دارفور: ثورة مضادة بثمن رخيص /الكس دا وال

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-06-2024, 00:29 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة يوسف ابراهيم عزت الماهري(ابنوس)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
01-07-2005, 05:18 AM

ابنوس
<aابنوس
تاريخ التسجيل: 04-19-2003
مجموع المشاركات: 1790

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
دارفور: ثورة مضادة بثمن رخيص /الكس دا وال



    - السودان -
    دارفور: ثورة مضادة بثمن رخيص

    الكس دا وال

    كتبت في 23 يوليو 2004.

    ترجمة: احمد زكي

    --------------------------------------------------------------------------------

    --------------------------------------------------------------------------------





    المشهد الطبيعي لأرض دارفور يمتلك جمالا قاسيا، يبوح بأقل ما تبوح به المخيمات الصحراوية في آمو. إنه سهل تحيط به أراض صخرية من كل ناحية كما يحيط السوار بالمعصم، تلك الجبال التي كونتها البراكين القديمة. على البعد يبدو من الأفق ممر ترسم رماله الوردية علامات مجرى النهر الذي يتكون في موسم المطر، وادي كوتوم. منذ سنوات عديدة، أقمت هناك ضيفا على ناظر (شيخ القبيلة الأكبر) احد القبائل العربية الرحل التي تعرف باسم الجلول. هذه القبيلة، بخيامها العريضة السوداء المنصوبة في الرمال، وجمالها التي تقتات على الأشجار الشوكية القائمة هناك، ومزارعها القليلة المتناثرة هنا وهناك ولكنها تلقى منهم أحسن رعاية، هذه القبيلة تترجم الشكل الذي تصوره كتب الاثنوغرافيا.

    اليوم، آمو تقع في مركز العنف الذي يمزق أوصال دارفور: عشرات الآلاف قد ماتوا فعلا، وفر مئات الآلاف من منازلهم. المذبحة الأولى في الصراع وقعت على بعد أميال قليلة من آمو، عندما قتلت مليشيا الجنجويد عشرات عدة من القرويين الذين كانوا يبحثون عن ملاذ آمن في كوتوم.

    قابلت الناظر العجوز، الشيخ هلال موسى، في 1985. كانت خيمته تحمل ممتلكاته الشخصية التي تدل على طبيعة بدوية تمسك بها طول عمره – جرار الماء، الرماح، السيوف، سروج الخيل، الحقائب الجلدية والبنادق القديمة. دعاني للجلوس قبالته على وسادة فارسية أنيقة، وقد صاح على مرافقه أن يأتي بالشاي الحلو على صينية من الفضة، واخبرني إن العالم قد أوشك على نهايته. في تلك الأوقات، كان الجفاف يضرب بدارفور والتغيرات المصاحبة للأزمة تطل برأسها. كانت الرياح الصحراوية ترمي برمالها على سفوح التلال الخصبة، وعندما تمطر السماء كانت المياه تشق أخاديد عبر التربة البركانية الخصبة على طول الوادي.

    الأسوأ، أن القرويين الذين لعبوا دوما دور المضيف للبدو الرحل وجمالهم، يضيقون الآن على هجرات البدو، ويمنعون عنهم الكلأ ومياه الآبار.

    عنفني الشيخ هلال لأنني لا أتحدث العربية كما ينطقها الرجل الإنجليزي: كل الضباط الاستعماريين تعلموا العربية الفصحى، وليست عربية أهل دارفور التي التقطتها. قال لي إن آخر إنجليزي نزل بضيافته كان تيسايجر مساعد حكمدار المنطقة، الذي كان يخدم في كوتوم. كانت شهرة تيسايجر في دارفور أنه قناص ماهر. في تلك الأيام، لم يكن مسموحا لأحد في دارفور ما عدا الضباط الإنجليز بحمل بنادق قوية دقيقة التصويب من اجل اصطياد الأسود. في أوان زيارتي عام 1985، كان من النادر أن ترى متجرا خاصا للأسلحة النارية. أعطاني الناظر عند سفري منشة للذباب من ذيل الزراف. اختفت تماما من دارفور الأسود والزراف، لأسباب أكثرها تغيرات ايكولوجية منها نشاط رحلات سفاري الصيد الاستعمارية، اللهم إلا القليل منها في الأطراف الجنوبية من الإقليم، حيث تمتد الغابات إلى جنوب السودان وجمهورية أفريقيا الوسطى. في الهضبة الشمالية شبه الجافة لدارفور، حيث تتضاءل السافانا حتى تختفي في الصحراء، نرى أحيانا بعض الغزلان.

    كان هلال شخصية قيادية، حتى وهو في الثمانينات من عمره، نحيلا، مقوس الظهر، وبات لا يرى تقريبا. الصوفيون – تقريبا كل أهل دارفور هم أتباع لفرقة أو اخرى من فرق الصوفية، التي تنتمي لمدارس غرب أفريقيا – يتحدثون عن البركة، وهي نعمة يمنحها الله. يعتقد الشيخ هلال إن ’المشيخة هي منحة يهبها الله‘. درجات المشيخة يصنعها الإنسان. فالرجل، بدلا من التمسك باللقب الرسمي رفيع الدرجة وهو لقب الناظر، يتعلق أكثر بلقب أدنى مرتبة ولكنه أكثر قيمة وهو لقب الشيخ: انه معروف على اتساع دارفور ببساطة باسم الشيخ هلال. اليوم اسم ابنه الشيخ موسى أكثر ذيوعا بين الناس: موسى هلال هو قائد الجنجويد؛ اسمه يأتي الأول على رأس قائمة الولايات المتحدة لمجرمي الحرب هناك.

