إضطراب الملحدين (1-4) أ.د.جعفر شيخ ادريس

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-03-2024, 10:21 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الاول للعام 2013م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
02-04-2013, 09:58 AM

احمد سيد احمد
<aاحمد سيد احمد
تاريخ التسجيل: 01-23-2013
مجموع المشاركات: 1257

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: إضطراب الملحدين (1-4) أ.د.جعفر شيخ ادريس (Re: احمد سيد احمد)

    الشيخ/جعفر شيخ إدريس
    اضطراب الملحدين (3-4)

    بدأنا هذه السلسلة من المقالات القصيرة بمقدمة ثم ثنَّينا بالتعليق على نقد دوكنز للبراهين العقلية على وجود الخالق، وعلَّقنا على دعوى الفيزيائي الشهير هوكنز في كتابٍ له حديثٍ بأنه ليس هنالك من حاجة لوجود الخالق ، ونواصل اليوم تعليقنا على هوكنز، ثم نعود إلى دوكنز ودعواه بأن الدارونية تُغْنِي عن وجود الخالق، ثم نتناول في المقال الأخير اضطرابَه وغيرَه من الملحدين في العلاقة بين الإيمان والأخلاق.

    مما قاله هوكنز في الدليل على عدم الحاجة إلى الخالق - -: أن القوانين الفيزيائية - ولا سيما قانون الجاذبية - كافية وحدَها لإخراج الكون من العدم إلى الوجود.

    ونقول: إن قانون الجاذبية نفسه يفترض وجود موجودات؛ لأن الجاذبية إنما تكون بين أشياء موجودة؛ فكيف يكون هذا القانون هو الذي يوجد الكون من العدم؟

    ثم نقول: إن القوانين الطبيعية ليست بالشيء الأزلي، وإنما محدَثَة شأنها في ذلك شأن المخلوقات التي تحكمها؛ فكيف تكون هي التي تُحدِثها من العدم؟

    إن مشكلة هؤلاء الملحدين هي أن تصوُّرَهم للخالق تصوُّر في غاية القصور، حتى يمكن للمرء أن يقول: إنه لا داعي لإنكار وجوده؛ لأنه أصلاً شيء لا يمكن أن يوجَد.

    لَـمَّا كانت مهمة الإله في تصوُّر كثير ممن يسمَّون بالمفكرين الغربيين محصورة في أن يبدأ الخلقَ، ثم يتركه بعد ذلك يسير وحدَه بالقوانين الطبيعية، كما يحرك إنسان عجلةً من مكان عالٍ متدحرِج، كان من السهل على رجال من أمثال هوكنز أن يقولوا: إن الكون مستغنٍ عن خالق كهذا؛ لأنه يمكن أن يبدأ سَيرَه مستقلاً عنه.

    هذا مع أن الخالق الحـق هـو خالق لا يكون شيء في الوجود إلا بإذنه وعلمه وقدرته، كما قال - -: and#64831;ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌand#64830; [الأنعام: 102]. وكما قال - -: and#64831;وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍand#64830; [الأنعام: 59].
    مِنْ فَهْمِهِم القاصر للخالق - - أن الكثيرين منهم ما زالوا يخلطون بين المخلوقية والسببية؛ وهي قضية ناقشها مناقشة مفصَّلة وفرغ منها علماء المسلمين منذ قرون. إنهم يظنون أنه إذا اكتُشف سبب حدوث شيء فذاك يعني أنه ليس مخلوقاً، وأن السبب النهائي لحدوثه هو هذا السبب المشاهَد، وكان كثير من المؤمنين بوجود الخالق يستدلُّون على وجوده بالحوادث التي لم يصل العلم التجريبي إلى اكتشاف أسباب لها؛ لذلك كان الملحدون يسخرون منهم ويسمون خالقهم إلهَ الفجوات، ولا سيما أن العلم الطبيعي كان يسد بعض هذه الفجوات باكتشافه لأسباب الحوادث التي قيل: إنه لا يحدثها إلا الله .

