتحاد الأوربي ومركز كارتر على التقليل من شرعية نتيجة الانتخابات الاخيرة 2010م.بالنظر إلى سجل المعاملات فقد دللت التجارب السابقة ان حالة من التشكك والتربص تضرب بين هذا المكون والقوى التقليدية في العمل المعارض، فهؤلاء ينظرون إلى الطائفية التي كانوا يتوهمون أنه يمكنهم ركوبها لإسقاط النظام ومن ثم القضاء عليها، إلا أنها فعلت العكس بهم، فما أن وجدت الطائفية الفرصة مواتية لإتفاق مع الحكومة، حتى تخلت عنهم فعجّلت بهم في غدائها.
    النموذج الثاني في عملية التغيير هو: تمكن المعارضة المسلحة في الأطراف من الإنقضاض على المركز وتتولى حكم البلاد، على قرار النموذج الليبي الذي حاول بعض المهتمين بالشأن السوداني تزكيته في الغرب، مثل عضو الكونغرس السابق الراحل دونالد بين زعيم الكتلة السوداء، والذي قام قبل وفاته بأيام بمخاطبة حشد كبير في إحدي الولايات الأمريكية وقال فيه ما ملخصه (ان نموذج اسقاط القذافي يمكن ان يُلهمنا طريقة للتخلص من حكام الخرطوم)، فهذه القوى الطرفية أو التي تعبر عن مطالب جهوية ربما تكون عادلة في محيطها الريفي، إلا انها تولد مخاوف حقيقية لدى اهل السودان من طبيعة التكوين العرقي والجهوي لقوة الحركات المسلحة المقاتلة هذه، ويذهب البعض الى وصمها بأنها قوى صاعدة "على أكتاف عرقية" تتدثر بمسوح التحرير والتغيير وتجد كامل الدعم من بعض دول الجوار خاصة الدولة الجنوبية الوليدة، ولا يهم إن كان لديها تعاطف خارجي خاصة في الولايات المتحدة طالما أنها غير قادرة على توظيف ذلك في عمل حقيقي يقود إلى إنفاذ مشروعها السياسي، كما فعلت مُلهمتها الحركة الشعبية في الجنوب، غير أنها لاتزال في نظر المراقبين بعيدة كل البعد عن توفير شروط التغيير التي تقود إلى ديمقراطية حقيقة في البلاد. كما أن هذه الحركات ظلت عرضة للإستغلال بصورة متكررة من جهات خارجية، وهو ما كشفت عنه مثلا معركة امدرمان التي نُفِذت تحت راية حركة خليل ابراهيم، ووُجد في الأخير أن ليبيا هي من تولى تمويلها، وتشاد هي التي قامت بتجهيزها وهندسة طرقها وتشوين وإعداد قواتها، كذلك ما كشفه الخطاب الشهير لسلفاكير في فبراير الماضي الذي قال فيه إن (الخرطوم قبل أن تصل إلينا في جوبا عليها أن تقاتل عبد العزيز الحلو وعقار في النيل الأزرق ثم تدخل الينا في الجنوب) . فهذه الحركات مع كل التعاطف الذي تجده من بعض أهل تلك المناطق، ينظر إليها آخرون بأنها تمثل أجندة لدول خارجية تخفض وتزيد من قيمتها الدفترية بقدر ثيرومتر العلاقة مع الخرطوم، وتلك الدول يرتفع أو ينخفض بحساب مصالحها هي لا شئ آخر. حتى اتحادها فيما يُسمى بالجبهة الثورية، هو الآخر إطار غير متسق ولا يحمل رؤية واضحة لحل المشاكل القائمة والمتجذرة في السودان منذ الإستقلال، ولا يجمعه غير هدف مركزي واحد ، وهو إسقاط النظام دون أن يجتهد هؤلاء في السؤال، ثم ماذا بعد اسقاط البشير؟؟ فهل كل مشاكل السودان قد نشأت مع الإنقاذ أو ولدت مع البشير؟؟ لقد عبر عدد كبير من متعاطفي هذه الحركات في الغرب عن مخاوفهم اذا اتيحت لهؤلاء الفرصة للوصول إلى مشروعهم الحربي هذا إلى غاياته مما يمكن أن يُوقع بالإستقرار في السودان والإقليم المحيط به، ومصالح القوى الدولية – من وجهة نظرهم- في المنطقة من شر مستطير أنذر منه قومه.