    كان الشيخ هلال فخورا ببدويته بشكل لا يلين. كان يصر على أن يمتلك كل فرد في قبيلته جمالا. قال لي، مشيرا لحفيده، ’انظر لهذا الولد الصغير، حتى هو يمتلك جمالا‘. ربما كان ذلك حقيقيا: حتى في هذه الأوقات العصيبة، اشتهرت عائلة الشيخ هلال بأنها تمتلك عدة آلاف من الجمال، برغم أن الشيخ قد بلغ من الكبر عتيا حتى يتمتع بركوب احدهم وقد ضعف نظره للدرجة التي لا تمكنه من رؤية طوابير ابله بوضوح. كان مرعاهم يقع على بعد ثلاثة مئات من الأميال شمالا، يقتاتون على عشب الصحراء المسكر الذي يظهر بعد الأمطار. مؤخرا باع ابن أخيه 120 جملا ليوفر الطعام لأصهاره الجوعى، واقرض الشيخ هلال الكثير من إبله لذوي قرباه المعوزين، رغم تناقص أعداد الإبل المريع الذي لم يعرفه الشيخ من قبل. قال الشيخ، "نحن نساعد بعضنا البعض، لن يضطر احد من الجلول أن يتحول للزراعة أبدا".

    ولكن بعد مسيرة ساعة، نجد مخيما للجلول الذين فقدوا جمالهم وماعزهم أثناء الجفاف وقد استوطنوا المنطقة في محاولة لاستصلاحها من اجل الزراعة. القرويون المحليون، من جماعة التانجور (فرع لصيق بالفور، وهي اكبر جماعة عرقية في الإقليم)، تنازلوا لهم فقط عن الأراضي الرملية الجافة، محتفظين لأنفسهم بالأراضي الغرينية الخصبة القريبة من الوادي. وادي كوتوم، المشهور بالبلح الحلو، هو واحد من أغنى الأراضي الزراعية خصوبة في شمال دارفور، وقد اعتنى التانجور بتسجيل ملكية تلك الأراضي منذ زمن طويل قبل أن يعرف الفلاحون الآخرون أهمية التسجيل العقاري للأرض. ثار سخط الفلاحين من الجلول وهم يحرثون الأراضي الجدباء العالية في محاولة لاستزراع بضعة مزارع قليلة من حبوب الدخن. بذل شيخ الفلاحون الجدد من الجلول أقصى ما يستطيع ليظهر كرمه. في المساء دعانا لمأدبة سخية من لحم الماعز والأرز، وأعطانا توجيهات حتى نستدل على مكان أبنائه وجمالهم. عندما فرغنا من الطعام، وقد أكلنا أكثر مما ينبغي، صاح على ابنة أخيه: "هات الدور الثاني من الطعام، يا بنت"! ولكن هذا الدور لم يأت.

    غزا البريطانيون دار فور (ارض الفور) عام 1916، بعد هزيمة جيش السلطان على دينار، سليل مؤسس سلطنة الفور في القرن السابع عشر، سليمان سولونج، الذي يقع قبره الذي ناله الإهمال الطويل في الجبال على مبعدة يوم من السفر إلى الجنوب من بلدة آمو. ومثل كثير من الزعماء السياسيين الأساسيين في دارفور، ينحدر سولونج من أصول مختلطة، ابن لأب عربي وأم من الفور. بالرغم من الحديث عن ’عربي‘ و’إفريقي، فمن النادر بناء على لون الجلد أن تتمكن من تحديد لأي جماعة ينتمي الفرد في دارفور. كلهم عاشوا هناك معا لقرون وكلهم مسلمون.

    تحمل كثير من خرائط دارفور أسماء قبائلية منقوشة على مناطق واسعة، لتفترض أن بعض هذه المناطق يقطنها بشكل حصري واحدة من ثلاثين أو يزيد من المجموعات العرقية التي تعيش هناك. قد يكون ذلك خادعا: هناك مثل هذا التاريخ الطويل من الهجرات الداخلية، والاختلاط والمصاهرة بينهم الذي جعل من الحدود الإثنية على الأغلب مسألة مفيدة. الأفراد، وحتى الجماعات بأكملها، تستطيع أن تتخلص من احد المسميات وتكتسب الآخر. عندما اجتاح البريطانيون المنطقة، وجدوا أن من المريح افتراض أن زعماء العشائر الكبار يمتلكون بدقة سلطة محددة على الجماعات العرقية وسلطان تشريعي على الإقليم الذي تعيش فيه هذه العشائر. توافق أهالي دارفور مع هذه التصور، الذي ساعد البريطانيين على إدارة دارفور بواسطة مجرد حفنة من الضباط الاستعماريين. المفتاح الذي جعل نظام ’الإدارة الطبيعية‘ هذا يعمل كان هو منح مقاطعة، أو دار، لكل جماعة. لم يكن بالضبط حق ملكية الأرض، ولكن زعماء العشائر الكبار كان مسموحا لهم تخصيص حقوق الأرض للسكان. وحتى سنوات الجفاف في الثمانينات، كان هناك ما يكفي من الأرض لمنح القادمين الجدد، مهما كانت عرقيتهم، قطعة من الأرض ليزرعونها.

    كان البدو نشازا في هذا النظام. معظم من وصفوا بهذا اللقب كانوا في الحقيقة رعاة يحتلون مساحات محددة بدقة، ولكن كان هناك قليل من المجموعات البدوية الحقيقية في دارفور، مثل قبيلة الشيخ هلال جلول الرزيقات. كانوا يتنقلون في مساحات شاسعة بين المناطق المعشوشبة في فصل الجفاف في وسط وجنوب دارفور ومنطقة المراعي في الموسم المطير على حافة الصحراء في الشمال. في السبعينات، حكومة جعفر نميري الاشتراكية منحت الجلول ’مجلسا شعبيا ريفيا‘ في شكل قرية اسمها فتا بورنو (حيث غادرنا الطريق لنجد آمو)، ولكن ذلك لم يكن أكثر من استراحة إدارية، وأكثر من مكان يستطيعون فيه تسجيل أسمائهم من اجل الاقتراع وإرسال أولادهم إلى المدارس. اعتمد الجلول على التنقل، من اجل رعي قطعانهم، وعبور طرق الهجرة بين مزارع فلاحي الفور والتانجور، لرعي جمالهم على سفوح الجبال.

