|
بعض ما ينسب إلى السلف يؤدي للإحباط ! !
|
بعض ما ينسب إلى السلف يؤدي للإحباط ! ! سليمان بن سعد بن خضير
يزخر ملف السلف [1] بأخبار قولية وعملية في غاية الجمال ، وبالغ التأثير ، ولقد ملأ طيب ذكرهم المشارق والمغارب ؛ إذ أوتوا مواهب فذة ، وفتوحات ربانية مدهشة ، وقد نمت فيهم فضائل وربت ، وعاشوا متقلبين في العلم والعبادة والجهاد وطلب العيش بإقبال على الله بين زهد ومراقبة وجد . كان يجري عليهم ما يجري على غيرهم : من مرض وضعف وفقر ، فلا ينزعون مما هم فيه .. تسابقوا ( في الله ) مخلصين دائبين ، فرادى وزرافات ؛ للمحافظة على صرح الإسلام سامقَ البناء ، وطيدَ الدعامة ، مكينَ الأساس ، مشرقَ المعالم . كانوا أبرَّ الأمة قلوباً ، وأعمقها علماً ، وأقلها تكلفاً ، وأقومها هدياً ، وأحسنها حالاً [2] . وقد نُقل لنا شيء من أخبارهم في كتب التراجم والسير العامة وفي أثناء كتب الرقائق ، والشيء الذي لا ينكر أن لمنقول أقوالهم وأفعالهم أثراً عجيباً في تصحيح الفهم ، وتهذيب السلوك ، ورِقَّة القلب ، وإشعال العزائم ، وإذكاء الهمم ، وقدح المواهب كل ذلك بلا أمر أو نهي . وقد دأب الدعاة على أن يجعلوا لذكر أخبار السلف من أقوالهم وأفعالهم نصيباً من دعوتهم وتأصيلهم : في الكتابة والخطابة والحوار وبخاصة في مواسم الطاعات التي تتطلب عادة قدراً من الإعداد للتذكير الموعظة ! ! وربما أفضى بهم ذلك إلى ذكر نماذج مثالية تبهر المستهدَفين من القراء والمستمعين ، وتوقفهم على البون الشاسع بينهم وبين السلف ، وتقنعهم بضرورة الجد في أخذ الدين ! وربما دفعتنا وإياهم الحماسة لذكر أخبار ليست على المنهج الشرعي الصحيح مما مسته يد التصوف أو غلب عليها عدم الاتزان في أعمال القلوب كالخوف والمحبة والرجاء . غير أن لهذه الأخبار المثالية والغريبة ولو كان لها حظ من الشرعية آثاراً سلبية في المدعوين من حيث نظن أنها ستعمل فيهم أبلغ مما هو دونها من الأخبار ؛ فعندما نورد قصة من يقوم الليل كله كالحسن بن صالح [3] ، أو من يختم القرآن في ليلة كعثمان بن عفان رضي الله عنه [4] ، أو من تتعرض له امرأة لإغرائه فيقف ويعظها ، وما هي إلا أن سمعت كلامه حتى تحولت إلى عابدة متنسكة ، كما يروى عن الربيع بن خثيم [5]رحمه الله ، أو من يواصل الصيام من الجمعة إلى الجمعة كعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما [6] ، أو لا يشعر بمن حوله إذا دخل في الصلاة كمسلم بن يسار رحمهما الله [7] ، أو من يُغشى عليه لسماع آيٍ من القرآن كحال علي بن الفضيل رحمهما الله [8] ، أو يضحك لموت ابنه رضىً بقضاء الله كما فعل الفضيل بن عياض رحمه الله [9] ، أو يحضر مجالس وعظه وتذكيره الألوف من الناس كما يذكر في ترجمة ابن الجوزي [10] ، ونحوها من الأخبار . عندما نورد هذه الأخبار وهي بهذه الدرجة من المثالية على قوم يعدُّون المحافظة على الصلاة ضرباً من الإنجاز ؛ فمن السذاجة أن نتصور أنها ستنقلهم 180 درجة إيجابية أو قريباً منها ، بل إن هذه الأخبار وأمثالها مع ما لبعضها من صحة في الرواية وموافقة للشرع قد تورث الإحباط واليأس في نفوس بعض المدعوين ؛ لأن فيهم من يشعر أننا قدمناها على أنها هي الأنموذج الذي نتطلع إليه ، والغايات التي نصبو إليها ؛ والغايات إذا