    الطريق الثالث للتغيير هو ذلك الذي يحافظ على البلاد في إستقرارها ويمكنها من المضي قدما في إكمال برامج التننمية الإقتصادية والإجتماعية ويحافظ على كسبها الذي بدأت به في عهدها الأول في إنتشال البلاد من وهدة التفكك والتمزق من خلال تقديم أطروحة سياسية تبشر بديمقراطية وإصلاح سياسي حقيقي تتسم بالصدق والتجرد، وهو أن يأتي التغيير من داخل أسوار المؤتمر الوطني من خلال تحفيز العناصر الشبابية الصاعدة، التي صارت لديها قناعة حقيقية بالديمقراطية، وضرورة إعتمادها كوسيلة ناجزة لإدارة الخلاف وتنظيم الصراع بين البشر، أولاً بإلزام القيادة الحالية بإقرار نموذج ديمقراطي داخل الحزب وفق رؤية جديدة تحمل وجوها ورموزا جديدة، ومن ثم قيادة التغيير والتحول نحو الديمقراطية خارجه على صعيد الوطن بصورة عامة.
    في حزب المؤتمر الوطني اليوم لم يأت الإيمان بالديمقراطية وحتمية انفاذها في الوطن بطريقة غير مسبوقة ولا تضاهى أو يتصف بها مثيل من بين عضوية الأحزاب الأخرى، من فراغ، بل أتى كنتيجة طبيعية لصيرورة الصراع والمنافسة الداخلية بين مكونات القيادة في الحزب نفسه، وذلك فيما اشرنا إليه من فصول هذا الكتاب، كذلك القناعة الراسخة من أن تغييب الحريات والكبت وما يتبعهما من إحتكار للسلطة لا يولد غير الإنفجار والنهج الإقصائي، الذي تعشعش فيه طفيليات الفاسد وبوم الخراب، وتلك لم تكن في يوم من الأيام رسالة حركة تنسب نفسها إلى الإسلام، وتدعو إلى إقامة مشروع رسالي ينقل المجتمع إلى آفاق النور والرفاهية تحت رايات الكفاية والعدل الإجتماعي.
    إن قيادة التغيير نحو الديمقراطية من هذا الطريق، كفيلة بأن تحفظ للبلاد إستقرارها وأمنها الإجتماعي وسلامتها الوطنية من المحاذير التي أشرنا إليها بأعلى، وإن التقاط عضوية الحزب – أعني الشباب منهم - لقفاز المبادرة في الدعوة نحو الديمقراطية والإصلاح السياسي في البلاد، كفيل بأن يصبح نقطة تحول جوهرية في مسيرتهم يمكنهم من خلالها أن ينطلقوا لدعوة الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني الأخرى لتحذوا مسيرتهم، وبالتالي تصبح نقطة يمكنهم البداية منها للعبور نحو مستقبل آمن، ويعود الحزب من خلالها إلى دوره القائد في مسيرة البناء الوطني، في شراكة سياسية قومية عمادها رضاء الناخبين وتجديد مشروعيتهم.