    وصف الشيخ هلال ما يمكن اعتباره بأحسن ما يكون على انه ’الجغرافيا الأخلاقية‘ لدارفور. إنها مثل رقعة الشطرنج، بمربعاتها الحمراء تمثل المزارع، والبيضاء تمثل المراعي التي تستطيع قطعانه الرعي فيها. يقول الشيخ، "حيث ما تكون الحشائش والأمطار، يهبني الله بيتا هناك". احمد دريج، حاكم سابق لإقليم دارفور و، منذ ذلك الوقت، معارض سياسي قديم، يتذكر كيف أن أبيه، إبراهيم، شارتاي من الفور، (شارتاي هي كلمة اخرى تعني كبير لرؤساء العشائر)، كان يستضيف عائلات الشيخ هلال وإبلهم كل موسم في قريته، كارجولا، في المنحدر الجنوبي لجبل مرة. كان الشارتاي إبراهيم يذبح ثورا في استقبال الجلول، الذين كانوا يرعون جمالهم في الحقول بعد حصادها، مسببين بذلك استعادة خصوبة الأرض، بالإضافة إلى مساعدة القرويين على نقل محاصيلهم إلى الأسواق. عند الرحيل، كان الشيخ هلال يقدم جملين من جماله هدية لمضيفه. مثل الكثير من عرب دارفور، كان الشيخ هلال يستخدم بشكل عارض بعض الألقاب العنصرية، مثل الزورجا (’السود‘)، ليشير إلى الفلاحين الفور والتانجور. والفلاحون بدورهم كانوا يطلقون عليهم ألقاب مثل ’الهمج‘ و’عبدة الأوثان‘. ولكن مجتمعات كلا الطرفين اعتمد كل منهما على الآخر، وتزاوجت العائلات الكبيرة من الطرفين فيما بينهما.

    اعتمد الجلول وحفنة من الجماعات البدوية الأخرى، دون أن يمتلكوا دارا، على نظام جغرافي اجتماعي منحهم حقوقا عرفية في الهجرة والتنقل ورعي حيواناتهم في مساحات يسيطر عليها الفلاحون. ظل هذا الوضع ساريا لعقود طويلة، ولكن في الثمانينات، هدد الجفاف والتصحر وتوسع المزارع تلك الحقوق.

    انقطعت جغرافيا الشيخ هلال الأخلاقية: مهد النظام الكوني الطريق إلى الفوضى. ولكن الشيخ مات بدلا من أن يتغير.

    الإدارة الطبيعية‘ كانت حكومة محلية رخيصة السعر. مرتبات كبار رؤساء العشائر كانت زهيدة، ويتسلمون مكافآتهم نظير استبدادهم المحلي. بعد استقلال السودان في 1956، حاولت الحكومات المتعاقبة إرساء خدمات محلية مثل الشرطة والمدارس والعيادات الطبية. تم إلغاء مناصب النظار والمشايخ رسميا وتم إنشاء "المجالس الشعبية‘ بدلا منها لتقوم بنفس الوظيفة. ولكن الخرطوم لم تقم بتسليمهم الأموال اللازمة للتمويل أبدا، ونحو أوائل الثمانينات، كانت الحكومات المحلية قد أفلست تماما. لو أراد حاكم دارفور شن حملة بوليسية ضد رجال العصابات المسلحة، كان عليه أن يجند مركبات ووقود لها من مشروعين تنمويين ريفيين يمولهما البنك الدولي، أو وكالات المعونة الأخرى. و لو أراد عقد مؤتمر بين القبائل لحل نزاع، كان مضطرا أن يطلب من مواطنيه الأثرياء في المنطقة أن يغطوا النفقات.

    انفجرت سلسلة من الصراعات المحلية في دارفور في ظل الجفاف والمجاعة في 1984 – 1985. في العموم، نشبت جماعات الرعاة أظافرها في القرويين فيما أصبح صراعا مرا من اجل الموارد المتناقصة. لم تتمكن الحكومة من التدخل بشكل مؤثر، ولهذا سلح الناس أنفسهم. قافلة من الف جمل تساوي أكثر من مليون دولار وهي قائمة على اخفافها: فقط أكثر مالكي القطعان سذاجة هم الذين لن يسلحوا رعاتهم بالبنادق الآلية. وقد سلح القرويين أنفسهم في المقابل. كانت هناك محاولة لعقد مؤتمرا للصلح في 1989، ولكن توصياته لم توضع موضع التنفيذ أبدا.

    وفي عام 1989 أيضا اسقط الإسلاميون حكومة الصادق المهدي في الخرطوم. (كسب الصادق المهدي الانتخابات في 1986، بعد خلع النميري بعام). رأس الدولة وقتها أصبح هو الجندي القح الأبطش، عمر البشير، الذي حكم بواسطة تحالف غير مريح مع حسن الترابي، القائد ذو الشعبية الطاغية للحزب الإسلامي في البلاد. حاولت حكومة دارفور، والإسلاميون في الحكم، أن تستعيض عن الندرة بالعقوبات الوحشية المغلظة لتنزل بالخارجين على القانون ووزعتها هنا وهناك: الإعدامات والعرض العلني لجثث من قاموا بعمليات السطو المسلح، وقطع أيادي اللصوص. في 1994، أعادت الحكومة مجلس الإدارة الطبيعية القديم ووزعت المناطق على كبار رؤساء العشائر. بدون تمويل لتوفير الخدمات، وسلطة مجددة بشكل مفاجئ لتوزيع الأرض (التي أصبحت شحيحة)، وعملاء دوليين مسلحين ذاتيا في كل مكان، كان ذلك ميثاقا من اجل تطهير عرقي على مستوى محلي. بعد هذا الإصلاح الإداري مباشرة، كانت هناك جولة اخرى من القتل في أقصى غرب دارفور. كثير من أسباب الصراع الحالي، إذا، يعود بأصوله إلى حقوق الأرض وعيوب ونواقص الإدارة المحلية. ولكن الحكومة المركزية، هي الأخرى، متورطة في مصيبة دارفور، بإهمالها وسوء تصرفاتها بالتساوي.