    الدارونية والإلحاد:
    ذكرنا تعليقات بعض الفيزيائيين على كتاب هوكنز. ونذكر الآن تعليق داعية الإلحاد البيولوجي الداروني دوكنز. لقد استقبل دوكنز الكتاب بفرح شديد، كما هو متوقع، وقال معلقاً عليه في صفاقة: (إن الدارونية ركلت الخالق فأخرجته من الأحياء، لكن الفيزياء ظلت مترددة إلى أن جاء هوكنز فضربه الضربة القاضية)[1].

    لقد رأينا حجة هوكنز وما فيها فَلْنُعد النظر الآن في حجة دوكنز التي زعم أنَّ دارونيته أخرجت بها الخالق من نطاق الأحياء، وأقول دارونيته؛ لأنه ما كل أحيائي، بل ما كل داروني يوافقه على ما ذهب إليه، كما أنه ما كل فيزيائي يتفق مع هوكنز كما رأينا.

    ويزعم دوكنز أن لديه بديلاً أحسن من القول بوجود خالقٍ خلقَ الخلقَ بإرادته وعلمه. ما هذا البديل؟ يقول: (إن أي خلاَّق ذي وعي يكون مـن التعقيد بحيث يستطيع أن يصمم أي شيء، لا يأتي إلى الوجود إلا نتيجة لعملية تطوُّرية طويلة.

    بما أن الوعي الخلاَّق يأتي عن طريق التطور فإنه يكون بالضرورة في آخر الكون، فلا يمكن لذلك أن يكون مسؤولاً عن تصميمه)[2]

    إن حجة دوكنز هذه من النوع الذي يسمى بالمصادرة على المطلوب، وهي أن يجعل الإنسان ما يُطلَب منه برهانُه من مقدمات ذلك البرهان. لقد بدأ حجته بدعوى أنه سيأتي ببديل عن وجود الخالق. والذي يزعم أن بديله هو الأحسن لا بد أن يأتيَ بأدلة مستقلة عن دليله تبرهن أفضليته. لا يمكن أن يدَّعي إنسان - مثلاً - أن الدكتاتورية خير من الديمقراطية، ثم يدلل على ذلك بحجج مبنيَّة على أفضلية الدكتاتوري. لكن هذا بالضبط هو الذي فعله دوكنز.

    لقد افترض أنه لا يوجد موجود ذو وعي إلا إذا كان مثل الكائنات الحية التي يتعامل معها علم الأحياء، والتي تنطبق عليها قوانين الدارونية. هذا مع أن خصمه يزعم أن هذه الأحياء التي تتحـدث عنها الدارونية ما كانت لتـوجد لولا وجود خالق ليس هو من نوعها، خالقٍ لا يصدق عليه وصفُه بأنه لا يأتي إلى الوجود إلا نتيجة عملية تطورية طويلة.

    إن نظرية دوكنز التي جعلها بديلاً عن القول بوجود الخالق لا تحل أهم إشكال يحله القول بوجوده - - وهو أن النظر في طبيعة هذه الكائنات يدل كما قلنا من قبل على أنها ليست أزلية، وأنها لا يمكـن أن تكـون قد جاءت من العـدم، ولا يمكن أن تكون هي الخالقة لنفسها؛ فلا بد لها لذلك من خالق. وكما أن هذا يقال عن الكائنات الكبيرة المشهودة، فإنه يَصْدُق أيضاً على الكائنات الصغيرة التي زعم دوكنز أن كائنه الواعي الخلاَّق تكون منها.

    إن العلماء الطبيعيين من أمثال هوكنز ودوكنز بدؤوا يفتنون الناس في بلادهم وفي غيرها من البلاد التي يُتَأثَّر فيها بفكرهم، وما أكثرها! بدؤوا يصوِّرون لهم الإلحاد على أنه هو المعتقد الصحيح الذي يدل عليه علمهم ويدعمه.

    إن ثقة الناس الشديدة بالعلوم الطبيعية هي التي تجعلهم يعتقدون صحة كل ما يقال لهم: إن هذا العلم يدل عليه. وقد علمت علماً مباشراً بتأثُّر بعض شباب العالم الإسلامي، بل العربي منه بهذه الفتنة. ولعل من أسباب ذلك أن الدارسين منهم لفروع هذه العلوم لا يعرف - حتى المتدين منهم - ما يتعلق بهذه القضايا في دينه، فيكون مثله في ما يتعلق بها كمثل زميله الغربي، ولعل من أسباب ذلك أيضاً قلة ما يسمى بالثقافة العلمية بين المتخصصين بما يسمى بالعلوم الشرعية.