    نظرة في طريق الحل:
    أن اية محاولة للنظر في المشهد السياسي العام في الوطن، لابد وأن تدرس بتأنٍ السياق أو المُصهر الذي يجري إعداد الوضع المراد اصلاحه، والذي تقوم العمد الأساسية فيه على رؤيا للحل تستند إلى المكونات الأساسية في البلاد للمؤسسات الوطنية الثلاث الضامنة لإستقرار وإستمرار الوطن وهي (المؤسسة السياسية، القبيلة، الجهاز البيروقراطي أو ما يمكن تسميته بالدولة) وفي قراءة سريعة للمشهد العام لهذه المكونات يمكننا تسجيل ملاحظات عاجلة مجملة:
    فأولا: هناك المؤسسة السياسية او ما بات يعرف حاليا بـ"المجتمع المدني" بكل فروعه وتصنيفاته (السياسية مثل الأحزاب، أو الدينية مثل الطرق الصوفية، أو القوى الشبابية الصاعدة المتمثلة في الجماعات السلفية، أو الجماعات المطلبية المتجسدة في النقابات، أو جماعات الضغط، أو القوى الحديثة بعلمانييها وإسلامييها ويسارييها..الخ) هذه المؤسسة لها دور كبير وحساس في دفع عملية الإستقرار إلى الأمام، على الرغم مما تعرضت له من ضربات في فترة الأربعين عاما الماضية، ونهش الأنظمة السياسية لجسدها بغرض إضعافها، ونيل القوى الجهوية والعرقية من كيانها، إلا انها لا تزال متماسكة بدرجة ما.
    تعتبر الأحزاب السياسية هي المعني الأول بالحوار فيها وتلعب الدور الرائد في عميلة القيادة والإنتقال تلك، ولكن تعاني هذه الأحزاب من جملة إشكالات بنيوية ضاربة في الجذور أقعدتها عن أداء الدور الوطني المرجو منها: فأولا هناك إشكالات الرؤية والفكرة، خاصة في القضايا الوطنية المعقدة، ثانيا إشكالات القيادة والتجديد، فكل المشهد السياسي الجاثم (حاكما أو معارضا) قياداته تتجاوز السبعين عاما، وبعضهم يرفل في الثمانين "متعهم الله بالصحة والعافية" لا يحيلهم من مقاعدهم تلك إلا "عزرائيل" تلبية للنداء الإلهي الحق، ولكن لا يجب لوم القيادات وحدها، بل العضوية وجماهير تلك الأحزاب التي لولا ركونها وتنازلها عن حقها في التجديد والمحاسبة ،لما استمرأت تلك القيادات إستدامة الإقامة في أبراجها العاجية تلك، بل وتوريث أبنائها، وتجهيزهم لذلك، في ذات الوقت الذي ينادون فيه بالديمقراطية في كل ناد وواد، دون أن يروا أدنى تناقض بين دعوتهم للديمقراطية تلك ، وسعيهم للتحكم في أتباعهم حتى بعد أن يدخلوا إلى القبور بتحديد من يتولى من بعدهم وكيف يفعل ذلك، على ملأ من السماء ومشهد، في القرن الحادي والعشرين الذي سقطت فيه أوهام الزعامة والتوريث في بلاد كبرى مثل ليبيا ومصر وغيرهما. هناك قضايا أخرى شائكة مثل نظرة الولاء وأولوياتها (هل للوطن، أم القبيلة، أم الحزب وانعكاس ذلك على قضايا الهوية ...الخ). أيضا لا بد من الإشارة بكل أسف إلى الدور السالب للمثقفين السودانيين"الذين سماهم الأستاذ كمال الجزولي نبات الظل"(3) هذه الصفوة التي تمالئ هذه الطائفية السياسية لتصعد على ظهورها وتزين لها الطريق من جهة أو تدفع بأهلها من القرويين لمحرقة قتال من جهة أخرى. لكل هذه الأسباب وغيرها لم يعد هناك أمل في المؤسسة السياسية الحالية أن تقود إصلاحا سياسيا أو عدلا إجتماعيا يأخذ الوطن نحو مصاف الإستقرار وشواطئ التنمية، لذلك هجرت القوى الجديدة والصاعدة جدرانها وارتحلت إلى مكوناتها الطبيعية والقبلية تستجير بالأجنبي وتتلفع بظله الذي اضحى ظلا من يحموم لا بارد فيه ولا كريم. إن الأحزاب لها ثلاث مهام لا تتعداها كما يصفها فقهاء العلوم السياسية، الأولى هي أنها تعمل كوسيط بين المجتمع والإدارة القائمة فيه، والثانية هي تربية ورفد الساحة العامة بالأجيال الجديدة، والثالثة أنها التي تصوغ خيارات وبدائل الخطط والمواقف السياسية. ومن هذا يمكننا الحكم على الأحزاب المتسيدة في الساحة الآن بالنجاح أو الفشل من إعمال هذا المعيار.