    الجغرافيا ضد دارفور، القريبة من حدود تشاد، التي يقال إنها بعيدة عن البحر بأكثر من أي بلدة اخرى في القارة. هذا الجزء من دارفور، المشهور باسم دار مساليت على اسم الجماعة العرقية الغالبة هناك، ابتلع داخل السودان عام 1922، بمعاهدة بين السلطان والإنجليز. مؤخرا جدا، حفيد السلطان، وقد ترأس بلاطا في قصر قديم متهالك، اعتاد أن يطلق النكات من انه لا يزال يمتلك الحق في الانفصال عن السودان، وهو يعلق على الجدران بشكل حاد خرائط دار مساليت وأفريقيا، ولا يعلق خريطة للسودان.

    ينتهي القطار من الخرطوم عند بلده نيالا في دارفور الجنوبية بعد مسيرة ثلاثة أيام. إنها على الأقل أكثر بيوم من السفر عن طريق السيارة إلى الجنينة، إذا لم يكن الطريق مقطوعا بالأودية التي تصنعها مياة الأمطار التي تسيل من هضبة جبل مرة. الخرطوم تجاهلت دارفور: يتلقى سكانها تعليما اقل، رعاية صحية اقل، مساعدات تنمية اقل، مناصب حكومية اقل من أي منطقة اخرى – حتى الجنوبيين، الذين حملوا السلاح منذ أكثر من 21 عاما ليقاتلوا من اجل حقوقهم، يمتلكون ظروفا أفضل. داخل دارفور، تم تهميش العرب وغير العرب على السواء، والمأساة هي أن قادة هذه الجماعات لم يصنعوا قضية مشتركة في مواجهة لا مبالاة الخرطوم.

    سوء بخت آخر في جغرافية دارفور هو أن حدودها مشتركة مع تشاد وليبيا. في الثمانينات، كان حلم العقيد القذافي هو ’حزام عربي‘ عبر أفريقيا السواحيلية. حجر الزاوية في ذلك كان اغتنام السيطرة على تشاد، بداية من شريط اوزو في شمال البلاد. قاد القذافي مغامرات عسكرية متتالية في تشاد، من 1987 حتى 1989، واستخدمت الفصائل التشادية التي تدعمها ليبيا منطقة دارفور كقاعدة خلفية لها، تزودهم بالمحاصيل والماشية من القرويين المحليين. على الأقل في احد المرات، تسبب ذلك في اعتداء القوات التشادية الفرنسية المشتركة على أراضيهم أثناء مطاردتهم لهذه الفصائل. كثير من الأسلحة في دارفور جاءت من هذه الفصائل. كانت صيغة القذافي في هذه الحرب صيغة توسعية: كان القذافي يجمع العرب السواحليين والطوارق الساخطين، ويسلحهم، ويحولهم إلى كتائب إسلامية تخدم كرأس حربة لهجومه. من بين هذه الكتائب كان العرب من غرب السودان، الكثير منهم من أتباع طائفة الأنصار المهدية، الذين اجبروا على الحياة في المنفى إبان حكم النميري عام 1970. تلقى الليبيون هزيمة موجعة من قوة تشادية عسكرية حصيفة في قاضي دوم عام 1988، وتخلى القذافي عن أحلامه الوحدوية. وبدأ القذافي في خلع العباءة الإسلامية، ولكن أعضاء الكتائب التي كونها، المسلحين والمدربين – والأكثر أهمية من كل ذلك – الذين تتملكهم نزعة عنصرية للتفوق العربي، لم يختفوا. فترة الفيالق الإسلامية عاشت في دارفور: قادة الجنجويد هم من بين هؤلاء الذين يقال عنهم انهم تلقوا تدريبهم في ليبيا.

    عندما تمت الإطاحة بنميري، كنا قد وصلنا إلى أواسط الثمانينات، وبدأ الأنصار العودة إلى ديارهم من المنفى. بعد أسابيع قليلة من مقابلتي للشيخ هلال، ذهبت ابحث عن أبنائه، الذين يقومون برعي أبلهم في الصحراء. سافرنا إلى الشمال، ورأينا مسارات مركبات عسكرية تعبر الصحراء متجهة جنوبا. في 1987، العائدون من ليبيا تصدروا عملية تكوين الكتلة السياسية المعروفة باسم التحالف العربي. على احد المستويات، كان التحالف ببساطة هو حلف سياسي يستهدف حماية مصالح الجماعة المغبونة في غرب السودان، ولكن التحالف أيضا أصبح مطية لايدولوجيا عنصرية جديدة. الألقاب العنصرية التي لا تحمل مغزى سياسي له وزنه من الزمن القديم بدأت في اتخاذ أبعاد منذرة بالخطر في دارفور. اكتسب التحالف أيضا حيوية باتفاق حركته مع الإيديولوجية السائدة للدولة السودانية، النزعة العربية المختلفة جدا لوادي النيل. أصبحت الحرب في دارفور في نهايات الثمانينات أكثر من مجرد منازعات على الأرض: كانت هي الخطوة الأولى في بناء أيديولوجية عربية جديدة في السودان.

    من الصعب أن تعثر على روايات للأنباء عن الحرب الحالية في دارفور لا تصفها بأنها حرب’العرب‘ ضد ’الأفارقة‘. مثل هذا الوصف قد لا يكون قابلا للفهم منذ عشرون عاما، عندما كانت المفاهيم الدارفورية عن العرقية والمواطنة ما زالت في حدود القوالب الموروثة من سلطنة دار الفور وسلاسل دول السودان التي تمتد غربا حتى ساحل الأطلنطي. المسار المهني القصير ولكن المأساوي لأحد سياسيي الفور، داوود بولاد، يصور لنا المسار الذي اتخذت فيه مصطلحات العرب والأفارقة مثل هذا المنعطف.