    لا أحد بالطبع يتوقع أن يكون كل من جعل همه دراسة التفسير أو الحديث أو الفروع الفقهية أو اللغة العربية متبحراً في العلوم التجريبية، كما أنه لا يُتوقَّع من كل متخصص بفرع من العلوم التجريبية أن يكون إلى جانب ذلك متبحراً في الدراسات الشرعية. بل إنه لا يُتوقَّع ممن تخصص بفـرع من العلوم التجـريبية أن يكون عالماً بها كلها؛ فمن تخصص بالفيزياء لا يكون عالماً بالأحياء كعلم المتخصص بها... وهكذا؛ فكيف يُطلَب ذلك من المتخصص بفرع من العلوم الشرعية؟

    ولذلك فإننا إنما نتحدث عن الثقافة العلمية التي تؤهل كلَّ مثقف أن يكون ملمّاً بنتائج تلك العلوم، عارفاً بالقضايا العامة التي تثيرها، أعني القضايا التي يسميها القوم بالفلسفية.

    وكذلك صاحب العلوم الطبيعية بالنسبة للعلوم الشرعية. إن المطلوب منه أن يعرف أمور دينه معرفة عامة وأن يكون ذا صلة مستمرة بكتاب الله - - حتى يبني تصوُّره العام عليه، بل لا بد له من أن يعرف بقدر من التفصيل بعض ما يتعلق بقضـايا علمه من مسـائل العقيدة؛ لا بد له من معرفة التصور الصحيح لصفات الخالق، تصوُّرِ أئمة أهل السُّنة الذي ربما كان هو السبب الأساس في إنقاذ المسلمين من الإلحاد.

    كيف ذلك؟

    لقد انقسم خصوم أهل السُّنة في هذه المسألة إلى فريقين فريق الجهمية الذين لا يكادون يُثبتُون لله صفة، وفريق المجسِّمة الذين يشبهون الخالق بمخلوقاته مع فارق واحد هو كونه أكبر منها. ولذلك لخص أئمة أهل السُّنة هذين المذهبين بقولهم: الجهمية يعبدون عدماً والمجسمة يعبدون صنماً.

    واضح أن الانتقال من إله الجهمية إلى الإلحاد أمر في غاية الاحتمال. إن المفكر الذي يأخذ اعتقاد الجهمية مأخذ الجد يوشك أن يقول لنفسه: ما الفرق بين أن أقول: إنني مؤمن بشيء لا يوصف بصفة من الصفات، وأن أقول: إنني لا أؤمن بشيء؟ كذلك الانتقال من التجسيم إلى إنكار وجود الخالق؛ فقد يقول الإنسان لنفسه: إذا كان الدليل على وجود الخالق هو كون هذه المخلوقات تحتاج بطبيعتها إلى من يخلقها، وكان هذا الذي يقال إنه خالق هو مثلها مع فارق الحجم، فإنه أيضاً يحتاج إلى خالق؛ لأن الحجم لا تأثير له في كونه محتاجاً إلى خالق.

    إن اهتمام بعض المسلمين بهذه القضايا سيكون فيه بإذن الله - - هداية للناس المعرَّضين للتأثُّر بمثل هذا النوع من الدعاوى التي تربط بين العلم الطبيعي والإلحاد.