    المؤسسة الثانية: القبيلة وهي الوحدة العضوية الأساسية في تكوين المجتمع، فهي الضامن الطبيعي لإستقرار وإستمرار النوع، وقد قامت الإدارة البريطانية في السودان بربطها من خلال القيادات التقليدية العشائرية (زعماء القبائل) بالجهاز البيروقراطي في البلاد، وذلك من خلال منح هذه الزعامات سلطة تنفيذية وإيكال بعض الصلاحيات القضائية والإدارية إليها (جمع الضرائب والمحاكم الاهلية..الخ)، مما عزز نفوذها ورسخ من سلطانها في المجتمعات التي كانت تنتشر فيها، وبالتالي قامت بتأمين توطيد أركان النظام الإداري في بقاع كان يستحيل على جهاز الدولة "كما هو حديث ومعروف في وقتها" تغطيتها بطريقة فعالة، فقد وفرت موارد مالية وقدمت خدمة سلطوية ناجزة ومفيدة للحاكم، ولما جاءت الإنتخابات التشريعية لم يكن هناك من هو جاهز غير زعيم العشيرة الذي تسنى له إكتساح الإنتخابات بطريقة مضمونة، مما جعل الأحزاب والزعامات الدينية تتسابق إلى كسب ودهم، الشئ الذي فتح لهم نافذة ربط مع المؤسسة السياسية، حتى صاروا هم العماد الأساسي فيها بسطوتهم في الريف -الذي يمثل مالا يقل عن 90% من أصوات الناخبين- وسطوتهم على سكانه، وقد رأينا كيف أن خوض الإنتخابات على أساس عشائري في الستينات أعاد إلى القبيلة دورها بقوة، مما استدعى اليسار إلى حل الإدارة الأهلية كأول رد فعل بعد انقلاب مايو ووصمها بألفاظ لا تليق(4)، ومع كل الإحتفاظ بالولاء الكائن لدى رجال العشائر للقيادات الطائفية الدينية أو قيادات الأحزاب السياسية إلا أن كل حكم عسكري يجد نفسه مضطرا للتحالف معهم على السواء، إن كانت أطروحات هذا الحكم هي "التحديث والتطوير، أو الإشتراكية العملية، أو التوجه الحضاري الإسلامي، أو التحرير...الخ) وذلك لسبب أساسي بسيط هو أن هذه المؤسسة هي المرجع الأخير لمجتمع يعاني من التكلس الإجتماعي في بنيته التحتية، ويشكو ثالوث الفقر والجهل والمرض، فكون القبيلة هي الملاذ الأخير لكل من يتردى من عالق المؤسستين الأخيرتين فهو بالأمر الطبيعي، ولعل هذا هو السبب الرئيسي في الردة السياسية الكبيرة التي سقط فيها كبار المثقفين في طريقهم إلى الحكم، مما دفع د.تجاني عبد القادر للتعجب عندما سأله د.الترابي "ألا يوجد من أسلافك من كان شيخاً أو زعيماً؟" قطب التجاني حاجب الدهشة حين أدرك انه قضى سنوات في رسالة دكتوراة اكتشف الآن أنها لا تسمن ولا تغني من جوع في تراتيبية الحزب ومعايير التصعيد الجديدة فيه إلى أعلى(5)، في الجانب الآخر يجد رجال العشائر انفسهم مضطرين إلى مسايرة ومجاراة كل حكومة لسبب بسيط أيضاً وهو ضمان استمرار مصالح مواطنيهم واتباعهم، التي لا تحتمل مخالفة الدولة في صغيرة او كبيرة "خاصة دولة في مثل ظروف السودان تحتكر كل شئ" مهما كان شكل أو نظام البرنامج الذي تطرحه.