    كان بولاد واحدا من الزعماء الإسلاميين الشباب من هذا الجيل، ولكنه هجر الإسلام السياسي بعد أن ترك جامعة الخرطوم والتحق بالجيش الشعبي لتحرير السودان، بزعامة جون جارانج. لا يوجد ما هو أكثر بعدا عن المذاهب الإسلامية التي اعتنقها بولاد سابقا – ولا ما هو أكثر تناقضا معها – من الأيديولوجية التي يتبعها الجيش الشعبي لتحرير السودان (SPLA). برغم أن جارانج جنوبي والعديد في حركته يلحون في طلب دولة انفصالية لجنوب السودان، فهو نفسه غير انفصالي ولا يطالب بالانفصال. انه يؤمن بان غير العرب في السودان – تحالف من الجنوبيين والجماعات المهمشة في الشمال السوداني، مثل الفور – يشكلون أغلبية عددية ويجب أن تكون لهم السيادة على سودان علماني تعددي وموحد.

    لذلك قام جارانج بالتجنيد من المجتمعات الغير عربية المستغلة التي تعيش على الأطراف في شمال السودان، مثل النوبة، وسلسلة الشعوب القاطنة على ضفاف وادي النيل الأزرق القريبة من إثيوبيا. في 1992، شنت الحكومة السودانية أوسع هجوم قامت به، مستهدفة إخلاء منطقة النوبة بالكامل تحت رايات الجهاد. ولكن هذا الهجوم مني بالفشل واليوم حققت منطقة النوبة قدرا من الاستقلال الذاتي المتواضع داخل الإطار الأوسع لصفقة السلام التي تم توقيعها في كينيا في مايو الماضي.

    بولاد وشبكة تحت الأرض من النشطاء المحليين كانوا مدخل جارانج في دارفور. أرسل جارانج، كما صنع في النوبة والنيل الأزرق، قوة صغيرة كحملة داخل دارفور في 1991، مستهدفا بها بدء انتفاضة هناك. كانت كارثة. اضطر بولاد وقواته عبور مسافة شاسعة في فصل الجفاف. المياه الوحيدة المتاحة كانت موجودة في آبار عميقة، داخل القرى ومحاطة بحراسة شديدة. أكثر من ذلك، كانت جماعات العرب البدو من رعاة الأبقار يحتلون المنطقة، وكانوا معادين بشراسة للجيش الشعبي لتحرير السودان. اقتفت الحكومة سريعا آثار قوة بولاد واصطادتها، مستخدمة كلا من الجيش النظامي ومليشيا بني حالبة العرب. هربت حفنة من المقاتلين وقطعت المسافة إلى جنوب السودان في شهور، سيرا على الأقدام عبر جمهورية أفريقيا الوسطى.

    وقع بولاد في الأسر وخضع للتحقيق أمام الحاكم، العقيد الطيب إبراهيم، وهو طبيب في الجيش وزعيم إسلامي معروف باسم ’السيخ‘ أي ’القضيب المحمي‘، بسبب مهارته في لحام عيدان الحديد المسلح أثناء التظاهرات الطلابية عندما كانت مهمته هي الحارس الشخصي للزعيم الإسلامي لجامعة الخرطوم– داوود بولاد. لا تروى أي روايات عن قصة اللقاء بين الاثنين. لم يظهر بولاد مرة ثانية للأبد. الأسوأ، هو أن يوميات بولاد وقعت في قبضتهم أيضا. كانت تحوي الأسماء والتفاصيل الخاصة بكل عضو من أعضاء شبكته السرية.

    اختفى الكثيرون داخل السجون و’بيوت الأشباح‘، والآخرون ممن ارتعدوا خوفا من كمية المعلومات التي كانت في حوزة المحققين، استنكروا قضيتهم في مقابل الإفراج عنهم رغم تأكدهم أن كل تحركاتهم بعد ذلك سوف تخضع للمراقبة. جيل كامل من زعماء المعارضة تم سحقه أو تحييده. رغم ذلك، كانت الشكوك في نوايا الجيش الشعبي لتحرير السودان يملأ نفوس الزعماء الراديكاليين في دارفور، لخشيتهم من انه سوف يبتلعهم كاملا، أو انه سوف يستخدمهم من اجل تحقيق أغراضه الخاصة. ولكن حيث استمر جيش التحرير الشعبي مقاوما لكل ما يلقي به الجيش السوداني عليه، ومكتسبا احتراما دوليا عاليا، فإنه قد تعلم أن يوصف نكبتهم بمصطلحات مبسطة أثبتت سحر مفعولها في كسب التعاطف الأجنبي لصالح الجنوب: انهم ضحايا ’أفارقة‘ لنظام ’عربي‘.

    قد تكون اللافتة ’الإفريقية‘ قد لعبت دورا جيدا مع الجمهور الدولي في التسعينات، ولكن سوقها في السودان كان قليلا. احد أسباب ذلك كان هو غلبة الإسلام الراديكالي وجاذبيته لدى العديد من أهالي دارفور – نتيجة لنجاح التجربة السياسية لنظام الخرطوم، التي كان عقلها المخطط هو حسن الترابي. تاريخيا، كان الإسلام السياسي في السودان تحت سيادة النخبة المستعربة التي خرجت من وادي النيل، ذات الروابط القوية بمصر. إسلامهم السياسي كان حركة محافظة، تتميز بالتعريب الذي اعتنقه كل حكام السودان، العسكريين منهم والمدنيين. ولكن الترابي وسع من أجندة الحركة الإسلامية وكيانها المؤسس. على سبيل المثال، أصر الترابي على أن المرأة لديها حقوق في الإسلام، واليوم أكثر من نصف المتخرجين من جامعة الخرطوم هم من النساء. واعترف أيضا بالاختلاف العرقي لإسلام غرب السودان وغرب أفريقيا، وهكذا احتضن التقاليد التي ضرب بها المثل لقصص "جهاد" الفلانية في القرن التاسع عشر، وتقاليد الدارسين من الصوفية المغاربة الجوالين.