لم تكن قريبة المنال فستكون مستصعبة التنفيذ ؛ و ( إذا أردت أن تطاع فائمر بما يستطاع ) ، كما أنها بحكم الإيغال في الغرابة تشغل المخاطبين بالتفكير في صحتها وإمكان وقوعها بدلاً من أن يشتغلوا بالتفكر فيها هي والتطلع لحال أهلها ، وربما جرّهم ذلك إلى الدخول في نقاشات مع الدعاة في مدى صحة تلك الأخبار تنقلهم عن الموضوع الأساس ! ويزداد الأمر سوءاً إذا كان ناقل تلك الأخبار من مبتدئي الدعاة . لذا فإنه ينبغي ألاَّ تشاع في العامة ومن قاربهم على أنها أخبار طبيعية متكررة أو غايات نهدف إليها ، وذلك لأمور منها : 1 - ما تقدم من الإشارة إلى الآثار النفسية التي تعود بالسلب على المخاطبين ، والشرع الحنيف يراعي هذه المفسدة : قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : « ما أنت بمحدِّثٍ قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة » [11] ، وبوَّب البخاري في كتاب العلم : باب من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية ألاَّ يفهموا [12] . قال ابن القيم في نحو ما نحن بصدده : « فلا بد من مخاطبة أهل الزمان باصطلاحهم ؛ إذ لا قوة لهم للتشمير إلى تلقي السلوك عن السلف الأول وكلماتهم وهديهم ، ولو برز لهم هديهم وحالهم أنكروه ، فهؤلاء محجوبون عن معرفة مقادير السلف ، وعن عمق علومهم ، وقلة تكلفهم .. » [13] . وكان الحسن البصري يخص بعض طلبته بالحديث في معاني الزهد والنسك وعلوم الباطن التي قد تلتبس على غيرهم ولا تدركها فهومهم ، فكان لا يتكلم فيها إلا في منزله معهم [14] . 2 - أن هناك فرقاً بين أسلوب ما روي من أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في الاجتهاد في الطاعة ، وبين ما روي عن غيره ، فغيره جاءت عنده محددة متكلفة : ( يصلي 1000 ركعة ) ، ( يصلي الفجر بوضوء العشاء ) ، أما هو عليه الصلاة والسلام فهناك أحاديث تتناسب مع فهوم الناس ومنها أنه « كان يصلي من الليل حتى تتفطر قدماه » [15] ؛ فهذا وصف قد ينطبق على كثيرين ولو لم يبلغوا صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فالمبتدئ تتفطر قدماه في عُشر صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ، والجَلْدُ يحتمل ما لا يحتمل مَنْ دونه وهكذا . كما أنه صلى الله عليه وسلم كان يقوم ويرقد [16] ، وربما يعجز عن القيام ليلة لعارض من سفر أو مرض فيستعيض من الضحى [17] ، وما أثر عنه أنه صلى الله عليه وسلم صلى الفجر بوضوء العشاء ! ! هذا ونعتقد أن ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم قد جاءنا متكاملاً لم يطغَ منه جانب على جانب ، ولم يعارض حال حالاً ؛ بل جاء في تناسق جميل ، وتوازن تام ؛ فأين ما روي عن غيره مما روي عنه صلى الله عليه وسلم ؟ ! وما روي عنه صلى الله عليه وسلم محدداً بمقدار كثير نحو : « أنه صلى مرة فقرأ في ركعة بالبقرة والنساء وآل عمران » [18]وأمثالها فإنما هي في مواسم عبادية خاصة كرمضان ، وقد قالت أمّنا عائشة رضي الله عنها : « ولا أعلم نبي الله صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن كله في ليلة ، ولا صلى ليلة إلى الصبح » [19] . 