    إن الحكمة تستوجب تعهد هذه المؤسسة وحمايتها وليس تعكيرها، ولكن رعايتها لا تتم بتزكية النعرات واحياء روح التنافس – خاصة في ظروف ضيق الموارد والكوارث الطبيعية-، عن طرق حماية هذه المؤسسة أن يقوم المجتمع بتشجيع الترابط الأفقي، عبر التواصل الثقافي وتخليق وجدان قومي مشترك بين أهل الوطن الواحد، وتشجيع التزاوج والتصاهر بين المجموعات العرقية المختلفة لتزكية الإندماج الإجتماعي، وفي الهدي النبوي " تباعدوا" وصولاً إلى إنصهار قومي يؤمّن المجتمع من الفتن والتناحر، ويبقى السؤال: هل يمكن لمؤسسة القبيلة أن تقود مبادرة لإعادة الديمقراطية، الإجابة معروفة وهي أنها مؤسسة تقليدية تجنح بطبعها إلى المحافظة، وبالتالي لا تتبنى أو تشجع المبادرات على ذلك.
    المؤسسة الثالثة: يبقى الجهاز البيروقراطي في البلاد هو العمود الثالث في بنية الوطن باعتباره جهازا نظاميا حديثا للخدمة العامة بمختلف تدرجاتها(عسكرية، مدنية، قضائية،...الخ)، ولكن في ظروف العالم الثالث فهذه المؤسسة وثيقة الصلة بالجهاز السياسي في البلاد، ترتفع بصعوده وتنخفض بترديه، ولعل هذا هو قدر كل الدول في الاقليم المجاور لنا، لكن الجديد في الوضع السوداني، هو الرباط المتصل بدرجة ما، بين هذا الجهاز ومؤسسة القبيلة، التي يحاول بعض ضعاف النفوس استغلال روابطها لتحقيق مأرب ذاتية، فمثلا ما قام به بعض منسوبي الأجهزة النظامية من تواطؤ مع القوات التي غزت امدرمان، اتضح من خلال التحقيقات أن مؤسسة القبيلة قد ضغطت على بقية الإنتماءات بما فيها الإنتساب المهني بل والوطني نفسه، حتى القيادة الحالية قد جرى جرح وتعديل على مستوى شعبي كبير فيما يتعلق بخياراتها في التفضيل بين مساعديها وبطانتها، ثبت من بعد أن الإنتماء القبلي لم يكن بعيدا عنه، عند النظر إلى القبيلة كمؤسسة مؤثرة وحاكمة في بعض تصرفات النخبة السياسية الحالية (بشقيها الحاكم والمعارض) يُلاحظ أنها تتجاوز حتى الجهة"الجهوية" وهو ما اتضح في أزمة دارفور الأخيرة، على سبيل المثال قضية تسرب امتحانات الشهادة السودانية في العام 2003 والتي كانت تصل إلى منسوبي قبيلة واحدة في كل السودان في الوسط أو الشرق أو بقية الولايات.
    الجهاز البيروقراطي للدولة في مقدمته الأجهزة النظامية وعلى رأسها القوات المسلحة، التي تُعتبر المخدم الأكبر في عدد منسوبيها، وتكتسب أهميتها في أنها قوة الإجبار وإنفاذ القانون الأقوى بين مكونات هذا الجهاز، كما أن روح الإنضباط والربط التي تلحم منسوبيها غير متوافرة بذات الإسلوب في أية مؤسسة أخرى، أيضا مجموعة الأفكار والتقاليد السائدة فيها والتي تتجسد في "عقيدتها القتالية" ظلت تقدم الولاء الوطني على كل اعتبار آخر، وهو ما جعلها حتى الآن تنال قبولا شعبيا كبيرا ولم يُقدح في قوميتها على الأقل من منظور جهوي، ولكن في ظروف القرن الحادي والعشرين هل يمكن لمؤسسة عسكرية أن تتولى السلطة وتدعو إلى تحول ديمقراطي في البلاد ويقبل العالم بذلك فلا يبادر إلى محاصرتها وملاحقتها، ذلك سؤال أعقد من الإجابة عليه في هذه العجالة.