    في تأكيده على أن المواطنة تمتد لتشمل كل المسلمين المؤمنين، قدم الترابي حلا ثوريا لأوضاع السودانيين من أصول سودانية غرب افريقية، المعروفين باسم الفلاتة. هذه الفرقة، ملايين عدة من الأشداء، يتكونون من طائفة الهاوسا والفيلانية الذين تمتد جذور أسلافهم إلى نيجيريا، ومالي، والنيجر واستقروا في السودان إما وهم في طريقهم إلى الحج في مكة أو كعمال لمشاريع القطن في الحقبة الاستعمارية. يشتهر الفلاتة بتقواهم. لم يكن معترفا بهم كمواطنين سودانيين حتى انقلاب 1989 الإسلامي؛ كما زاد الترابي أيضا من مكانة مشايخ الفلاتة، مصححا بذلك من عيوب طال مداها وخلق تكتلا انتخابيا لصالحه. في دارفور، أيضا، أقام الشيخ الترابي صلات بالزعماء الدينيين للفور، المساليت والمجموعات الأخرى. سجل الطيب إبراهيم نقاطا لصالحه، كحاكم لإقليم دارفور، بمدح الفور لتقواهم وقد اخذ دروسا في لغة الفور. مفهوم المواطنة المشتركة من خلال العقيدة المشتركة بدا في بعض الوقت انه السبيل للتحرر الوطني لدارفور.

    ولكن الوعد الإسلامي كان مزيفا. في تفاصيله العملية، ما تغير كان قليلا. حفنة قليلة من أهالي دارفور فقط تمت ترقيتهم إلى مناصب عليا في الحزب والإدارة. كانت الحكومة الوطنية عادلة نسبيا في معاملتها لمناطق العرب والغير عرب، ولكن فقط في سياق الإهمال المستمر. الحكومات المحلية لا زالت مفلسة؛ السطو المسلح منتشر؛ الجفاف والتصحر استمرا في إشعال النزاعات المحلية التي لم يستطع حاكم الإقليم، أو لم يقدم على محاولة إيقافها. ولم يمر وقت طويل حتى يكتشف سكان غرب السودان أن نسختهم من الإسلام لم تكن، بعد كل ذلك، مقبولة على حالها: كان ينظر إليهم على انهم مسلمون حقيقيون فقط إذا ما اقروا بالقيم والثقافة العربية.

    في العقد الذي تلا عصيان 1989 المسلح، أصبحت الخلافات بين الرئيس البشير والترابي الزئبقي أكثر وضوحا. كانت طموحات الترابي هي ثورة في كل أفريقيا والشرق الأوسط؛ وتمسك البشير بالنظرة التقليدية للسودان كممتلكات تحتكرها النخبة المستعربة. كان صراعا لا هوادة فيه، حول الأيديولوجية، والسياسة الخارجية، والدستور وفي النهاية حول السلطة نفسها. كسب البشير: في 1999، طرد الترابي من منصبه كمتحدث باسم المجلس الوطني، وفيما بعد تم إلقاء القبض عليه. انقسم التحالف الإسلامي من منتصفه. معظم الإدارة، وكل النخبة الأمنية التي تسيطر على الجيش وكل الأجهزة الأمنية التي تمتلك ميزانيات خارج الميزانية العامة للدولة، ظلت على ولائها للبشير. انحاز الطلبة وخلايا الحزب الإسلامي المحلية إلى المعارضة في صف الترابي، مشكلين حركة الانشقاق باسم المؤتمر الشعبي. من بين أشياء اخرى، أعطى طرد الترابي غطاء للبشير من اجل التقارب الذي يحتاج إلى أن يصنعه مع أمريكا، ومن اجل أن ينخرط بشكل أكثر جدية في عملية السلام مع جيش تحرير السودان الشعبي – العملية التي أدت إلى توقيع اتفاقية السلام في كينيا.

    أحدث انقسام البشير – الترابي تداعياته في دارفور. كثير من أهل دارفور الذين دخلوا الحركة الإسلامية تحت زعامة الترابي قد تركوا الحكومة – وقرروا تنظيم أنفسهم بشكل مستقل. في مايو 2000، أصدروا ’كتابا اسود‘ يشرح بالتفصيل الغبن المنظم لتمثيل المنطقة في الحكومات الوطنية منذ الاستقلال. سبب ذلك الكتاب ضجة في أنحاء البلاد واظهر كيف أنه تم استقطاب السودان الشمالي على أساس خطوط عرقية أكثر منها أسس دينية.

    ’الكتاب الأسود‘، الذي وصف داوود بولاد بالـ ’شهيد‘، كان علامة رمزية على التقارب بين الفصائل الإسلامية والعلمانية الراديكالية في دارفور. من هنا التحالف الأقل احتمالا بين الفصيل الأخير، الذي كان مشغولا في لم شمل جبهة تحرير دارفور (أعيد تسميتها في أوائل 2003 باسم جيش تحرير السودان)، أو حركة العدالة والمساواة ذات الميول الإسلامية (JEM). لم يثير التمرد المسلح دهشة احد. ولكن المراقبين للمشهد السياسي في السودان – بمن فيهم أنا – كانوا معتادين على خمود دارفور للدرجة التي جعلتنا نظن أن المقاتلين كانوا يتظاهرون بشراسة الذئاب عندما تنبأوا بانتفاضة عامة. بشكل واضح، الحكومة السودانية كانت هي الطرف الذي صدمته المفاجأة: كانت افتتاحيات السلام التي قامت الحكومة المركزية بها في الأشهر الأولى قد قامت بها بنصف قلب تماما مثل استعداداتها العسكرية. في ابريل من العام الماضي، هاجم المتمردون مطار الفاشر، ودمروا نصف دستة من الطائرات العسكرية واختطفوا جنرالا من قوة سلاح الطيران. لم يقم الجيش الشعبي لتحرير السودان بعمليات من هذا القبيل خلال عشرين عاما من الصراع. يمتلك المتمردون في دارفور سرعة الحركة، واستخبارات جيدة ودعما شعبيا.