    ذلك أن التصور الصحيح لصفات الخالق هو الذي يثبت لله - - كل صفات الكمال وينفي عنه كل صفات النقص ويقول مع ذلك: إنه ليس كمثله شيء. هذا التصور - وهو تصور أهل السُّنة المبني على كتاب الله وسنة رسوله - هو الذي سيعصم الناس - بإذن الله تعالى - من الوقوع في شَرَك الإلحاد مهما كانت أنواعها.
    ____


    الشيخ/جعفر شيخ إدريس
    اضطراب الملحدين(4-4)

    اضطرابهم في العلاقة بين الإيمان ومكارم الأخلاق:

    أودُّ قبل الدخول في هذا الموضوع أن أقول كلمة قصيرة عن المفهوم العربي الإسلامي للأخلاق: الخلق (بضم الخاء واللام) في الاستعمال العـربي هو الطريقة التي يعامِل بها الواحد غيرَه. وبما أنه لا بد لكل أحد من التعامل مع غيره، فلا بد إذن أن يكون لكل أحد خُلُق. وهذا أمر يشمل حتى بعض الحيوانات؛ فعندما بركت ناقة رسول الله وهم في طريقهم إلى مكة في غزوة الحديبية، قال بعض أصحابه: «خلأت القصواء»، فأجابهم الرسول بقوله كما في صحيـح البخـاري: «ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق».

    وبما أن المعاملة لا تكون إلا حسنة أو سيئة، فإن الخُلُق لا يكون إلا حسناً أو سيئاً؛ ولذلك تجد الخُلُق في التعبير العربي وفي الشرع الإسلامي لا يكون إلا موصوفاً بالحُسْن أو السوء. من ذلك وَصْفُه - - رسولَه الكريم بأنه على خُلُق عظيم، وقوله في الحديث الذى رواه مالك في الموطأ: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق». ومَدْحه في أحاديث كثيرة لحُسْن الخلق، وذمُّه لسوئها. لكننا صرنا الآن نقول للسلوك الذميم: إنه سلوك لا أخلاقي؛ ترجمة للكلمة الغربية immoral، وهو تعبير لا معنى له في اللسان العربي؛ لأنه ما من سلوك - حسناً كان أم سيئاً - إلا وهو خُلُقي كما رأينا.

    نعود إلى موضوعنا: ما العلاقة بين الإيمان ومكارم الأخلاق: كالصدق والأمانة والوفاء؟

    هنالك طرفان ووسط في الإجابة عن هذا السؤال:

    طرف يقـول: إن مـن لا يؤمـن بالله لا يلتزم بشيء من مكارم الأخلاق، بل ربما قال: إنه لا يعرف لها معنى.

    وطرف مقابل يقول: إنه لا علاقة ألبتة بين الإيمان بالله ومكارم الأخلاق.

    أما الوسط - وهو الصواب - فيقول: إن مكارم الأخلاق لها أصل في فطرة الإنسان؛ ولهذا يقول ردّاً على الطرف الأول: إن معرفة هذه المكارم واعتبارها شيئاً حسناً أمر يبني عليه الدين مخاطبتَه للإنسان. فكما يفترض الدين أن من يخاطبه مخلوق له عقل، فهو يفترض أيضاً أنه مخلوق يعرف معنى المكارم والمساوئ الخُلُقية؛ فالدين يدعو الإنسان إلى عبادة الله - - ويعلل هذا الطلب بأن الله - - هو المنعـم على الإنسان بكل أنواع النعم. وجوهر العبادة هو الشكر.

    فإذا كان المرء لا يعرف للشكر معنى، فإنه لن يعقل لخطاب الوحي معنى؛ فالله - - يقول مثلاً: and#64831;يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُم لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَand#64830; [البقرة: 21 - 22]. إذا كـان المخـاطَــب لا يعرف للشكر معنىً، فربما قال: إنني معترف بأن الله - - هو الذي أنعـم عليَّ بكـل هـذه النعم ولكن ما معنى كوني أشكره وأعبده؟

    وإذا قال الله - - في أول آيات من وحيه يخاطب بها الإنسان: and#64831;اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْand#64830; [العلق: 1 - 5]، فربما قال - إذا لم يكن لمكارم الأخلاق أصل في قلبه -: إنني معترف بأن الله - - هو الذي خلق الإنسان من علق، ولكن ما معنى كونه الأكرم، ولماذا يكون خَلْقُه لي سبباً لعبادتي له؟

    ولكن إذا كان لمكارم الأخلاق هذا الأصل الثابت في الفطرة البشرية، فإنه لا يعني أنه ليس بينها وبين الإيمان بالله - - صلة كما يدَّعي الملحدون من أمثال دوكنز؛ وذلك أنه:

    أولاً: إذا كانت مكارم الأخلاق في أصل الفطرة، فإن الإيمان بالله - - هو الآخر في أصلها، بل في أصل أصلها؛ ولهذا فإنه مما يقويها ويثبِّتها؛ فكلما قوي الإيمان بالله - - كانت هذه المكارم أحيا في قلب الإنسان وكانت مراعاته لها أشد.