3 - أن بعض الأخبار التي تروى عن بعضهم إنما صدرت في حال[20] عارضة ، ولا يمكن والأمر كذلك أن توصف حياتهم كلها بأنها كانت على هذه الحال ، ولا يمكن أن يطالب الناس بأن يكونوا على حال لم يكن المذكور بها على الدوام ! كمن يغلب عليه الخوف فيبدر منه قول أو فعل ، كما كان ابن عمر رضي الله عنه إذا شرب ماءً بارداً بكى وذكر أمنية أهل النار[21] ؛ فلم يكن ذلك مطرداً في كل مرة يشرب الماء ؛ إذ لو كان كذلك لتلفت نفسه ولتنغص عيشه ، ونحوه قول حنظلة لأبي بكر : نافق حنظلة ! .. الحديث وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم : « لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ... » [22] قال الحافظ ابن رجب في أحوال الناس بعد سماع الذكر ما ملخصه : قسم يرجعون إلى مصالح دنياهم المباحة فيشتغلون بها ، فتذهل بذلك قلوبهم عما كانوا يجدونه في مجلس الذكر : من استحضار عظمة الله وجلاله وكبريائه ، ووعده ووعيده ، وثوابه وعقابه ، وهذا هو الذي شكاه الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وخشوا لكمال معرفتهم ، وشدة خوفهم أن يكون نفاقاً ؛ فإن استحضار ذكر الآخرة بالقلب في جميع الأحوال عزيز جداً ، ولا يقدر كثير من الناس أو أكثرهم عليه ، فيكتفى منهم بذكر ذلك أحياناً ، وإن وقعت الغفلة عنه في حال التلبس بمصالح الدنيا المباحة ، ولكن المؤمن لا يرضى من نفسه بذلك ، بل يلوم نفسه عليه ويحزنه ذلك من نفسه[23] . 4 - أن من هذه الأخبار المثالية ما دُوِّن لغرابته ؛ فإن النفوس تحفل بالغريب من الأحداث والأحاديث ، وبحكم الغرابة برزت في حياة المترجَم له ، وإذا كانت غريبة على أهـل ذلك الوقت الذي ذكرت فيه ودونت وهم من هم فكيف بمن بعدهم بزمن ومراحل ؟ ! 5 - كما أن هناك أخباراً لا يُسَلَّم بمشروعيتها ، وهي مما حدث بعد الصدر الأول أفضل القرون ، نحو التأثر بالقرآن لدرجة الإغماء والصعق وهي مما قد يعذر صاحبها فيها ؛ لما تقدم من غلبة بعض الأحوال لكن لا يمكن ( بحال ) أن تقدم على أنها النموذج الشرعي المرغوب أو الممدوح . قال شيخ الإسلام ابن تيمية فيمن يحصل لهم آثار من سماع القرآن كالاضطراب والإغماء : « أما جمهور الأئمة والسلف فلا ينكرون ذلك ؛ فإن السبب إذا لم يكن محظوراً كان صاحبه فيما تولد عنه معذوراً ، لكن سبب ذلك قوة الوارد على قلوبهم ، وضعف قلوبهم عن حمله ، فلو لم يؤثر السماع لقسوتهم كانوا مذمومين ... ولو أثر فيهم آثاراً محمودة لم يجذبهم عن حد العقل لكانوا كمن أخرجهم إلى حد الغلبة محمودين أيضاً ومعذورين » [24] . قال في موضع آخر : « وقد يشاهد كثير من المؤمنين من جلال الله وعظمته وجماله أموراً عظيمة تصادف قلوباً رقيقة فتحدث غشياً وإغماءً ، ومنها ما يوجب الموت ، ومنها ما يخل العقل ، وإن كان الكاملون منهم لا يعتريهم هذا كما لا يعتري الناقصين عنهم ، لكن يعتريهم عند قوة الوارد على قلوبهم ، وضعف المحل المورود عليه ؛ فمن اغتر بما يقولونه أو يفعلونه في تلك الحال كان ضالاً مضلاً » [25] . كما أن بعضاً من تلك الأخبار فيه تبتل ورهبانية ظاهرين . قال الذهبي : « كل من لم يزمَّ نفسه- في تعبده وأوراده بالسنة النبوية يندم ويترهب