    العمود الأساس المحوري للدولة السودانية، والحاسم بالنسبة للبشير - وهو عصبة سرية من ضباط الأمن الذين كانوا يديرون الحرب في السودان منذ 1983 – ما زالوا في أماكنهم حتى الآن. هذه المجموعة الصغيرة، وهي تواجه تمردا يتجاوز طاقة جيش البلاد المنهك والذي استطالت وتعددت جبهات قتاله، تعرف بالضبط ما الذي ينبغي عليها أن تفعله وكيف. مرات عديدة أثناء الحرب في الجنوب اعتلى هؤلاء موجة ثورة مضادة وامسكوا بدفتها ودفعوا في مقابلها ثمن رخيص – المجاعة والأرض المحروقة هي أسلحتهم المفضلة. في كل مرة، كانوا يبحثون عن ميليشيا محلية، ويزودونها بالمؤن والسلاح، ويعلنون المنطقة ارض عمليات لا تعترف بأي أخلاق. فرسان بني حالبة، الذين استخدموا ضد جيش تحرير السودان الشعبي في 1991، كانوا الأداة الظاهرة للاستخدام في دارفور. بدو الجمال الشماليون، بمن فيهم الفيلق الإسلامي السابق، كانوا أيضا في متناول اليد. يدعي البعض إن أسماءهم – الجنجويد – مشتقة من اسم الـ (G3) وهي البندقية واسم (الجواد)، ولكنه أيضا اسم شائع في غرب السودان يطلق على ’قطاع الطرق‘، أو ’الخارجين على القانون‘. إطلاق يد هذه الميليشيات يمتلك ميزة إضافية لصالح عصبة الأمن السرية وهي أن من المحتمل أن يتسبب ذلك في عرقلة عملية السلام شبه المكتملة مع الجيش الشعبي لتحرير السودان في الجنوب بما يسمح لهم بالاحتفاظ بميزانيات أجهزتهم الأمنية الضخمة؛ كما إنه أيضا يسمح بتوفير حصانة ضد اتهامهم في المستقبل بارتكاب جرائم الحرب.

    الفظائع التي ارتكبت بواسطة الجنجويد استهدفت المتحدثين باسم الفور، التانجور والمساليت والزغاوة. هذه الفظائع كانت منظمة ومدعومة؛ أثرها، إن لم يكن الهدف منها، غير متناسب بشكل كبير مع التهديد العسكري الذي يمثله التمرد. الاغتصاب الجماعي ووسم الضحايا بالنار يتحدث عن التدمير المتعمد للمجتمعات. في دارفور، قطع أشجار الفاكهة أو تدمير أخاديد الري هو أسلوب لسحق حقوق الفلاح في أرضه وتدمير أسس المعيشة. ولكن ذلك ليس هو حملات التطهير العرقي لحكومة بلغت قمة هرطقتها الأيديولوجية، كما كانت أثناء الجهاد في 1992 ضد النوبة، وليس التطهير العرقي المتعمد بدم بارد الذي قامت به نفس الحكومة لتأمين ثروات طبيعية، كحقول البترول في الجنوب السوداني من سكانه المشاغبين. إنها القسوة الروتينية لعصابة الأجهزة الأمنية، ذبلت إنسانيتها نتيجة سنين طويلة في الحكم: انه تطهير عرقي بحكم قوة العادة.

    عالم الشيخ هلال، بكل أفلاكه المستقرة وعلاقاته المريحة المتبادلة بين البدوي والفلاح، اختفى، كما كان يخشى. الإملاق الذي لا يلين قد تحول إلى عنف تغذيه حكومة سيئة وعنصرية مستوردة. ما الذي نفعله الآن في وجه المذابح العرقية والمجاعة التي بلغت ذروتها؟ العمل التشريعي – محاكمة موسى هلال ومن كان يرعاه كمجرمي حرب – هو أمر ضروري لا غنى عنه لكبح أي جرائم مثل هذه في المستقبل. ولكن الإدانة ليست حلا. حملات الجنجويد الدموية يجب ألا تحجب حقيقة أن البدو من سكان دارفور الأصليين هم أنفسهم ضحايا تاريخيين.

    اهالي دارفور يواجهون، كما صادفوا مرة اخرى منذ عشرين عاما، الهلاك، والجوع، والأمراض المعدية. التوقعات الكارثية لمجاعة تضرب جموعا هائلة تم التنبؤ بها بعد الجفاف الذي حل عام 1984 – ستحدث وفيات لما يقرب من مليون فرد، كما قالت وكالات الإغاثة، إذا لم تتوفر معونات الطعام. لم يأت الطعام، ومات الكثير – حوالي مائة الف – ولكن المجتمع الدارفوري لم ينهار بسبب مهارات البقاء الهائلة التي يتحلى بها. كان لديهم احتياطي من الطعام، وارتحلوا لمسافات شاسعة للبحث عن الطعام والعمل والصدقة، وفوق كل ذلك، كان يجمعون أنواع الطعام البرية من شجيرات الصحراء. اليوم، احتياطيات الطعام والحيوانات سرقت منهم، وما فائدة القدرة على انك تستطيع أن تجمع خمسة أنواع مختلفة من الحشائش البرية، واحد عشر نوعا من فصيلة التوت البري، والجذور المدفونة والأوراق الخضراء، ما دامت الحركة خارج المعسكر تعني المخاطرة بأن تتعرض للاغتصاب، أو بتر الأعضاء، أو الموت؟ يجب أن نأخذ الحقيقة القائلة بتوقع وفاة ما يقرب من 300 الف في اعتبارنا بشكل جدي.