    ثانياً: المـؤمـن باللـه تعـالى يعلم أنه - - يحب هذه المكارم فهو يحبها بحبه لله، تعالى.

    ثالثاً: كما أنه يحبها بحب الله - - لها، فإنه يحبهـا ويحـاول الاسـتمسـاك بها بحب رسل الله لها واستمساكهم بها كما قال الله - - عن رسوله الكريم: and#64831;وَإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍand#64830; [القلم: 4].

    رابعاً: إذا كان الإنسان يعلم بفطرته مبادئ الأخلاق الفاضلة، فإنه لا يعلم كلَّ مقتضياتها، الوحي هو الذي يهديه إلى كثير من هذه المقتضيات. إن الإنسان يعلم بفطرته - مثلاً - أن العدل شيء حَسَن، ولكـن هـل يصـل علمـه به إلـى ما وصفه الوحي بمثل قوله: and#64831;يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًاand#64830; [النساء: 135]؟
    وإذا كان الإنسان يعلم أنه من الخير للناس أن يعيشوا متحابين؛ فهل يعلم كل ما يتنافى مع هذا الهدف، وهل هو مستعد لأن يخالف داعية هواه ليحققه؟ and#64831;إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْـخَمْرِ وَالْـمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَand#64830; [المائدة: 19].

    ينقل دوكنز في إعجاب عن آينشتاين قوله: «إذا كان الناس إنما يكونون خيِّرين لأنهم يخشون العقاب ويرجون الثواب فإننا أمة يرثى لها»(1) .

    فهل تدرون كيف كانت الحياة الشخصية لهذا الفيزيائي الشهير قائل هذا القول؟ أنجب أوَّل طفل له من امرأة قبل أن يتزوجها! ثم لَـمَّا تزوجها وأنجب منها طفلين طلقته بسبب الخيانة الزوجية(2)! . أما زوجته الثانية التي كان عمرها اثنتين وأربعين سنة، فقد رضيت بالأمر الواقع وعاشت معه، رغم اعترفه لها بأن له علاقة بست نساء غيرها!

    خامساً: يكاد المفكرون الغربيون يُجمِعون على أن طلب الجزاء على عمل الخير مما يتنافى مع القيم الخُلُقية، ويرون لذلك أن من شرط العمل الخُلُقي أن لا يكون عليه جزاء. لكن الدين الحق يقرر أن جزاء الإحسان بالإحسان هو نفسه أمر يقتضيه الإحسان: and#64831;هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إلاَّ الإحْسَانُand#64830; [الرحمن: 60].

    نعم إن طلب الجزاء الدنيوي على الإحسان أمر يتنافى مع مكارم الأخلاق، لكن هذا لا يعني أن كل جزاء على الإحسان يتنافى معها وإلا كان عمل الخير عبثاً، وكان مَثَله كمثل من يلقي بماله في البحر أو يحرقه؛ لأنه لا معنى للعبث إلا أن يعمل الإنسان عملاً لا يحقق له أي نوع من النفع؛ ولذلك كان من الأدلة على وجود الخالق ضرورةً وجود دار آخرى يثاب فيها المحسِن ويعاقب المسيء، وإلا كان المحسن هو الخاسر؛ ولذلك قال - -: and#64831;أَفَنَجْعَلُ الْـمُسْلِمِينَ كَالْـمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَand#64830; [القلم: 35 - 36].