ويسوء مزاجه، ويفوته خير كثير من متابعة سنة نبيه الرؤوف الرحيم بالمؤمنين ، الحريص على نفعهم ، وما زال صلى الله عليه وسلم معلماً للأمة أفضل الأعمال ، وآمراً بهجر التبتل والرهبانية التي لم يبعث بها ، فنهى عن سرد الصوم ، ونهى عن الوصال ، وعن قيام أكثر الليل إلا في العشر الأخير ، ونهى عن العزبة للمستطيع ، ونهى عن ترك اللحم إلى غير ذلك من الأوامر والنواهي . فالعابد بلا معرفة لكثير من ذلك معذور مأجور ، والعابد العالم بالآثار المحمدية المتجاوز لها مفضول مغرور » [26] . وقال : « الطريقة المثلى هي المحمدية ، وهو الأخذ من الطيبات وتناول الشهوات المباحة من غير إسراف ... فلم يشرع لنا الرهبانية ، ولا التمزق والوصال ، بل ولا صوم الدهر ، ودين الإسلام يسر وحنيفية سمحة » [27] . 6 - أن بعضاً من تلك الأخبار مبالغات صريحة حمل عليها عواطف بشرية كالحب وربما الغلو ، فلا ينبغي والحالة هذه أن نسير في ركاب محب أصاب أو أخطأ ، ونقدمه للناس على أنه أنموذج واقعي . وكان للذهبي رحمه الله تعليقات لطيفة على بعض ما ينقل من تلك الأخبار القولية أو الفعلية أذكر نماذج منها : ذكر الذهبي قول من قال : « عندنا بخراسان يظنون أن أحمد لا يشبه البشر ، يظنون أنه من الملائكة ! » ، وقول : « نظرة عندنا من أحمد تعدل عبادة سنة ! » . فقال أي الذهبي : « هذا غلو لا ينبغي ، لكن الباعث له حب ولي الله في الله » [28] . وحين ساق قول محمد بن مصعب العابد : « لَسَوْطٌ ضربه أحمد بن حنبل في الله ؛ أكبر من أيام بشر بن الحارث » ، علق الذهبي عليه بقوله : « بِشر عظيم القدر كأحمد ، ولا ندري وزن الأعمال ، إنما الله يعلم ذلك » [29] ، وعد من المبالغة في الرأي قول يونس بن عبد الأعلى عن الشافعي رحمه الله : « لو جمعت أمة لوسعهم عقله » [30] ! ! ، وأنكر ما روي من أن عدد من يحضر مجالس الوعظ التي يعقدها ابن الجوزي مئة ألف ، فقال : « لا ريب أن هذا ما وقع ، ولو وقع لما قدر أن يُسمعهم ولا المكان يسعهم » [31] . 7 - أن بعضاً منها يحتمل أن يكون خطأ في الرواية ، وسَبْقَ قلم ، نحو ما ذكره ابن النجار في تاريخه أن عدد من أقرأهم أبو منصور الخياط من العميان بلغ سبعين ألفاً ! قال الذهبي : « هذا مستحيل ؛ والظاهر أنه أراد أن يكتب : نفساً . فسبقه القلم فخط ألفاً ، ومن لقن القرآن لسبعين ضريراً فقد عمل خيراً كثيراً » [32] . وربما كان الخبر غير صحيح روايةً مع ما له من الشهرة نحو ما جاء في ترجمة ( ربيعة الرأي ) شيخ الإمام مالك ، وهو أن أمه كانت تقوم على تربيته وتعليمه وتنفق عليه مما خلفه عندها زوجها فرّوخ ، وكان ثلاثين ألفاً ... إلخ الخبر [33] ، قال الحافظ الذهبي : « حكاية معجبة ، ولكنها مكذوبة ! ! » ثم ساق أوجه ردها بالنظر في المتن [34] ، وطعن في إسنادها العلامة عبد الرحمن المعلمي ، وانتهى إلى الحكم باختلاقها [35] ، قلت : وهي قصة مشهورة ، تحمل معاني تربوية رائدة ، ولكن .... ! ! فهذه ملاحظات مما يرد على بعض تلك الأخبار ( المثالية ) ، كما يرد على غيرها ، لكن المصلحة من إشاعتها مضافاً إليها تلك الملاحظات أو بعضها مرجوحة ، وما أردت استقصاء الاحتمالات ولا تتبع القصص ، ولكن حسبي أن أنبه إلى مثال جديد من أمثلة مراعاة المصلحة والمفسدة ، وأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ، وأن العبرة بالسنة المحمدية والحنفية السمحة ، وغيرها يقاس بها ، والحمد لله رب العالمين .
|
|
|
|
|
|
|
|
|