    يدور الكلام عن مجهودات إغاثة ضخمة. ولكن المسافات الشاسعة التي نتحدث عنها تعني أن معونات الأطعمة سوف تكون مكلفة ومن غير المرجح إنها ستكون كافية. من المغري أن تتحدث عن إرسال الجيش البريطاني ليشرف على عملية الإمداد بالطعام، ولكن ذلك الأمر يحمل دلالات رمزية فقط: يستطيع المتعهدون من الشركات الخاصة المدنية القيام بمهمة التوصيل الجوي لمواد الإغاثة بشكل اقل كلفة، لتوزيعها بشكل أكثر كفاءة بواسطة هيئات الإغاثة. المساحات التي تسيطر عليها قوات جيش تحرير السودان وحركة العدالة والمساواة تضم مئات الآلاف من المدنيين الذين لا يتلقون أي مساعدات من احد. فور ما يعود أي مصور صحفي جسور من هناك بلقطات فوتوغرافية عن هذه المجاعة المخفية، سوف تنطلق الصيحات من اجل إغاثتهم عبر خطوط الصراع الأمامية. لا يوجد سببا لانتظار خروج هذه الصور قبل أن نتدخل، برغم أن من الواضح إن بعثات الإغاثة التي سوف تتولى توصيل مواد الإغاثة عبر خطوط التماس يجب أن تتحرك في ظل حراسة مسلحة.

    اكبر معونة سوف تكون هي السلام. نظريا، هناك وقف لإطلاق النار؛ عمليا، الحكومة والجنجويد يتجاهلانه، والمتمردون يردون بالمثل. تنكر الحكومة أنها أنشأت، وسلحت ووجهت الجنجويد. لقد قامت بذلك، ولكن الوحش الذي ساعدت الخرطوم على خلقه ربما لا يخضع دائما لتوجيهاتها: عدم الثقة في العاصمة يسري في أعماق أهالي دارفور كلهم، وقيادات الجنجويد تعرف انه ليس في استطاعة احد نزع سلاحها بالقوة. عندما قطع الرئيس البشير على نفسه وعدا لكوفي انان وكولن باول بأنه سوف يجرد الميليشيات من سلاحها، كان يقطع وعدا هو يعرف انه لا يستطيع أن يوفي به. أحسن طريقة، وربما الطريقة الوحيدة، لنزع السلاح هي تلك التي استعملها البريطانيون منذ خمسة وسبعين عاما: تأسيس إدارة محلية فاعلة، تنظيم لوائح ملكية السلاح، والعزل التدريجي للخارجين عن القانون وقطاع الطرق الذين يرفضون التكيف مع الأوضاع الجديدة. لقد استنفذت من البريطانيين عقدا من الزمان لتحقيق ذلك، واليوم لن يحتاج الأمر فترة اقصر بأي حال من الأحوال. ليس فقط لأن كميات السلاح الموجودة هي الآن أكثر، ولكن لان الاستقطابات السياسية أكثر حدة.

    وحدات من 60 مراقب لوقف إطلاق النار من الاتحاد الإفريقي موجودون الآن في دارفور مع أعداد أكثر قليلا من القوات الإفريقية توفر الأمن لهم. ولهذا الحد لا احد يوفر الأمن لجمهور دارفور المدني الذي يحيا في ظل الأهوال. إذا كانت هناك قوات من خارج أفريقيا سوف ترسل، يجب أن تكون تلك هي مهمتهم. لو كانت الاستخبارات المحلية جيدة، والعملية السياسية قريبة المنال، سوف تكون المخاطر اقل. ولكن إعادة تأسيس دارفور سوف تكون بطيئة، ومعقدة وعالية التكاليف. فهم ما تمت خسارته قد يكون نقطة لبداية جيدة.


    --------------------------------------------------------------------------------

    الكس دا وال هو مدير منظمة عدالة أفريقيا ومؤلف كتاب الإسلامية وأعداءها في القرن الإفريقي. سوف تظهر قريبا من دار نشر أكسفورد طبعة منقحة من كتابه المجاعة التي تقتل: دارفور، السودان 1984-85.


    ZNet - من نحن - انصم الينا - فهرس المصادر - الاصدارات - التقارير - زى نت العربية

                  

العنوان الكاتب Date
دارفور: ثورة مضادة بثمن رخيص /الكس دا وال ابنوس01-07-05, 05:18 AM
  Re: دارفور: ثورة مضادة بثمن رخيص /الكس دا وال Mohamed Suleiman01-07-05, 06:20 PM
    Re: دارفور: ثورة مضادة بثمن رخيص /الكس دا وال Abdel Aati01-07-05, 09:39 PM
      Re: دارفور: ثورة مضادة بثمن رخيص /الكس دا وال Mohamed Adam01-08-05, 02:42 AM
        Re: دارفور: ثورة مضادة بثمن رخيص /الكس دا وال ابنوس01-08-05, 02:47 AM
  Re: دارفور: ثورة مضادة بثمن رخيص /الكس دا وال Mohamed Adam01-08-05, 03:02 AM
    Re: دارفور: ثورة مضادة بثمن رخيص /الكس دا وال ابنوس01-08-05, 06:27 PM
  Re: دارفور: ثورة مضادة بثمن رخيص /الكس دا وال Shao Dorsheed01-08-05, 06:54 PM
    Re: دارفور: ثورة مضادة بثمن رخيص /الكس دا وال Muna Khugali01-09-05, 01:36 AM
    Re: دارفور: ثورة مضادة بثمن رخيص /الكس دا وال Muna Khugali01-09-05, 01:36 AM
      Re: دارفور: ثورة مضادة بثمن رخيص /الكس دا وال ابنوس01-09-05, 09:48 AM
        Re: دارفور: ثورة مضادة بثمن رخيص /الكس دا وال Mohamed Suleiman01-09-05, 02:27 PM
          Re: دارفور: ثورة مضادة بثمن رخيص /الكس دا وال Muna Khugali01-09-05, 06:17 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de