    هل معنى ذلك أن الملحد لا يمكن أن يُحسِن أبداً؟ كلا. لكنه إذا أحسن فإن إحسانه لا يكون مبنياً على إلحاده وإنما على دوافع أخرى؛ فقد يصدق لأن من مصلحته أن يفعل ذلك في موقف معيَّن؛ ولذلك فإن أبا سفيان - - علل صدقه لهرقل بقوله كما في صحيح البخاري: «فو الله لولا الحياء من أن يأثروا عليَّ كذباً لكذبت». فأبو سفيان الذي لم يكن ملحداً ولكنه كان مشركاً لم يعلل امتناعه عن الصدق اعتماداً على شركه، وإنما اعتماداً على مصلحته؛ لأنه كان يعيش في مجتمع يرى رغم شركه أنه من العيب أن يكذب رجل من سادة قومه.

    وكذلك الملحد قد يصدق؛ لأن الصدق في مصلحته الدنيوية، ولأن الكذب أو السرقة أو الخيانة تعرِّضه لإشانة السمعة أو للعقوبة أو لأي نوع من أنواع الخسارة المادية. ألا يمكن أن يصدق الملحد لأنه بشر يجد حُسْن الصدق في فطرته؟ نعم قد يصدق إذا لم يكن الصدق ضاراً به كما قلنا. أمَّا أن يصدق رغم أن الصدق يكلفه نوعاً من التضحية، فإنه إن صدق يكون قد فعل فعلاً يتنافي مع معتقده.

    إن فطرته قد تقول له: اصدق رغم أنك إذا صدقت تخسـر ألف دولار مثـلاً، لكن فكره الإلحادي - إذا كـان واعيـاً به ومنطلقـاً منه - يقول له: إنك تكـون حينئـذٍ مغفَّلاً لا عقل لك. إنك تؤمن بأن هذه الحياة هي فرصتك الوحيدة للاستمتاع بما فيها من لذات؛ فلماذا تضحي بها إذن؟ إن مشكلة الذي لا يؤمن بالله ولا بالدار الآخرة أنه يجد في نفسه نزاعاً بين فطـرته (إذا كان ما يزال محتفظاً بشيء من نقائها) وبين معتقداته؛ ففطرته تدعوه لفعل الخير وإن كان يقتضي شيئاً من تضحية، لكن معتقده يجعل هذا الفعل فعلاً غير عقلاني. وإذن فلا يغرنك عمل خير يصدر عن ملحد أو عن منكر لوجود الآخرة؛ فتظن أن عمله دليل على صحة معتقده أو على أنه لا منافاة بين هذا المعتقد وبين فعل الخير.

    قد يقال: إذا كان الملحد لا يلتزم دائماً بمكارم الأخلاق، فإن المؤمن أيضاً قد يرتكب ما يتنافى معها؟ الفرق بين الاثنين أن الملحد حين يفعل فعلاً يتنافى مع مكارم الأخلاق لا يكون قد فعل فعلاً يتنافى مع معتقده، بل ربما كان معتقده هو الذي يسوغ له هذا الفعل. أما المؤمن فإنه إذا ما وقع في مثل هذا الفعل، فإنه يعلم أنه أذنب؛ ولذلك فإنه - إذا كان صادق الإيمان - يحزن ويستغفر ويتوب، ويعزم على أن لا يعود.

    سادساً: إذا كانت مكارم الأخلاق من الفطرة، فما كل ما في الفطرة مما يظل الإنسان له ذاكراً، وإذا كان الإنسان محتاجاً إلى أن يُذكَّر بالله، فمن باب أَوْلى أن يكون محتاجاً إلى أن يذكَّر بمكارم الأخلاق ويُحَثَّ على الاستمساك بها. وهذا الذي يفعله الدين الحق؛ إذ يذكِّره بالعلاقة القوية بينه وبين دينه: and#64831;يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينand#64830; [التوبة: 119].

    «البر حُسْن الخُلُق»(3) .

    «إن من أحبِّكم إليَّ وأقربكـم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً»(4) .