    • مبارك الفاضل المهدي في حوار مع قناة العربية، ابريل 2012م.
    • إن عُد هذا انجازا فهو يرجع بقدر كبير إلى الفهم المتقدم لعضوية الحزب وليس لمقدرة القيادة بأي حال من الأحوال.
    • راجع كمال الجزولي "الانتجلينسيا نبات الظل"، سلسلة مقالات في الصحافة مايو-يونيو 2001م، راجع كذلك فصل حوار مع النخبة الوطنية في السودان، في هذا الكتاب.
    • كانت هتافات اليساريين في أول أيام مايو بعد صدور قرار حل الادارة الاهلية "تسقط الادارة الاهلية، يسقط اذناب الاستعمار"، وهو شعار ظل اليساريون يرددونه منذ ثورة أكتوبر1964م.
    • راجع التجاني عبد القادر، مقالات في النقد والاصلاح نزاع الاسلاميين في السودان.
                  

العنوان الكاتب Date
الاسلاميون .. ازمة الرؤيا والقيادة للكاتب/ عبد الغني احمد ادريس مصعب عوض الكريم علي04-08-13, 02:48 PM
  Re: الاسلاميون .. ازمة الرؤيا والقيادة للكاتب/ عبد الغني احمد ادريس محمد حامد جمعه04-08-13, 02:51 PM
    Re: الاسلاميون .. ازمة الرؤيا والقيادة للكاتب/ عبد الغني احمد ادريس مصعب عوض الكريم علي04-08-13, 03:12 PM
      Re: الاسلاميون .. ازمة الرؤيا والقيادة للكاتب/ عبد الغني احمد ادريس عبدالله عثمان04-09-13, 06:27 AM
        Re: الاسلاميون .. ازمة الرؤيا والقيادة للكاتب/ عبد الغني احمد ادريس مصعب عوض الكريم علي04-09-13, 07:02 AM
          Re: الاسلاميون .. ازمة الرؤيا والقيادة للكاتب/ عبد الغني احمد ادريس مصعب عوض الكريم علي04-09-13, 07:04 AM
            Re: الاسلاميون .. ازمة الرؤيا والقيادة للكاتب/ عبد الغني احمد ادريس مصعب عوض الكريم علي04-09-13, 07:07 AM
              Re: الاسلاميون .. ازمة الرؤيا والقيادة للكاتب/ عبد الغني احمد ادريس مصعب عوض الكريم علي04-09-13, 07:48 AM
                Re: الاسلاميون .. ازمة الرؤيا والقيادة للكاتب/ عبد الغني احمد ادريس مصعب عوض الكريم علي04-09-13, 07:50 AM
                  Re: الاسلاميون .. ازمة الرؤيا والقيادة للكاتب/ عبد الغني احمد ادريس مصعب عوض الكريم علي04-09-13, 07:52 AM
                    Re: الاسلاميون .. ازمة الرؤيا والقيادة للكاتب/ عبد الغني احمد ادريس مصعب عوض الكريم علي04-10-13, 07:26 AM
                      Re: الاسلاميون .. ازمة الرؤيا والقيادة للكاتب/ عبد الغني احمد ادريس Mohamed Hamed Ahmed04-10-13, 08:05 AM
                        Re: الاسلاميون .. ازمة الرؤيا والقيادة للكاتب/ عبد الغني احمد ادريس مصعب عوض الكريم علي04-10-13, 08:47 AM
                          Re: الاسلاميون .. ازمة الرؤيا والقيادة للكاتب/ عبد الغني احمد ادريس مصعب عوض الكريم علي04-13-13, 10:23 AM
                            Re: الاسلاميون .. ازمة الرؤيا والقيادة للكاتب/ عبد الغني احمد ادريس مصعب عوض الكريم علي04-15-13, 10:00 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de