    «إياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب ويتحرى الكذب حتى يُكتَب عند الله كذاباً. وعليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة وإن الرجل ليصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً»(5) .
    ومما استدل به دوكنز على عدم الفرق بين المؤمن بالله والمنكر لوجوده في مسألة الأخلاق تجربةٌ قال: إنه أجراها شخصان: أحدهما عالم أحياء، والآخر فيلسوف أخلاق، ملخصها: أنهما جمعا عدداً من المواطنين من المؤمنين بوجود الله والمنكرين لوجوده وسألاهم أسئلة افتراضية، وطلبا منهم أن يجيبوا عنها بمعايير خُلُقية فيختاروا ما إذا كان العمل المفترض واجباً فعله، أم مباحاً، أم ممنوعاً.

    وهذا ملخص الأسئلة ونتائجها:
    • قطار إذا تُرِك يسير في خطه المعتاد قتل خمسة أشخاص، وإذا ما حُوِّل قتل شخصاً واحداً؟ أجاب تسعون بالمئة بأنه يجوز تحويله لإنقاذ الخمسة والتضحية بالواحد.

    • ترى طفلاً يكاد يغرق في بركة لكنك إذا أنقذته خسرت بنطالك؟ أجاب سبعة وتسعون بالمئة بأن إنقاذه واجب.

    • خمسة أشخاص في مستشفى يحتاج كلٌّ منهم لعضو لإنقاذ حياته، وهنالك شخص سليم في حجرة الانتظار؛ فهل يُقتَل وتؤخذ أعضاؤه لإنقاذ الخمسة؟ أجاب سبعة وتسعون بالمئة بأنه يُمنَع قتله.

    قال اللذان أجريا هذه التجربة: إنهما لم يجـدا فرقاً كبيـراً في الأجـوبة بين المؤمنين وغير المؤمنين؛ فاستنتجا من ذلك: أنه لا علاقة للإيمان بمسألة الأخلاق.

    لكن على هذه التجربة وما استنتجه اللذان أجرياها ملاحظات، منها:

    أن كون غير المؤمن له معرفة ببعض مكارم الأخلاق وتطبيقه لها أمر لا يحتاج إلى تجربة كما قررنا من قَبْل.

    ومنها: أنه من السهل على الإنسان مؤمناً كان أم غير مؤمن أن يلتزم بالمعيار الخُلُقي الكريم إذا لم يقتض منه تضحية. والأسئلة التي سألها أصحاب التجربة كلها من هذا النوع ما عدا قصة البنطال الذي كان يمكن أن تضحي به حتى بعض الحيوانات. ماذا لو تضمَّنت الأسئلة سؤالاً، مثل:

    إذا اتُّهم شخصان بسرقة شيء وكان أحدهما بريئاً وكنتَ تعلم أن المجرم هو ابنك؛ فهل تشهد بأنه هو السارق؟
    إذا ارتكبت جرماً يعرضك للحبس أو الغرامة الكبيرة وقال لك محاميك: إنه لا مخرج لك إلا أن تكذب؛ فهل يجوز لك ذلك، أم يجب، أم يمنع؟

    ومنها: أن الآثار السلوكية والخلقية الحسنة للإيمان بالله لا تكون بمجرد الإيمان بوجوده. لقد كان العرب في جاهليتهم يؤمنون بوجود الخالق، بل بكونه هو الذي يحي ويميت ويرزق وينجي لكن بعضهم كان مع ذلك يئد البنات. إن الإيمان الحق هو الإيمان بخالق متصف بصفات الكمال، وبأنه يبعث الناس ويحاسبهم، وبأنه يرسل رسلاً وينزل كتباً لهدايتهم.

    ــــــــــــــــــ
    [1] ص 226.
    [2] تجد هذه المعلومات في شريط فيديو عن حياة آينشتاين الشخصية هو:
    Einstein Revealed, WGBH, Educational Foundation, Boston 2004
    كما تجدها في مواقع كثيرة منها:
    http://seedmagazine.com/content/arti...nstein_in_lust
    [3] رواه مسلم.
    [4] رواه الترمذي.
    [5] رواه البخاري ومسلم.
    المصدر: موقع مجلة البيان.
                  

العنوان الكاتب Date
إضطراب الملحدين (1-4) أ.د.جعفر شيخ ادريس احمد سيد احمد02-04-13, 09:56 AM
  Re: إضطراب الملحدين (1-4) أ.د.جعفر شيخ ادريس احمد سيد احمد02-04-13, 09:58 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de